تأملات فى سورة العصر .






ذكر ابن كثير في تفسيره أن عمرو ابن العاص وفد على مسيلمة الكذاب وذلك بعد ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن يُسلم عمرو، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة، قال: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال وما هي؟ فقال: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر]. ففكر مسيلمة هنيهة ثم قال وقد أنزل عليّ مثلها فقال له عمرو وما هو فقال : يا وبر يا وبر إنما أنت آذان وصدر، وسائرك حقر نقر، ثم قال: كيف ترى يا عمرو فقال له عمرو والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كذاب.





وذكر الطبراني عن عبيد الله بن حصن قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر (سورة العصر) إلى آخرها ثم يسلّم أحدهما على الآخر. وقال الشافعي: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم.





وبعد هذه المقدمة لا بد من الوقوف مع هذه السورة العظيمة آية آية. يقول الله جلَّ وعلا (والعصر) يقسم الله تعالى بالعصر وهو الدهر من الليل والنهار، وما يحدثه الله في هذا الكون. وأقسم به جلَّ وعلا تنبيهاً لأهميته ومنزلته، ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه وليس للمخلوق إلا أن يقسم بالله تعالى ولا يجوز الحلف بغير الله تعالى أيَّاً كان ذلك المخلوق سواء كان النبي صلى الله عليه وسلم أو الأمانة. وكما أقسم سبحانه ببعض الأزمنة في بعض السور كما في الفجر والضحى كما يقسم بالزمن كله والدهر كله وهو العصر.





وأقسم به الله تعالى لما فيه من الأحداث والعبر ويستدل بها على عظم الخالق والمبدع {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ (44)} [النور].





وفيه إشارة لطيفة إلى أن العصر وهو الدهر والظرف الذي تجري فيه مجريات الكون من مخلوقات الله ليس له تأثير إلا بأمره وتسخيره سبحانه، وفي هذا رد على الدهريين الذين ينسبون ما يجري في الكون إلى الدهر كما قال أسلافهم كما حكى الله عنهم "نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر".





وفي الحديث القدسي "يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر أقلّب الليل والنهار" يعني أن الله خالق الدهر ولا يجوز أن يسب الزمان أو الدهر كقولهم هذا زمن تعيس أو نكدإلخ.
فإن هذا السب يعود إلى مقلّب الليل والنهار ومسبب الأسباب سبحانه وتعالى.





ثم قال تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر] هذا جواب القسم أي أن هذا الجنس من المخلوقات خاسر، والخسران منه ما هو خسران كامل كخسران الكافرين الذين خسروا الدنيا والآخرة وضل سعيهم في الحياة الدنيا، ومنهم من خسرانه ناقص كمن أسلم لله لكنه فرط وضيَّع زمانه وعمره فيما يضره ولا ينفعه وخسران كل أحد بحسب تفريطه.





الصفات التي من اتصف بها سلم من الخسارة

والصفات الأربع هي التي جاءت في قوله جلَّ وعلا: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر ]. فأول تلك الصفات، الإيمان بالله تعالى وبما أمر به وتصديق ذلك، ولا يكون ذلك إلا بالعلم قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ (19)} [محمد] فالإيمان فرع عن العلم بالله وناتج عنه، والإيمان متى ما وقر في القلب صدقته الأعمال بالطاعات كما روى البخاري عن الحسن أنه قال: الإيمان ما وقر في القلب وصدقته الأعمال.





وفي هذا رد لشبهة ما يتلفظ به البعض أن الإيمان في القلب دون أن يظهر ما يصدق ذلك. ثم بعد الإيمان المبني على العلم واتباع ذلك بالعمل الصالح تكمل للمسلم قوته العلمية المزيلة للشبهات التي يروج لها أعداء الدين، وكملت له قوته العملية بالعمل الصالح، ويبقى تكميل غيره من إخوانه المسلمين وذلك بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت]. قال يونس بن حبيب: هذا ولي الله هذا حبيب الله أسلم لله وعمل بطاعته ودعا الخلق إليه.





ثم بعد الإيمان والعمل والدعوة لا بد من اتباع ذلك بالصبر {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (17)} [البلد] بالصبر على المصائب والأقدار فإن الحياة لا تصفو لأحد {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)} [البلد]، ثم بالصبر على ما يُواجه به الداعية الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر من أذى، ولا بد من وقوع الأذى، وقد وقع للأنبياء ما وقع فكيف بغيرهم، والله المستعان.





وقال عمر: أدركنا أكثر عيشنا بالصبر. وقال بعض السلف: الصبر بمنزلة الرأس من الجسد.
والمقصود أن من اتصف بهذه الصفات الأربع سلم من الخسارة وفاز وسعد في الدنيا والآخرة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النحل: 97].





يقول ابن رجب : فهذه السورة ميزان الأعمال يزن المؤمن بها نفسه فيتبين له ربحه وخسرانه.
وبهذا تكون هذه السورة رسمت طريق السعادة لكل إنسان وطريق السعادة للمجتمع بأكمله، فلو أن كل فرد تدبر وقام بهذه الصفات لسعد وأسعد غيره ولهذا ندرك قول الشافعي: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم أو لكفتهم.





وقد اهتم العلماء بالتذكير بهذه السورة فذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أول رسالته ثلاثة الأصول. وكان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز كثيراً ما يذكر بها وينبه على ما تضمنته من معان.

jHlghj tn s,vm hguwv >