قصة سياج الحديقة


سياج الحديقة
تأليف : بشير أبوالقاسم
"1"
ما الذي يجبر الوردة على مغادرة الحديقة، ما الذي جعلها تعبق بروائح مقيتة، تشبه رائحة الغراب الميت، ألوانها الفاتنة و صفاتها الحميدة صنعا بداخلها غرور و تغطرس، لطالما عشقت تلك الوردة، و هوية كل شيء فيها.

صارت هذه الوردة تضع طقما من اللؤلؤ حولَ جيدها و تثبت عصا تمتد من رجلها اليمنى حتى ديباجة انفها، ليضل مرفوع أمام باقي المخلوقات التي كانت تعشقها
ذهب العصفور لكي يقابلها ، انه عصفور حسن و بريء، ولكنه يعاني من قُصر و إعاقة بسيطة في جناحه، هذا ما كانت تقوله الوردة اللؤلئية ، هذا ما كانت تنعت به صاحبها العصفور.
رحل، غادر، لم يكن يعلم بان الوردة خارجة عن سياج الحديقة، و عن صلفها و تكبرها الذي ينمو بجوفها فتجرح من حولها على قناعة أنها الأفضل شعر العصفور بفرق هائل بينهما، أحس أنه لم يكن متواجد مع صاحبته الوردة، وكما انه لا يعرفها من قبل غير ألان، وفي هذه الساعة و هذه الدقيقة طار العصفور محلقا بجناحه القصير، بين أدراج الهواء ، تحت أشعة الشمس الذهبية، يفكر فيما جرى و فيما سيجري، و يفكر في الأسباب، ربما اهتمامي بلونها و صفاتها خلق روحاً جديدة بداخلها، روح ليست روحها، و عقل ليس بعقلها، فجعلها تتصرف بهذا النمط ألغرابي.
و الآن يجب أن أرسم خط مستقيم أحمر اللون، في كلامي و مدحي لها، شيء من المبالغة يزيد من ثورة الغرور إصرار على التحقق و الإقلاع تحت السحب و الغيوم البيضاء، و فوق الأرض و الأشجار العالية، حتى يراها كافة المخلوقات التي تتخذ الأرض مكان لممارسة لعبة الحياة
"2"
هبط العصفور الجريح بجوار بحيرة مائية، لا أسماك و لا حياة فيها، شربَ، أكلَ، صار

ينظر لكل الورود التي تتمايل على حافة البحيرة، تحدث إليها، و أستغرب إثر أنها لا تشبه أختهم الخارجة عن سياج الحديقة. "كم هو شاسع ذاك الفارق" .
التفت العصفور، و انتقل إلى ناحية أخرى من البحيرة، أراد أن يكن لوحده، ولكنه لن يكن كذلك أينما ذهب، فضميره الذي يرشده و الذي يبين له الخطأ و الصواب كظله على الدوام معه، وفي جانبه، أينما كان قال العصفور في خاطره بأنه لا يفتقر الضمير، لأن الأمر مبتوت بالنسبة إليه. " إنما كل ما احتاجه هي أمنية".
فانتبه العصفور إلى حسناء تخرج من منتصف البحيرة، كانت تشبه أميرات أفلام الكرتون، أو ساحرة خيرية تساعد كافة المخلوقات، لربما أتيت من أجل صديقنا العصفور
تفاجئ العصفور لما تراه عيناه، صار يضرب على وجهه بطرف جناحه القصير ليتأكد أن ما يعرض أمامه حقيقة، ليس بحلم أو سراب، فأردفت الأميرة الساحرة قائلة: أهلا بك يا عصفور، أنا أسمي "روحية" و جئت من أقصى الغابات كي أحقق لك أمنياتك، مع العلم أنني خارج عن نطاق الحب ، و تصليح الأمور التي من أصل الكائن، و الموت ولديك ثلاث أمنيات فقط .
زاد بريق عينا العصفور، فرح، و صار يتكلم أخيراً: أمنية. أمنية. أمنية
_ أنني أريد أن يصير جناحي طبيعيا كسائر العصافير
قالت روحية : لا يمكنني، قلت لك مسبقا هذا شيء من ولادتك، من أصلك
فقال العصفور بعدما انتابته حالة من الحزن: و إذ طلبت منك أن تجعلي الوردة تحبني مثلما أحبها؟
قالت: أنا خارجة عن سياج الحب، لا يمكنني
وضع العصفور رأسه للأسفل، في خيبة، و يأس مستمر، بسبب انقطاع أماله البسيطة في حبه للوردة اللؤلئية المغرورة، فقال ثانيتاً بأسلوب تنعدم فيه الألوان الزاهية :
_ إذًا أريد أن أموت، هذه أمنيتي الوحيدة
قالت: الموت هو ثالث الأمنيات التي ليس بإمكاني أن أحققها.
"3"
شعر العصفور بخيبة كبيرة، و مثلما أن الأميرة روحية أتِيَّت لكي تنهب منه بقايا سعادته لا أن تعطيه، فتدخلت الأميرة قائلة:

من المؤسف أن نتمنى الموت لأجل من لا يحبنا، فلماذا أنت كاسف، كنتُ على دراية تاماً أن أمنيتك الأولى في تكامل جناحك القصير، متعلقة بالوردة المغرورة و الخارجة عن سياج الحديقة، و كذلك الثانية و الثالثة.
أنا هنا لا لكي أحقق الأمنيات يا عصفوري، ولا تؤمن بما يكتب في الروايات عن الموارد و الساحرات، جئت إليك وفي قلبي رسالة روحانية، أسألك قراءتها و التمعن فيها
فرد العصفور الذي كان يؤول أذانه في سماع الأميرة روحية، متسائلاً و بصوت خافِتْ ناتج عن تردي حالته:
_ وعن ماذا تنص هذه الرسالة يا سيدتي؟!
أجابت الأميرة روحية: إنه خطاب مني. صديقي العصفور، لا تضحي من اجل من لا يراك، لأن هناك من يراك و هو أكثر افتقار و عوز إليك، و بالنسبة للوردة اللؤلئية المغرورة، سيأتي يوم ليس للتو، و لكن عن قريب، و تيقن إن العصفور و باقي الكائنات هم سبب صورة المِرأى المنعكسة في أحداق من أحبها
قال العصفور: و هل عليَّ أن أنتظر هذا اليوم؟!.
فردت الأميرة روحية: لا يا صديقي، لأن من يخرج عن سياج الحديقة، لا يمكن أن يعود إليها
فلو أشرقت شمس ذاك اليوم و ندمت الوردة على ما تقدمت من أذية، ستئول البحث عنك، عن العصفور الذي أحبها فجرحته، و عند إذ ستلقي الباب مقفول، المفتاح بصحبة مخلوق واحد
سأل العصفور بلهفة: من؟
أجابت الأميرة : أنت ؟
زادت لهفة العصفور فقال: إذا لا من كون مشكلة حين ذاك الوقت.
ردت الأميرة روحية مصوبة لكلام العصفور: لا، صحيح أن المفتاح بحوزتك، لكنك لن تستطيع فتح باب سياج الحديقة في تلك اللحظات، أو ربما يكن باستطاعتك، لكنك لن تقوى على ذالك.
"4"
مرت الأيام، و الأشهر، و السنين، فطاب جناح العصفور و صار يحلق في السماء تهللا، وذات يوم تصادفَ بالوردة اللؤلئية المغرورة، عند مكان ما بجوار حديقة ما فقالت:

_ كم أنا أتحسر و أتندم عما حدث بالماضي، وعما بدر مني، أسألك المسامحة يا عصفوري
عندها تذكر العصفور كلام الأميرة روحية، حيث حاول أن يرجع إليها و أن يسامحها و لكن لم يقوى على ذاك. فقال لها بضع كلمات تحتوي بضع معاني عن التسامح، و الأسف غادر، طار، وبداخل عينه تتحجر دمعة صافية، و ترتسم على فمه ابتسامة بريئة، كانت مُغَادَرة شبيه بالمغادرة الأولى حين جرحته بأدواتها الغرابية.
كانت رسالة الأميرة روحية ، تنص على أن مشاعر الحب حين تجرح و تمزق بسكاكين سوداء، من الصعب أن تضمد من قبل الجاني نفسه.
و أن لا من وجود موارد يحققوا الأمنيات، و لكن نملك عقل و قلب يفكرا في خطوات لأجل تحقيق تلك الأمنية ( فأتخذ العصفور هذه الرسالة الروحانية منهاج، لكي لا يفعل مثلما فعلت معه الوردة)




rwm sdh[ hgp]drm