انتهى حفل الزفاف وعادت إلى بيتها حزينة مرهقة من كثرة التفكير، أسندت رأسها للكرسي وبدأت تبكي وتندب حظها العاثر ومر شريط حياتها أمام عينيها تسترجع الذكريات.
كانت صغيرة وجميلة ومتفوقة في دراستها، ترفل في السعادة وتظن أن الأيام كلها محملة بالفرح، لم تعلم أن الأيام تخبئ لها الألم والحزن، وأن الابتلاء قاب قوسين أو أدنى منها.
فجأة تغير كل شيء وانقلبت حياتها رأساً على عقب

، أصيبت بالعين .ثم أصيبت بالمس،. تبدل حالها واختفت ضحكاتها .وحل مكانها الدموع، تعثرت في دراستها،

وقل خطابها

وابتعد عنها الأصحاب والأحباب،

لم تعرف ما أصابها وبدأت تطرق الأبواب الخاطئة للعلاج، تسمع من هذه وتقارن حالتها بتلك، تجرب هذه الوصفة، وتشرب ذاك الدواء ولا شفاء !
كانت تتلقف علاجها من ألسنة الآخرين ونسيت أن ما ينفع غيرها لا ينفعها، وأن الله مسبب الأسباب، هو من ابتلاها وهو من سخر لها سبل العلاج – الصحيحة – إذا أحسنت البحث والاختيار.

بدأت علاجها مع أحد الرقاة الفضلاء الذين يعالجون بالكتاب والسنة، تشجعت في بداية الأمر والتزمت بكل ما طلبه منها الراقي

لكن مع مرور الوقت.

وقلة الصبر

تسلل اليأس لقلبها .واستعجلت الشفاء.

نسيت أن الفرج بعد الكرب وأن النصر مع الصبر،

تركت ذلك العارض يتمكن منها ويشغلها عن العلاج، يوسوس لها ليلا ونهارا ليحزنها، فلانة شفيت وأنت لم تشفِ،

وفلانة تزوجت وأنت تمر سنوات عمرك عجافا تحملين لقب عانس لا زوج ولا بيت ولا ولد، تركت علاجها فساءت حالها أكثر وزاد شعورها بالنقص وأصبح شغلها الشاغل المقارنة مع الأخريات وانتظار زوج قد يتأخر مجيئه وقد لا يأتي !

كانت تردد الحمد لله على ابتلائه، أنا صابرة، كلام تكرره ولا تعرف معناه فعلاً، فحمد الله على الابتلاء يكون بالصبر والرضا بما كتبه الله وقدره، وقولها أنا صابرة يتعارض مع ضيقها ويأسها،

مرت سنوات عمرها كأرض قاحلة لا ينبت فيها زرع ولا ينضح فيها ضرع، أغلقت دونها الأبواب، وظلت تقف في محطة انتظار ما لا يجئ، وما أصعب انتظار المجهول،

كان يمر بها العابرون وهي تقف وحيدة حزينة متألمة خائفة، خائفة من كلام الناس، خائفة من الغد، خائفة من الوحدة، تملكها خوفها والخوف عدو خفي لا يرحم يسبب الهم والغم، ضاقت عليها الدنيا بما رحبت والدنيا لا تضيق بمؤمن، كان عليها أن تغير حياتها أن تتدرج في مسالك الدارجين بين الصبر واليقين،

فتحت كتاب الله وبدأت تقرأ آياته الكريمة لتهدأ نفسها وتغمر السكينة قلبها، قرأت قصة مريم ابنت عمران عليها السلام، (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران : 42-43]

مريم التي طهرها الله واصطفاها على نساء العالمين، وأمرها بالسجود والقنوت والعبادة، فالقرب من الله وأداء حقه من العبادة يكون سببا في دفع الضر وتحمل البلاء والابتلاء، حملت بعيسى ابن مريم عليه السلام دون زوج وهل هناك ابتلاء أكبر من هذا الابتلاء ! صبرت وتحملت مشاق الحمل وابتعدت عن الناس،

لم تنته قصة مريم عليها السلام، وعندما أجاءها المخاض ألجأها طَلْقُ الحمل إلى جذع النخلة فقالت: يا ليتني متُّ قبل هذا اليوم, وكنت شيئًا لا يُعْرَف, ولا يُذْكَر, ولا يُدْرَى مَن أنا؟

مريم الطاهرة المصطفاة على نساء العالمين اشتد بها الكرب وتمنت الموت، كانت لحظات ضعف عابرة، والضعف من طبع البشر لكن قوة إيمانها كانت أكبر من ضعفها وصبرها كان أقوى من مصابها، جاءها الفرج بعد الشدة، ونالت جزاء صبرها فالنصر صبر ساعة وقد صبرت عليها السلام وتحملت شهور الحمل وألم المخاض، أوحى الله لها أن لا تحزني، تحتك جدول ماء وحَرِّكي جذع النخلة تُسَاقِطْ عليك رطبًا غَضًّا جُنِيَ مِن ساعته، فكلي من الرطب, واشربي من الماء وطيبي نفسًا بالمولود.
لم تتزوج مريم عليها السلام لكن شرفها الله وأنزل سورة باسمها وذكر قصتها في أكثر من موضع وأصطفاها على نساء العالمين وأي شرف أكبر من هذا الشرف !

rwi hglvdqm