الملاحظات
صفحة 2 من 6 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 54

الموضوع: النبي محمد ابن عبدالله صلى الله عليه وسلم ادخل لتعرف اكثرعنه

  1. #11 Icon21 الدعوه في مكه ( بداية الصراع ) 
    المشاركات
    421
    الحرب العقيدية وإطلاق التهديدات

    جوبهت دعوة الرسول(صلى الله عليه وسلم) بمعارضة شديدة من قومه، وفتح باب الصراع على مصراعيه، واتخذت الحرب أشكالاً متعددة تمثلت في بداية الحرب العقيدية، حيث دعاهم الرسول(صلى الله عليه وسلم) إلى عبادة إله واحد، ونبذ عبادة الأصنام والأوثان، ما أثار حفيظة قريش، فشكته إلى عمه أبي طالب الذي وقف يدافع عنه ويمنع قريش من النيل منه، وهو يعلم ما سوف يجره هذا الموقف من متاعب عليه وعلى أسرته، فرأى زعماؤها أن يبعثوا إليه وفداً من أشرافهم علّهم يقنعونه بوقف ابن أخيه عن المضي في دعوته، أو على الأقلّ بالتخلي عن حمايته، ولما التقوا به قالوا له: "يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا وضلّل آباءنا، فإما أن تكفّه عنّا، وإمّا أن تخلي بيننا وبينه"، فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً، وردّهم رداً جميلاً فانصرفوا عنه.

    لم تثن هذه التهديدات النبي(صلى الله عليه وسلم) عن تبليغ رسالته، بل مضى يدعو إلى الله، ما زاد من غضب قريش وحقدها على النبي، فكان أن اتفقوا للقاء أبي طالب ثانية، وقد صعّدوا من أسلوب الوعد والتهديد عما قبل، علّهم بذلك يصلون إلى مرماهم، فقالوا له: "يا أبا طالب، إن لك سناً وشرفاً ومنـزلة فينا، وإنّا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنّا، وإنّا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيّب آلهتنا حتى تكفه عنّا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين"، فبعث أبو طالب إلى ابن أخيه وقال: "يا ابن أخي، إن قومك قد جاؤوا فقالوا لي كذا وكذا، فأبقِ عليّ وعلى نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق".

    وأصرَّ النبي(صلى الله عليه وسلم) على المضيّ قدماً في دعوته، قائلاً لعمه: "يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك فيه"، وتجسد هنا أيضاً إصرار عمه في حمايته ومساندته عندما قال: "اذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً".





    أسلوب المقايضة

    أدركت قريش أن لا سبيل إلى تراجع محمد (صلى الله عليه وسلم) عن دعوته عن طريق التهديد والوعيد، وانكشف لها إصرار أبي طالب على حمايته، فما كان منها إلاّ أن لجأت إلى أسلوب جديد اتخذ هذه المرة سمة المقايضة للتخلص منه، فعرضوا على أبي طالب أن يأخذ عمارة بن المغيرة مقابل أن يسلّمهم محمد ليقتلوه ويتخلصوا منه، فقالوا له عندما اجتمعوا به: "يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه واتخذه ولداً، فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرّق جماعة قومك وسفّه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل"، متخذين مبرراً لقتله أنه قد فرق جماعة القوم وسفّه أحلامهم، ولكن أبا طالب رفض هذا العرض بشدة، وأجاب: "والله لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبداً".

    الحرب النفسية

    أدركت قريش عقم المحاولات الرامية لاستمالة أبي طالب، ووقف حمايته للرسول(صلى الله عليه وسلم) من جديد، فأعلنت الحرب على أتباع الدين الجديد والمنتمين إليه، فدفعت كل قبيلة منها إلى الانقضاض على المسلمين من أبنائها، وتعذيبهم وفتنتهم عن دينهم، وأغرت سفهاءها بالرسول(صلى الله عليه وسلم)، فكذّبوه وآذوه، واتهموه بالسحر والشعر والكهانة والجنون، والاعتداء عليه، وحاولوا منعه من الصلاة، كما فعل أبو جهل وغيره، حيث واجهه الرسول(صلى الله عليه وسلم) عندما قال له أبو جهل: ألم أنهك يا محمد عن الصلاة؟ فانتهره رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قائلاً: "أتنتهرني وتتهددني وأنا أعز أهل البطحاء". وكانت حملة قل نظيرها، اعتمدت مبدأ التشكيك في صدقيته، كوسيلة من وسائل الحرب النفسية، لإرضاخ المسلمين والنيل من مكانة النبي(صلى الله عليه وسلم)، ولكن هذه المحاولات لاقت الفشل كسابقاتها.

    وفي هذا المجال، نلفت إلى أن ابن سعد يورد رواية لا نجدها في المصادر الأخرى، تشير إلى محاولة مبكرة من زعماء قريش لاغتيال الرسول(صلى الله عليه وسلم)، بعد أن فشلوا في إغراء أبي طالب وثنيه عن حماية الرسول(صلى الله عليه وسلم)، فقالوا:"ما خير من أن نغتال محمداً". وقد جاء في الرواية، أنه لمّا كان مساء تلك الليلة ، فقد الرسول(صلى الله عليه وسلم)، فبحث عنه أبو طالب فلم يجده، فظن أنه قد أصيب بمكروه، فجمع فتياناً من بني هاشم وبني المطّلب، وأمر كلاّ منهم أن يحمل حديدة صارمة لقتال زعماء القوم إذا ثبت قتلهم لمحمد(صلى الله عليه وسلم)، إلاّ أنّ أبا طالب سرعان ما أبلغ أن محمداً يجلس الآن في داره بالصفا بمنأى عن الشر، وفي اليوم التالي، صحب أبو طالب ابن أخيه إلى أندية قريش ومعه فتيان بني هاشم والمطلب، وراح يقول لهم: "يا معشر قريش، هل تدرون ما هممت به"؟ قالوا: لا، فأخبرهم الخبر، وقال للفتيان:"اكشفوا عمّا في أيديكم"، فكشفوا، فإذا كل رجل منهم معه حديدة صارمة، فقال: "والله لو قتلتموه ما بقيت منكم أحداً حتى نتفانى نحن وأنتم، فانكسر القوم، وكان أبو جهل أشدهم انكساراً ".

    وعندما اقترب موسم الحج، خاف زعماء قريش أن يفيد الرسول(صلى الله عليه وسلم) من فرصة قدوم الناس إلى مكة، فيتصل بوفود العرب وقبائلها، ويعرض عليهم الإسلام، فدعا أحد كبارهم، وهو الوليد بن المغيرة، قومه إلى أن يجتمعوا إليه للتداول في أمر محمد(صلى الله عليه وسلم)، لكيلا تتضارب أقوالهم بشأن محمد(صلى الله عليه وسلم)، فقال قوم نتهمه بالكهانة، وقال آخرون نقول بأنه مجنون، وقالت فئة ثالثة نقول عنه بأنه شاعر، وقالت طائفة، نقول ساحر، فكان الوليد يردُّ على ذلك وينفي عنه هذه الصفات، حتى قال:" والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلاّ عرف أنه باطل، وإنّ أقرب القول فيه أن تقولوا ساحر جاء بقول هو السحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته". وتفرق القوم على هذا الرأي، وانتشروا في مداخل مكة ومسالكها، حيث تمر الوفود لأداء مناسك الحج، فكلما مرّ بهم وفد حذّروه دعوة الرسول(صلى الله عليه وسلم) واتهموه بالسحر.

    وجاءت محاولتهم هذه بعكس النتائج التي توقعوها، ذلك أن العرب سمعوا بأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم)، فبدأوا يلهجون باسمه، فانتشر في بلاد العرب كلها، فكأنّ قريشاً سعت ـ عن غير قصد ـ إلى نشر الدعوة الناشئة في الآفاق.

    اتهامات بارتكاب القبائح .

    ومضت قريش تلاحق المسلمين وتعذبهم وتفتن من استطاعت فتنته منهم، ولكن الدعوة بقيت تشق طريقها، وإن بصعوبة في مكة بين قبائل قريش رجالاً ونساءً، خاصة بعد إسلام الحمزة بن عبد المطلب الذي غضب لابن أخيه من أبي جهل، وهنا رأت قريش أن تغيِّر من أسلوبها المعتمد في التعاطي مع التطورات الجديدة، فلم تذهب إلى أبي طالب، وإنما رأت أن تفاوض النبي(صلى الله عليه وسلم) مباشرة، فاجتمع أشرافها من كل قبيلة، عتبة وشيبة ابنا ربيعة، أبو سفيان بن حرب، النضر بن الحارث، أبو البختري بن هشام، الأسود بن عبد المطلب، زمعة بن الأسود، الوليد بن المغيرة، أبو جهل بن هشام، عبد الله بن أبي أمية، العاص بن وائل، نبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف، واجتمعوا قريباً من الكعبة، وبعثوا إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ليكلموه بالأمر، فاستجاب لهم مسرعاً، فبادروه بالقول: "يا محمد، إنّا قد بعثنا إليك لنكلّمك، وإنّا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفّهت الأحلام، وفرّقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلاّ قد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنمّا جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنمّا تطلب به الشرف فينا فنحن نسوّدك علينا، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك".

    وهنا دلالة واضحة على أنّ فكرة الوحي عندهم كانت غير واضحة المعالم، ويتبين هذا من خلال الربط بين ما جاء به النبي والطروحات التي تقدموا بها من الشرف والملك والمال والمرض، فضلاً عمّا ألقوه عليه من تبعات الفرقة بين العرب، وما يلحق بهم من إيذاء، من شتم الآباء، وتسفيه الأحلام، وما إلى ذلك.

    دحض مزاعم قريش.

    ولكن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أوضح لهم الهدف من بعثته والوحي الذي يتلقاه ودحض مزاعمهم، بحيث هو بشير ونذير جاء ليبلّغهم رسالة ربه، فأجابهم بقوله: "ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا فيئكم، ولا الملك عليكم، ولكنّ الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتابا،ً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم".

    إزاء هذا الجواب، طلب المجتمعون من الرسول(صلى الله عليه وسلم) أن يأتيهم بمعجزة ما؛ كأن يوسع وادي مكة، أو يفجّر فيه الأنهار، أو يبعث أحد آبائهم حيّاً كي يخبرهم عن صدق نبوته، أو يجعل لهم جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة، أو يسقط السماء عليهم كسفاً، أو يسأل ربّه أن يبعث معه ملكاً يصدّقه بما يقول، "فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنـزلتك من ربك إن كنت رسولاً في ما تزعم، فإنّا لا نؤمن لك إلاّ أن تفعل".

    وهنا أجاب الرسول(صلى الله عليه وسلم) بأنه لم يبعث لكي يقوم بمعجزات من هذا القبيل، ولا هي في الأساس من مهمته، وإنما دوره يقتصر على الإبلاغ والإنذار والتبشير، فقال(ص): "وما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم".

    نماذج من تعذيب أصحاب النبي(صلى الله عليه وسلم)

    في هذا الوقت، كانت قريش تسير وفق الخطة المرسومة في تعذيب أصحاب النبي(صلى الله عليه وسلم) واضطهادهم، فكانت كل قبيلة تثب على من فيها من المسلمين، أحراراً وعبيداً، بالحبس، والتعذيب، والضرب، والعطش، والجوع، والرمي برمضاء مكة إذا اشتد الحر، ففتن بعضهم عن دينه، وتمكن آخرون من المجالدة والصمود، وهنا نقدم بعض النماذج لما كان يعانيه هؤلاء من أمثال:

    بلال بن رباح، كان سيده أمية بن خلف الجمحي يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد، أحد، فيضع أمية في عنقه حبلاً، ويأمر الصبيان فيجرونه، وظل بلال على هذه الحال إلى أن أعتق.

    وكانت زنيرة قد عذبت حتى عميت، فقال لها أبو جهل: إن اللات والعزى فعلتا بك ما ترين، فقالت وهي لا تبصره، وما تدري اللات والعزى من يعبدهما ممن لا يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء. وظلت تعاني التعذيب حتى أعتقت، وكذلك النهدية، وهي أمة لامرأة من عبد الدار، وأم عنيس وهي أمة لبني زهرة ومعذبها الأسود بن عبد يغوث.

    أما عمّار بن ياسر فكان بنو مخزوم يخرجون به وبأبيه وأمه إذا حميت الظهيرة، فيعذبونهم في رمضاء مكة، وكان الرسول(صلى الله عليه وسلم) يمر بهم ويقول: "صبراً آل ياسر، موعدكم الجنة"، وقتلت أمه تحت وطأة التعذيب، فكانت أول شهيدة في الإسلام، أما عمّار، فكان يعذب حتى لا يدري ما يقول، ومن الذين عذبوا أيضاً خباب بن الأرث، وصهيب بن سنان الرومي.

    أما الأغنياء وممن كان لهم شرف ومنعة، فكان أبو جهل يؤنب من يسمع بإسلامه، ويقول له: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك ولنقبحن رأيك ولنضعن شرفك، وإن كان تاجراً قال له: والله لنكدسن تجارتك ولنهلكن مالك، وإن كان ضعيفاً أغرى به.

    وهنا يلاحظ أن طريقة مواجهة قريش لكلّ من يعلن إسلامه، إنما كانت بحسب ما تجده يؤثر على وضعه، ويظهر أن بعض المسلمين قد تضعضعوا أمام المحنة ولم يستطيعوا الصمود أمام حملات قريش وأذاها، وهذا ما أشارت له الآيات القرآنية { . ومن الناس من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين* يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه* ذلك هو الضلال البعيد} (الحج:11ـ12).

    وكان العذاب الذي لحق بالمسلمين قد بلغ درجة كبيرة لا يستطيع أحد من تحملها، وقد ورد ذلك على لسان عبد الله بن عباس عندما سأله سعيد بن جبير عن المستوى الذي بلغ فيه عذاب قريش لأصحاب الرسول(صلى الله عليه وسلم)، فقال: "والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضرب الذي نزل به".

    وإزاء ما كان يتعرض له المسلمون في مكة، أمرهم الله بالكفِّ عن القتال في هذه المرحلة، باعتبار أن وقت المجابهة لم يحن بعد، وإن كان بعض المسلمين ممّن لديهم منعة وقوة، أو ممن كانوا ينتمون لعصبية معينة في وقت كانت فيه العصبيات الناظم المهم لعلاقات الناس، لم يسكتوا على تحرشات الكفار وفجارهم، وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الوقائع في هذه الآيات {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين* وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين* واصبر وما صبرك إلاّ بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون
    } (النحل:125ـ127).






    رد مع اقتباس  

  2. #12 Icon21 الدعوه في مكه ( بداية الصراع ) 
    المشاركات
    421
    الحرب العقيدية وإطلاق التهديدات

    جوبهت دعوة الرسول(صلى الله عليه وسلم) بمعارضة شديدة من قومه، وفتح باب الصراع على مصراعيه، واتخذت الحرب أشكالاً متعددة تمثلت في بداية الحرب العقيدية، حيث دعاهم الرسول(صلى الله عليه وسلم) إلى عبادة إله واحد، ونبذ عبادة الأصنام والأوثان، ما أثار حفيظة قريش، فشكته إلى عمه أبي طالب الذي وقف يدافع عنه ويمنع قريش من النيل منه، وهو يعلم ما سوف يجره هذا الموقف من متاعب عليه وعلى أسرته، فرأى زعماؤها أن يبعثوا إليه وفداً من أشرافهم علّهم يقنعونه بوقف ابن أخيه عن المضي في دعوته، أو على الأقلّ بالتخلي عن حمايته، ولما التقوا به قالوا له: "يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا وضلّل آباءنا، فإما أن تكفّه عنّا، وإمّا أن تخلي بيننا وبينه"، فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً، وردّهم رداً جميلاً فانصرفوا عنه.

    لم تثن هذه التهديدات النبي(صلى الله عليه وسلم) عن تبليغ رسالته، بل مضى يدعو إلى الله، ما زاد من غضب قريش وحقدها على النبي، فكان أن اتفقوا للقاء أبي طالب ثانية، وقد صعّدوا من أسلوب الوعد والتهديد عما قبل، علّهم بذلك يصلون إلى مرماهم، فقالوا له: "يا أبا طالب، إن لك سناً وشرفاً ومنـزلة فينا، وإنّا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنّا، وإنّا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيّب آلهتنا حتى تكفه عنّا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين"، فبعث أبو طالب إلى ابن أخيه وقال: "يا ابن أخي، إن قومك قد جاؤوا فقالوا لي كذا وكذا، فأبقِ عليّ وعلى نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق".

    وأصرَّ النبي(صلى الله عليه وسلم) على المضيّ قدماً في دعوته، قائلاً لعمه: "يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك فيه"، وتجسد هنا أيضاً إصرار عمه في حمايته ومساندته عندما قال: "اذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً".





    أسلوب المقايضة

    أدركت قريش أن لا سبيل إلى تراجع محمد (صلى الله عليه وسلم) عن دعوته عن طريق التهديد والوعيد، وانكشف لها إصرار أبي طالب على حمايته، فما كان منها إلاّ أن لجأت إلى أسلوب جديد اتخذ هذه المرة سمة المقايضة للتخلص منه، فعرضوا على أبي طالب أن يأخذ عمارة بن المغيرة مقابل أن يسلّمهم محمد ليقتلوه ويتخلصوا منه، فقالوا له عندما اجتمعوا به: "يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه واتخذه ولداً، فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرّق جماعة قومك وسفّه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل"، متخذين مبرراً لقتله أنه قد فرق جماعة القوم وسفّه أحلامهم، ولكن أبا طالب رفض هذا العرض بشدة، وأجاب: "والله لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبداً".

    الحرب النفسية

    أدركت قريش عقم المحاولات الرامية لاستمالة أبي طالب، ووقف حمايته للرسول(صلى الله عليه وسلم) من جديد، فأعلنت الحرب على أتباع الدين الجديد والمنتمين إليه، فدفعت كل قبيلة منها إلى الانقضاض على المسلمين من أبنائها، وتعذيبهم وفتنتهم عن دينهم، وأغرت سفهاءها بالرسول(صلى الله عليه وسلم)، فكذّبوه وآذوه، واتهموه بالسحر والشعر والكهانة والجنون، والاعتداء عليه، وحاولوا منعه من الصلاة، كما فعل أبو جهل وغيره، حيث واجهه الرسول(صلى الله عليه وسلم) عندما قال له أبو جهل: ألم أنهك يا محمد عن الصلاة؟ فانتهره رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قائلاً: "أتنتهرني وتتهددني وأنا أعز أهل البطحاء". وكانت حملة قل نظيرها، اعتمدت مبدأ التشكيك في صدقيته، كوسيلة من وسائل الحرب النفسية، لإرضاخ المسلمين والنيل من مكانة النبي(صلى الله عليه وسلم)، ولكن هذه المحاولات لاقت الفشل كسابقاتها.

    وفي هذا المجال، نلفت إلى أن ابن سعد يورد رواية لا نجدها في المصادر الأخرى، تشير إلى محاولة مبكرة من زعماء قريش لاغتيال الرسول(صلى الله عليه وسلم)، بعد أن فشلوا في إغراء أبي طالب وثنيه عن حماية الرسول(صلى الله عليه وسلم)، فقالوا:"ما خير من أن نغتال محمداً". وقد جاء في الرواية، أنه لمّا كان مساء تلك الليلة ، فقد الرسول(صلى الله عليه وسلم)، فبحث عنه أبو طالب فلم يجده، فظن أنه قد أصيب بمكروه، فجمع فتياناً من بني هاشم وبني المطّلب، وأمر كلاّ منهم أن يحمل حديدة صارمة لقتال زعماء القوم إذا ثبت قتلهم لمحمد(صلى الله عليه وسلم)، إلاّ أنّ أبا طالب سرعان ما أبلغ أن محمداً يجلس الآن في داره بالصفا بمنأى عن الشر، وفي اليوم التالي، صحب أبو طالب ابن أخيه إلى أندية قريش ومعه فتيان بني هاشم والمطلب، وراح يقول لهم: "يا معشر قريش، هل تدرون ما هممت به"؟ قالوا: لا، فأخبرهم الخبر، وقال للفتيان:"اكشفوا عمّا في أيديكم"، فكشفوا، فإذا كل رجل منهم معه حديدة صارمة، فقال: "والله لو قتلتموه ما بقيت منكم أحداً حتى نتفانى نحن وأنتم، فانكسر القوم، وكان أبو جهل أشدهم انكساراً ".

    وعندما اقترب موسم الحج، خاف زعماء قريش أن يفيد الرسول(صلى الله عليه وسلم) من فرصة قدوم الناس إلى مكة، فيتصل بوفود العرب وقبائلها، ويعرض عليهم الإسلام، فدعا أحد كبارهم، وهو الوليد بن المغيرة، قومه إلى أن يجتمعوا إليه للتداول في أمر محمد(صلى الله عليه وسلم)، لكيلا تتضارب أقوالهم بشأن محمد(صلى الله عليه وسلم)، فقال قوم نتهمه بالكهانة، وقال آخرون نقول بأنه مجنون، وقالت فئة ثالثة نقول عنه بأنه شاعر، وقالت طائفة، نقول ساحر، فكان الوليد يردُّ على ذلك وينفي عنه هذه الصفات، حتى قال:" والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلاّ عرف أنه باطل، وإنّ أقرب القول فيه أن تقولوا ساحر جاء بقول هو السحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته". وتفرق القوم على هذا الرأي، وانتشروا في مداخل مكة ومسالكها، حيث تمر الوفود لأداء مناسك الحج، فكلما مرّ بهم وفد حذّروه دعوة الرسول(صلى الله عليه وسلم) واتهموه بالسحر.

    وجاءت محاولتهم هذه بعكس النتائج التي توقعوها، ذلك أن العرب سمعوا بأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم)، فبدأوا يلهجون باسمه، فانتشر في بلاد العرب كلها، فكأنّ قريشاً سعت ـ عن غير قصد ـ إلى نشر الدعوة الناشئة في الآفاق.

    اتهامات بارتكاب القبائح .

    ومضت قريش تلاحق المسلمين وتعذبهم وتفتن من استطاعت فتنته منهم، ولكن الدعوة بقيت تشق طريقها، وإن بصعوبة في مكة بين قبائل قريش رجالاً ونساءً، خاصة بعد إسلام الحمزة بن عبد المطلب الذي غضب لابن أخيه من أبي جهل، وهنا رأت قريش أن تغيِّر من أسلوبها المعتمد في التعاطي مع التطورات الجديدة، فلم تذهب إلى أبي طالب، وإنما رأت أن تفاوض النبي(صلى الله عليه وسلم) مباشرة، فاجتمع أشرافها من كل قبيلة، عتبة وشيبة ابنا ربيعة، أبو سفيان بن حرب، النضر بن الحارث، أبو البختري بن هشام، الأسود بن عبد المطلب، زمعة بن الأسود، الوليد بن المغيرة، أبو جهل بن هشام، عبد الله بن أبي أمية، العاص بن وائل، نبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف، واجتمعوا قريباً من الكعبة، وبعثوا إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ليكلموه بالأمر، فاستجاب لهم مسرعاً، فبادروه بالقول: "يا محمد، إنّا قد بعثنا إليك لنكلّمك، وإنّا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفّهت الأحلام، وفرّقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلاّ قد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنمّا جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنمّا تطلب به الشرف فينا فنحن نسوّدك علينا، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك".

    وهنا دلالة واضحة على أنّ فكرة الوحي عندهم كانت غير واضحة المعالم، ويتبين هذا من خلال الربط بين ما جاء به النبي والطروحات التي تقدموا بها من الشرف والملك والمال والمرض، فضلاً عمّا ألقوه عليه من تبعات الفرقة بين العرب، وما يلحق بهم من إيذاء، من شتم الآباء، وتسفيه الأحلام، وما إلى ذلك.

    دحض مزاعم قريش.

    ولكن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أوضح لهم الهدف من بعثته والوحي الذي يتلقاه ودحض مزاعمهم، بحيث هو بشير ونذير جاء ليبلّغهم رسالة ربه، فأجابهم بقوله: "ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا فيئكم، ولا الملك عليكم، ولكنّ الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتابا،ً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم".

    إزاء هذا الجواب، طلب المجتمعون من الرسول(صلى الله عليه وسلم) أن يأتيهم بمعجزة ما؛ كأن يوسع وادي مكة، أو يفجّر فيه الأنهار، أو يبعث أحد آبائهم حيّاً كي يخبرهم عن صدق نبوته، أو يجعل لهم جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة، أو يسقط السماء عليهم كسفاً، أو يسأل ربّه أن يبعث معه ملكاً يصدّقه بما يقول، "فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنـزلتك من ربك إن كنت رسولاً في ما تزعم، فإنّا لا نؤمن لك إلاّ أن تفعل".

    وهنا أجاب الرسول(صلى الله عليه وسلم) بأنه لم يبعث لكي يقوم بمعجزات من هذا القبيل، ولا هي في الأساس من مهمته، وإنما دوره يقتصر على الإبلاغ والإنذار والتبشير، فقال(ص): "وما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم".

    نماذج من تعذيب أصحاب النبي(صلى الله عليه وسلم)

    في هذا الوقت، كانت قريش تسير وفق الخطة المرسومة في تعذيب أصحاب النبي(صلى الله عليه وسلم) واضطهادهم، فكانت كل قبيلة تثب على من فيها من المسلمين، أحراراً وعبيداً، بالحبس، والتعذيب، والضرب، والعطش، والجوع، والرمي برمضاء مكة إذا اشتد الحر، ففتن بعضهم عن دينه، وتمكن آخرون من المجالدة والصمود، وهنا نقدم بعض النماذج لما كان يعانيه هؤلاء من أمثال:

    بلال بن رباح، كان سيده أمية بن خلف الجمحي يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد، أحد، فيضع أمية في عنقه حبلاً، ويأمر الصبيان فيجرونه، وظل بلال على هذه الحال إلى أن أعتق.

    وكانت زنيرة قد عذبت حتى عميت، فقال لها أبو جهل: إن اللات والعزى فعلتا بك ما ترين، فقالت وهي لا تبصره، وما تدري اللات والعزى من يعبدهما ممن لا يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء. وظلت تعاني التعذيب حتى أعتقت، وكذلك النهدية، وهي أمة لامرأة من عبد الدار، وأم عنيس وهي أمة لبني زهرة ومعذبها الأسود بن عبد يغوث.

    أما عمّار بن ياسر فكان بنو مخزوم يخرجون به وبأبيه وأمه إذا حميت الظهيرة، فيعذبونهم في رمضاء مكة، وكان الرسول(صلى الله عليه وسلم) يمر بهم ويقول: "صبراً آل ياسر، موعدكم الجنة"، وقتلت أمه تحت وطأة التعذيب، فكانت أول شهيدة في الإسلام، أما عمّار، فكان يعذب حتى لا يدري ما يقول، ومن الذين عذبوا أيضاً خباب بن الأرث، وصهيب بن سنان الرومي.

    أما الأغنياء وممن كان لهم شرف ومنعة، فكان أبو جهل يؤنب من يسمع بإسلامه، ويقول له: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك ولنقبحن رأيك ولنضعن شرفك، وإن كان تاجراً قال له: والله لنكدسن تجارتك ولنهلكن مالك، وإن كان ضعيفاً أغرى به.

    وهنا يلاحظ أن طريقة مواجهة قريش لكلّ من يعلن إسلامه، إنما كانت بحسب ما تجده يؤثر على وضعه، ويظهر أن بعض المسلمين قد تضعضعوا أمام المحنة ولم يستطيعوا الصمود أمام حملات قريش وأذاها، وهذا ما أشارت له الآيات القرآنية { . ومن الناس من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين* يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه* ذلك هو الضلال البعيد} (الحج:11ـ12).

    وكان العذاب الذي لحق بالمسلمين قد بلغ درجة كبيرة لا يستطيع أحد من تحملها، وقد ورد ذلك على لسان عبد الله بن عباس عندما سأله سعيد بن جبير عن المستوى الذي بلغ فيه عذاب قريش لأصحاب الرسول(صلى الله عليه وسلم)، فقال: "والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضرب الذي نزل به".

    وإزاء ما كان يتعرض له المسلمون في مكة، أمرهم الله بالكفِّ عن القتال في هذه المرحلة، باعتبار أن وقت المجابهة لم يحن بعد، وإن كان بعض المسلمين ممّن لديهم منعة وقوة، أو ممن كانوا ينتمون لعصبية معينة في وقت كانت فيه العصبيات الناظم المهم لعلاقات الناس، لم يسكتوا على تحرشات الكفار وفجارهم، وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الوقائع في هذه الآيات {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين* وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين* واصبر وما صبرك إلاّ بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون
    } (النحل:125ـ127).






    رد مع اقتباس  

  3. #13 Icon21 مرحلة الدعوة الجهرية 
    المشاركات
    421
    مرحلة الدعوة الجهرية
    أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجهر بالدعوة ويبدأ بعشيرته وأهله، فقال تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} _[الشعراء:214] فنادى الرسول صلى الله عليه وسلم قريشًا، وقال: (يا بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم وبني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئًا إلا أن لكم رحمًا سأَبُلُّهَا بِبِلالِهَا (سَأصِلُها) ) _[مسلم].
    ونزل هذا الكلام على قلوب الكفار نزول الصاعقة، فقد أصبحت المواجهة واضحة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه يطلب منهم أن يتركوا الأصنام التي يعبدونها، وأن يتركوا الفواحش، فلا يتعاملون بالربا، ولا يزنون، ولا يقتلون أولادهم، ولا يظلمون أحدًا، لكنهم قابلوا تلك الدعوة بالرفض، وبدءوا يسخرون من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن دعوته، فصبر صلى الله عليه وسلم عليهم وعلى تطاولهم.
    وذات مرة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، فتطاول عليه بعض الكفار بالكلام، ولكنه صبر عليهم ومضى، فلما مرَّ عليهم ثانية تطاولوا عليه بمثل ما فعلوا، فصبر ولم يرد، ثم مرَّ بهم الثالثة، فتطاولوا عليه بمثل ما فعلوا أيضًا، فقال صلى الله عليه وسلم لهم: (أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح) فخاف القوم حتى إن أكثرهم وقاحة أصبح يقول للرسول
    صلى الله عليه وسلم بكل أدب: انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشدًا، فوالله ما كنت جهولا.
    وذات يوم، أقبل رجل من بلد اسمها (إراش) إلى مكة، فظلمه أبو جهل، وأخذ منه إبله، فذهب الرجل إلى نادي قريش يسألهم عن رجل ينصره على
    أبي جهل، وهنا وجد الكفار فرصة للتسلية والضحك والسخرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمروا الرجل أن يذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليأخذ له حقه، فذهب الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا ينظرون إليه ليروا ما سيحدث، فقام النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجل ليعيد له حقه من أبي جهل، فأرسلوا وراءه أحدهم؛ ليرى ما سوف يصنعه أبوجهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي جهل، وطرق بابه، فخرج أبو جهل من البيت خائفًا مرتعدًا، وقد تغير لونه من شدة الخوف، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطِ هذا الرجل حقه) فرد أبو جهل دون تردد: لا تبرح حتى أعطيه الذي له، ودخل البيت مسرعًا، فأخرج مال الرجل، فأخذه، وانصرف.
    وعندما أقبل أبو جهل على قومه بادروه قائلين: ويلك! ما بك؟ فقال لهم: والله ما هو إلا أن ضرب عليَّ وسمعت صوته فملئت منه رعبًا، ثم خرجت إليه، وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيتُ مثلَه قط، فوالله لو أبَيتُ لأكلني. [البيهقي]
    وبدأ كفار قريش مرحلة جديدة من المفاوضات، فذهبوا إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سبَّ
    آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه، فردَّ عليهم أبو طالب ردًّا رقيقًا، فانصرفوا عنه.
    ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر في إظهار دين الله ودعوة الناس إليه، فجمع الكفار أنفسهم مرة أخرى وذهبوا إلى أبي طالب، فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنًّا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب
    آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.
    وأرسل أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء قال له: يابن أخي! إن قومك قد جاءوني، وقالوا كذا وكذا فأَبقِ علىَّ وعلى نفسك، ولا تُحملني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه: (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه) فقال أبو طالب: امضِ على أمرك وافعل ما أحببت، فوالله! لا أسلمك لشيء أبدًا.
    لم يستطع المشركون أن يوقفوا مسيرة الدعوة للإسلام، ولم يستطيعوا إغراء الرسول صلى الله عليه وسلم بالمال أو بالجاه، وقد خاب أملهم في عمه
    أبي طالب، وها هو ذا موسم الحج يقبل، والعرب سوف يأتون من كل
    مكان، وقد سمعوا بمحمد ودعوته، وسوف يستمعون إليه وربما آمنوا به
    ونصروه، فتسرب الخوف إلى قلوب الكفار في مكة، وفكروا في قول واحد يتفقون عليه ويقولونه عن محمد صلى الله عليه وسلم حتى يصرفوا العرب
    عنه، فالتفوا حول الوليد بن المغيرة، وكان أكبرهم سنًّا؛ فقال أحدهم: نقول إن محمدًا كاهن، فقال الوليد: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، فقالوا: نقول إن محمدًا مجنون، فقال لهم: ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه، فقالوا: نقول إن محمدًا شاعر، فقال لهم: ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله فما هو بالشعر، فقالوا: نقول ساحر، فقال لهم: ما هو
    بساحر، لقد رأينا السحرة وسحرهم وما هو منهم.
    فقالوا للوليد بن المغيرة: فما تقول يا أبا عبد شمس؟ فأقسم لهم أن كلام محمد هو أحلى الكلام وأطيبه، وما هم بقائلين من هذا شيئًا إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: إن محمدًا ساحر يفرق بين المرء وأخيه وبين الرجل وزوجته والرجل وأبيه، فوافق الكفار على رأيه وانتشروا في موسم الحج يرددون هذه الافتراءات بين الناس، حتى يصدوهم عن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة قوله: {ذرني ومن خلقت
    وحيدًا . وجعلت له مالاً ممدودًا . وبنين شهودًا . ومهدت له تمهيدًا . ثم يطمع أن أزيد . كلا إنه كان لآياتنا عنيدًا . سأرهقه صعودًا . إنه فكر وقدر . فقتل كيف قدر . ثم قتل كيف قدر . ثم نظر . ثم عبس وبسر . ثم أدبر
    واستكبر . فقال إن هذا إلا سحر يؤثر . إن هذا إلا قول البشر . سأصليه
    سقر . وما أدراك ما سقر . لا تبقي ولا تذر . لواحة للبشر . عليها تسعة عشر} _[المدثر:11-30].
    إسلام عمر بن الخطاب:
    دعا الرسول صلى الله عليه وسلم الله أن يعز الإسلام بأحد العمرين: عمر بن الخطاب، أو عمرو بن هشام، وكان عمر بن الخطاب قبل أن يسلم شديد الإيذاء للمسلمين، وذات يوم حمل عمر سيفه، وانطلق يبحث عن محمد ليقتله، وفي الطريق قابله رجل، وأخبره أن أخته فاطمة قد أسلمت هي وزوجها سعيد بن زيد، فاتجه عمر غاضبًا نحو دار أخته، ودق الباب، وكان الصحابي خباب بن الأَرَتِّ -رضي الله عنه- يعلِّم أخت عمر وزوجها القرآن الكريم، فلما سمعوا صوت عمر امتلأت قلوبهم بالرعب والخوف، وأسرع خباب فاختبأ في زاوية من البيت، ودخل عمر فقال: لقد أُخبرت أنكما تبعتما محمدًا على دينه، ثم ضرب زوج أخته، وضرب أخته على وجهها حتى سال الدم من وجهها، ولكنها لم تخف، وقالت له في ثبات وشجاعة: نعم أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما شئت.
    ندم عمر على ما صنع بأخته، وطلب منها الصحيفة التي كانوا يقرءون
    منها، فقالت له: يا أخي إنك نجس وإنه لا يمسه إلا المطهرون، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة، فقرأ عمر: بسم الله الرحمن الرحيم {طه . ما أنزلنا عليكم القرآن لتشقى . إلا تذكرة لمن يخشى . تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى . الرحمن على العرش استوى . له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى . وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر
    وأخفى . الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} _[طه:1-8].
    وكانت هذه الآيات نورًا جذب عمر إلى الإسلام وأضاء له طريق الحق، فما إن قرأها حتى لان قلبه، وهدأ طبعه، وذهب عنه الغضب، وقال -والإيمان يفيض في جوانحه-: ما أحسن هذا الكلام وما أكرمه، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه، وبعد قليل من إسلام عمر بن الخطاب -رضي الله
    عنه- سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة في وضح النهار بين عمر بن الخطاب وحمزة بن عبدالمطلب -رضي الله عنهما- وامتنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما، وكان المسلمون لا يقدرون أن يُصَلُّوا عند الكعبة حتى أسلم عمر بن الخطاب، فلما أسلم هو وحمزة بن عبدالمطلب صلى المسلمون عند الكعبة
    .






    رد مع اقتباس  

  4. #14 Icon21 الهجره للحبشه 
    المشاركات
    421
    لقد بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بدعوة تملأ القلوب نوراً، وتُشْرِقُ بها العقول رُشداً، فسابق إلى قبولها رجال عقلاء، ونساء فاضلات، وصبيان لا زالوا على فطرة الله، وبقيت سائرة في شيء من الخفاء، وكفارُ قريش لا يلقون لهم بالاً، حتى أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم -يقرع بها الأسماع في المجامع، ويحذر من عبادة الأصنام، ويسفِّه أحلام من يعبدونها، فكان ذلك مثيراً لغيظ المشركين، وحافزاً لهم على مناوأة هذه الدعوة، والصد عن سبيلها، فوجدوا في أيديهم وسيلة، هي أن يفتنوا المؤمنين، ويسوموهم سوء العذاب؛ حتى يعودوا إلى ظلمات الشرك، وحتى يُرْهبوا غيرهم ممن تحدثهم نفوسهم بالدخول في دين القَيِّمة.
    أما المسلمون فمنهم من كانت له قوة من نحو عشيرة أو حلفاء يكُفُّوُن عنه كل يد تمتد إليه بأذى.
    ومنهم المستضعفون وهؤلاء هم الذين وصلت إليهم أيدي المشركين وبلغوا من تعذيبهم كل مبلغ.
    ومن هؤلاء من يناله العذاب من أقرب الناس إليه نسباً.
    ولما رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ما يقاسيه أصحابه من البلاء وليس في استطاعته يومئذ حمايتهم أذن لهم في الهجرة للحبشة وقال: (إن بها ملكاً لا يُظلم الناس عنده، فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجاً).
    فكان ذلك بداية الهجرة، ثم بعد ذلك بدأت الهجرة للمدينة، حيث هاجر من هاجر من الصحابة، ثم تبعهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم -.
    هذا هو سبب الهجرة، أما سبب التأريخ بها، فقد كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب كتاباً يقول فيه:(إنه يأتينا منك كتبٌ ليس لها تاريخ)، فجمع عمر الناس يستطلع رأيهم فيما يكون به التاريخ، فقال بعضهم:(أرِّخ بالمبعث )، وقال بعضهم: ( أرِّخ بالهجرة).
    فقال عمر - رضي الله عنه -:(الهجرة فرقت بين الحق والباطل؛ فأرِّخوا بها ).
    وهذه إشارة إلى المزية التي استحقت بها الهجرة أن تكون مبدأ التاريخ العام؛ حيث أقبل الناس بعدها إلى الإسلام جهرة لا يخشون إلا رب العالمين.
    الدروس المستفادة من الهجرة
    يستفاد من الهجرة الشريفة دروس عظيمة، ويستخلص منها فوائد جمة، ويُلْحظ فيها حكم باهرة، يُفيد منها الأفراد، وتُفيد منها الأمة بعامة، وذلك في شتى مجالات الحياة، ومن تلك الدروس والفوائد والحكم ما يلي:
    1- ضرورة الجمع بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب: فالتوكل في لسان الشرع يراد به توجه القلب إلى الله حال العمل، واستمداد المعونة منه، والاعتماد عليه وحده؛ فذلك سر التوكل وحقيقته، والذي يحقق التوكل هو القيام بالأسباب المأمور بها؛ فمن عطلها لم يصحَّ توكله؛ فلم يكن التوكل داعية إلى البطالة أو الإقلال من العمل، بل لقد كان له الأثر العظيم في إقدام عظماء الرجال على جلائل الأعمال التي يسبق إلى ظنونهم أن استطاعتهم وما لديهم من الأعمال الحاضرة يَقْصُران عن إدراكها؛ ذلك أن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه، بل هو أقواها؛ فاعتماد القلب على الله-عز وجل-يستأصل جراثيم اليأس، ويجتث منابت الكسل، ويشد ظهر الأمل الذي يلج به الساعي أغوار البحار العميقة، ويقارع به السباع الضارية في فلواتها.
    هذا ولرسول الله-عليه الصلاة والسلام-القِدْحُ المُعلَّى، والنصيب الأوفى من هذا المعنى؛ فلا يُعْرَفُ بَشَرٌ أحق بنصر الله، وأجدر بتأييده من هذا الرسول الذي لاقى في جنب الله ما لاقى، ومع ذلك فإن استحقاق التأييد الأعلى لا يعني التفريط قيد أنملة في استجماع أسبابه وتوفير وسائله.
    ومن ثم فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -أحكم خطة هجرته، وأعد لكل فرض عُدَّتَه، ولم يدع في حسبانه مكاناً للحظوظ العمياء، ثم توكل بعد ذلك على من بيده ملكوت كل شيء.
    وكثيرًا ما يرتب الإنسان مقدمات النصر ترتيباً حسناً، ثم يجيء عَوْنٌ أعلى يجعل هذا النصر مضاعف الثمار.
    ولقد جرت هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم -من مكة إلى المدينة على هذا الغرار؛ فقد استبقى معه أبا بكر وعلياً-رضي الله عنهما ، وأذن لسائر المؤمنين بتقدمه إلى المدينة، فأما أبو بكر فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال له حين استأذنه؛ ليهاجر:(لا تعجل؛ لعل الله أن يجعل لك صاحباً).
    وأحس أبو بكر بأن الرسول- صلى الله عليه وسلم -يعني نفسه بهذا الرّد، فابتاع راحلتين، فحبسهما في داره يعلفهما، إعداداً لذلك الأمر.
    أما عليٌ فقد هيّأهُ الرسول- صلى الله عليه وسلم -لدور خاص يؤديه في هذه المغامرة المحفوفة بالأخطار، ألا وهي مبيت علي في مكان النبي- صلى الله عليه وسلم -إذا أراد الخروج إلى المدينة.
    ويلاحظ أن النبي- صلى الله عليه وسلم -كتم أسرار مسيره؛ فلم يطلع عليها إلا من لهم صلة ماسة، ولم يتوسع في إطْلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم.
    ثم إنه استأجر خبيراً بطريق الصحراء؛ ليستعين بخبرته على مغالبة المُطَالِبين، وهو عبد الله بن أُريقط الليثي، وكان هادياً ماهراً بالطريق، وكان على دين قومه قريش، فَأَمَّناه على ذلك، وسلَّما إليه راحلتيهما، وواعداه في غار ثور بعد ثلاث. ومع هذه الأسباب لم يتكل عليها النبي- صلى الله عليه وسلم -بل كان قلبه متعلقاً بالله-عزّ وجل-فجاءه التوفيق والمدد والعون من الله.
    ويشهد لذلك أنه لما أبقى علياً - رضي الله عنه - ليبيت في مضجعه، وهمَّ بالخروج من منزله الذي يحيط به المشركون، وتقطعت أسباب النصر الظاهرة، ولم يبق من سبب إلا سنةُ تأييد الله الخفية - أخذ حصيات ورمى بها وجوه المشركين؛ فأدبروا.
    وكذلك الحال لما كان في الغار، ففي الصحيحين أن أبا بكر- رضي الله عنه -قال: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال:(يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن؛ فإن الله معنا ).
    والدرس المستفاد من هذه الناحية هو أن الأمة التي تريد أن تخرج من تيهها، وتنهض من كبوتها لا بُدّ أن تأخذ بأسباب النجاة وعُدَد النهوض، ثم تنطوي قلوبها على سراج من التوكل على الله، وأعظم التوكل على الله، التوكل عليه-عز وجل-في طلب الهداية، وتجريد التوحيد، ومتابعة الرسول، وجهاد أهل الباطل، وحصول ما يحبه الله ويرضاه من الإيمان، واليقين، والعلم، والدعوة؛ فهذا توكل الرسل، وخاصة أتباعهم.
    وما اقترن العزم الصحيح بالتوكل على من بيده ملكوت كل شيء إلا كانت العاقبة رشداً وفلاحاً [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ] آل عمران: 159.
    وما جمع قوم بين الأخذ بالأسباب وقوة التوكل على الله إلا أحرزوا الكفاية لأن يعيشوا أعزة سعداء.
    2- ضرورة الإخلاص، والسلامة من الأغراض الشخصية: فالإخلاص روح العظمة، وقطب مدارها، والإخلاص يرفع شأن الأعمال حتى تكون مراقي للفلاح، والإخلاص يجعل في عزم الرجل متانة، فيسير حتى يبلغ الغاية.
    ولولا الإخلاص يضعه الله في قلوب زاكيات لحُرم الناس من مشروعات عظيمة تقف دونها عقبات.
    ومن مآخذ العبرة في قصة الهجرة أن الداعي إلى الإصلاح متى أوتي حكمة بالغة، وإخلاصًا نقيَّاً، وعزماً صارماً هَيَّأَ الله لدعوته بيئة طيّبة فتقبُلها، وزيَّنها في قلوب قوم لم يلبثوا أن يسيروا بها، ويطرقوا بها الآذان، فَتُسِيغها الفطرُ السليمةُ، والعقول التي تقدّر الحُجج الرائعة حق قدرها.
    وهكذا كان- صلى الله عليه وسلم -فلم يرد بدعوته إلا الإخلاص لله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور؛ فكان متجرداً من حظوظ النفس ورغائبها؛ فما كان-صلوات الله وسلامه عليه-خاملاً؛ فيطلب بهذه الدعوة نباهة شأن ووجاهة؛ فإن في شرف أسرته، وبلاغة منطقه، وكرم خلقه ما يكفيه لأن يحرز في قوم الزعامة لو شاء.
    وما كان مُقِلاً حريصاً على بسطة العيش؛ فيبغي بهذه الدعوة ثراءً؛ فإن عيشه يوم كان الذهب يصب في مسجده رُكاماً لا يختلف عن عيشه يوم كان يلاقي في سبيل الدعوة أذىً كثيراً.
    ثم إن الهجرة كان دليلاً على الإخلاص والتفاني في سبيل العقيدة؛ فقد فارق المهاجرون وطنهم، ومالهم، وأهليهم، ومعارفهم؛ إجابة لنداء الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم -.
    وهذا درس عظيم يفيد منه المسلمون فائدة عظمى وهي أن الإخلاص هو السبب الأعظم لنيل المآرب التي تعود على الأفراد والأمة بالخير.
    3- الاعتدال حال السراء والضراء: فيوم خرج-عليه الصلاة والسلام-من مكة مكرهاً لم يخنع، ولم يذل، ولم يفقد ثقته بربِّه.
    ولما فتح الله عليه ما فتح، وأقر عينه بعز الإسلام، وظهور المسلمين لم يَطِشْ زهواً، ولم يتعاظم تيهاً؛ فعيشته يوم كان في مكة يلاقي الأذى ويوم أخرج منها كارهاً كعيشته يوم دخل مكة ظافراً، وكعيشته يوم أظلت رايته البلاد العربية، وأطلَّت على ممالك قيصر ناحية تبوك.
    وتواضعه وزهده بعد فتح مكة وغيرها كحاله يوم كان يدعو وحيداً وسفهاء الأحلام في مكة يضحكون منه، ويسخرون.


    كُلاً بلوتُ فلا النعماء تُبطرني *** ولا تَخَشَّعتُ من لأوائها جزعاً

    والدرس المستفاد من هذا المعنى واضح جلي؛ إذ الأمة تمر بأحوال ضعف، وأحوال قوة، وأحوال فقر، وأحوال غنى؛ فعليها لزوم الاعتدال في شتى الأحوال؛ فلا تبطرها النعماء، ولا تُقَنِّطها البأساء، وكذلك الحال بالنسبة للأفراد.
    4- اليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين: فالذي ينظر في الهجرة بادئ الرأي يظن أن الدعوة إلى زوال، واضمحلال.
    ولكن الهجرة في حقيقتها تعطي درساً واضحاً في أن العاقبة للتقوى وللمتقين.
    فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يعلِّم بسيرته المجاهدَ في سبيل الحق أن يثبت في وجه أشياع الباطل، ولا يَهَنَ في دفاعهم، وتقويم عِوَجِهم، ولا يَهُولُه أن تقبل الأيام عليهم، فيشتدَّ بأسهم، ويُجْلِبوا بخيلهم ورجالهم؛ فقد يكون للباطل جولة، ولأشياعه صولة، أما العاقبة فإنما هي للذين صبروا والذين هم مصلحون.
    فلقد هاجر-عليه الصلاة والسلام-من مكة في سواد الليل مختفياً وأهلها يحملون له العداوة والبغضاء، ويسعون سعيهم للوصول إلى قتله، والخلاص من دعوته، ثم دخل المدينة في بياض النهار مُتَجلِّياً وقد استقبله المهاجرون والأنصار بقلوب ملئت سروراً بمقدمه، وابتهاجاً بلقائه، وصاروا يتنافسون في الاحتفاء به، والقرب من مجلسه، وقد هيئوا أنفسهم لفدائه بكل ما يعز عليهم، وأصبح-عليه الصلاة والسلام-كما قال أبو قيس صرمة الأنصاري:


    ثوى بقريش بضع عشرة حجة *** يذكر لو يلقى حبيبا مواتيا
    ويعرض في أهل المواسم نفسه*** فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
    فلما أتانا واستقر به النوى***وأصبح مسروراً بطيبة راضيا
    وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم*** بعيد ولا يخشى من الناس باغيا
    بذلنا له الأموال من حلِّ مالنا***وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
    نعادي الذي عادى من الناس كلهم***جميعاً ولو كان الحبيب المصافيا
    ونعلم أن الله لا رب غيره *** وأن كتاب الله أصبح هاديا

    5- ثبات أهل الإيمان في المواقف الحرجة: ويبدو ذلك في جواب النبي- صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر- رضي الله عنه -تطميناً له على قلقه:( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
    فهذا مثال من أمثلة الصدق والثبات، والثقة بالله، والاتكال عليه عند الشدائد، وهو دليل واضح على صدق الرسول، ودعوى النبوة؛ فهو في أشد المآزق حرجاً ومع ذلك تبدو عليه أمارات الاطمئنان، وأن الله لن يتخلى عنه في تلك الساعات الحرجة.
    تُرى هل يصدر مثل هذا الاطمئنان عن مُدَّعٍ للنبوة ؟ ففي مثل هذه الحالات يبدو الفرق واضحاً بين أهل الصدق وأهل الكذب، فأولئك تفيض قلوبهم دائماً وأبداً بالرضا عن الله، والثقة بنصره، وهؤلاء يتهاوون عند المخاوف، وينهارون عند الشدائد، ثم لا تجد لهم من الله ولياً ولا نصيراً.
    6- أن من حفظ الله حفظه الله: ويؤخذ هذا المعنى من حال زعماء قريش عندما ائتمروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليعتقلوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه قال-تعالى : [ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ] الأنفال: 30.
    فأجمعوا بعد تداول الرأي على أن يطلقوا سيوفهم تخوض في دمه الطاهر، فأوحى الله إلى رسوله ما أوحى، فحثا في وجوههم التراب، وبارح مكة من حيث لا تراه أعينهم.
    وهذا درس عظيم، وسُنَّةٌ ماضية في أنَّ مَنْ حفظ الله حفظه الله، والحفظُ من الله شامل، وأعظم ما في ذلك أن يُحْفَظَ الإنسان في دينه ودعوته، وهذا الحفظ-أيضاً-يشمل حفظ البدن، وليس بالضرورة أن يُعصَمَ؛ فلا يُخلَصَ إليه البتة؛ فقد يصاب؛ لترفع درجاته، وتقال عثراته، ولكن الشأن كل الشأن في حفظ الدين والدعوة.
    7- أن النصر مع الصبر: فقد قضى-عليه الصلاة والسلام-في سبيل دعوته في مكة ثلاثة عشر حولاً وهو يلاقي نفوساً طاغيةً، وألسنة ساخرة، وربما لقي أيدياً باطشة.
    كان هَيِّناً على الله أن يصرف عنه الأذى جملة، ولكنها سنة الابتلاء يؤخذ بها الرسول الأكرم؛ ليستبين صبره، ويعظم عند الله أجره، وليتعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد، ويصبرون على ما يلاقون من الأذى صغيراً كان أم كبيراً.
    8- ظهور المواقف البطولية: فالنبي- صلى الله عليه وسلم -تنتهي إليه الشجاعة بأسرها، ومن مواقفه البطولية ما كان من أمر الهجرة وذلك لما اجتمعت عليه قريش ورمته عن قوس واحدة، وأجمعت على قتله، والقضاء على دعوته، فما كان منه إلا أن قابل تلك الخطوب بجأشٍ رابط، وجبين طَلْقٍ، وعزم لا يلتوي.


    ولاحت نجومٌ للثريا كأنها ***جبين رسول الله إذ شاهد الزحفا

    ولقد كان ذلك دَأْبَهُ-عليه الصلاة والسلام-فلم تكن تأخذه رهبة من أشياع الباطل وإن كثر عددهم، بل كان يلاقيهم بالفئات القليلة ويفوز عليهم فوزاً عظيماً، وكان يقابل الأعداء بوجهه، ولا يوليهم ظهره وإن تزلزل جنده، وانصرفوا جميعاً من حوله.
    وكان يتقدم في الحرب حتى يكون موقفه أقرب موقف من العدو، وإذا اتقدت جمرة الحرب، واشتدّ لهبها أوى إليه الناس، واحتموا بظله الشريف؛ فلم يكن يتوارى من الموت، أو يُقَطِّب عند لقائه؛ كيف وهو يتيقن أن موتَه هو انتقال من حياة مخلوطة بالمتاعب والمكاره إلى حياة أصفى لذة، وأهنأ راحةً، وأبقى نعيماً ؟
    ولقد كان لهذه المواقف البطولية الرائعة موضع قدوة لأصحابه ومن جاء بعدهم؛ فحقيق على الأمة التي تريد العزة، والرفعة، والسعادة أن تكون على درجة من الشجاعة؛ حتى تقر بها أعينُ حلفائها، ويكون لها مكانة مهيبة في صدور أعدائها.
    وحقيق على علماء الإسلام وزعمائه أن يقتدوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أدب الشجاعة التي هي الإقدام في حكمة؛ فقد جرت سنة الله على أن الحق لا يمحق الباطل، وأن الإصلاح لا يدرأ الفساد إلا أن يقيض الله لهما رجالاً يؤثرون الموت في جهاد على الحياة في غير جهاد
    .







    رد مع اقتباس  

  5. #15 Icon21 بيعة العقبة الأولى 
    المشاركات
    421
    حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا ، فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى ، فبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب .

    منهم من بني النجار ثم بني مالك بن النجار أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار وهو أبو أمامة وعوف ومعاذ ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار وهما ابنا عفراء ومن بني زريق بن عامر رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق .

    قال ابن هشام : ذكوان ، مهاجري أنصاري .

    ومن بني عوف بن الخزرج ، ثم من بني غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج ، وهم القواقل عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم ; وأبو عبد الرحمن وهو يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم بن عمرو بن عمارة ، من بني غصينة من بلي ، حليف لهم .

    قال ابن هشام : وإنما قيل لهم القواقل لأنهم كانوا إذا استجار بهم الرجل دفعوا له سهما ، وقالوا له قوقل به بيثرب حيث شئت .

    قال ابن هشام : القوقلة ضرب من المشي . وقال ابن إسحاق : ومن بني سالم بن عوف بن عمرو بن الخزرج ، ثم من بني العجلان بن زيد بن غنم بن سالم العباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان .

    ومن بني سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج ، ثم من بني حرام بن كعب بن غنم بن سلمة عقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام .

    ومن بني سواد بن غنم بن كعب بن سلمة قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن غنم بن سواد .

    رجال العقبة من الأوس
    وشهدها من الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر ثم من بني عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس : أبو الهيثم بن التيهان ، واسمه مالك قال ابن هشام : التيهان يخفف ويثقل كقوله ميث وميت .

    رجال العقبة الأولى من بني عمرو
    ومن بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس : عويم بن ساعدة .


    --------------------------------------------------------------------------------

    وذكر في أنساب المبايعين له في العقبة الأولى في بني سلمة منهم سادرة بن تزيد بن جشم وتزيد بتاء منقوطة باثنتين من فوق ولا يعرف في العرب تزيد إلا هذا ، وتزيد بن الحاف بن قضاعة ، وهم الذين تنسب إليهم الثياب التزيدية وأما سلمة بكسر اللام فهم من الأنصار سمي بالسلمة واحدة السلام وهي الحجارة قال الشاعر

    ذاك خليلي وذو يعاتبني

    يرمي ورائي بالسهم والسلمة


    وفي جعفي سلمة بن عمرو بن دهل بن مروان بن جعفي وفي جهينة سلمة بن نصر بن غطفان قاله ابن حبيب النسابة في الصحابة عمرو بن سلمة أبو بريدة الجرمي الذي أم قومه وهو ابن ست سنين أو سبع وفي الرواة عبد الله بن سلمة وينسب إلى بني سلمة هؤلاء سلمي بالفتح كما ينسب إلى بني سلمة وهم بطنان من بني عامر يقال لهم السلمات يقال لأحدهم سلمة الخير وللآخر سلمة الشر ابنا قصير بن كعب بن ربيعة بن عامر وأما بنو سليمة بياء ففي دوس ، وهم بنو سليمة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس ، وسليمة هذا هو أخو جذيمة الأبرش وهو الذي قتل أخاه مالكا بسهم قتل خطأ ويقال في النسب إليه سلمي أيضا وهو القياس وقد قيل سليمي كما قيل في عميرة عميري .

    وذكر بني جدارة من بني النجار وجدارة وخدارة أخوان وغيره يقول في جدارة خدارة بالخاء المضمومة وهكذا قيده أبو عمرو ، كذلك ذكره ابن دريد في الاشتقاق وهو أشبه بالصواب لأنه أخو خدرة وكثيرا ما يجعلون أسماء الإخوة مشتقة بعضها من بعض .

    وذكر القواقل وهم بنو عمرو بن غنم بن مالك وذكر تسميتهم القواقل وأن ذلك لقولهم إذا أجاروا أحدا : قوقل حيث شئت ، وفي الأنصار : القواقل والجعادر وهما بطنان من الأوس ، وسبب تسميتهما : واحد في المعنى ، أما الجعادر فكانوا إذا أجاروا أحدا أعطوه سهما ، وقالوا له جعدر حيث شئت ، كما كانت القواقل تفعل وهم بنو زيد بن عمرو بن مالك بن ضبيعة [ بن زيد ] يقال لهم كسر الذهب وهما جميعا من الأوس . قال الشاعر

    فإن لنا بين الجواري وليدة

    مقابلة بين الجعادر والكسر

    متى تدع في الزيدين زيد بن مالك

    وزيد بن عمرو تأتها عزة الخفر


    وذكر فيهم أبا الهيثم بن التيهان ولم ينسبه ولا نسبه في أهل العقبة الثانية ولا في غزوة بدر وهو مالك بن التيهان واسم التيهان أيضا مالك بن عتيك بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر بن زعون بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري حليف بني عبد الأشهل كان أحد النقباء ليلة العقبة ، ثم شهد بدرا ، واختلف في وقت وفاته فأصح ما قيل فيه إنه شهد مع علي صفين وقتل فيها رحمه الله وأحسب ابن إسحاق وابن هشام تركا نسبه على جلالته في الأنصار وشهوده هذه المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاختلاف فيه فقد وجدت في شعر عبد الله بن رواحة حين أضاف أبو الهيثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منزله ومعه أبو بكر وعمر فذبح لهم عناقا وأتاهم بقنو من رطب الحديث بطوله فقال ابن رواحة في ذلك

    فلم أر كالإسلام عزا لأهله

    ولا مثل أضياف لأراشي معشرا


    فجعل إرشيا كما ترى ، والإراشي منسوب إلى إراشة في خزاعة ، أو إلى إراش بن لحيان بن الغوث فالله أعلم أهو أنصاري بالحلف أم بالنسب المذكور قبل هذا ، ونقلته من قول أبي عمر في الاستيعاب وقد قيل إنه بلوي من بني إراشة بن فاران بن عمرو بن بلي ، والهيثم في اللغة فرخ [ النسر أو ] ، العقاب والهيثم أيضا ضرب من العشب فيما ذكر أبو حنيفة وبه سمي الرجل هيثما أو بالمعنى الأول وأنشد

    رعت بقران الحزن روضا منورا

    عميما من الظلاع والهيثم الجعد






    رد مع اقتباس  

  6. #16 Icon21 بيعة العقبة الثانية 
    المشاركات
    421
    فلما وصلوا واعدوه العقبة ، من أواسط أيام التشريق للبيعة بعد ما انقضى حجهم . فقال له العباس ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك ؟ إني ذو معرفة بأهل يثرب . فلما كان الليل تسللوا من رحالهم مختفين ومعهم عبد الله بن عمرو بن حرام - أبو جابر - وهو مشرك وكانوا يكاتمونه الأمر . فلما كانت الليلة التي واعدوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا أبا جابر ، إنك شريف من أشرافنا . وإنا نرغب بك أن تكون حطبا للنار غدا ، قال وما ذلك ؟ فأخبروه الخبر . فأسلم وشهد العقبة وكان نقيبا .

    فلما مضى ثلث الليل خرجوا للميعاد حتى اجتمع عنده من رجل ورجلين ومعه عمه العباس - وهو يومئذ على دين قومه - ولكنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له .

    فلما نظر العباس في وجوههم قال هؤلاء قوم لا نعرفهم هؤلاء أحداث وكان أول من تكلم . فقال يا معشر الخزرج - وكانت العرب تسمي الجميع الخزرج - إن محمدا منا حيث علمتم وقد منعناه من قومنا وهو في منعة في بلده إلا أنه أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم . فإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم . وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه - بعد خروجه إليكم - فمن الآن فدعوه . فإنه في عز ومنعة .

    قالوا : قد سمعنا ما قلت . فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك ولربك ما شئت .

    فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبايعكم على أن تمنعوني - إذا قدمت عليكم - مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم . ولكم الجنة

    فكان أول من بايعه البراء بن معرور . فقال والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا . فبايعنا يا رسول الله . فنحن أهل الحرب والحلقة ورثناها صاغرا عن كابر . فاعترضه أبو الهيثم بن التيهان ، وقال إن بيننا وبين الناس حبالا ونحن قاطعوها ، فهل عسيت - إن أظهرك الله - أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لا والله بل الدم الدم والهدم الهدم ، أنتم مني وأنا منكم . أحارب من حاربتم . وأسالم من سالمتم

    فلما قدموا يبايعونه أخذ بيده أصغرهم - أسعد بن زرارة - فقال رويدا يا أهل يثرب ، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله وإن إخراجه اليوم مفارقة للعرب كافة وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف . فإما أنتم تصبرون على ذلك . فخذوه وأجركم على الله وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه . فهو أعذر لكم عند الله . فقالوا : أمط عنا يدك ، فوالله ما نذر هذه البيعة ولا نستقيلها .

    فقاموا إليه رجلا رجلا يأخذ منهم ويعطيهم بذلك الجنة ثم كثر اللغط فقال العباس على رسلكم . فإن علينا عيونا .

    ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا كفلاء على قومهم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم . وأنا كفيل على قومي "وفي رواية " أن موسى اتخذ من قومه اثني عشر نقيبا

    فكان نقيب بني النجار : أسعد بن زرارة . ونقيب بني سلمة : البراء بن معرور ، وعبد الله بن عمرو بن حرام . ونقيب بني ساعدة : سعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو . ونقيب بني زريق : رافع بن مالك بن عجلان . ونقيب بني الحارث بن الخزرج : عبد الله بن رواحة ، وسعد بن الربيع ونقيب القوافل عبادة بن الصامت . ونقيب الأوس : أسيد بن حضير وأبو الهيثم بن التيهان . ونقيب بني عوف سعد بن خيثمة .

    وكان جميع أهل العقبة : سبعين رجلا وامرأتين .

    فلما بايعوه صرخ الشيطان بأنفذ صوت سمع قط : يا أهل الأخاشب ، هل لكم في محمد والصبأة معه ؟ قد اجتمعوا على حربكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أزب العقبة ، أما والله يا عدو الله لأفرغن لك " تم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ارفضوا إلى رحالكم

    فقال العباس بن عبادة بن نضلة : والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل مكة غدا بأسيافنا . فقال " لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم " فرجعوا

    فلما أصبحوا غدت عليهم جلة قريش . فقالوا : إنه بلغنا أنكم جئتم صاحبنا البارحة تستخرجونه من بين أظهرنا ، وتبايعونه على حربنا . وإن الله ما من حي من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم . فانبعث رجال - ممن لم يعلم - يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء والذين يشهدون ينظر بعضهم إلى بعض . وجعل عبد الله بن أبي ابن سلول يقول هذا باطل . ما كان هذا . وما كان قومي ليفتاتوا علي بمثل هذا . لو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا . حتى يؤامروني .

    فقام القوم - وفيهم الحارث بن هشام - وعليه نعلان جديدان . فقال كعب بن مالك : كلمة - كأنه يريد أن يشرك القوم فيما قالوا - فقال يا آبا جابر ما تستطيع أن تتخذ - وأنت سيد من سادتنا - مثل نعلي هذا الفتى ؟ فسمعها الحارث . فجعلها من رجليه . ثم رمى بهما إليه . وقال والله لتنتعلنهما . فقال أبو جابر مه ؟ أحفظت الفتى . فاردد إليه نعليه ؟ فقال لا أردهما إليه والله فأل صالح . لئن صدق الفأل لأسلبنه .

    فلما انفصلت الأنصار عن مكة : صح الخبر عند قريش . فخرجوا في طلبهم فأدركوا سعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو . فأعجزهم المنذر ومضى . وأما سعد فقالوا له أنت على دين محمد ؟ قال نعم فربطوا يديه إلى عنقه بنسعة رحله . وجعلوا يسحبونه بشعره ويضربوه - وكان ذا جمة - حتى أدخلوه مكة ، فجاء المطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية . فخلصاه من أيديهم .

    وتشاورت الأنصار أن يكروا إليه . فإذا هو قد طلع عليهم . فرحلوا إلى المدينة .

    وكان الذي أسره ضرار بن الخطاب الفهري وقال

    تداركت سعدا عنوة فأسرته

    وكان شفائي ، لو تداركت منذرا

    ولو نلته طلت هناك جراحة

    أحق دماء أن تهان وتهدرا


    فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه

    فخرت بسعد الخير حين أسرته

    وقلت : شفائي لو تداركت منذرا

    وإن امرأ يهدي القصائد نحونا

    كمستبضع تمرا إلى أهل خيبرا

    فلا تك كالشاة التي كان حتفها

    بحفر ذراعيها . فلم ترض محفرا

    ولا تك كالوسنان يحلم أنه

    بقرية كسرى ، أو بقرية قيصرا

    ولا تك كالثكلى ، وكانت بمعزل

    عن الثكل . لو أن الفؤاد تفكرا

    ولا تك كالعاوي ، وأقبل نحره

    ولم يخشه سهم من النبل مضمرا

    أتفخر بالكتان لما لبسته

    وقد يلبس الأنباط ريطا مقصرا

    فلولا أبو وهب لمرت قصائد

    على شرف البيداء يهوين حسرا


    وسمعت قريش قائلا يقول بالليل على أبى قبيس

    فإن يسلم السعدان يصبح محمد

    بمكة لا يخشى خلاف المخالف


    قالوا : من هما ؟ قال أبه سفيان أسعد بن بكر أم سعد بن هزيم ؟ فلما كانت الليلة القابلة سمعوه يقول

    فيا سعد - سعد الأوس - كن أنت ناصرا

    ويا سعد - سعد الخزرجين - الغطارف

    أجيبا إلى داعي الهدى . وتمنيا

    على الله في الفردوس منة عارف

    فإن ثواب الله للطالب الهدى

    جنان من الفردوس ذات رفارف


    فقال أبو سفيان هذا والله سعد بن عبادة ، وسعد بن معاذ
    .





    رد مع اقتباس  

  7. #17 Icon21 الهجرة من مكة إلى المدينة 
    المشاركات
    421
    الهجرة من مكة إلى المدينة
    أصبح كفار مكة في غيظ شديد، بعدما صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنصار في يثرب، وهم أهل حرب يجيدون القتال، وسوف ينصرون
    الإسلام، فشعر كفار مكة أن الأمر سيخرج من أيديهم، فانقضوا على المسلمين بالتعذيب والأذى، والتف المسلمون حول نبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم يطلبون منه الإذن في ترك مكة كلها، ويهاجرون بدينهم، حتى يستطيعوا أن يعبدوا الله تعالى وهم آمنون، فأذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة. فبدأ المسلمون يتسللون سرًّا إلى المدينة، تاركين ديارهم وأموالهم من أجل دينهم.
    وجاء أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الهجرة، فطلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينتظر لعل الله يجعل له صاحبًا، ففهم أبو بكر أنه سيظفر بالهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتظر مسرورًا، وأخذ يُعِدُّ للرحلة المباركة، فجهزَّ ناقتين ليركبهما هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
    المؤامرة:
    اجتمع زعماء مكة في دار الندوة -ذلك البيت الكبير الواسع الذي كان
    لقصي بن كلاب- وعلى وجوههم الغضب؛ للتشاور في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد شعروا أنه يعد نفسه للهجرة إلى المدينة، وإذا تم له ذلك فسوف تصبح المدينة مركزًا كبيرًا يتجمع فيه المسلمون من كل مكان حول النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يشكلون خطرًا على تجارة أهل مكة عندما تمر بالمدينة في طريقها إلى الشام ذهابًا وإيابًا، وبدأ النقاش، فقال بعضهم: نُخرج محمدًا من بلادنا فنستريح منه، وقال آخرون: نحبسه حتى يموت.
    وقال أبو جهل: نأخذ من كل قبيلة شابًّا قويًّا، ونعطي كلا منهم سيفًا صارمًا قاطعًا، لينقضوا على محمد، ويضربوه ضربة قاتلة، وهكذا لا يستطيع عبد مناف -قوم محمد- محاربة القبائل كلها، فيقتنعون بأخذ ما يريدون من مال تعويضًا عن قتل محمد، وكان الشيطان اللعين يجلس بينهم في صورة شيخ نجدي وهم لا يعرفونه، فلما سمع ذلك الرأي قال في حماس: القول ما قال الرجل، وهذا الرأي لا رأى غيره، فاتفقوا جميعًا عليه.
    وسجل القرآن الكريم ما دار في اجتماع المشركين ذلك، فقال تعالى: {إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} _[الأنفال: 30] وتدخلت عناية الله؛ فجاء جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يأمره ألا يبيت هذه الليلة في فراشه وأن يستعد للهجرة، قالت عائشة -رضي الله عنها-: فبينما نحن يومًا جلوس في بيت أبي بكر في حَرِّ الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يأتينا في مثل هذه الساعة، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: فداءً له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.
    فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: (أخرج مَنْ عندك) فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: (فإني قد أذن لي في الخروج) فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم).
    أحداث الهجرة:
    كان الله -سبحانه- قادرًا على أن يرسل ملكًا من السماء يحمل رسوله إلى المدينة كما أسرى به ليلا من مكة إلى المسجد الأقصى وعرج به السماء، ولكن جعل الهجرة فرصة كبيرة لنتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم دروسًا عظيمة في كيفية التفكير والتخطيط والأخذ بالأسباب التي توصل إلى النجاح.
    ولنبدأ بأول هذه الدروس، فكيف يخرج النبي صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه أبو بكر -رضي الله عنه- من بين هؤلاء الكفار دون أن يلحقوا بهما؟ فلو خرجا من مكة سالمين فإن المسافة طويلة بين مكة والمدينة وسوف يخرج وراءهما الكفار ويدركونهما، لابد إذن من الاختباء في مكان ما؛ حتى ييأس الكفار من البحث عنهما، ومن هنا وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم خطة محكمة لتتم الهجرة بسلام.
    فأمام بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف مجموعة من شباب قريش في الليل، ينتظرون حتى يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم، فينقضوا عليه
    ويقتلوه، وكان هؤلاء الكفار يتطلعون بين الحين والحين إلى فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطمئنوا على وجوده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم
    عليَّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالنوم في فراشه، وأن يتغطى ببردته، وطمأنه بأن المشركين لن يؤذوه بإذن الله.
    واستجاب عليٌّ -رضي الله عنه- بكل شجاعة وحماس، ونفذ ما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم به، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك تضليل المشركين، فإذا نظروا إليه من الباب ووجدوه في فراشه، ظنوا أنه صلى الله عليه وسلم ما زال نائمًا، وقد كانت عند الرسول صلى الله عليه وسلم أمانات كثيرة تركها المشركون عنده، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يردها إلى أصحابها، فأمر عليًّا أن ينتظر في مكة لأداء هذه المهمة، رغم أنهم أخرجوا المسلمين من ديارهم، وآذوهم، ونهبوا أموالهم ولكن المسلم يجب أن
    يكون أمينًا.
    وكان أبو جهل يقول لأصحابه متهكمًا برسول الله صلى الله عليه وسلم: إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه أصبحتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فدخلتم الجنة، وإن لم تفعلوا ذبحكم ثم بعثتم من بعد موتكم فتدخلون النار تحرقون فيها.
    ونام علي -رضي الله عنه- في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الباب، وخرج وفي قبضته حفنة من التراب فنثرها على رءوس المشركين، وهو يقرأ سورة يس إلى قوله تعالى: {وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون} _[يس: 9] وإذا برجل يمر عليهم فرأى التراب على رءوسهم، فقال لهم: خيبكم الله، قد خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، أفما ترون ما بكم؟ فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه التراب.
    فنظروا من الباب، فوجدوا رجلا نائمًا في مكان الرسول صلى الله عليه وسلم وعليه غطاؤه، فقالوا: هذا محمد في فراشه، وعليه بردة، ثم اقتحموا دار النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدوا عليًّا في فراشه، فخرجوا يبحثون عن الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مكان، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم خلال هذه الفترة قد وصل إلى بيت صاحبه أبي بكر -رضي الله عنه- وعزما على الذهاب إلى غار ثور ليختبئا فيه.
    وحمل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- كل ماله، وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب صغير في نهاية المنزل حتى لا يراهما أحد، وانطلقا حتى وصلا الغار، وهناك وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل أبوبكر
    أولا؛ ليطمئن على خلوِّ الغار من الحيَّات والعقارب، ثم سدَّ ما فيه من فتحات حتى لا يخرج منها شيء، وبعد ذلك دخل الرسول صلى الله عليه وسلم.
    وها هي ذي أسماء بنت أبي بكر يدخل عليها جدها أبو قحافة بعد أن علم بخروج ولده أبي بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رجلا كبيرًا قد عَمِىَ، يسألها عما تركه أبو بكر في بيته ويقول: والله إني لأراه فجعكم بماله مع نفسه، قالت: كلا يا أبتِ! إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرًا، وأخذت أحجارًا فوضعتها في المكان الذي كان أبوها يضع ماله فيه، ثم وضعت عليها ثوبًا، ثم أخذت بيده وقالت: يا أبت، ضع يدك على هذا، فوضع يده عليه فقال: لا بأس ، فإن كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم.
    أما كفار مكة فإنهم حيارى، يبحثون عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه ويضربون كفًّا بكف من الحيرة والعجب، فالصحراء على اتساعها مكشوفة أمامهم، ولكن لا أثر فيها لأحد ولا خيال لإنسان، فتتبعوا آثار الأقدام، فقادتهم إلى غار ثور، فوقفوا أمام الغار، وليس بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه سوى أمتار قليلة، حتى إن أبا بكر رأى أرجلهم فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : (يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما)
    [متفق عليه].
    وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد انصرف القوم، ولم يفكر أحدهم أن ينظر في الغار، وسجل القرآن هذا، فقال تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} [التوبة: 40].
    ومكث الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار ثلاثة أيام، وكان
    عبدالله بن أبي بكر يذهب إليهما بأخبار الكفار ليلا، وأخته أسماء تحمل لهما الطعام، أما عامر بن فهيرة راعي غنم أبي بكر فقد كان يسير بالأغنام فوق آثار أقدام عبدالله وأسماء حتى لا يترك أثرًا يوصل إلى الغار، وبعد انتهاء الأيام
    الثلاثة، خف طلب المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فخرجا من الغار، والتقيا بعبد الله بن أريقط، وقد اتفقا معه على أن يكون دليلهما في هذه الرحلة مقابل أجر.
    تحرك الركب بسلام، وأبو بكر لا يكف عن الالتفات والدوران حول النبي صلى الله عليه وسلم خوفًا عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن، ولا يلتفت حوله فهو واثق من نصر الله -تعالى- له، ولا يخشى أحدًا، وبينما أبو بكر يلتفت خلفه إذا بفارس يقبل نحوهما من بعيد، كان الفارس هو سراقة بن مالك وقد دفعه إلى ذلك أن قريشًا لما يئست من العثور على الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، جعلوا مائة ناقة جائزة لمن يرده إليهم حيًّا أو ميتًا.
    فانطلق سراقة بن مالك بفرسه وسلاحه في الصحراء طمعًا في الجائزة، فغاصت أقدام فرسه في الرمال مرتين حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل سراقة مسرعًا عن الفرس، حتى نزعت أقدامها من الرمال، فأيقن سراقة أن الله تعالى يحرس رسوله صلى الله عليه وسلم، ولن يستطيع إنسان مهما فعل أن ينال منه، فطلب من رسول الله أن يعفو عنه، وعرض عليه الزاد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حاجة لنا، ولكن عمِّ عنا الخبر) فوعده سراقة ألا يخبر
    أحدًا، وعاد إلى مكة، وهكذا خرج سراقة يريد قتلهما وعاد وهو يحرسهما ويبعد الناس عنهما، فسار النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى المدينة تحرسهما عناية الله.
    وأثناء رحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر إلى المدينة مرَّا بمنازل خزاعة ودخلا خيمة أم معبد الخزاعية، وكانت سيدة كريمة، تطعم وتسقي من مرَّ بها، فسألاها: عما إذا كان عندها شيء من طعام؟ فأخبرتهما أنها لا تملك شيئًا في ذلك الوقت، فقد كانت السنة شديدة القحط، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في جانب الخيمة فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟
    فأخبرته أنها شاة منعها المرض عن الخروج إلى المراعي مع بقية الغنم، فقال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك، فقال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم إن رأيت بها حلبًا فاحلبها.
    فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، وطلب إناء فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها فشربت حتى شبعت، وسقى رفيقيه أبا بكر وعبد الله بن أريقط حتى شبعا، ثم شرب، وحلب فيه ثانية حتى ملأ الإناء، ثم تركه صلى الله عليه وسلم وانصرف.
    الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء:
    علم أهل المدينة بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، فكانوا يخرجون كل يوم بعد صلاة الصبح إلى مشارف المدينة، وعيونهم تتطلع إلى الطريق، وتشتاق لمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، ولا يعودون إلى بيوتهم إلا إذا اشتد حر الظهيرة، ولم يجدوا ظلا يقفون فيه.
    وفي يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول انتظر أهل يثرب رسول الله صلى الله عليه وسلم كعادتهم، حتى اشتد الحر عليهم، فانصرفوا لبيوتهم، وبعد قليل أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فأبصرهما رجل يهودي كان يقف على نخلة، فصاح بأعلى صوته: يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء، فأسرع المسلمون لاستقبال نبيهم وصاحبه أبي بكر الذي كان يُظل رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه من حر الشمس.
    وبينما الرسول صلى الله عليه وسلم في قُبَاء، في بيت سعد بن خيثمة يستقبل الوافدين عليه، أقبل عليُّ بن أبي طالب من مكة بعد أن ظل فيها ثلاثة أيام بعد خروج الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليرد الأمانات إلى أهلها، وقد ظل الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء أربعة أيام يستقبل أهل المدينة، وعندما أقبل يوم الجمعة ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء متوجهًا للمدينة بعد أن أسس مسجد قباء، وهو أول مسجد بني في الإسلام، وقال الله -عز وجل- عنه: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} _[التوبة: 108].
    وكانت الهجرة حدثًا فاصلا بين عهدين، فقد أعز الله المسلمين بعد أن كانوا مضطهدين، وصارت لهم دار آمنة يقيمون فيها، ومسجد يصلون فيه، ويؤدون فيه شعائرهم، ويتشاورون في أمورهم، لهذا كله اتفق الصحابة على جعل الهجرة بداية للتاريخ الإسلامي، فقد تحول المسلمون من الضعف والحصار والاضطهاد إلى القوة والانتشار ورد العدوان
    .
    1






    رد مع اقتباس  

  8. #18 Icon21 دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمدينه المنوره 
    المشاركات
    421
    ولما بلغ الأنصار مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة . كانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه . فإذا اشتد حر الشمس رجعوا إلى منازلهم . فلما كان يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من نبوته . فخرجوا على عادتهم . فلما حميت الشمس رجعوا ، فصعد رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة . فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب . فصرخ بأعلى صوته يا بني قيلة هذا صاحبكم قد جاء هذا جدكم الذي تنتظرونه . فثار الأنصار إلى السلام ليتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وسمعت الوجبة والتكبير في بني عمرو بن عوف . وكبر المسلمون فرحا بقدومه . وخرجوا للقائه فتلقوه وحيوه بتحية النبوة . وأحدقوا به مطيفين حوله .

    فلما أتى المدينة ، عدل ذات اليمين حتى نزل بقباء في بني عمرو بن عوف ، ونزل على كلثوم بن الهدم - أو على سعد بن خيثمة - فأقام في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة . وأسس مسجد قباء . وهو أول مسجد أسس بعد النبوة .

    فلما كان يوم الجمعة ركب . فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف . فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي . ثم ركب . فأخذوا بخطام راحلته يقولون . هلم إلى القوة والمنعة والسلاح . فيقول خلوا سبيلها ، فإنها مأمورة فلم تزل ناقته سائرة لا يمر بدار من دور الأنصار ، إلا رغبوا إليه في النزول عليهم فيقول دعوها فإنها مأمورة فسارت حتى وصلت إلى موضع مسجده اليوم فبركت ولم ينزل عنها ، حتى نهضت وسارت قليلا . ثم رجعت وبركت في موضعها الأول . فنزل عنها .

    وذلك في بني النجار ، أخواله صلى الله عليه وسلم .

    وكان من توفيق الله لها . فإنه أحب أن ينزل على أخواله يكرمهم . فجعل الناس يكلمونه في النزول عليهم . وبادر أبو أيوب خالد بن زيد إلى رحله فأدخله بيته . فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول المرء مع رحله وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بخطام ناقته . فكانت عنده . وأصبح كما قال قيس بن صرمة - وكان ابن عباس يختلف إليه ليحفظها عنه .

    ثوى في قريش بضع عشرة حجة

    يذكر لو يلقى حبيبا مواتيا

    ويعرض في أهل المواسم نفسه

    فلم ير من يؤوى ولم ير داعيا

    فلما أتانا واستقر به النوى

    وأصبح مسرورا بطيبة راضيا

    وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم

    بعيد ولا يخشى من الناس باغيا

    بذلنا له الأموال من جل مالنا

    وأنفسنا عند الوغى والتآسيا

    نعادي الذي عادى من الناس كلهم

    جميعا . وإن كان الحبيب المصافيا

    ونعلم أن الله لا رب غيره

    وأن كتاب الله أصبح هاديا


    وكما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه .

    قومي الذين هموا آووا نبيهمو

    وصدقوه وأهل الأرض كفار

    إلا خصائص أقوام همو تبع

    في الصالحين مع الأنصار أنصار

    مستبشرين بقسم الله . قولهمو

    لما أتاهم كريم الأصل مختار

    أهلا وسهلا . ففي أمن وفي سعة

    نعم النبي . ونعم القسم والجار

    فأنزلوه بدار لا يخاف بها

    من كان جارهمو . دار هي الدار

    وقاسموه بها الأموال إذ قدموا

    مهاجرين . وقسم الجاحد النار


    وكما قال

    نصرنا وآوينا النبي محمدا

    على أنف راض من معد وراغم


    قال ابن عباس : كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فأمر بالهجرة . وأنزل الله عليه ( 17 : 80 ) وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان . فسأل الله سلطانا نصيرا ، فأعطاه . قال البراء . : أول من قدم علينا : مصعب بن عمير ، وابن أم مكتوم ، فجعلا يقرآن الناس القرآن . ثم جاء عمار بن ياسر ، وبلال وسعد ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين راكبا . ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . فما رأيت الناس فرحوا بشيء فرحهم به حتى جعل النساء والصبيان والإماء يقلن قدم رسول الله جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    قال أنس شهدته يوم دخل المدينة ، فما رأيت يوما قط كان أحسن ولا أضوأ من اليوم الذي دخل المدينة علينا . وشهدته يوم مات . فما رأيت يوما قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات

    فأقام في بيت أبي أيوب حتى بنى حجره ومسجده .

    وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو في منزل أبي أيوب - زيد بن حارثة وأبا رافع . وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة ، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه . وسودة بنت زمعة زوجه وأسامة بن زيد ، وأم أيمن . وأما زينب فلم يمكنها زوجها أبو العاص بن الربيع من الخروج وخرج عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر . وفيهم عائشة
    .





    رد مع اقتباس  

  9. #19 Icon21 الرسول في المدينة 
    المشاركات
    421
    الرسول ( في المدينة
    كانت يثرب قبل الهجرة تموج بالصراعات والحروب والدسائس، فنار العداوة مشتعلة بين قبيلتي الأوس والخزرج، والحرب بينهما سجال، فإذا انتصر أحدهما عمل الآخر بكل طاقته على إلحاق الهزيمة به، حتى فني الرجال، وترملت النساء وتيتم الأبناء، وكان اليهود يقفون خلف الستار، يزيدون النار اشتعالا، فيمدون الطرفين بالسلاح، ويثيرون بينهما العداوات والفتن؛ آملين أن يقضي بعضهم على بعض، حتى تكون لليهود السيادة والكلمة الأولى في المدينة.
    واجتمع أهل يثرب على (عبدالله بن أبي بن سلول) لتكون له الكلمة العليا في إدارة المدينة، ولكن الله أراد السلامة للمدينة؛ وأراد لها أن تكون مركز الدولة الإسلامية، فأقبل موكب رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة، فاستقبله أهلها استقبالا عظيمًا؛ وكان أمل كل واحد منهم أن يستضيف الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته، فكلما مرت الناقة التي تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت، خرج أهل ذلك البيت، وتعلقوا بزمامها، وهم يرجون أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم، فكان يقول لهم: (دعوا الناقة فإنها مأمورة) أي اتركوا الناقة فإنها ستقف وحدها حيث أمرها الله تعالى.
    وفي مكان يملكه يتيمان من بني النجار أمام دار أبي أيوب الأنصاري بركت الناقة، فقال صلى الله عليه وسلم: (هذا إن شاء الله المنزل) فحمل أبو أيوب رحل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته. [ابن إسحاق] وإذا بفتيات صغيرات من بني النجار، يخرجن فرحات بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم وينشدن:
    نَحْنُ جَوارٍ مِن بنـي النـَّجَّـار يا حبَّـذَا محمـدٌ مـن جـَـارِ
    وفي بيت أبي أيوب الأنصاري المكون من طابقين، نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطابق السفلي، فقال له أبو أيوب: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني لأكره وأعظِّم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر (اصعد) أنت فكن في الأعلى، وننزل نحن فنكون في السفل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    (يا أبا أيوب، إنه لأرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في أسفل البيت) _[أحمد].
    وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يثقل على أهل البيت، وكان الصحابي أبو أيوب الأنصاري كريمًا في ضيافته، فإن صنع طعامًا لا يأكل هو زوجته إلا بعد أن يأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منه أولا، ثم يأكلان من موضع أصابعه حبًّا فيه وطلبًا لبركته.
    بناء المسجد:
    عاش المسلمون في المدينة حياة آمنة مطمئنة، يغشاها الهدوء والسكينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم في وطنهم الجديد، لقد أصبحت لهم دولة دينها الإسلام، وقائدها الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان أول ما فكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم هو بناء مسجد يجتمعون فيه، فيؤدون فيه صلاتهم، ويقضون أمورهم، ويتشاورون فيما يخصهم، فاشترى صلى الله عليه وسلم الموضع الذي بركت فيه الناقة؛ ليبني فيه المسجد.
    وتجمع المسلمون لبناء المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، ينظف المكان، ويحمل معهم الطوب، ويشارك في البناء، فهذا يقطع النخيل، وهذا يحفر أماكن الأعمدة، وذاك يقيم الجدار، وآخر يعد الطين، وهذا يحمل الطوب، كلهم ينشدون:
    لَئِنْ قَـعَـدنا والنبــي يَعمَــل لـَذَاك منـَّا العمـلُ المضَـلَّلُ
    وينشدون أيضًا::
    لا عَيْشَ إلا عيـشُ الآخِـرَة اللَّهُمَّ فارحَمِ الأنْصَارَ والمهاجِرَة
    ومن المسجد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظم دولته، وكان أهم شيء في هذه الدولة هم الأفراد الذين يعيشون فيها؛ لأنها تنهض بهم وتعتمد عليهم، فكان المسلمون في المدينة عندئذ قسمين:
    -المهاجرون، وهم أهل مكة الذين هاجروا بدينهم إلى المدينة.
    -الأنصار، وهم أهل المدينة الأصليون، الذين اعتنقوا الإسلام، واستضافوا المسلمين في بلدهم، ونصروا الرسول صلى الله عليه وسلم.
    وفي بداية الهجرة كان المهاجرون في المدينة يعانون من الوحشة والإحساس بالغربة، فحياة المدينة وجَوُّها يختلفان عن مكة، مما جعل أكثرهم يتعرض للمرض، فتوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه ودعاه أن يحبب المدينة إلى قلوب المهاجرين، وأن يزيل مرض الحمى عنهم، فاستجاب الله تعالى لنبيه وحبَّبَ إلى المهاجرين العيش في المدينة، وصاروا يتحركون في شوارعها، وسوقها بحماس ومرح كأنهم ولدوا ونشئوا فيها.
    الصلح بن الأوس والخزرج:
    وكان الأنصار قبيلتين كبيرتين: الأوس، والخزرج، وكانت الحروب لا تنقطع بينهما قبل أن يعتنقوا الإسلام، فصالح الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما، ونزع الله من قلوبهم العداوة والكراهية، وحل محلها الحب والمودة والوئام.
    المؤاخاة:
    والآن بعد أن استقر المهاجرون، وصلح حال الأنصار، بقي أن يندمجوا سويًّا فيصبحوا أخوة مسلمين، فلا فرق بين مهاجر وأنصاري، لذلك آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فجعل لكل مهاجر أخًا من الأنصار، فأبو بكر الصديق أخ لخارجة بن زهير، وعمر بن الخطاب أخ لعتبان بن مالك، وعبد الرحمن بن عوف أخ لسعد بن الربيع، ولم تكن الأخوة مجرد كلمة تقال، بل طبقها المسلمون تطبيقًا فعليًّا فهذا سعد بن الربيع الأنصاري يأخذ أخاه
    عبد الرحمن بن عوف، ويعرض عليه أن يعطيه نصف ما يملك، ولكن عبد الرحمن بن عوف يشكره ويقول له: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دُلَّني على السوق، وذهب عبدالرحمن إليه فربح وأكل من عمل يده. _[البخاري].
    ولم يقتصر ذلك على سعد بن الربيع بل فعله كثير من الصحابة حتى إنه كان يرث بعضهم بعضًا بناءً على هذه الإخوة، فيرث المهاجر أخاه الأنصاري، ويرث الأنصاري أخاه المهاجر، وظلوا على ذلك حتى جعل الله التوارث بين ذوي الأرحام، وقد أثنى الله -عز وجل- على المهاجرين والأنصار، فقال تعالى: {للفقراء والمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون . والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} _[الحشر: 8-9].
    وجمعهم الله سبحانه في آية واحدة، فقال تعالى: {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقًّا لهم مغفرة ورزق كريم} [الأنفال: 74] وفي هذا المجتمع الآمن المستقر، حيث يحب كل مسلم أخاه، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أمور دينهم فيدعوهم إلى كل خير، وينهاهم عن كل شر، وهم ينفذون ذلك راضين سعداء بهداية الله لهم، ووجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، وبدأ الناس يتوافدون إلى المدينة، معلنين إسلامهم وانضمامهم لهذه الدولة المنظمة.
    اليهود في المدينة:
    وكان يسكن مع المسلمين في المدينة اليهود وبعض المشركين الذين يحقدون على الإسلام، ويكرهون قيام دولته، لذلك وضع الرسول صلى الله عليه وسلم معاهدة تنظم العلاقة بين المسلمين وغيرهم حتى يأمن مكر الكفار، وهذه بعض المبادئ التي احتوتها المعاهدة:
    1-المهاجرون والأنصار أمة من دون الناس يتعاونون فيما بينهم، وهم يد واحدة على من عاداهم.
    2-دماؤهم محفوظة، فلا يقتل مؤمن مؤمنًا، ولا ينصر مؤمن كافرًا على أخيه المؤمن.
    3-لليهود حريتهم الدينية فلا يُجبرون على الإسلام.
    4-اليهود الذين يسكنون المدينة يشاركون في الدفاع عنها، ولا يعينون أعداء الإسلام، ولا ينصرونهم.
    5-كل ظالم أو آثم أو متهاون خائن لا ينفذ ما في هذا العهد عليه اللعنة والغضب، ويقوم الآخرون بحربه.
    6-إذا حدث خلاف في أي أمر، فإن الحكم هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
    وهكذا وضَّح الرسول صلى الله عليه وسلم حقوق كل طائفة في المدينة وواجباتها، ورسم المنهج الذي يتعاملون به بكل أمانة وعدل، فلم يظلم اليهود بل حفظ لهم حقوقهم، ورغم ذلك أظهر اليهود وجههم القبيح، وكراهيتهم للرسول صلى الله عليه وسلم رغم علمهم أنه صادق، واتضح ذلك في موقفهم من عبدالله بن سلام عندما أسلم.
    فقد كان عبد الله بن سلام من علماء اليهود، ومن ساداتهم، فلما أسلم كتم إسلامه، ولم يخبر اليهود، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألهم عنه أولاً، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: (أي رجل فيكم ابن سلام؟) قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، فقال: (أفرأيتم إن أسلم؟) فقالوا: حاشا لله، ما كان ليسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يابن سلام، اخرج عليهم) فخرج فقال لهم: (يا معشر يهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بالحق) فقالوا: كذبت. [البخاري].
    وهكذا كانت عداوة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين واضحة منذ أول يوم في المدينة رغم أنهم يعرفون أنه رسول الله حقًّا وصدقًا، وقد اشتدوا في تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإظهار حقدهم عليه عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وظهرت سفاهة عقولهم واضحة حين تشاوروا فيما بينهم، واتفقوا أن يؤمنوا بدين الله أول النهار، ويكفروا في آخره حتى يسعى الناس إلى تقليدهم، والسير على خطاهم، ولكن الله فضحهم بكفرهم في كتابه الحكيم، وأظهر حقدهم على المسلمين بعد تآلف قلوب أهل المدينة من الأوس والخزرج، وسعيهم إلى الوقيعة فيما بينهم، ولكنهم لم يفلحوا في ذلك.
    زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة:
    وبعد ثمانية أشهر من الهجرة كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أنهى بناء المسجد، واستقر المسلمون في المدينة، فأتم الرسول صلى الله عليه وسلم زواجه بالسيدة عائشة ودخل بها، وكان قد عقد عليها قبل الهجرة، وكان الرسول
    صلى الله عليه وسلم بعد زواجه منها يقدرها، ويفضلها، فعن عمرو بن العاص قال: قلت يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: (عائشة) قلت: ومن الرجال؟ قال: (أبوها
    )
    _[الترمذي].





    رد مع اقتباس  

  10. #20 Icon21 المؤاخاه بين المهاجرين والانصار 
    المشاركات
    421

    لقد أخذت عملية بناء المجتمع المسلم وتوحيد الجماعة الصُلبة – التي رباها صلى الله عليه وسلم على عينه – شكلاً فريداً وصورة دقيقة كان من أهم ملامحها المؤاخاة بين أفراد تلك الجماعة الصُلبة ( المهاجرين والأنصار ) فجعل – صلى الله عليه وسلم – وثيقة بينهم بين طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تكون بينهم في تلك المرحلة والتي كان نصها :

    ( بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم ، وجاهد معهم ، إنهم أمة واحدة من دون الناس ، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينه (أي يعقل بعضهم عن بعض ، والعقل الدية ) , وهم يفدون عانيهم (أسيرهم ) بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو عوف على ربعتهم (أي حالهم التي وجدهم عليها الإسلام ) يتعاقلونه معاقلهم الأولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين . وبنو النجار وبنو الحارث وبنو ساعدة وبنو الجشم وبنو عمرو بن عوف وبنو النبيت وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائف منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين , وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً (أي مثقلا بالدين كثير العيال ) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل , وألا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه ، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (أي طلب دفعا على سبيل الظلم ) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين وإن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم ، ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ، ولا ينصر كافرا على مؤمن ، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم ، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس ، وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة ، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم . و إن سلم المؤمنين واحدة ، لا يسالم مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم ، و إن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا ، وإن المؤمنين يبئ بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله ، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه ، وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش أو نفسا ، ولا يحول دونه على مؤمن ، وأنه من أعتبط (أي قتله دون جناية أو سبب يوجب القتل ) مؤمنا قتلا عن بينة فإنه يقود به , إلا أن يرضى ولي المقتول ، وإن المؤمنين عليه كافة ، ولا يحل لهم إلا قيام عليه ، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه ، و إنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل ، وإنكم مهما اختلفتم في شيء فإن مرده إلي الله عز وجل وإلي محمد صلى الله عليه وسلم ) ( السيرة النبوية لابن هشام ).


    هذه هي الدعامة الأساسية التي اعتمد عليها الرسول – صلى الله عليه وسلم – في بناء الدولة مبدأ التآخي العام بين المسلمين كان قائما منذ بداية الدعوة في عهدها المكي متمثلا في نهيه – صلى الله عليه وسلم – عن التباغض والتحاسد والتدابر كما في البخاري عن النبي –صلى الله عليه وسلم –" المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة " أخرجه البخاري

    هذا فيما يتعلق بالمؤاخاة العامة وهي كما نرى فيها جملة من الواجبات والحقوق قد يصعب أن يلتزم بها من أرد أن يمتثل المؤاخاة مع بعض اخوانه في هذه الأيام .

    لقد ساهم نظام المؤاخاة الذي شرعه المصطفي – صلى الله عليه وسلم - في ربط الأمة بعضها ببعض فقد جعل الرسول – صلى الله عليه وسلم – هذه الأخوة عقدا نافذا لا لفظا فارغا ، وعملا يرتبط بالدماء والأموال لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر




    وهذا الإخاء الذي درج عليه المسلمون كفل لهم البقاء والاستمرار ولم يحدث صدع في شمل الأمة فقد آتت ثمارها وامتد أثرها حتى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم .

    لقد كانت سياسة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار نوعا من السبق السياسي الذي اتبعه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في تأصيل المودة وتمكينها في مشاعر المهاجرين والأنصار الذين لا يجد الكُتاب والباحثون مهما تساموا إلي ذروة البيان من حديث الله عنهم قال تعالى : ( والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )
    لقد كانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في الأخوة وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال

    لقد وسع الأنصار إخوانهم المهاجرين بأنفسهم وزادوا على ذلك بأن آثروهم على أنفسهم بخير الدنيا .
    ولم يعرف تاريخ البشر كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم وبهذا البذل السخي ، أخرج البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قالت الأنصار للنبي – صلى الله عليه وسلم - : أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل ، قال : " لا " فقالوا : تكفونا المؤونة ونشرككم في الثمرة ، قالوا سمعنا وأطعنا (فتح الباري 7/113ح 3782 ) , وقد شكر المهاجرون للأنصار فعلهم ومواقفهم الرفيعة في الإيثار والكرم ، وقالوا يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ، ولا أحسن بذلا في كثير ، ولقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ – يعني كفونا العمل ، وأشركونا في الثمرة – حتى لقد حسبنا أن يذهبوا بالأجر كله ، قال " لا " ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم " (مسند أحمد )



    لقد كان الأنصاري يعرض على أخيه المهاجر أن يقسمه ماله وبيته وزرعه . روى البخاري أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع ، فقال لعبد الرحمن : إني أكثر الأنصار مالا ، فاقسم مالي نصفين ، ولي امرأتان ، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي ، أطلقها ، فإذا انقضت عدتها فتزوجها ، قال : بارك الله لك في أهلك ومالك ، وأين السوق ؟ فدلوه على سوق بني قينقاع .

    لقد حرص الأنصار على الحفاوة بإخوانهم المهاجرين ، فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة !! وقدر المهاجرون هذا البذل الخالص فما استغلوه ، ولا نالوا منه إلا بقدر ما يحتاجون إليه .
    وقد أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يكافئ الأنصار على تلك المكارم العظيمة التي قدموها لإخوانهم المهاجرين ، فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : دعا النبي – صلى الله عليه وسلم – الأنصار إلي أن يُقطع لهم البحرين ، فقالوا : لا ، إلا أن تُقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها ، قال : " إما لا ، فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم بعدي أثرة " ( البخاري – مناقب الأنصار ) .




    بل لقد جعل الله سبحانه حق الميراث منوطا بهذا التآخي دون حقوق القرابة والرحم ، وهو إن كان لفترة معينة إلا أن من حكمته سبحانه لهذا التشريع أن تتجلى الأخوة الإسلامية حقيقة ملموسة في أذهان المسلمين وأن يعلموا أن ما بين المسلمين من التآخي والتحابب ليس شعارا وكلاما مجردين .

    لقد أفاء النبي – صلى الله عليه وسلم – مبدأ الإخاء الذي تمحى فيه كلمة " أنا " ويتحرك الفرد فيه بروح الجماعة ومصلحتها وآمالها فلا يرى لنفسه كيانا دونها ولا امتداداً إلا فيها

    لقد استطاع الأنصار أن يستضيفوا في بيوتهم المهاجرين الأوائل الذين هاجروا قبل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والذين هاجروا معه أو بعده وأن يشاركوهم النفقة لكن فيما بعد كبر حجم المهاجرين مما لم يعد هناك قدرة للأنصار على استيعابهم ومن ثم ظهر أهل الصفة وهي كما يقول ابن حجر مكان في مؤخرة المسجد النبوي مظل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل ، ولقد كان أهل الصفة – رضوان الله عليهم – يشاركون في الجهاد وكان منهم الشهداء ، كما كانوا رهبانا بالليل فرسانا بالنهار .


    وكان بعض الصحابة قد اختاروا المكوث في الصفة رغبة منهم لا اضطرارا ، كأبي هريرة – رضي الله عنه – فقد أحب أن يلازم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويعوض ما فاته من العلم والخير قال رضي الله عنه ( إنكم تقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول - الله صلى الله عليه وسلم - وتقولون : ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمثل حديث أبي هريرة ، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفق بالأسواق ، وكنت ألزم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ملء بطني ، فأشهد إذا غابوا ، وأحفظ إذا نسوا ، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم ، وكنت امرءا مسكينا من مساكين أهل الصفة ) ( البخاري ومسلم واللفظ له )
    هكذا يبين رضي الله عنه أنه فعل ذلك رغبة منه في ملازمة النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم إنه رضي الله عنه كان له سكن في المدينة فلم يكن فقيرا معدما ، لكن الذي أفقره هو إيثاره ملازمة النبي – صلى الله عليه وسلم – واستماع أحاديثه ، وكان يستطيع الاستغناء عن الصفة لو أراد .



    كما لم يكن فقر أهل الصفة لقعودهم عن العمل وكسب الرزق ، فقد كانوا يرضخون النوى بالنهار ، لعلف الماشية - وهم ليسوا أهل ماشية - فلقد كانوا يعملون لكسب الرزق .

    المسلمون اليوم بأشد الحاجة إلي مثل هذه المؤاخاة التي حدثت بين المهاجرين والأنصار، لأنه يستحيل أن تستأنف حياة إسلامية عزيزة قوية إذا لم تتخلق التجمعات الدعوية بهذه الأخلاق الكريمة ، وترتقي إلي هذا المستوى الإيماني الرفيع و إلي هذه التضحيات الكبيرة .

    إن عقد الأخوة ركيزة أساسية لقيام منهج الله في الأرض فإذا انهار لم تكن هناك دولة يمكن أن تقام .
    هذا العقد يقوم على منهج الله لتحقيق منهج الله : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا ، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام أساسها الاعتصام بحبل الله – أي عهده ونهجه ودينه – وهي نعمة يمتن الله بها على عباده وهي ركيزة أساسية قامت عليها الجماعة المسلمة الأولى . وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة ، ولكنها في طبيعتها أقرب إلي الرؤى الحالمة إذ هي قصة وقعت في هذه الأرض ، ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان .



    الأخوة الإيمانية بين الدعاة إلي الله هي الركن المهم في تربيتنا وما من جزء من أجزاء الحركة الإسلامية يقذف بنفسه في ميدان العمل الدعوي قبل إحلال معاني الأخوة الإيمانية في أفراده إلا ذاق وبال تساهله وتفريطه ، ولذلك كان عمر بن الخطاب يجعلها أثمن منحة ربانية للعبد من بعد نعمة الإسلام فيقول : ( ما أعطى عبد بعد الإسلام خيرا من أخ صالح ، فإذا رأى أحدكم ودا من أخيه فليتمسك به ) . ويسميها التابعي مالك بن دينار : روح الدنيا ، فيقول : ( لم يبق من روح الدنيا إلا ثلاثة لقاء الإخوان والتهجد بالقرآن وبيت خال يذكر الله فيه ) .
    من هنا كانت العودة إلي محاولة تأكيد معنى الأخوة من خلال التركيز على صفة الإيثار
    التي تتجلى من خلاله الأخوة الحقيقية و متى صدق الأخ مع أخيه ففي سير أعلام النبلاء عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، سمعت أبي قال : كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج ، اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو ، فيقولون : نصحبك ، فيقول : هاتوا نفقاتكم ، فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق ، ويقفل عليها ، ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد ، فلا يزال ينفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلوى ، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زى وأكمل مروءة ، حتى يصلوا إلي مدينة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيقول لكل واحد : ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طرقها ؟ فيقول : كذا وكذا ، ثم يخرجهم إلى مكة ، فإذا قضوا حجهم ، قال لكل واحد منهم : ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة ؟ فيقول : كذا وكذا وكذا فيشتري لهم ، ثم يخرجهم من مكة ، فلا يزال ينفق عليهم إلي أن يصيروا إلي مرو ، فيجصص بيوتهم وأبوابهم ، فإذا كان بعد ثلاثة أيام ، عمل لهم وليمة وكساهم ، فإذا أكلوا وسروا ، دعا بالصندوق ، ففتحه ودفع إلى كل واحد منهم صرته عليها اسمه ( سير أعلام النبلاء )



    وقد كان رحمه الله كثير الاختلاف إلي طر سوس وكان ينزل الرقة ، فكان شاب يختلف إليه ، ويقوم بحوائجه ، ويسمع منه الحديث ، فقدم عبد الله بن المبارك مرة فلم يره ، فلما سأل عنه قيل له إنه محبوس على عشرة آلاف درهم ، فاستدل على الغريم ووزن له عشرة آلاف ، وحلفه ألا يخبر أحدا ما عاش ، فأخرج الرجل ، وسرى ابن المبارك فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة ، فقال ابن المبارك : يا فتى ، أين كنت ؟ لم أرك . قال : يا أبا عبد الرحمن كنت محبوسا بدين . قال : وكيف خلصت ؟ قال جاء رجل ، فقضى ديني ، ولم أدر . قال : فاحمد الله . ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبد الله .

    وجاء رجل فسأله أن يقضي دينا عليه ، فكتب عبد الله له إلى وكيل له ، فلما ورد الكتاب على الوكيل قال للرجل : كم الدين الذي سألته قضاءه ؟ قال : سبع مائة درهم ، وإذا عبد الله قد كتب له أن يعطيه سبعة آلاف درهم ، فراجعه الوكيل ، وقال : إن الغلات قد فنيت فكتب إليه عبد الله : إن كانت الغلات قد فنيت فإن العمر أيضا قد فني ، فأجز له ما سبق به قلمي



    قال أبو يعقوب : دخلت على أبي المطيع القرباني نسأله الحديث ، فقد إلينا طعاما فأمسكنا عنه ، فقال : يا هؤلاء ، كانت المواساة بين الإخوان قبلنا بالضياع والرباع والبراذين والمماليك والدور والبدور ، فصارت اليوم إلى هذا ، وهو مروءتنا ، فإن أمسكتم عن هذا أيضا ذهب هذا القدر، وماتت سنة السلف فلا تفعلوا فأقبلنا عليه وأكلنا ( الصداقة والصديق )

    وننقل هنا كلاما للشيخ محمد قطب تحت قوله تعالى(إنما المؤمنون أخوة )يقول : " والأخوة من أجمل " المعاني " التي يمكن أن يتحدث عنها الإنسان ! شفيفة لطيفة كالنور ! ندية محببة إلى القلوب ولكن ما " الأخوة "التي وردت الإشارة إليها في كتاب الله ؟ يستطيع اثنان من البشر وهما يسيران في الطريق – في الأمن والسلامة أن يتآخيا ! أن يسيرا معا وقد لف كل منهما ذراعه حول أخيه من الحب ولكن انظر إليهما وقد ضاق أكثر فلم يعد يتسع إلا لواحد فقط دون الآخر ! إنها فرصة واحدة إما لي وإما لأخي فمن أقدم ؟ أقول هي فرصتي ، وليبحث هو لنفسه عن فرصة ؟ أم أقول لأخي خذ هذه الفرصة أنت ، وأنا أبحث لنفسي ؟!


    هذا هو المحك إن الأخوة في الأمن والسلامة لا تكلف شيئا ! ولا تتعارض ورغائب النفس بل هي ذاتها رغبة من تلك الرغائب يسعى إليها الإنسان لتحقيقها مقابل الراحة النفسية التي يجدها في تحققها

    أما في الشدة – أو في الطمع – فهنا تختبر الأخوة الاختبار الحق ، الذي يتميز فيه الإيثار والحب للآخرين ، من الأثرة وحب الذات ، التي قد تخفي على صاحبها نفسه في السلام والأمن ، فيظن نفسه " أخا " محققا لكل مستلزمات الأخوة !

    وفي غربة الإسلام الثانية ، نحتاج إلي مثل ما احتاج إليه الأمر في الغربة الأولي إن لم يكن على ذات المستوى السامق ، فعلى أقرب المستويات إليه ذلك أن الضغوط من حولنا تفتت كل ترابط ما لم يكن وثيق الرباط إلي الحد الذي يتحمل كل الضغوط ، ويبقى وثيقا رغم كل الضغوط .

    واعلم أن عدم الاكتراث بمشاكل الصحب وظروفه وحاجته يشعره بالغربة وأن إخوانه يعيشون في عالمهم وهو في عالم آخر لا يشعر به أحد ، ولا بم يعانيه ، وإنه ليزداد ألما إذا رأى أن إخوانه أدركوا ظروفه ومع ذلك تجاهلوها ولم يجدهم إلى جانبه ومن ثم تفتر روح الأخوة عنده وقد يظهر لهم أنهم أصيبوا بالأنانية أو البلادة وأصبحوا لا يهمهم إلا أمر أنفسهم . وقد يكون لعدم الاكتراث صور أخرى لكن المقصود هو تلبية حاجات أخيك النفسية والمادية وهذه الحاجات تتنوع جدا والفطن الذي خبر صديقه وأحبه لن يعجزه أن يدرك تلك الحاجات فيعين أخاه ، ويفرج عنه ويكون ذلك من القرب التي يتقرب بها إلي الله وينال بها عظيم الأجر والثواب.



    ومما علمناه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما رواه ابن عمر – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ( أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم ، وأحب الأعمال إلي الله عز وجل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا ، أو تطرد عنه جوعا ، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد " يعني مسجد المدينة " شهرا . ) ( حسنه الألباني )

    (وقد كان بعض السلف من حرصه على أخيه واهتمامه بحاجاته ومشاكله لا يقتصر على تفقد حاجة أخيه بل يتفقد عياله بعد موته أربعين سنة فيقضي حوائجهم
    وهذه هي الأخوة الصادقة والمقصود في هذا الباب قضاء حاجة أخيك وعونه على أموره وذلك درجات
    أدناها : القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة ، ولكن مع البشاشة والاستبشار .
    وأوسطها : القيام بالحوائج من غير سؤال .
    وأعلاها : تقديم حوائجه على حوائج النفس ) ( مختصر منهاج القاصدين )

    وإذا كان من حق الصحبة والاهتمام بالصاحب والاستماع له ، فإن صاحبك تكون سعادته أعظم إذا ما وجد منك بعد هذا مسارعة إلى خدمته في أمر ما من أموره الشخصية مع استبشارك ، ودون سؤال منه كما أنه يشعر بأخوتك إذا وجدك إلى جواره في كل شدة وضائقة معنوية أو مادية ، فكم من شعور سعيد سار مريح أن تشعر أن أخاك يؤثرك على نفسه أو على الأقل يحب لك ما يحب لنفسه ، وكم هو شعور محبط كريه أن أخاك ليس عنده أدنى استعداد لمسألة الإيثار .


    ومما ينبغي التنويه عليه في هذا الشأن أن مجال الإيثار يشمل الأمور المعنوية كما يشمل الأمور المادية كعمل صالح ينسب لواحد منكما ، أوجاهة في مجلس من المجالس ، أو صدارة في موقف من المواقف ، كما يكون الإيثار أيضا في راحة من تحمل عبء من الأعباء ، فهذه كلها مجالات لإيثار أخيك على نفسك أو على الأقل تحب له ما تحب لنفسك .

    والحقيقة أن البون شاسع بين ما كان عليه سلفنا الصالح – خاصة الصحابة – رضي الله عنهم – يؤثرون به إخوانهم وبين ما نؤثر به إخواننا إن آثرناهم . وما طمعنا في الكثير من الإيثار بل إننا لنجاهد أنفسنا على مساواة إخواننا بنا ، فنحقق على الأقل قوله – صلى الله عليه وسلم - : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) ( البخاري عن أنس
    )






    رد مع اقتباس  

صفحة 2 من 6 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. من أروع القصص التي أبكت النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم )
    بواسطة رهف الروح في المنتدى روايات - قصص - حكايات
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 10-Jun-2009, 01:13 AM
  2. §¤~¤§¤~¤§النبي محمد صلى الله عليه وسلم§¤~¤§¤~¤§
    بواسطة نور دبي في المنتدى رياض المؤمنين
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 21-Aug-2007, 04:08 PM
  3. ادخل وصوت لخير البرية محمد صلى الله عليه وسلم
    بواسطة نور اليمان في المنتدى رياض المؤمنين
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 19-Mar-2007, 05:08 PM
  4. فضل الصلاة على النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)
    بواسطة أمير الود في المنتدى رياض المؤمنين
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 14-Dec-2006, 01:55 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

عرض سحابة الكلمة الدلالية

المفضلات
المفضلات
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •