الملاحظات
النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: بكاء تحت المطر

بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يسعدني أن أقدم لكم هذا الكتاب الثاني للكاتبة المفضلة لدي ( قماشة العليان ) بعنوان ( بكاء تحت المطر

  1. #1 3dd79b289a بكاء تحت المطر 
    المشاركات
    613
    المطر, تحت

    بسم الله الرحمن الرحيم
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    يسعدني أن أقدم لكم هذا الكتاب الثاني للكاتبة المفضلة لدي ( قماشة العليان ) بعنوان ( بكاء تحت المطر )

    الروايه الاولى
    بكاء تحت المطر

    وماتت أمي انتهت في ذلك اليوم التعيس القائظ من شهر ذي القعدة ماتت تملأها الأحزان تطفح نفسها بالتعاسة قالت لي والدموع تغرق وجهها الذي كان لا يزال جميلا رغم مسحة الألم والمرض:
    ــ منى أنا سأموت
    صرخت بلوعة والشهقات تزدحم في صدري الصغير:
    لا لا يا أمي لن تموتي
    ابتسمت رغم الدموع وهي تهتف:
    ــ منى أرجوك يا حبيبتي لا تقاطعيني إنني أشعر بدنو أجلي وصيتك أشقائك يا منى أنت الكبرى وليس لهم غيرك أنت تعرفين والدك سامحه الله أخوك احمد، رغم كل شيء، وهو طفل بحاجة لحنان ورعاية وشقيقتك الصغرى يا منى إنها
    وتوقفت عن الكلام ثم اختلجت شفتاها بعنف وطفقت ترنو ببصرها إلى البعيد البعيد
    وقفت جازعة:
    ــ أمي أمي أرجوك لا تموتي أرجوك لا تتركينا، أنا بحاجة إليك أكثر من أخوتي أنا أحبك يا أمي
    أغمضت أمي عيناها ثم فتحتها من جديد
    تألقت في عينيها نظرة غريبة لم أعهدها من قبل وقبل أن أنطق قالت بصوت قوي متماسك لا أثر فيه لصوتها الواهن الذي كانت تحدثني به من قبل:
    ــ أين والدك يا منى؟
    أجبتها بسرعة مشفقة:
    ــ انه ذهب لاستدعاء الطبيب
    قالت بنفس الصوت القوي وكأنه ليس صوتها:
    ــ أذهبي واستدعيه حالاً
    وما أن ابتعدت خطوات عن الحجرة، وأنا أفكر في كذبتي الصغيرة التي خدعت أمي بها بأن أبي ذهب لاستدعاء الطبيب، حتى سمعت صرخة قوية تشقق صمت البيت الراقد في هدوء كانت الصرخة منبعثة من حنجرة أمي استدرت عائدة إلى الحجرة، وقلبي ينبض بجنون مخيف توقعاتي كانت تسبقني وخوفي كان يسبق توقعاتي وما أن وصلت إلى السرير الذي ترقد عليه أمي حتى وجدتها مسجاة على السرير جثة بدون حراك وفي وجهها راحة وطمأنينة سلبتهما إياها الحياة وأعادهما لها الموت.
    انتحبت بحرقة والى جواري الخادمة العجوز صفية
    فقد ماتت أمي
    ودفنت أمي وامتلأ البيت بالمعزين والمعزيات والوافدين من مختلف مناطق المملكة
    وخلال أيام كنت لا أملك فيها تفكيري وإن فكرت فإني أتصور أمي واقفة في البيت تستقبل معي المعزين والمعزيات ولكن من الذي مات؟
    أرى شقيقي أحمد طفل العاشرة، والحزن يمزقه ومشاعر غاية في البشاعة تتصارع في نفسه الغضة الطاهرة يلعب مع الأطفال في فناء الدار وهو يستشعر نقصاً كبيراً يمور في جوفه
    وفي لحظة ما أحسست بأنه لا يعي شيئاً مما يدور حوله، ولا يدرك بأن أمي الوحيدة قد ماتت ولكنني صحوت في إحدى الليالي على نشيج خافت، يمزق سكون الليل كان أحمد الصغير يحتضن أحد ثياب أمي وهو يبكي بحرقة حرقة لا تتناسب وطفل صغير في سنه تفجرت في نفسي ينابيع الإشفاق. وأسرعت لأحتضنه وأبكي معه امتزجت دموعنا في يأس ومر وحزن عميقين لأفاجأ بأبي واقفاً على رؤوسنا قائلا في سخرية:
    ــ منى ألا تكفين عن البكاء والنحيب إن أمك كانت مريضة ومن الطبيعي أن يموت المريض تماسكت بصعوبة كيلا أرد عليه ومن الذي أمرضها يا أبي من الذي جلب لها المرض غيرك إنها لم تصب بهذا المرض اللعين إلا بعد أن سمتها سوء العذاب، وبعد أن أريتها النجوم في عز الظهر كيف كانت ستتحمل نزواتك وزواجاتك العابرة وإذلالك المستديم لها كيف كانت ستتحمل انهيار وقلب البيت إلى ساحة معارك وشتائم من كل نوع كيف ستتحمل ضربك لها الدائم وطردك إياها أحيانا وهي بلا سند ولا أهل ولا إنسان تلجأ إليه كيف كانت ستتحمل كل هذا دون أن تتعب وتنهار وتصاب بهذا المرض اللعين الذي يقتل حامله؟
    إنك يا أبي قاتلها الحقيقي وليس مرض السرطان الذي نفقت منه
    ومضى أبي دون كلمة أخرى دون حتى أن يربت على كتفي المثقلتين بكم من الأحزان
    وألفيت شقيقتي الصغرى ابنة السابعة المبتسمة أبداً الضاحكة اللاهية ألفيتها واجمة ذاهلة تحدق في الجميع الغفير المقيم في بيتنا بنظرات فارغة بلا معنى، وتنظر إلى باب حجرة أمي المغلق بحسرة تفتت الأكباد ولا تبكي ولا تسأل أبداً وحتى طوال فترة مرض أمي إن غابت عنا وهي التي فضلت أن تعاني في بيتها وبين أولادها على أن ترقد في المستشفى بلا أمل بلا أمل على الإطلاق أشغلني صمت شقيقتي ريم وإطراقها وانفرادها الطويل بنفسها بلا دمعة ولا تنهيدة
    قررت أن أصارح أبي بما كان عليه من أمرها، فهو يستحيل أن يلاحظ شيئاً يخصنا نحن أولاده فهو مشغول بنفسه فقط ولا يهمه سواها ولا أنسى حينما كانت أمي تحتضر، وذهبت لأخبره، وأطلب منه استدعاء الطبيب، كان يحادث إحدى الفتيات عبر الهاتف صرخت فيه غير عابئة بهمسة وكأنني أنتقم لأمي:
    ــ أبي أمي إنها تموت
    التفت لي بحدة وفي عينيه نظرة صاعقة كالتي أراها حينما يتعارك وأمي أخافتني نظراته كدت أتراجع
    تذكرت كلماتها الأخيرة عن الموت وقربها الشديد منه هتفت بقوة:
    ــ أبي أرجوك أحضر الطبيب لأمي إنها توشك على الموت
    نظر لي بسخرية وهو يقول:
    ــ وماذا سيفعل لها الطبيب أنها ميتة به أو بدونه
    وعاد مرة أخرى يهمس عبر الهاتف وكأنه لم يفعل شيئاً كأنه لم يقتلني برصاص كلماته السامة التي طالما اخترقتني دون أن تصيبني بأذى كأي مجسم من خيال أما كلمته تلك فقد طعنتني بالصميم.
    لكنني فكرت وقررت أن أصارحه بحالة شقيقتي المتردية، فمهما تكن فهي ابنته أولاً وأخيراً ويستحيل أن يتخلى عنها
    وبدأ بيتنا يخلو شيئاً فشيئاً ابتدأ الأقارب ينسحبون الواحد تلو الآخر كان أخرهم هو خالي الوحيد وزوجته اللذان يسكنان في قرية بعيدة نائية قبل أن يخرج خالي همس في أذني:
    ــ هل ترغبين يا منى أنت وأخوتك أن تحلوا ضيوفاً عندي ولو لبعض الوقت ثم التفت يرمق زوجته في خوف قبل أن يتابع:
    ــ ولكن تعرفين يا ابنتي إن بيتنا مزدحم بالأطفال أعاننا الله عليهم ثم أن أبيك في حاجة إليك في مثل هذه الظروف انتبهي لأبيك وأخوتك واعلمي كما كانت تعمل المرحومة أمك كوني شمعة الدار
    وخرج خالي محدثا فجوة عميقة داخل نفسي شمعة الدار، لقد انطفأت شمعة دارنا يا خالي برحيل أمي ولن تضاء مرة أخرى أبداً فما أنا إلا جزء من تلك الشمعة التي انتهت وإلى الأبد
    وخرجت زوجة خالي بعد أن دست في يدي نقوداً وهي تقول:
    ــ أعرف أن والدك مقتر سامحه الله فانفقي من هذا المال على نفسك وعلى اخوتك وأنتبهي لريم إنها غير طبيعية
    فعلاً فقد نحلت شقيقتي ريم نحولاً غير طبيعي، تقعر وجهها وغارت عيناها وأصبحت كالطيف تتحرك بهدوء بدون أن نشعر بها ولا تأكل إلا لماماً وما أن خلا البيت إلا مني وأخوتي حتى أطلت الحقيقة بوجهها البشع تترصدنا وتحرقنا بنارها أن أمي غير موجودة غير موجودة على الإطلاق وقد ذهبت لغير رجعه
    جبت أنحاء البيت وشيء في داخلي يتمزق شيء لا أدري كنهه رأيت مكانها في المطبخ تخيلتها وهي تطهو الطعام وتحادثني وتضحك على نوادري التي أحكيها لها وأنا عائدة من المدرسة ثم تسألني في حنان:
    ــ أجائعة أنت يا منى؟
    وعندما تدخل ريم من المدرسة تضمها بين ذراعيها وتقبلها كثيراً، فقد كانت هي دلوعة البيت تساءلت بمرارة وفي داخلي ما يشبه الخواء من يضمك يا ريم وقبلك عند عودتك من المدرسة من يشعرك بحنان الأمومة التي فقدتيه يا حبيبتي الصغيرة المسكينة مضيت أتجول في البيت ودموعي تحرق وجنتي وقفت أمام حجرة الراحلة قبضت المفتاح بيدي ترددت بالدخول لكن كان لابد من الدخول لابد من أن أطوي ثياب المرحومة وأخفي ما أستطيع من ذهبها ومجوهراتها فأبي سيبيع كل شيء فأنا أعرفه أكثر من أي شخص آخر.
    يجب أن أنتهز هذه الفرصة وأحفظ للمرحومة حقوقها التي لم تحصل عليها في حياتها ولو لمرة واحدة فأبي كان دوماً ينازعها في كل شيء ويدعي ملكية كل شيء تتحلى به أو تمتلكه بدءاً من ملابسها وحذائها وانتهاء بحليها ومجوهراتها إنها لم ترتاح معه يوماً
    شجاعة قوية واتتني على غير انتظار، فقد كنت أخاف أن يسبقني أبي إلى هذه الحجرة وينتهك حرمة المرحومة ولكنه لم يفعل حتى الآن ربما كان خائفاً من خيالها أو ربما كان ينتظر الفرصة الملائمة
    ودخلت دخلت رغم ارتعاشه هزت كياني بأسرة، حين وقع نظري على السرير الذي لفظت عليه أنفاسها الأخيرة
    أخذت أجمع ثيابها ولكل ثوب ذكرى ولكل ذكرى معزة خاصة وبكائي يشتد ونحيبي يزلزل أرجاء الحجرة الصغيرة بكيت كما لم أبك من قبل ومن بين دموعي لمحت شقيقتي الصغرى ريم تدخل الحجرة ورائي في صمت وذهول وعيناها تبرقان ببريق عجيب عجزت عن تفسيره دارت في أنحاء الحجرة ونظرت أسفل السرير وفوقه ثم هزت كتفيها الصغيرتين بأسى وخرجت دون كلمة واحدة ولا حتى سؤال والتفت لأجد شقيقي أحمد خلفي فقد جذبه بكائي سألته من بين دموعي:
    ــ أحمد ماذا تريد؟
    هتف والدموع تغرق وجهه وتسيل على ثيابه:
    ــ لا أدري ماذا أفعل ولا أين أذهب أنا متعب يا منى
    ضممته إلى صدري بقوة واهتزازات جسدي تحيطه بقوة وتحاول أن تعوضه عن الأمومة المفقودة الأمومة الحانية التي لا يعادلها شيء في الوجود
    أمي يا حبة قلبي لماذا تركتيني وأنا بحاجة إليك ولم أنم تلك الليلة مضيت ساهدة أفكر، وأتقلب من جنب إلى جنب يغض مضجعي شحوب شقيقتي الصغيرة وتدهورها السريع المريع ألهذه الدرجة فقت أمي لماذا لم تسأل؟ لماذا لم تعبر عن حزنها والتياعها بالدموع لم لا تبكي حتى تجف عيناها ويهدأ قلبها وتسكن نفسها لماذا أصبحت منطوية تعاف الكلام وتصد عن الطعام وتمشي وترى وتنام بغير شعور ولا فكر وكأنها جثة تمشي على قدمين
    قطع على سير أفكاري أناتها الواضحة فقد تغير نومها منذ ماتت أمي ولم يعد نومها هادئاً ساكناً مريحاً كما كان بل كانت تئن طوال الليل وتتألم وتهمهم بكلمات غير واضحة وعندما كنت أقترب منها وأصيخ السمع تتناهى إلىّ دمدمة مبهمة غير واضحة المعالم تخاطب فيها شخص ما وتعاتبه وتناقشه وتلومه خمنت أنه طيف أمي الراحلة كنت لا أملك من أمري شيئاً غير أن أدثرها باللحاف وأقرأ ما تيسر من القرآن عند رأسها كما كانت تفعل أمي الراحلة
    أمي وأناجيها في خيالي أطفالك أمانة في عنقي، ولن أتخلى عنهم حتى الموت، ومجوهراتك في الحفظ والصون، لن تمتد لهم يد إنسان غيرك ولا حتى أبي
    سأحتفظ بهم حتى يزينا جيد ومعاصم طفلتك المحبوبة ريم عندما تغدو عروساً رائعة وسأقول لها إنهم هدية والدتك لزواجك ستفرح وستبكي وستضمني بحرارة
    أفقت في الغد على حلم مفزع لم يفرحني رغم مظاهر الفرح التي رافقته، فقد كنت أدرك بالفطرة أن الفرح يعقبه حزن، ولن يدوم فرح إلا بنهايته حزن ودوما كنت أستشعر ذلك ولا زالت ذكريات تلك الأيام السعيدة التي سبقت وفاة والدتي تطاردني حتى في المنام فقد صفت الحياة لنا فجأة من بعد عذاب وتحسنت صحتها كثيراً الصحوة التي يعقبها الموت وخفت آلامها بشكل ملحوظ تورد وجهها وتألقت عيناها وازدهرت السعادة في بيتنا، حتى أبي توقف عن العراك وإثارة المشاكل، وكأنه قد عقد هدنة حربية لوقت ما وغرض ما ومهما يكن غرضه فقد بدأ يتودد لأمي ويصحبنا في نزهات ورحلات كانت الفرحة والبسمات تتردد في أجوائنا ونتنسمها مع هوائنا ولكنني كنت خائفا بأعماقي وكان خوفي يزلزلني ويفسد على فرحتي كانت الضحكة كسكين تغمد في قلبي وتفجره تفجر صديد من الأحزان كانت البسمة تهزني من الداخل وتثير جروح نفسي المهترئة كانت الكلمة الطبية الحانية تفزعني وكأنها سيل من الصفعات لم استمتع بسعادتنا المؤقتة كما استمتع بها أخوتي كانت الفرحة الطاغية تتألق في أعينهما الصغيرة والسعادة تطفح من وجوههم النضرة وحبيبتي ريم كانت تتقافز جذلة بين حضن أمها الحبيبة الضاحكة وبين والدها الذي يبتسم ابتسامة من ابتساماته النادرة لكن سرعان ما تبدل كل شيء فجأة كما بدأ فجأة فبعد أيام من الصفاء والنقاء صرخت أمي في جوف الليل البهيم صرخة عميقة أفزعتني وأوقفت الدم جامداً في عروقي أسرعت إلى حجرتها أتعثر بخوفي شلني المشهد الذي رأيته، فبقيت جامدة لا أريم أحدق بأبي وأمي وتلك المرأة الغريبة كانت أمي تصرخ وتصيح قائلة:
    ــ أخرجها حالاً من حجرتي فليس معنى صمتي عن خطاياك أن تبلغ بها بيتي وحجرتي بالذات هيا أخرجوا
    وأبي يرد قائلا بسخرية المعهودة:
    ــ إنك شيطانة كبيرة ألم أناولك بنفسي جرعة كبيرة من المخدر لتنامي كيف استيقظت بهذه السهولة؟ عجيب
    وانكفأت أمي على السرير تبكي وتنتحب بمرارة وقد عاودها المرض وهاجمتها ذيوله المندحرة
    التفت أبي وقتها إلى تلك المرأة الأخرى قائلا بحب وابتسامة كبرى تتوج شفتيه ابتسامة من ابتساماته النادرة:
    ــ هيا يا حبيبتي لم استطع اليوم أن أحقق رغبتك لكن اطمئني ستعودين مراراً عندما تنتهي هذه العجوز المريضة
    اختفيت بسرعة كيلا يراني أبي ويصب جام غضبه على رأسي وعدت بعد أن غادر أبي وتلك المرأة عدت وقد ازداد بكاء أمي ونحيبها ربت على كتفيها بحنان التفتت إلى ووجهها غارق بالدموع كان وجهها ضامرا ممصوصا وعيناها تقطران مرارة وأسى غاضت الدماء من وجهها والتي لونته في الأيام السابقة ولم يبق إلا الشحوب وطائر الموت يلف حول رأسها إيذاناً بالرحيل همست بصوت مبحوح:
    ــ أمي
    وارتمت في أحضاني كطفل يعود إلى أمه بعد غياب ضممتها بحسرة وعيناي تمتلآن بالدموع
    كنت أسمع كثيراً بنزوات أبي وعلاقاته المتعددة لكن لم أتوقع أن تصل به الجرأة لهذا الحد أن يصحب إحدى خليلاته لبيت الزوجية بل في نفس حجرة الزوجية والتي تتردد فيه أنفاس الزوجة المريضة التي توشك على الموت هلعاً وحزناً وهواناً
    سمعت أنفاسها تضطرب في أحضاني وجسدها الضئيل يرتعش بين يدي
    هتفت بهلع:
    ــ أمي
    ولم ترد ولم تجب على ندائي
    وخلال ساعة كان الطبيب إلى جواري بعد أن حقنها بمخدر قوي طلبي مني ألا أزعجها وأن أتركها تنام بهدوء حتى تستيقظ بفسها وبدأت حالة أمي تسوء منذ تلك الليلة حتى ماتت وتركت كل شيء لأبي وعشيقاته
    أسرعت إلى أبي وحلمي المفزع لا يزال يسكن ذاكرتي ويمزقني قلقا حلمت بأن شقيقتي الصغرى ريم عروس في ثياب الزفاف، وقد تألقت جمالا وبهاء وروعة كما لم أرها من قبل ذلك أبداً وكنا جميعا مبتهجين بزواجها حتى أمي نعم رأيت أمي في الحلم وهذا هو الجانب المفزع منه فقد كانت هي التي تقود ريم من يدها وسط المدعوين وتودعهم بابتسامة وكذلك كانت تفعل ريم! والأعجب في الحلم أن ريم كانت عروساً وهي مازالت طفلة!
    أعتصر الألم أحشائي وأنا أتقدم لأبي أقدم رجلا وأؤخر الأخرى كنت أخاف أن ينهرني ويسخر من أوهامي كعادته ولكن أخيرً استجمعت شجاعتي وتقدمت منه ببسالة
    كان يتناول إفطاره بتلذذ واضح وهو يقرأ الجريدة، وكأنما لم تقم جنازة في هذا البيت منذ أيام فقط وجنازة من؟ زوجته أم أولاده زفرت بقوة خلت معها بأن قلبي سيخرج من أضلاعي ثم قلت بهدوء:
    ــ أبي أريد محادثتك في أمر مهم
    لم يلتفت إلي استمر يقرأ الجريدة وهو يقول:
    ــ ماذا عندك؟ هيا أخبريني
    جززت على شفتي بقوة لأمنع نفسي من البكاء فلم هذا الجحود والنكران منك يا أبي ألم ترعك أمي برموش عينيها طيلة حياتها ألم تهمل نفسها لأجلك لماذا تستكبر أن تحزن عليها ولو لعدة أيام من أجل العشرة والأولاد والحب الذي كان أينتهي كل شيء وبهذه السهولة المقيتة؟
    كدت ألقي ما في جوفي اشمئزازاً لكن نظرة من أبي أيقظتني من أفكاري المتلاطمة
    لاحظ شرودي وصمتي الطويل فوضع الجريدة جانباً وهو يهتف:
    ــ ماذا تريدين يا منى؟
    ثبت عيني في عينيه وأنا أقول:
    ــ ريم يا أبي إنها ليست على ما يرام
    قاطعني بلهجة جافة:
    ــ هذا شيء طبيعي لطفلة فقدت أمها
    أهتز كياني وأنا اسمع جملته الأخيرة تجمعت الشهقات في صدري، فلم أستطع إلا أن أجهش بالبكاء أخذ أبي ينقر على الطاولة بأصبعه بعصبية واضحة ولما طال أمد بكائي نهض واقفاً وسار بضع خطوات ليخرج لحقت به ودموعي مازالت تسيل على وجهي بغزارة قلت له بصوت متهدج:
    ــ إن "ريم" ليست طفلة عادية يا أبي أنت تعرف إنها ذكية وحاسة وقد كانت قد كانت دلوعة أمي ثم إنها لم تبك منذ الحادث ولم تسأل أرجوك يا أبي أنقذها إن"ريم" أمانة في عنقك
    أجاب بعصبية:
    ــ وماذا تريدين مني أن أفعل لها إني لا أستطيع أن أعيد أمها إلى الحياة
    تأوهت وكأن طعنة قد اخترقت أحشائي ولكنني تماسكت بصعوبة وواصلت المناضلة:
    ــ أبي تستطيع أن تعرض "ريم" على طبيب إني خائفة من أجلها فقد يحدث لها شيء
    ران على وجهه حزن غريب إذن فقد نجحت في استشارة عاطفة الأبوة من كيانه نظر إلي مليا ثم قال:
    ــ أين هي الآن أحضريها لي
    ولم أكن بحاجة لإحضارها فقد أتت ريم دخلت الصالة بخطوات ملائكية وكأنها تطير لا تمشي على الأرض، ومعها لعبة ألقتها بإهمال على الأرض وكأنها سأمت كل شيء وعافت نفسها أي شيء
    قال أبي بصوته الجوهري:
    ــ ريم تعالي إلى هنا
    نظرت إلينا بعينين تائهتين زائغة وكأنها لا ترى لمح أبي اصفرار وجهها وجحوظ عينيها والتعاسة المرتسمة على محياها الجميل وكأنه يراها لأول مرة:
    اقترب منها وهو يسألها:
    ــ أتحبين بابا يا ريم؟
    نظرت إليه بذهول وهي تقول:
    ــ أنا أحب ماما
    أجابها بقسوة لا نظير لها:
    ــ ماما ماتت يا ريم
    قفزت من مكانها كالملدوغة وهي تهتف:
    ــ لالا ماما لم تمت لا لا
    أسرعت إليها أضمها إلى صدري وأنا أقول بهدوء:
    ــ اهدئي يا ريم اهدئي يا حبيبتي
    فقد كانت أنفاسها تتسارع ووجيب قلبها يرتفع بجنون وهي تسألني:
    ــ ماما ستعود صحيح ماما ستعود يا منى أمي ستعود وتلتقي نظراتي بنظرات أبي المتسائلة وأنا أجيبها بحرارة:
    ــ نعم يا ريم ماما ستعود
    وانظر إلى الطرف الآخر من الصالة إلي شقيقي أحمد وقد ترك كتبه وألعابه وانكفأ على وجهه يبكي بحرقة وقد أيقظ هذا المشهد آلامه من جديد

    اصطحبني أبي وشقيقتي ريم إلى المستشفى بعد ذلك الموقف بأيام كان المستشفى مزدحماً ويعج بالغادين والرائحين وبعد انتظار دام عدة دقائق أعلنت الممرضة اسم شقيقتي ريم عبد الله الصالح بهتت الصغيرة وكأنها لم تسمع اسمها قبل اليوم نظرت لي بتساؤل ملح أمسكت بيدها النحلة وسرنا وراء أبي لندخل حجرة الطبيب
    كانت ترتدي في ذلك اليوم ثوباً أبيض أضاف شحوباً إلى شحوبها الدائم فبدت كروح هائمة حائرة لا تدري أي مستقر لها
    غاض قلبي بين ضلوعي وأنا ألمح ابتسامتها العذبة ولاح لي حلمي المر بجميع تفاصيله، فهززت رأسي وكأنني أطرد الذكرى من رأسي ودخلنا حيث استقبلنا الطبيب بابتسامة كبرى وبعد أن انتهى الطبيب من فحص ريم قال لها باسما:
    ــ هل تحبين أفلام الكارتون يا ريم؟
    أجابت الصغيرة بتلقائية:
    ــ لا
    ــ إذن هل تحبين العرائس والألعاب؟
    ــ لا
    ــ غير معقول إذن تحبين الآيس كريم؟
    ــ لا لآ
    ــ ألا تحبين أي شيء من هذا إذن ماذا تحبين؟
    ــ أحب ماما
    دهشة كبرى ملأت محيا الطبيب وهو يهتف؟
    ــ جميعاً نحب ماما وبالإضافة إلى حبنا لهذا نحب أشياء أخرى كالألعاب والحلوى وغيرها
    أجابت ريم بإصرار:
    ــ كلا كلا لا أحب سوى ماما
    قال الطبيب ومازالت الدهشة تلون وجهه:
    ــ وأين ماما الآن؟ هل هي في البيت؟
    تغيرت ملامح وجه الصغيرة لكنها لم تبك وهي تجيب:
    ــ كلا ولكنها ستعود
    انتحى أبي بالطبيب جانباً وأخذا يتحدثان همسا وقد عكست عينا الطبيب شفقة عميقة وجهها إلى ريم ثم قال الطبيب بصوت سمعناه جميعاً:
    ــ إنها تعاني من ضعف حاد وأنيميا واعتقد إنها مصابة بانهيار عصبي
    شهقت على الرغم مني ولم تحرك ريم ساكنا وكأن الأمر لا يعنيها أما أبي فإنه تحول إلى الطبيب وهو يقول بصوت بدا مهتزاً:
    ــ دكتور هل بقاؤها في المستشفى ضروري؟
    اقترب الطبيب من ريم وهو يقول:
    ــ هذا إذا رغبت ريم
    صرخت الصغيرة وهي تتشبث بي:
    ــ لا لا أريد البقاء في المستشفى أريد أن أعود إلى البيت
    تكلم الطبيب مطولاً مع أبي ثم تحول إلي قائلا بصوت خافت:
    ــ إن الدور الكبير في شفائها يقع عليك لن أبقيها في المستشفى ولن أحولها إلى طبيب نفسي فربما تزداد حالتها تعقيداً إن علاجها الحقيقي هو بقاؤها في البيت بين اخوتها وأبيها وإدراكها حقيقة وفاة أمها تدريجياً فإذا أيقنت من ذلك فإنها ستبكي وهذا جيد واعتقد بأن هذا هو ما سيحدث بالنسبة لضعفها العام فسأكتب لها بعض الأدوية ستحسن حالتها كثيراً إن شاء الله وكما أخبرتك واجهيها بوفاة والدتكم تدريجياً على مدى بضعة أيام حتى تعي هذه الحقيقة مفهوم
    أومأت برأسي علامة الموافقة وأنا أقود "ريم" إلى الخارج بينما بقي أبي مع الطبيب في الحجرة
    لفت أنظارنا في صالة الانتظار طفلة في عمر "ريم" تقفز وتمزح في جذل اقتربت من ريم تتفرس في ملامحها بدت ريم إلى جوارها كعجوز في السبعين أثقلتها الهموم والأحزان لا حركة ولا ابتسامة ولا حتى نظرات مرحة كتلك الطفلة السعيدة وبعد لحظات صرخت الطفلة:
    ــ ماما أريد مثل هذا العقد
    التفتت إحدى النساء الجالسات متسائلة:
    ــ ماذا يا حبيبتي أي عقد تريدين؟
    أشارت الطفلة إلى جيد ريم قائلة:
    ــ مثل هذا يا ماما
    قالت الأم بطيبة خاطر:
    ــ حسناً يا حبيبتي غداً سأحضر لك مثله وأحسن منه
    عادت الطفلة للهو مرة أخرى وتقلص وجه ريم تقلصاً مؤلماً وكأنها توشك على البكاء ولكنها لم تبك إنما وقفت تنظر من خلال النافذة ولا ترى شيئاً
    وعاد أبي بعد لحظات ليصحبنا إلى المنزل ومعه كم من الأدوية أثقل قلبي مرآها فريم الحلوة الصغيرة التي لا تستطيع أن تكمل حتى النهاية هل تستطيع تناول كل هذه الأدوية وبالتناوب
    وبدأت معها رحلة قاسية مؤلمة باءت بالفشل الذريع وخبت توقعات الطبيب المتفائلة ولم يبق إلا سراب فقد بدأت ريم تذوي شيئاً فشيئاً وتساقطت ذوائب شعرها الطويل حتى أنني اضطررت إلى قصه في النهاية ولم تعاتبني ولم تغضب.
    نظرت إلى نظرة طويلة وهي تقول:
    ــ هكذا أجمل أليس كذلك؟
    ابتسمت لها وفي حلقي غصة قالت بعد فترة صمت:
    ــ هل يعجب أمي هذا؟ هل تحب شعري هكذا
    لم أستطع حبس دموعي فانطلقت أبكي بحرارة
    أمسكت يدي بيديها الصغيرتين متسائلة:
    ــ منى لماذا تبكين؟
    نظرت إليها من خلال دموعي رقيقة ناعمة حالمة أيجب أن أصدمها بالحقيقة المروعة؟ وماذا ستكون عليه
    حالها عندما أخبرها بالحقيقة لا لا أيها الطبيب فلتهنأ هذه الطفلة المسكينة بحياة الخيال، فهي أرحم لها بكثير من دنيا الواقع البشعة ولكن الطبيب أخبرني وأكد لي بأن في هذا خطراً على حياتها وعلى صحته قواها العقلية ولكن كيف كيف أؤذي هذه الوردة اليانعة وأحطمها بكلمة تخرج من فمي وأي كلمة إنها ستقضي على حياتها
    رباه ماذا أفعل؟
    عشت ليالي طويلة مؤرقة وأنا أفكر في طريقة أتدرج منها إلى إخبار الصغيرة بالحقيقة الصارخة المؤلمة ولم أجد سوى التجاهل والنسيان
    ــ لقد تأخرت أمي يا منى متى تعود؟
    أيقظني سؤالها من أفكاري المتلاطمة أيقظني حتى الذهول نظرت إليها بكلتا عيني وكأني أحاول أن أمسك طرف خيط يقودني إلى قضيتي ثم قلت لها فجأة:
    ــ أمي لن تعود يا ريم
    وقفت لحظات مسمرة عينيها في وجهي وأرنبتا أنفها الدقيق تهتزان بشدة وشفتها السفلى ترتجف وصدرها يعلو ويهبط بدت كمن تلقى صدمة عنيفة ولكنها لم تبك
    قالت لي وقد بدا الإصرار على محياها:
    ــ منى أنا سأذهب إليها
    صدرت مني صرخة ملتاعة عجزت عن كتمانها ولكنها تابعت وهي ترنو إلى البعيد:
    ــ منى إني أرى أمي أراها هناك بعيداً في السماء إنها تناديني أن أذهب إليها وأنا أريد أن اذهب أتمنى أن اذهب لألقي بنفسي بين أحضانها أنا لا أسطيع الحياة من دونها، يا منى اشعر بأن بيتنا ساكن مجرد من الحياة من دونها يا منى اشعر أن بيتنا ساكن مجرد من الحياة وأن حجرتها مظلمة كئيبة وأن أبي يكرهنا
    ــ منى إن ماما تناديني وأنا سأذهب
    عاودني البكاء من جديد وعجزت عن كتم شهقاتي المزدحمة في صدري ضممتها لتلحم في أحشائي وكأنها قطعة مني قلت لها وكل جزء في كياني يبكي:
    ــ لا تعودي لمثل هذا الكلام مرة أخرى يا ريم ستبقين إلى جوارنا أنا وأحمد نحبك وفي حاجة لك
    مسحت دموعي بيدها الصغيرة الرقيقة وهي تقول:
    ــ لا تحزني يا منى ولا تبكي صدقيني سأرتاح وأنا هناك إلى جوارها ولكن عديني يا منى بشيء
    همست بعيون غارقة في الدمع:
    ــ ماذا تريدين يا حبيبتي؟
    أجابت بنفس صوتي الهامس:
    ــ أبي يا منى أنه مسكين حقاً نحن نشعر بأنه يكرهنا ولكنه لا يكرهنا إنه يحبنا ولكنه لا يستطيع أن يعبر عن حبه هكذا هم الرجال
    نظرت إليها من خلال دموعي مندهشة ومبهورة هل هذه ريم الطفلة الصغيرة إن كلامها أكبر من سنها بكثير لقد تحلى كلامها بالحكمة فجأة وكأنها ليست هي التي تتكلم هل هي حكمة الله أنزلها على قلب هذه الطفلة الصغيرة لتعبر عن أشياء كنت غافلة عنها ولحكمة الله أجهلها عبرت لي شقيقتي عن كل شيء لأنها توشك على الموت
    دوت صرخة في أعماقي وأنا أنظر جمالها اليريء الذي يوشك على الفناء
    صغيرتي حبيبتي أرجوك أفيقي من أجلي ريم لا تموتي
    تبدلت أحوال ريم فجأة فقد غدت أكثر صحة وحيوية وبدت أكثر نشاطاً وهي تلهو مع أحمد بعد فترة طويلة من الشرود والانطواء
    تنفس أبي الصعداء وكأنه قد انتزع من أعماقه حملاً كريهاً قال لي وهو يبتسم:
    ــ ألا ترين كيف أصبحت ريم بفضل الأدوبة ألا ترين كيف تورد خداها وعادت الدماء إلى وجهها إنها الآن أفضل كثيراً فاستمري في مراعاتها
    نظرت إلى أبي بإشفاق انه لا يعرف بأن ريم قد رفضت تناول أي دواء وأصرت على رفضها مهددة بمقاطعتي إذا أجبرتها على شيء وأضافت بأنها تعرف نفسها جيداً وهي ليست بحاجة إلى أي دواء وقد أقلقني رواؤها المفاجئ أكثر مما أفرحني وخلف في نفسي وجلاً عميقاً وخوفاً شديداً فربما أصبحت عروساً بالفعل بعد أيام واختارها الله من بيننا لجواره
    اقترحت على أبي ذات يوم أن نغير المكان لننسى الفاجعة وتتحسن صحة ريم وتستعيد توازنها النفسي حتى احمد يحتاج لهذه الاستراحة
    هز أبي رأسه وكأنه غير مقتنع
    ــ إن "ريم" قد تحسنت تحيناً مطرداً ولا تحتاج لأي تغيير أما أحمد فهو فاسد مدلل لن يريحه سوى الضرب
    هتفت باكية:
    ـــ وأنا يا أبي لا أستطيع أن أتحمل اكثر من ذلك إن فــــي البيت فراغاًً موحشاً لا يملآه سوى أمي
    ثم أجهشت بالبكاء وهيئة ريم بسعادتها المفاجئـــــة تزلزلني حتى النخاع
    نظر إلي بتركيز ثم قال :
    ـــ نعم سوف نسافر ولكن ليس الآن ليس الآن


    يتبع

    f;hx jpj hgl'v







    رد مع اقتباس  

  2. #2  
    المشاركات
    48
    حســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنن ما إخترت


    قرأت هـذا الجزء من الرواية التى إخترتها وقرأتها لكن و والله إستمتعت بقراءتها وسوف أنتظر على مضض
    البقية الباقية, وعى غير عادتى سوف أنتظر فقد تعودت ان أقرأ اى رواية على مرة واحدة مهما كان حجمها ؛

    ولكن حقيقى جهد تشكر عليه وسوف أناقشها معك بعد إتمامها



    سمير الرحال





    رد مع اقتباس  

  3. #3  
    مجهود راااااائع

    \\

    //

    سلمت يداكـ

    تحيااااتي






    رد مع اقتباس  

  4. #4  
    المشاركات
    613
    شكراً
    تقبلوا خالص تحياتي





    رد مع اقتباس  

  5. #5 رد: بكاء تحت المطر 
    المشاركات
    613
    وفي نفس الليلة قرب مطلع الفجر بقليل أيقظتني حركــــة بالقرب مني صحوت جازعة أتلفت حولي
    نظـــــرت صــــوب فراش ريم كأنها لم تكن في فراشها أحسست بـمـــــا يشــــــبه الدوار ونبضاتي تتسارع بجنون أين هي ولماذا نهضت من فراشها في هذا الوقت وماذا تفعل ؟
    أخذت ابحث عنها في أرجاء البيت وقلبي لا يزال يخفق بقوة وأخيراً وجدتها في الشرفة كانت رائعة الجمال كملاك نوراني شفاف بكامل صحتها وحيويتها وبهائــــــها وقــــــد أضفــــى عليها القمر المكتمل هالة من نور يصعب وصفــــــها تمامــــاً بــــدت كعروس تزف إلى السماء
    شعرت بغصة هائلة في حلقي وأنا اسألها :
    ـــ ريم لماذا نهضت من فراشك هل تردين ماء ؟
    ابتسمت برقة وكشفت الابتسامة عـــــن أســـــنانها الصغيرة كحبات من اللؤلؤ المنضود قالت بهدوء وبراءة:
    ـــ إنني أتطلع إلى السماء
    وقبل أن انطق تابعت بصوت عذب عذب لدرجة هائلة تبعث على الخوف والرهبة
    ـــ إنني أرى ماما يا منى إنني أراها تناديني في السماء
    لم استطع السيطرة على نفسي فقاطعتها وقلبي ينقبض بشدة :
    ـــ ريم كفى عن هذا الهراء وهيا إلى النوم تلفحـــــي جيــــداً بدثارك وأبكي إن شئت بل أبكي حتى لو تشائي فإن في البكاء عزاء وفي العزاء راحة للنفس المكلومة
    ثم اقتربت أهزها بشدة:
    ــ أبكي يا ريم انتحبي يا حبيبتي انتزعي دموعك اللؤلؤية من أعماق نفسك وابك أمك الغالية يا ريم إن أمك ماتت ويجب أن تبكيها وتنتحبي حتى تنضب دموعك ابكي يا ريم ابكي
    نظرت إلي برثاء وهي تسير إلى فراشها بالية غريبة وكأنها قد صدمت بغبائي وفي الغد أبلغني أبي أنه سيغيب طوال اليوم وأنه سيعود في وقت متأخر من المساء لم أجد غير خادمتنا صفية أبثها حزني وخوفي كانت تشاركني قلقي على ريم وترى أنه من الضروري تنويمها في أحد المستشفيات حتى تعود طبيعية كما كانت لا كما تبدو الآن مظهرها يخدع وباطنها مترع بالمرارة والأحزان
    راقبت "ريم" من طرف خفي وأنا أوطن نفسي استقبال كل جديد يفد به القدر حتى لو كان مراً مرارة العلقم
    وفي ذات الليلة التي عاد فيها أبي حوالي منتصف الليل تناهى إلى سمعي صوت شخير مزعج لم أكن قد نمت بعد فاخترق هذا الشخير أذني اختراقاً إنه لم يحدث قط في بيتنا اتجهت عيناي بلا وعي مني نحو شقيقتي الصغيرة وفطنت لجزعي بأن الشخير يصدر منها هي بالذات اقتربت منها لأتبين صوت حشرجة مكتومة وخيط دقيق من الدم ينساب من أنفها وفمها ناديتها بصوت خافت ليعلو صوتي بعد لحظات بصرخات زلزلت أركان البيت
    ــ ريم ريم يا ملاكي الصغيرة



    اقترب أبي منها كانت هادئة مبتسمة وكأنها تحلم أحلاماً سعيدة نظر أبي نحوي بقلق وكأن يتساءل عن معنى هذه الصرخات المتتابعة دون داع
    كنت أنتحب بحرقة في ركن من أركان الحجرة قلت بصوت متداع:
    ــ أنها لا تجيب على النداء
    هزها أبي برفق ثم هزها بقوة ووجهه يتقلص بشدة ثم حملها بسرعة ومضى خارجاً دون أن يلتفت وراءه سقطت بين ذراعي الخادمة صفية وأنا أبكي وانتحب وشقيقي أحمد يقضم أظافره بعصبية وهو يدور في أنحاء الغرفة بغير هدف ولا اتجاه وفي الفجر عاد أبي إلى البيت عاد محطماً متداعياً وكأنه كبر في السن فجأة لقد ابيض شعره وغارت عيناه ورسمت المأساة خطوطها في وجهه على شكل تجاعيد عميقة كأخاديد حفرها الزمان على مرتفعات من الجبال
    لم أجرؤ على طرح سؤالي اليتيم الذي يضج به عقلي وأنا أرى دموع أبي تسيل على خديه بغزارة وأصوات عذبة كترنمية الملائكة تهتف في جذل لقد زفت العروس لقد زفت العروس إلى الخلد إن شاء الله
    كانت إجابة السؤال واضحة على وجه أبي المتقلص، فأسرعت منكفئة على وجهي إلى حجرتي أحدق بنظرات زائغة إلى كل شيء حولي وصدري يضيق وأنفاسي تتسارع والدنيا تضيق وتضيق حتى غدت كخرم إبرة ولم أشعر بشيء حولي
    أفقت لنفسي وأنا على السرير الأبيض وفي كل ذراع إبرة تتصل بأنبوب مغذي تمنيت لو لم أفق تمنيت لو طواني العالم الآخر بجناحيه المرعبين وانضممت إلى أمي الحبيبة وشقيقتي ماذا أفعل في هذا العالم الكبير وحدي كيف أحيا وأعيش وقد خلت دنياي من هذين الوجهين الحبيبين هل يمكن أن يكون لحياتي معنى بدونهما وأي معنى؟ وأي حياة؟ وهتفت من أعماقي رباه إرحمني أرحني من هذا العذاب أغمضت عيناي على حجارة بهيئة دموع حجارة تدميني وتنزل على خدي الشاحبين وأفقت على صوت أبي كان يناديني فتحت عيني بصعوبة وليتني ما رأيته كان هيكل رجل يمشي على قدمين شاحب الوجه دامع العينين في داخله تدور رحى معركة رهيبة تبدو آثارها على وجهه قال بحنان غريب لم أعهد منه:
    ــ منى ألم تفيق بعد؟
    ثم أردف بعد هنيهة:
    ــ ريم ذهبت يا منى ذهبت ولن تعود
    تغضت ذقنه وشفته السفلى ثم شرع في البكاء بكاء صامت حار موجع لأول مرة في حياتي أرى أبي يبكي بحرارة وصدق ألهذه الدرجة كان يحب ريم وأمي ألم تكن لها مكانة في نفسه ألم تستحق ولو دمعة واحدة من الدموع التي سفحها حزناً على ريم ريم حبيبتي عروس السماء الوردة اليانعة التي تتضوع عطرا وأريجا أذهبت حقا ولن تعود؟ وأحمد فجأة تذكرت أحمد الطفل الصغير المسكين الذي تلقى لطمتين متتاليتين وهو لا يزال طفلاً غضاً كيف سيحتمل كل هذا دون أن يكون هناك أحد بجواره يجب أن استعيد توازني بسرعة وأحافظ على كل لياقتي من أجله هو من أجل أحمد
    ربت على يدي أبي المتغضنتين وقلت له بصوت بدا وكأنه ليس صوتي:
    ــ أبي لا يزال هناك أحمد وهو في حاجة لك
    لم أنقطع عن البكاء وأنا ألملم حاجيات ريم أثوابها وألعابها وشرائطها الذهبية الصغيرة جمعتها كلها في حقيبة كبيرة لأودعها دورا للأيتام وقد كان هذا مثار جدل طويل بيني وبين أبي فقد كان أبي يفضل الاحتفاظ بملابسها وأشيائها مدى العمر وعارضته فقد كنت أفضل أن تستفيد منها فتيات الملجأ الصغيرات وأقنعته إن في هذا العمل الخير كل الخير لريم في قبرها وإن الاحتفاظ بملابسها لن يغير من الواقع المر شيئاً
    كان أبي جالساً على المقعد ساهماً يفكر ثم فجأة سألني أين حاجيات أمك يا منى؟
    باغتني السؤال رغم أنني قد توقعته يوماً حاولت السيطرة على نفسي بصعوبة وأنا أقول:
    ــ في حجرتها هناك
    نظر بتركيز في عيني المحمرتين من شدة البكاء وكأنه يتأكد من صدقي وأخيراً قال:
    ــ أقصد الذهب هل هو كما تركته؟
    تلعثمت قائلة:
    ــ لا لا أعرف ربما باعته المرحومة في الفترة الأخيرة
    نهض بسرعة واتجه إلى حجرة المرحومة أمي دون أن ينطق بحرف عاد بعد برهة من الزمن مكفهر الوجه بادي الغضب وهو يهتف بقسوة:
    ــ يالها من حمقاء يالها من حمقاء مجنونة
    وغادر المنزل في نفس اللحظة لنبقى أنا وأحمد نحدق ببعضنا بعيون دامعة ومظاهر الحزن والألم تحيط بنا جميع الاتجاهات ونحيب متواصل يصل إلى أسماعنا بصورة مقطعة يحمل بين طياته أنين العذاب ودهشة الفاجعة فقد كانت صفية الخادمة تبكي ريم
    ضقت ذرعاً بكل شيء، لكن عندما تذكرت أن الإجازة الصيفية قد قربت على الانتهاء وإننا قريباً سنعود للدراسة هدأت نفسي قليلاً، فربما وجدت عندها ما يشغلني عن نفسي وهمومي، لكن أبي هداه الله أبي أن تمر الإجازة الصيفية بسلام، ففوجئت به ذات يوم وأنا في المطبخ يدخل مصطحباً امرأة ذهلت حتى عجزت عن النطق همست صفية وكأنها تكلم نفسها:
    ــ هل وصل به الأمر أن يحضر عشيقاته للمنزل في وضح النهار
    كتمت شهقة كادت تفلت مني فقد كانت المرأة جميلة بل باهرة الجمال وإن شاب جمالها شيء منفر لست أعرفه يطل من بين ملامحها الفاتنة كانت ممشوقة القد حادة النظرات يتراوح عمرها بين الثلاثين والخامسة والثلاثين رمقتني بنظرة لم استرح لها وهي تهتف:
    ــ إذن فأنت منى لم أعرف أنك كبيرة لهذا الحد
    ثم التفتت إلى أبي ضاحكة وهي تقول بمرح مفتعل:
    ــ بالتأكيد إنك رجل عجوز حتى تكون هذه هي ابنتك
    نظرت إلى وجه أبي بأسى ففوجئت بأساريره المنطلقة وابتسامته التي تشق وجهه وعينيه الضاحكتين وكأن الموت لم يخطف منه اثنتين من أعز الناس علينا وفي هذا البيت بالذات رباه إلى هذا الحد تهون سطوة الموت وجبروته لدى أبي أمام هذا الجمال الفاتن ألهذه الدرجة ينسى أمي وشقيقتي بلمح البصر وكأن ما حدث لم يحدث وما كان لم يكن ومن تكون هذه المرأة ولماذا تتحدث بهذه الطريقة وكأنها سيدة البيت
    لاحظ أبي ملامح التقززواضحة على وجهي فقال بمرح لم يزايله منذ دخلت معه هذه المرأة بيتنا:
    ــ منى سلمي على زوجة أبيك الجديدة خالتك عواطف
    قاطعته بحدة:
    ــ عواطف فقط
    أيدها بهزة من رأسه وهو يضحك:
    ــ منى سلمي على عواطف
    مددت لها يداًباردة كالثلج تلقتها ببرودة أكثر ومضت تتجول في أنحاء البيت غير عابئة بالحزن الذييمزق أفئدتنا لم تعر أحمد انتباها وكأنه غير موجود على الإطلاق
    همست لأبيوأنا أكاد أبكي:
    ــ أبي إنها فضيحة كيف تتزوج ولم يمض على وفاة أمي غير شهرينفقط لا غير وريم إن
    قاطعني بقسوة:
    ــ اصمتي أنت لا تفهمين شيئاً ألايكفي إنني قد تحملت الكثير أثناء مرض أمك ولم أتكلم أو أشكو اصمتي و إلا ضربتك
    شهقت باكية وأنا ألوذ بسريري اهتف من أعماقي حبيبتي يا ماما أين أنت أين أنت؟
    فوجئت بأحمد يندس بجواري وهو ينتحب بحرقة ضممته لصدري وأنا أواسيه بكلمات مشبعة بالدموع
    وبقيت أراقب بألم المظاهر الجديدة التي بدأت تتوالى على بيتنا الصغير الحزين رأيت تلك المرأة وهي تحتل حجرة أمي بعد أن ألقت بباقي أثاثها في الشارع وحضر الأثاث الجديد وحجرة النوم الجديدة ثم امتد التغير إلى الصالة الكبيرة التي أثثتها المرحومة أمي ركناً ركناً، فبدلت كل شيء وغيرت كل ما استطاعت تغيره، وأبي ينظر إليها فرحاً مبهوراً وكأنه يتفرج على تحفة جديدة لم يرى لها مثيلاً من قبل وبدأت تمارس سيطرتها علي وعلى أخي بعد أن تمكنت من أبي قالت لي ذات يوم:
    ــ أنت أيتها الفتاة أنا لا يعجبني كسلك ودورانك في البيت هكذا بدون عمل
    قلت لها باستسلام:
    ــ وماذا تريدين مني أن أعمل؟ فالمدرسة على الأبواب
    قالت وكأنها تحادث نفسها:
    ــ مدرسة آه نعم
    ثم أردفت بحدة:
    ــ ولكنني لن أتحملك هكذا حتى تفتح المدارس
    أجبتها بنفس الاستسلام:
    ــ وماذا تريدين مني أن أفعل الخادمة تقوم بكل عمل البيت
    ردت علي بعنف:
    ــ ولماذا تعتمدين على الخادمة إنك مازلت فتاة صغيرة وإذا اعتدت على الخادمة منذ الآن، فلن تنجحي في حياتك الزوجية مستقبلاً
    ثم التفتت تحادث أبي:
    ــ أليس كذلك يا عبد الله؟
    أجاب أبي يؤيدها:
    ــ بلى أنت محقة في كلامك يا عواطف لقد أفسدتها أمها بالتدليل لن تنفع لبيت أو زواج إذا ظلت على حالتها هذه
    رمقت أبي بعتاب طويل أهذه هي النهاية يا أبي تهينني وتذلني أمام هذه الغريبة المسيطرة أنسيت كل شيء ألا يشفع لي أن أكون ابنتك قبل كل شيء
    وقررت حينها أمراً لن أرضخ لهذه الحقارة والأنانية سأتحداهما وسأضع حدا لهذه الدخيلة وسأبين لها من أكون
    سأنتصر لأمي الراحلة وبيتنا الذي كان يجمعنا ذات يوم لن أسمح لها بالسيطرة أكثر من ذلك ولو اشتعل البيت بالنيران وفي نفس الليلة طلبت مني أن أغسل لها مجموعة من الثياب لم أبك وأنا أتلقى أوامرها فقد قررت بيني وبين نفسي أمراً حاولت صفية انتزاع الثياب مني لتغسلها وتتوسل بشفقة:
    ــ حرام أن تغسليها أنت يا منى حرام
    صددتها بلطف وأنا أتوجه نحو الغاسلة الكهربائية ألقيت الثياب بلا اهتمام وسكبت معها كمية لا بأس بها من مبيض الغسيل لتتحول ملابسها بعد لحظات إلى كومة باهتة من الملابس لا لون لها ولا قوام
    احتملت صراخها احتملت تعنيفها احتملت صفعتها المدوية على وجهي ولم أرد سوى بكلمة واحدة
    ــ أنا لم أغسل يوماً أي ثوب ولا أعرف كيف يتم ذلك
    شدتني بعنف نحو المطبخ وهي تهتف:
    ــ ستتعلمين كل شيء وفوراً
    ثم أمرت صفية أن تعلمني كيفية غسيل الملابس وخرجت وهي تهدر غضباً
    جلست في المطبخ هادئة مرتاحة البال وكأنني لم أفعل شيئاً يذكر يكفي إنني أشعلتها وأفسدت يومها لا يهمني شيء بعد ذلك
    لكن سعادتي لم تدم طويلاً فبعد أن جعلتني الخادمة الخصوصية لغسل ملابسها تدرجت حتى جعلتني أقوم بجميع أعمالها الخاصة من غسيل ملابس إلى تنظيف حجرتها وترتيب شعرها وتدليك قدميها كنت أتألم داخلياً وإن لم يبدو ذلك واضحاً في ملامحي فلم أكن أرغب في أن يشعر أحمد بآلامي فيزيد عذابه ويزيد مقته لهذه المرأة القاسية فكرت مراراً في مخرج يبعد عني ما أقاسيه من إذلال وهوان
    بيد أن الأبواب موصدة ولكل منها قفل ضخم يحتاج فتحه إلى أطنان من التضحيات والدموع
    حتى بدأت أيام الدراسة ولأول مرة أذهب لمدرستي الثانوية فرحة مستبشرة وكأنني أخرج من سجني المؤبد إلى حيث أهلي وأحبائي وأصحابي
    بادرتني صديقتي إيمان بصرخة:
    ــ منى غير معقول لقد تغيرت كثيراً وقل وزنك إلى النصف إنك تبدين كعود من الحطب
    ابتسمت بحرارة وأنا أقول:
    ــ تعرفين ظروفي يا إيمان وفاة أمي ثم شقيقتي وخنقتني العبرة فلم أكمل جملتي
    ربتت إيمان على كتفي بحنان وهي تهمس:
    ــ أنا آسفة لم أقصد أن أذكرك بشيء
    مسحت دموعي بظهر كفي وأنا أنهض لأستقبل حصتي الأولى في المدرسة وقد أحسست بانقباض غريب يشمل كياني بأسره وكأن الدنيا قد أغلقت أبوابها في وجهي فجأة استدعتني المعلمة أثناء فترة الفسحة في أحد الأيام وقالت لي بهدوء:
    ــ منى أنت طالبة متفوقة وطوال فترة مكوثك بيننا وأنا أعدك من القليلات المتميزات ماذا حدث لك؟ شرود دائم في الحصص وعدم انتباه وتركيز بالإضافة إلى انعزالك بنفسك والابتعاد عن زميلاتك لقد تدهورت تدهوراً ملحوظاً ليس على المحور الدراسي فقط بل تعداه إلى المستوى الاجتماعي مكانك بين زميلاتك لقد أدركت هذا الأمر منذ أول يوم لحضورك للمدرسة نقصان وزنك اللافت للنظر وجهك الشاحب شعرك المتقصف وحتى حيويتك فقد ذهبت أدراج الرياح
    لا تخفي شيئا علي فقد أستطيع مساعدتك وانتشالك مما أنت فيه هل تعانين من مرض يا منى؟
    قلت بصوت أقرب إلى الهمس ودموعي تحرق جفوني:
    ــ كلا
    جاءني صوتها ممتلئا بالدهشة:
    ــ هل يحاول أهلك إجبارك على الزواج؟
    قلت وأنا أبكي:
    ــ أمي ماتت
    لم أكمل جملتي أخذتني معلمتي بين ذراعها وهي تبكي بحرارة وكأن أمها هي التي ماتت وليست أمي أنا وبعد أن هدأت حدة البكاء قليلاً قالت معلمتي وهي لا تزال تمسح دموعها:
    ـــ أنني أشعر بما تعانين يا منى لأنني قد عانيته في يوم ما يا لك من بائسة صغيرة وماذا يفعل أبوك المسكين الآن بالتأكيد هو مريض
    قلت ببطء:
    ــ كلا فقد تزوج
    فغرت فاها دهشة وذهولا وسألتني بإلحاح:
    ـ أتقولين تزوج إن العطلة الصيفية بأسرها لم تكن إلا ما يقارب الثلاثة أشهر معنى هذا أن أباك تزوج بعد وفاة أمك بفترة قصيرة
    نكست رأسها بأسى وهي تفكر ثم قالت بعد برهة:
    ــ وزوجة أبيك الجديدة هل هي طيبة؟
    أجبتها بحزن:
    ــ كلا للأسف
    وحكيت لها عذابي مع زوجة أبي وعن وفاة شقيقتي الصغيرة إثر وفاة أمي وعن شقيقي أحمد وحزن تشفق الأضلاع عن حمله
    والمعلمة تسمع وتتعجب حتى ضاعت الحصة التالية للفسحة وأنا أتحدث وأبكي وأخيرا طلبت مني أن أبلغها بكل ما يجد من أموري ووعدتني بأن تساعدني بكل طريقة ممكنة وكأنها شقيقتي الكبرى
    أحسست بالأمان وقتها فمهما يكن يحدث من أمور فهناك من يهمه أمري ويسأل عني ويساعدني في الملمات
    نفخت نفسي كلمات معلمتي قوة وعظمى أجهلها تمكن في نفسي فعزمت على النجاح والتفوق كما كنت دائما عندما كانت أمي الحبيبة على وجه الوجود
    واصلت الليل والنهار وأنا أتشوق لنيل شهادتي الثانوية بتفوق يؤهلني لدخول كلية الطب التي أتمناها حاولت إزالة العراقيل التي تضعها زوجة أبي أمامي لتعطلني عن الدراسة حاولت الجمع بين عملي تحت خدمتها ودراستي أرهقني ذلك ولكنه وضعني على حافة سلم النجاح ونسيت قراري برفض الظلم وتحديه نسيت كل شيء عدا مستقبلي حتى أحسست بالتعب ذات يوم وانهار كل عضو من جسدي يطلب الراحة المحروم منها حدث ذلك اليوم في المدرسة كانت الفسحة المدرسية توشك على الانتهاء حين ألم بي دوار مفاجئ، فلم أستطع الثبات وسقطت على الأرض في انهيار تام حملتني زميلاتي إلى حجرة المشرفة الطلابية التي تعهدتني بالراحة والعناية حتى حضرت معلمتي الحبيبة التي أكاشفها بكل ما يحدث لي أصرت على أن أذهب للبيت وأرتاح لم يجد رفضي إلا إصراراً لديها على مغادرتي المدرسة وهمست لي قائلة:
    ــ حتى تصدق زوجة أبيك عند خروجك من المدرسة إنك مريضة وبحاجة إلى الراحة علها تعفيك من بعض أعماالها
    ــ حتى تصدق زوجة أبيك عند خروجك من المدرسة إنك مريضة وبحاجة إلى الراحة علها تعفيك من بعض أعماالها
    خرجت من المدرسة وعدت للمنزل وما أن فتحت الباب بمفتاحي الخاص ودخلت حتى أحسست بأجواء غير طبيعية في البيت كان مجرد إحساس، ولكنه تعاظم حين لم أجد الخادمة صفية في المطبخ كعادتها كل صباح بحثت عنها في أرجاء البيت ولم أجدها التزمت الهدوء كيلا أوقظ زوجة أبي التي اعتقدت أنها نائمة في هذا الوقت من الصباح لكن دهشتي الشديدة سمعتها تتحدث إلى رجل ما في حجرتها اختفيت بسرعة وأنا أراقب حجرتها من بعيد فوجئت بها وهي تخرج من الحجرة وبرفقتها رجل غريب لم أره يوماً رأيتهما يتهامسان اختفيت وقلبي يخفق بسرعة عجيبة وأوصالي ترتجف بعنف وتساؤلات حادة تخترق رأسي بنصلها السام
    ترى من يكون هذا الرجل؟ هل هو شقيقها أو أحد أقاربها الرجال؟ لكنه لا مستحيل إن شقيقها لا يزورها خفية في الصباح وبعيداً عن أعين الجميع حتى أبي وأين في حجرة نومها؟
    كلا واستبعدت هذا الخاطر تماماً من ذهني
    هل يكون عشيقها يا إلهي أتكون زوجة أبي من هذا النوع الخائن من الزوجات أمعقول هذا الذي يحدث أم أني في كابوس فظيع
    ومرت عدة دقائق وأنا في ذهول حتى دخلت زوجة أبي الحجرة التي أجلس بها
    فوجئت حين رأتني وكأنها ترى وحشاً مرعباً تراجعت صارخة بذعر ثم تمالكت نفسها بعد برهة قائلة كأي سيدة شريفة:
    ــ أهذه أنت أيتها التافهة الحقيرة ما الذي أتى بك إلى البيت في هذه الساعة؟
    كدت أصرخ بوجهها قائلة: لقد عدت لأرى حقارتك وتفاهتك
    لكنني أمسكت بلساني وأنا أفكر يجب ألا أبدو خاضعة ذليلة لها بعد الآن فتستمرئ ذلك يجب أن أقف لها وجها لوجه وأفهمها بقوتي المفاجئة بأنني قد عرفت كل شيء وأستطيع أن أفعل أي شيء
    لم أنكس رأسي كعادتي وأتهته بالكلام بل رفعت رأسي علياً وأنا أواجهها بنظراتي وقلت لها بهدوء ينبض بالتحدي:
    ــ عدت لأنني مريضة وقد صرفتني المدرسة باكراً لأرتاح
    كفأر وقع في مصيدة أخذت تنظر في كافة الاتجاهات وكأنها تبحث عن معين لها في هذه المحنة قالت بعد لحظات وهي تبتلع ريقها بصعوبة:
    ــ منذ متى وأنت هنا؟
    علت ابتسامة سخرية شفتي رغم كل شيء كدت أقول لها ساخرة: منذ وداع الحبيب ولكنني قلت وأنا انظر في عينيها بجسارة:
    ــ منذ نصف ساعة تقريباً ولم أجد صفية في البيت
    ثم ركزت على كلماتي وأنا أقول:
    ــ وكدت أحسبك نائمة
    اضطربت اضطراباً واضحاً وابتلعت ريقها مرتين وكأنها ستقول شيئاً، ولكنها صمتت في النهاية ثم قالت بارتباك ملحوظ:
    ــ ارتاحي الآن وسأعود لك فيما بعد
    وما أن غادرتني حتى هنأت نفسي على ذكائي كان هذا هو الطريق الوحيد أمامي لإخضاعها وكسر شوكتها لم يكن هناك بد من أن اقف أمامها بهذه القوة
    لم اسمعها يوما تطلب مني أن ارتاح ولكن بعد أن شكت في كشفي لحقيقتها عاملتني بكل اللين والود
    غلبني النوم وأنا في دوامة من أفكاري لأفيق وصفية تضع أمامي صينية الطعام قلت لها بهدوء:
    ــ صفية أين كنت في الصباح لقد بحثت عنك في كل مكان
    قالت لي بهمس:
    ــ ليس هذا الصباح فقط يا منى بل كل صباح مدام عواطف تبعث بي إلى بيت والدتها لأنظف وأطهو لها الطعام ثم أعود سريعاً قبل أن تعودون جميعاً
    أطرقت برأسي مفكرة وقد أدركت الموضوع ككل إن هذه المرأة المخادعة ليست تلك العفيفة الشريفة كما يظنها أبي ونظنها نحن، بل هي امرأة حرباء خائنة تخدعنا جميعاً وأولنا أبي وتبادر إلى ذهني سؤال مر ولماذا لا أبلغ أبي بكل ما رأيته وهو يتصرف التصرف المناسب؟ لكن ترى هل سيصدقني؟ وإذا افترضنا أنه صدقني هل سيراقبها في صمت أم سيواجهها فوراً وأتحمل أنا كل شيء إذن هل أتقاضى وكأن شيء لم يكن لكن كيف كيف أستطيع الصمت وبركان هائل ينفجر داخل بيتنا وهذه المرأة تلقي بكرامتنا في الأوحال وتشوه سمعتنا انتهيت من تساؤلاتي الحادة إلى لا شيء، فأبي يحب هذه المرأة حباً شديداً ولا يرفض لها طلباً ولو شاءت أن يركع أمام قدميها فكيف يقتنع بروايتي بسهولة قررت أخيراً أن استشير معلمتي فاطمة في هذا الأمر، فهي أكبر مني وستخبرني بالحل الصحيح.
    مضى اليوم وزوجة أبي في وجوم شديد تتحاشى النظر إلى وجهي وتحاول إشغال نفسها بأي شيء سوى الجلوس معي سألها أبي على مرأى مني:
    ــ ما بك يا عواطف تبدين متعبة هذا اليوم هل أعرضك على طبيب؟
    اغتصبت ابتسامة وهي تقول:
    ــ كلا لا شيء ثم نظرت إلى وقد تبدلت نظرتها على نحو مفزع مخيف وهي تتابع:
    ــ إن منى هي المريضة فقد أتت اليوم من المدرسة متعبة بعض الشيء
    لم يكلف أبي نفسه ويقترب مني ليسألني عن أحوالي، وكأن هذا العمل جريمة يخشى منها اكتفى بأن ألقى علىّ نظرة لا مبالية وهو يقول بفتور:
    ــ إنه إرهاق من المذاكرة فقط لا غير
    ومضى غير عابئ بشيء
    حكيت لمعلمتي كل شيء حدث في منزلنا نظرت إلى بتركيز شديد ثم صرخت بي قائلة:
    ــ لقد أخطأت يا منى لم يكن عليك أن تواجهيها بهذه الطريقة السافرة أنت مخطئة
    أجبتها ببراءة:
    ــ على العكس يا أبله فاطمة لقد أخضعتها بهذه الطريقة وبعدها لن تجرؤ على إذلالي وتحطيمي ومعامتي كالخادمة
    قالت المعلمة وعلى وجهها إمارات الاستياء الشديد:
    ــ كلا كلا يا منى أنت بتلك المواجهة أخفتيها حقاً لكن ليس لدرجة أن تتنازل لك عن كل شيء بسهولة فهي أقوى من هذا بكثير إني خائفة عليك يا حبيبتي لكن اطمئني لن تستطيع إيذائك والأفضل أن تخبري أباك بكل شيء
    قلت بلهفة:
    ــ ولكن أخشى ألا يصدقني
    قالت بحسم:
    ــ بل سيصدقك وحتى لو لم يصدقك فهو سيشك في الأمر ولا يوجد دخان بغير نار
    أجبتها باستسلام:
    ــ سأبلغه ولكن ليس الآن سأقلب الأمر من جميع وجوهه أولاً
    قالت بإشفاق:
    حسناً يا منى ولكن لا تتأخري كثيراً في إبلاغه
    كانت معلمتي على حق، وكنت قد تأخرت فعلاً في إبلاغ أبي رغم أن التأخير لم يدم سوى أربع وعشرين ساعة فقط لكن هذه المرأة الحرباء كانت تفكر بسرعة أكثر مني لتقضي عليّ وكانت الضربة في الصميم وتلقيت أكبر صدمة في حياتي وأقوى صفعة
    فقد عدت ذلك اليوم من المدرسة لأجد أبي أمامي منتفخ الأوداج متغير الوجه وقد انقلبت سحنته انقلاباً عظيماً نظرت إليه بخوف وقد سقط قلبي بين أقدامي فقد قدرت انه ربما يكون قد اكتشف خيانة زوجته له لكن الصفعة القوية على وجهي أيقظتني من كل أحلامي وفوجئت بأبي يهدر بغضب:
    ــ تكلمي أيتها السافلة من هذا الشاب الذي تستقبلينه في البيت في غيابنا؟



    فغرت فاهي دهشة وذهولاً أنا أنا لكنني لم أستطع النطق لم أستطع حتى الصراخ تابع أبي صراخه:
    ــأيتها المجرمة القذرة مثل أمك لو لم أربيها لسلكت سلوكك المشين إنك تستحقينالقتل لندفن العار
    وانهال يضربني بكل ما أوتي من قوة ومن بين دموعي رأيتهاتلك الأفعى زوجة أبي تحاول أن تنقذني من بين يديه وهي تقول:
    ــ طيش شباب يا عبدالله إنها ما زالت فتاة مراهقة والعيب ليس عليها بل عليك أنت
    هتف عالياً:
    ــ وماذا أفعل؟ أسجنها في البيت أفصلها من المدرسة كل بنات العائلاتالمحترمة يدرسن ولا يقترفن هذه الآثام إنها مجرمة مجرمة وتستحق القتل مثلأمها


    وانسابت دموعي بغزارة لتغرق وجهي وتبلل ثيابي وما ذنب المرحومة أمي في هذه المؤامرة الدنيئة التي مثلتنها هذه المرأة ما ذنب أمي المتوفاة لتنال كل هذا السيل من الشتائم والتجريح
    لم أستطع الدفاع عن نفسي وهذا الاتهام البشع يلتصق بي كثمرة محرمة لم أستطع أن أعبر عن جراحي ولو بصرخة ألم تذيب قلب هذا الأب المقدود من حجر
    وأخيراً تركني أبي بعد أن حال جسدي إلى خرقة بالية لا تستطيع التحرك إلا بصعوبة
    ساعدتني صفية على الانتقال إلى سريري وأبي يغلي كمرجل من غضب وهو يهتف بين الفينة والأخرى:
    ــ سأؤدبها سأربيها
    وتلك الفاجرة ترد عليه بكلام لم أستطع أن أتنبه لشدة تعبي ووهني
    حطمتني الفاجعة وضيعت ما بيني وبين أبي إلى الأبد لقد قطعت عليّ هذه الأفعى الطريق، فلن يكون بيني وبين أبي حديث بعد اليوم وأي حديث وقد تقطعت الأواصر ووهنت العلاقات حتى أحمد كرهه أبي لكرهي وأصبح ينأى أن يحدثه أو حتى يسأله عن أحواله
    لقد حولت تلك الأفعى كل شيء لمصلحتها وأرادت أن تحطمني قبل أن أحطمها وما زلت حتى اليوم أذكر ابتسامتها الساخرة وهي تطل عليّ وتسألني إن كنت أريد شيئاً وكنت أدير وجهي جهة الحائط وأبكي بحرارة
    لماذا تنهال هذه المآسي على رأسي بغزارة حتى نسيت طعم السعادة وقد خلت حياتي منها ومن منت أنتظر منه الأمان تخلى عني بقسوة ولم يسمع دفاعي عن نفسي أو حتى يسمح لي بكلمة حق أو اعتراف بالذنب حتى معلمتي الحبيبة فاطمة حينما فوجئت بانقطاعي عن المدرسة حاولت أن تحادثني أو تزورني لكن أبي رفض رفضاً قاطعاً أن أكلم أو أستقبل أحداً حتى يبت هو في أمري
    وبت في أمري للأسف الشديد فقد فوجئت بعد أسبوع من الواقعة وحين استرددت بعض قواي، بأبي يلقي علي ثوباً طالباً مني أن أرتديه وبعد لحظات دخل على الحجرة شيخ طاعن في السن فوجئت التصقت بالجدار من هول الصدمة هل هذا أنس أم جن هل هو شيخ حقيقي من لحم ودم أم هو ماذا؟ أيكون أبي قد جن حتى يسمح لرجل كان من كان باقتحام حجرتي هتفت بصوت مبحوح من كثرة البكاء والصراخ:
    ــ من أنت أخرج هيا بسرعة
    جاءني صوت أبي داخلاً إلى الحجرة وهو يبتسم لأول مرة منذ أسبوع:
    ــ هذا زوجك يا منى العم صالح هيا حضري نفسك لتذهبي معه بسرعة
    وخرج أبي ومعه هذا الشيخ الطاعن في السن، لأتهاوى تحت أحد الجدران باكية بعنف سامحك الله يا أبي ماذا فعلت لتدفنني وأنا عز الشباب ومع من مع الشيخ يكبر أبي بعشرين سنة على الأقل إن الموت أحب إلى من هذا
    لم ينفعني بكائي وهذه المرأة تدخل عليّ تسحبني من يدي لترتيب شعري وتزيين وجهي وهي تأمر صفية بتجميع كل ملابسي وأنا أبكي وأحمد يبكي وهو متعلق بي يصيح:
    ــ منى لا تتركيني منى أرجوك لا تتركيني
    صرخت به زوجة أبي:
    ــ اسكت أيها الولد الشقي أختك ستتزوج وستذهب مع زوجها هيا ويكفي هذا التدلل
    تركتها ترتب شعري جفت دموعي فجأة وداخلي يغلي كالبركان وقلت لأحمد بصوت هادئ وكأنه ليس صوتي:
    ــ اطمئن يا أحمد سأعود
    والتقت نظراتنا في المرآة نظراتي المهددة والمتوعدة بنظراتها المطمئنة وإن كانت تحمل بعض الخوف
    وما أن ضمنا البيت الكبير الموحش أنا وزوجي حتى صرخة به قائلة:
    ــ ابتعد ابتعد عني إذا اقتربت فسأصرخ عالياً حتى يجتمع الناس عليك
    قال بحنان افتقدته منذ زمن طويل:
    ــ اطمئني يا منى أنت في بيتك ولا تخافي مني سأتركك بمفردك حتى تهدئي
    جلست أحدق ذاهلة في كل ما حولي كان كل شيء يدل على الثراء الفاحش الأسطوري فلم يسبق لي أن رأيت مثل هذه الجدران اللامعة والثريات الكبيرة العملاقة وهذه التحف والرياش لم يسبق لي أن رأيت أي شيء من هذا في حياتي سوى في الأفلام التليفزيونية وأدركت أن أبي قد باعني لهذا الرجل باعني ليضرب عصفورين بحجر واحد يتخلص من عاري كما يعتقد ويكسب الأموال الطائلة.
    أخذت أفكر بسرعة وذكائي يرسم لي الطريق لن أستفيد شيئاً من عراكي مع هذا العجوز الذي اشتراني لن أستفيد شيئاً من جفائي وعنادي وبكائي بل على العكس من ذلك ربما أخسر من حيث أعتقد أنني أكسب فربما طلقني وأعادني إلى بيت والدي إلى تلك الأفعى البغيضة التي لا تتورع على فعل أي شيء لتبعدني عن طريقها هذه المرة كان الإبعاد بالفضيحة والزواج من هذا العجوز فما يدريني ما يتفق عنه ذهنها في المرة القادمة ربما قتلتني أو زجت بي في السجن أو أعظم من ذلك فهي لا تخاف الله ومن لا يخاف الله يجب أن نخاف منه هكذا علمتني أمي وعلى هذه الحكمة عشت حياتي وعندما تخليت عنها برهة حدث لي ما حدث
    لا أنكر أن الطلاق من هذا العجوز هو هدفي، لكن ليس الآن وفي بيتنا يحدث ما يحدث يجب أن أروض نفسي على الصبر والتحمل حتى أجد لي مخرجاً كما أنني قد عرفت هذا الرجل العجوز وأدركت للوهلة الأولى حنانه الواضح ربما كان هذا الحنان لهدف تهدئتي لكنني سأستغل كل شيء لصالحي، فإنني وبهذه الظروف لن أجد من يشفق عليّ غيره فبيده مصيري ومصير حياتي المقبلة سأحاول أن اكسبه لصفي بقدر ما أستطيع
    بدلت ثيابي وأخذت أتجول في الفيلا الكبيرة الرائعة كان الدور الثاني يتكون من خمس حجرات للنوم عدا حجرة نومي الكبيرة وفي الدور الأول سبع حجرات منها حجرة واحدة مغلقة لم أستطع فتحها وفي تجوالي بالبيت لفتت نظري خادمة سوداء تراقبني بعينيها اللامعتين وحين رأتني أنظر إليها افتر ثغرها عن ابتسامة أظهرت أسنانها البيضاء كانت ترتدي ملابس رثة لا تتناسب وفخامة هذا البيت
    سألتها عما إذا كانت تعرف العربية فأومأت بالإيجاب كدت اسألها عن الرجل العجوز أين هو لكن اكتشفت يا للسخرية أنني لا أعرف حتى اسمه الأول قلت لها بهدوء:
    ــ أين السيد هل خرج؟
    قالت ببساطة:
    ــ لا أدري
    كدت ألقي عليها أسئلة أخرى عن هذا الرجل وهل له زوجة وأولاد، لكنني أيقنت بأنها لن ترد على أي من أسئلتي
    جلست في الصالة الكبرى التي تعلوها ثريا ضخمة تتلألأ فيها عشرات الأضواء، حتى حضر زوجي الشيخ الذي تطلق عليه الخادمة اسم "عمي صالح"
    لأول مرة منذ غادرت معه منزل أبي أراه بوضوح قصير القامة محني الظهر تملأ وجهه لحية كبيرة بيضاء يناهز السبعين من العمر تبدو عليه سيماء رجل الأعمال


    بادرني قائلاً وضحكة كبيرة تملأ وجهه:
    ــ هل أعجبك بيتك الجديد يا منى؟
    حاولت جاهدة أن أتماسك وأنا أجيب:
    ــنعم
    ضحك مرة أخرى لتبدو لي أسنانه الصناعية واضحة جلية وهو يقول:
    ــاستعدي سنسافر غداً إلى أثينا منها رحلة عمل ومنها شهر عسل
    أجبت وأنا أرتجفبالرغم مني:
    ــ وأهلي ألن أراهم؟
    وقد طاف بخيالي شقيقي أحمد وهو يتلقىالعذاب أضعافاً مضاعفة من هذه الحرباء الأفعى دمعت عيناي وصوته يأتيني من بعيد:
    ــ وماذا تريدين من أهلك؟ أنت يا منى قد تزوجت وأنتهى الأمر أنسي أهلكحالياً
    ونسيت أهلي وغادرت مع زوجي إلى أثينا
    وفي فندقالشيراتون حدثت أول نكته أو ملهاة تضحك وتبكي في رحلتي مع الرجل العجوز إذ قالموظف الفندق العربي اللبناني الأصل لزوجي ببساطة:
    ــ فلتسترح ابنتك على المقعدلحين انتهاء الإجراءات
    ابتسمت أنا وتغير وجه زوجي تغيراً ملحوظاً لدرجة أنهتجاهل الموظف ونصيحته وأمر بأن ترفع الحقائب على الفور
    وعشت المأساة من جديد،حيث ما أن ضمنا الجناح الفاخر حتى انجر زوجي في وجهي صارخاً ومعاتباً:
    ــ كيفتبتسمين للرجل بهذه الطريقة هذا يدل على الفجور وعلى قلة الأدب لقد دهشت حينعرض علي والدك أن يزوجني إياك والآن عرفت السر لقد تخلص منك بهذا الزواج تخلص منحماقتك وانعدام حيائك انك لا تستحقين الحياة الكريمة أنت تستحقين الحياة فيقفص وهلم جراً من هذه الكلمات التي نزلت على رأسي كالصواعق الحارقة فبكيت وأناأتصور عذابي القادم مع هذا العجوز الغيور فرغم أنني قد تحملت كل شيء ورضيت بمستقبليالمظلم معه وتحملت نظرات الدونية ولمساته المقززة وأنفاسه ورائحة الموت تنبعث منبين أعطافه وبرودته القاتلة كل شيء تحملته بروح عالية وأخيراً يتعالى هو على كلذلك ويصفني بأبشع الأوصاف من أجل شيء تافه ابتسامة لا إرادية صدرت مني على نكتةأعيشها بعمري وشبابي
    حاولت الصمت أكثر من المعتاد والاتزان أكبر بكثير منعمري وإلغاء المسافات واجتياز الحواجز مهما يكن من أمر فلست أرغب في العودة إلىأبي وزوجته الأفعى وزوجي بمساوئه أفضل كثيراً من ذلك البيت المتداعي الذي أفسدتهزوجة أبي بأغلالها وسيطرتها على البيت ومن فيه
    مرت أيام السفر بسرعة غريبةوأنا لا أغادر الفندق إلا لماماً ولمرتين على وجه التحديد إحداها إلى السوقلشراء بعض الحاجيات وأنا أنكس رأسي إلى الأسفل ولا أرى من الناس أو الطبيعة سوىمواضع أقدامي وفي المرة الثانية حينما ذهبت برفقته إلى المطعم التركي أغلبية منيعملون به من الرجال المتقدمين في السن ولا أدري كيف تم اختيارهم على هذه الدرجة منكبر السن والدمامة التي لا تخطئها العين
    وعدنا إلى أرض الوطن وفي داخلي قلقعظيم لم تستطع وداعتي اجتيازه فكيف لي أن اطمئن على حياتي القادمة مع هذا الرجل كيف أحاوره كيف أعايشه كيف أوجدخيطا ما يقودني إلى عقليته نعم هي فترةمؤقتة لكنها ضرورية ومهمة فخلالها يجب أن أقنعه بمتابعة دراستي وبتأمين مستقبليولو بمبلغ يسير لكن كيف وهو بهذه العقلية وبيني وبينه أميال يستحيل تجاوزها هولا يراني سوى دمية جميلة ضمن أملاكه ولا شيء أكثر فهل يحق للدمية متابعة تعليمهاوإهدائها مبلغاً ما يضمن مستقبلها
    شغلتني أسئلتي حتى طفر الدمع من عيني سألني بحنان كدت أنساه:
    ــ منى ما الذي يبكيك؟
    وعند هذه العبارة فقطانهارت أحزاني دموعاً وبكيت بحرقة شديدة اهتززت معها من أعماقي ربت كتفي بحنانوهو ينادي بأسمي أحسست به أدركت بأن بكاء المرأة إحدى نقاط الضعف لديه وانهيسلم أمامه بكل شيء، قررت أن الوقت قد حان لألقي أول أسلحتي هتفت بين دموعي:
    ــ إني اشعر بضياع مستقبلي ولم أزد على ذلك بحرف أحسست به يتقوقع على نفسهكقنفذ وهو يشعر بالإهانة وربما استصغار الشأن
    أجاب بخشونة:
    ــ وأنت معيلن يضيع مستقبلك غدا أكتب باسمك إحدى عماراتي
    زغردت روحي فرحاً ورقصتمشاعري طرباً لكنني لم أستسلم، فليس هذا هو هدفي الأوحد فازدادت حدة بكائي وأناأقول بحرارة:
    ــ أنا لا أنسى فضلك أبداً وأشكرك كثيراً لكن المستقبل ليس فقطبالأموال إن دراستي أيضاً مستقبل
    نكس رأسه بأسى وكأنه يفكر ثم قال أخيراً:
    ــ حسنا سأفكر بالأمر
    من كلماته شممت رائحة الموافقة وإن كانت تحتاجلتأكيد لا رجعة فيه


    همست برقة:
    ــ لا لا الأمر لا يحتاج لتفكير أرجوك
    واحترت في تسميته فأنا لم يسبق لي مناداته من قبل لا أدري هل أقول له العم صالح أن أناديه بصالح فقط أم ماذا أخيرا حسمت الأمر وقررت بألا أناديه إطلاقاً فأكملت جملتي ودموعي لا تزال عالقة بأهدابي:
    ــ أرجوك أنا أحب مدرستي ومعلماتي، ثم إن وقت فراغي كبير وسأقضيه بالدراسة والتحصيل
    صمت وتعلقت عيناي بشفتيه أنتظر كلمة تتغير فيها مسيرة حياتي
    قال بعد أن ابتسم ابتسامة واسعة:
    ــ حسنا يا منى كلمة رجل منذ الغد اذهبي إلى مدرستك والعمارة سأكتبها باسمك خلال أيام
    كدت أقفز وأتعلق بعنقه من شدة الفرحة، ولكنني تماسكت وابتسمت باتزان وأنا أشكره
    ومن غدي انطلقت إلى مدرستي وأنا أشعر بعدالة السماء تحرس خطواتي
    استقبلتني صديقاتي بفرحة صاخبة صرخت إيمان:
    ــ منى أين أنت؟ ثلاثة أسابيع تختفين أين كنت وماذا فعلت؟
    قالت نورة:
    ــ سمعنا بأنك قد تزوجت وهاجرت
    ثم همست لي سارة:
    ــ يقولون بأن والدك قد ضبطك مع أحد الشباب في البيت وسجن الشاب.
    قالت أخرى:
    ــ سمعت أن
    وقاطعهن صوت حاد عرفت فيه صوت معلمتي الحبيبة فاطمة ألقيت نفسي بين أحضانها باكية انتزعتني برفق وهي تقول:
    ــ اذهبي الآن إلى المديرة، فهي تريدك بسرعة وبعد ذلك عودي إلي
    تشبثت بيدها وكأني لا أود مفارقتها، ولكنها سحبت يدها ودفعتني بلطف نحو حجرة المديرة
    استقبلتني المديرة بتحفظ وهي تسألني:
    ــ لقد مضى على غيابك يا منى ثلاثة أسابيع كاملة كيف نبرر غيابك أثنائها ألا تدرين أن الغياب بدون عذر يستوجب الفصل النهائي
    أطبقت بأسناني على شفتي السفلي دون أن أجيب؟
    قالت بهدوء:
    ــ لقد كثرت الإشاعات وتنوعت وحاولنا مراراً الاتصال ببيتكم لمعرفة ما حدث لك لكن جوبهنا باستقبال مهين وعندما حاولت المعلمة زيارتك في المنزل طردتها زوجة أبيك وهاجمتها بكلام سيئ لا يقال ولا يحكى
    امتلأت عيناي بالدموع قهراً وألماً سألتني المديرة وقد علت نبرة صوتها قليلاً:
    ــ هل حقاً تزوجت يا منى؟
    هززت رأسي بالموافقة دون جواب وتساقطت دموعي على وجنتي
    نهضت المديرة من مقعدها وجلست بجواري وهي تهمس قائلة:
    ــ كلنا نحبك يا منى لأنك طالبة متفوقة ومجتهدة دائما لذلك سنحاول مساعدتك قد استطاعتنا هل تستطيعين إيجاد تقرير طبي يوضح بأنك مريضة لمدة أسبوعين أو حتى أسبوع واحد ونحن نتصرف بالباقي
    أجبتها وأنا أمسح دموعي:
    ــ شكراً يا أبله منيرة أشكرك كثيراً على مساعدتي وسأحاول إيجاد ما طلبته
    هنا نهضت المديرة قائلة:
    ــ حسناً اذهبي الآن إلى فصلك
    وفي نهاية الفسحة اصطحبتني معلمتي فاطمة إلى حجرتها، وهي تحكي لي معاناتها مع أهلي عندما حاولت السؤال عني وكيف هاجمتها زوجة أبي بسفالة وانحطاط سألتني عما جد من أخباري حكيت لها بدموع ساخنة قصة زواجي من الرجل العجوز وحياتي معه الجافة بلا طعم ولا روح وكيف كان أحن علىّ من أبي حين وافق على إكمال تعليمي
    قالت معلمتي بعد تفكير عميق:
    ــ لقد تزوجت الآن يا منى وانتهى الأمر واحمدي الله على هذه النهاية رغم شذوذها، فقد كان من الممكن أن تلقي من هذه المرأة ما هو أشد وأنكى وطني نفسك على الاحتمال وتقبلي هذه الحقيقة أما زوجة أبيك فسيعاقبها الله أشد عقاب ولن تهنأ بالتخلص منك فالله يمهل ولا يهمل

    وانسابتدموعي بغزارة لتغرق وجهي وتبلل ثيابي وما ذنب المرحومة أمي في هذه المؤامرةالدنيئة التي مثلتنها هذه المرأة ما ذنب أمي المتوفاة لتنال كل هذا السيل منالشتائم والتجريح
    لم أستطع الدفاع عن نفسي وهذا الاتهام البشع يلتصق بي كثمرةمحرمة لم أستطع أن أعبر عن جراحي ولو بصرخة ألم تذيب قلب هذا الأب المقدود منحجر
    وأخيراً تركني أبي بعد أن حال جسدي إلى خرقة بالية لا تستطيع التحرك إلابصعوبة
    ساعدتني صفية على الانتقال إلى سريري وأبي يغلي كمرجل من غضب وهو يهتفبين الفينة والأخرى:
    ــ سأؤدبها سأربيها
    وتلك الفاجرة ترد عليه بكلاملم أستطع أن أتنبه لشدة تعبي ووهني
    حطمتني الفاجعة وضيعت ما بيني وبين أبيإلى الأبد لقد قطعت عليّ هذه الأفعى الطريق، فلن يكون بيني وبين أبي حديث بعداليوم وأي حديث وقد تقطعت الأواصر ووهنت العلاقات حتى أحمد كرهه أبي لكرهيوأصبح ينأى أن يحدثه أو حتى يسأله عن أحواله
    لقد حولت تلك الأفعى كل شيءلمصلحتها وأرادت أن تحطمني قبل أن أحطمها وما زلت حتى اليوم أذكر ابتسامتها الساخرةوهي تطل عليّ وتسألني إن كنت أريد شيئاً وكنت أدير وجهي جهة الحائط وأبكي بحرارة
    لماذا تنهال هذه المآسي على رأسي بغزارة حتى نسيت طعم السعادة وقد خلت حياتيمنها ومن منت أنتظر منه الأمان تخلى عني بقسوة ولم يسمع دفاعي عن نفسي أو حتىيسمح لي بكلمة حق أو اعتراف بالذنب حتى معلمتي الحبيبة فاطمة حينما فوجئتبانقطاعي عن المدرسة حاولت أن تحادثني أو تزورني لكن أبي رفض رفضاً قاطعاً أنأكلم أو أستقبل أحداً حتى يبت هو في أمري
    وبت في أمري للأسف الشديد فقدفوجئت بعد أسبوع من الواقعة وحين استرددت بعض قواي، بأبي يلقي علي ثوباً طالباً منيأن أرتديه وبعد لحظات دخل على الحجرة شيخ طاعن في السن فوجئت التصقت بالجدارمن هول الصدمة هل هذا أنس أم جن هل هو شيخ حقيقي من لحم ودم أم هو ماذا؟أيكون أبي قد جن حتى يسمح لرجل كان من كان باقتحام حجرتي هتفت بصوت مبحوح من كثرةالبكاء والصراخ:
    ــ من أنت أخرج هيا بسرعة
    جاءني صوت أبي داخلاً إلىالحجرة وهو يبتسم لأول مرة منذ أسبوع:
    ــ هذا زوجك يا منى العم صالح هياحضري نفسك لتذهبي معه بسرعة
    وخرج أبي ومعه هذا الشيخ الطاعن في السن،لأتهاوى تحت أحد الجدران باكية بعنف سامحك الله يا أبي ماذا فعلت لتدفنني وأناعز الشباب ومع من مع الشيخ يكبر أبي بعشرين سنة على الأقل إن الموت أحب إلى منهذا
    لم ينفعني بكائي وهذه المرأة تدخل عليّ تسحبني من يدي لترتيب شعري وتزيينوجهي وهي تأمر صفية بتجميع كل ملابسي وأنا أبكي وأحمد يبكي وهو متعلق بي يصيح:
    ــ منى لا تتركيني منى أرجوك لا تتركيني
    صرخت به زوجة أبي:
    ــاسكت أيها الولد الشقي أختك ستتزوج وستذهب مع زوجها هيا ويكفي هذا التدلل
    تركتها ترتب شعري جفت دموعي فجأة وداخلي يغلي كالبركان وقلت لأحمد بصوت هادئوكأنه ليس صوتي:
    ــ اطمئن يا أحمد سأعود
    والتقت نظراتنا في المرآة نظراتي المهددة والمتوعدة بنظراتها المطمئنة وإن كانت تحمل بعض الخوف
    وما أنضمنا البيت الكبير الموحش أنا وزوجي حتى صرخة به قائلة:
    ــ ابتعد ابتعد عني إذا اقتربت فسأصرخ عالياً حتى يجتمع الناس عليك
    قال بحنان افتقدته منذ زمنطويل:
    ــ اطمئني يا منى أنت في بيتك ولا تخافي مني سأتركك بمفردك حتىتهدئي
    جلست أحدق ذاهلة في كل ما حولي كان كل شيء يدل على الثراء الفاحشالأسطوري فلم يسبق لي أن رأيت مثل هذه الجدران اللامعة والثريات الكبيرة العملاقةوهذه التحف والرياش لم يسبق لي أن رأيت أي شيء من هذا في حياتي سوى في الأفلامالتليفزيونية وأدركت أن أبي قد باعني لهذا الرجل باعني ليضرب عصفورين بحجرواحد يتخلص من عاري كما يعتقد ويكسب الأموال الطائلة.
    أخذت أفكر بسرعة وذكائييرسم لي الطريق لن أستفيد شيئاً من عراكي مع هذا العجوز الذي اشتراني لن أستفيدشيئاً من جفائي وعنادي وبكائي بل على العكس من ذلك ربما أخسر من حيث أعتقد أننيأكسب فربما طلقني وأعادني إلى بيت والدي إلى تلك الأفعى البغيضة التي لا تتورععلى فعل أي شيء لتبعدني عن طريقها هذه المرة كان الإبعاد بالفضيحة والزواج من هذاالعجوز فما يدريني ما يتفق عنه ذهنها في المرة القادمة ربما قتلتني أو زجت بي فيالسجن أو أعظم من ذلك فهي لا تخاف الله ومن لا يخاف الله يجب أن نخاف منه هكذاعلمتني أمي وعلى هذه الحكمة عشت حياتي وعندما تخليت عنها برهة حدث لي ما حدث
    لا أنكر أن الطلاق من هذا العجوز هو هدفي، لكن ليس الآن وفي بيتنا يحدث مايحدث يجب أن أروض نفسي على الصبر والتحمل حتى أجد لي مخرجاً كما أنني قد عرفتهذا الرجل العجوز وأدركت للوهلة الأولى حنانه الواضح ربما كان هذا الحنان لهدفتهدئتي لكنني سأستغل كل شيء لصالحي، فإنني وبهذه الظروف لن أجد من يشفق عليّ غيرهفبيده مصيري ومصير حياتي المقبلة سأحاول أن اكسبه لصفي بقدر ما أستطيع
    بدلتثيابي وأخذت أتجول في الفيلا الكبيرة الرائعة كان الدور الثاني يتكون من خمسحجرات للنوم عدا حجرة نومي الكبيرة وفي الدور الأول سبع حجرات منها حجرة واحدةمغلقة لم أستطع فتحها وفي تجوالي بالبيت لفتت نظري خادمة سوداء تراقبني بعينيهااللامعتين وحين رأتني أنظر إليها افتر ثغرها عن ابتسامة أظهرت أسنانها البيضاء كانت ترتدي ملابس رثة لا تتناسب وفخامة هذا البيت
    سألتها عما إذا كانت تعرفالعربية فأومأت بالإيجاب كدت اسألها عن الرجل العجوز أين هو لكن اكتشفت ياللسخرية أنني لا أعرف حتى اسمه الأول قلت لها بهدوء:
    ــ أين السيد هل خرج؟
    قالت ببساطة:
    ــ لا أدري
    كدت ألقي عليها أسئلة أخرى عن هذا الرجل وهلله زوجة وأولاد، لكنني أيقنت بأنها لن ترد على أي من أسئلتي
    جلست في الصالةالكبرى التي تعلوها ثريا ضخمة تتلألأ فيها عشرات الأضواء، حتى حضر زوجي الشيخ الذيتطلق عليه الخادمة اسم "عمي صالح"
    لأول مرة منذ غادرت معه منزل أبي أراهبوضوح قصير القامة محني الظهر تملأ وجهه لحية كبيرة بيضاء يناهز السبعين منالعمر تبدو عليه سيماء رجل الأعمال بادرني قائلاً وضحكة كبيرة تملأ وجهه:
    ــ هل أعجبك بيتك الجديد يا منى؟
    حاولت جاهدة أن أتماسك وأنا أجيب:
    ــنعم
    ضحك مرة أخرى لتبدو لي أسنانه الصناعية واضحة جلية وهو يقول:
    ــاستعدي سنسافر غداً إلى أثينا منها رحلة عمل ومنها شهر عسل
    أجبت وأنا أرتجفبالرغم مني:
    ــ وأهلي ألن أراهم؟
    وقد طاف بخيالي شقيقي أحمد وهو يتلقىالعذاب أضعافاً مضاعفة من هذه الحرباء الأفعى دمعت عيناي وصوته يأتيني من بعيد:
    ــ وماذا تريدين من أهلك؟ أنت يا منى قد تزوجت وأنتهى الأمر أنسي أهلكحالياً
    ونسيت أهلي وغادرت مع زوجي إلى أثينا



    وفي فندقالشيراتون حدثت أول نكته أو ملهاة تضحك وتبكي في رحلتي مع الرجل العجوز إذ قالموظف الفندق العربي اللبناني الأصل لزوجي ببساطة:
    ــ فلتسترح ابنتك على المقعدلحين انتهاء الإجراءات
    ابتسمت أنا وتغير وجه زوجي تغيراً ملحوظاً لدرجة أنهتجاهل الموظف ونصيحته وأمر بأن ترفع الحقائب على الفور
    وعشت المأساة من جديد،حيث ما أن ضمنا الجناح الفاخر حتى انجر زوجي في وجهي صارخاً ومعاتباً:
    ــ كيفتبتسمين للرجل بهذه الطريقة هذا يدل على الفجور وعلى قلة الأدب لقد دهشت حينعرض علي والدك أن يزوجني إياك والآن عرفت السر لقد تخلص منك بهذا الزواج تخلص منحماقتك وانعدام حيائك انك لا تستحقين الحياة الكريمة أنت تستحقين الحياة فيقفص وهلم جراً من هذه الكلمات التي نزلت على رأسي كالصواعق الحارقة فبكيت وأناأتصور عذابي القادم مع هذا العجوز الغيور فرغم أنني قد تحملت كل شيء ورضيت بمستقبليالمظلم معه وتحملت نظرات الدونية ولمساته المقززة وأنفاسه ورائحة الموت تنبعث منبين أعطافه وبرودته القاتلة كل شيء تحملته بروح عالية وأخيراً يتعالى هو على كلذلك ويصفني بأبشع الأوصاف من أجل شيء تافه ابتسامة لا إرادية صدرت مني على نكتةأعيشها بعمري وشبابي
    حاولت الصمت أكثر من المعتاد والاتزان أكبر بكثير منعمري وإلغاء المسافات واجتياز الحواجز مهما يكن من أمر فلست أرغب في العودة إلىأبي وزوجته الأفعى وزوجي بمساوئه أفضل كثيراً من ذلك البيت المتداعي الذي أفسدتهزوجة أبي بأغلالها وسيطرتها على البيت ومن فيه
    مرت أيام السفر بسرعة غريبةوأنا لا أغادر الفندق إلا لماماً ولمرتين على وجه التحديد إحداها إلى السوقلشراء بعض الحاجيات وأنا أنكس رأسي إلى الأسفل ولا أرى من الناس أو الطبيعة سوىمواضع أقدامي وفي المرة الثانية حينما ذهبت برفقته إلى المطعم التركي أغلبية منيعملون به من الرجال المتقدمين في السن ولا أدري كيف تم اختيارهم على هذه الدرجة منكبر السن والدمامة التي لا تخطئها العين
    وعدنا إلى أرض الوطن وفي داخلي قلقعظيم لم تستطع وداعتي اجتيازه فكيف لي أن اطمئن على حياتي القادمة مع هذا الرجل كيف أحاوره كيف أعايشه كيف أوجدخيطا ما يقودني إلى عقليته نعم هي فترةمؤقتة لكنها ضرورية ومهمة فخلالها يجب أن أقنعه بمتابعة دراستي وبتأمين مستقبليولو بمبلغ يسير لكن كيف وهو بهذه العقلية وبيني وبينه أميال يستحيل تجاوزها هولا يراني سوى دمية جميلة ضمن أملاكه ولا شيء أكثر فهل يحق للدمية متابعة تعليمهاوإهدائها مبلغاً ما يضمن مستقبلها
    شغلتني أسئلتي حتى طفر الدمع من عيني سألني بحنان كدت أنساه:
    ــ منى ما الذي يبكيك؟
    وعند هذه العبارة فقطانهارت أحزاني دموعاً وبكيت بحرقة شديدة اهتززت معها من أعماقي ربت كتفي بحنانوهو ينادي بأسمي أحسست به أدركت بأن بكاء المرأة إحدى نقاط الضعف لديه وانهيسلم أمامه بكل شيء، قررت أن الوقت قد حان لألقي أول أسلحتي هتفت بين دموعي:
    ــ إني اشعر بضياع مستقبلي ولم أزد على ذلك بحرف أحسست به يتقوقع على نفسهكقنفذ وهو يشعر بالإهانة وربما استصغار الشأن
    أجاب بخشونة:
    ــ وأنت معيلن يضيع مستقبلك غدا أكتب باسمك إحدى عماراتي
    زغردت روحي فرحاً ورقصتمشاعري طرباً لكنني لم أستسلم، فليس هذا هو هدفي الأوحد فازدادت حدة بكائي وأناأقول بحرارة:
    ــ أنا لا أنسى فضلك أبداً وأشكرك كثيراً لكن المستقبل ليس فقطبالأموال إن دراستي أيضاً مستقبل
    نكس رأسه بأسى وكأنه يفكر ثم قال أخيراً:
    ــ حسنا سأفكر بالأمر
    من كلماته شممت رائحة الموافقة وإن كانت تحتاجلتأكيد لا رجعة فيه
    همست برقة:
    ــ لا لا الأمر لا يحتاج لتفكير أرجوك
    واحترت في تسميته فأنا لم يسبق لي مناداته من قبل لا أدري هل أقول لهالعم صالح أن أناديه بصالح فقط أم ماذا أخيرا حسمت الأمر وقررت بألا أناديهإطلاقاً فأكملت جملتي ودموعي لا تزال عالقة بأهدابي:
    ــ أرجوك أنا أحب مدرستيومعلماتي، ثم إن وقت فراغي كبير وسأقضيه بالدراسة والتحصيل
    صمت وتعلقت عينايبشفتيه أنتظر كلمة تتغير فيها مسيرة حياتي
    قال بعد أن ابتسم ابتسامة واسعة:
    ــ حسنا يا منى كلمة رجل منذ الغد اذهبي إلى مدرستك والعمارة سأكتبها باسمكخلال أيام
    كدت أقفز وأتعلق بعنقه من شدة الفرحة، ولكنني تماسكت وابتسمتباتزان وأنا أشكره
    ومن غدي انطلقت إلى مدرستي وأنا أشعر بعدالة السماء تحرسخطواتي
    استقبلتني صديقاتي بفرحة صاخبة صرخت إيمان:
    ــ منى أين أنت؟ثلاثة أسابيع تختفين أين كنت وماذا فعلت؟
    قالت نورة:
    ــ سمعنا بأنك قدتزوجت وهاجرت
    ثم همست لي سارة:
    ــ يقولون بأن والدك قد ضبطك مع أحدالشباب في البيت وسجن الشاب.
    قالت أخرى:
    ــ سمعت أن
    وقاطعهن صوت حادعرفت فيه صوت معلمتي الحبيبة فاطمة ألقيت نفسي بين أحضانها باكية انتزعتني برفقوهي تقول:
    ــ اذهبي الآن إلى المديرة، فهي تريدك بسرعة وبعد ذلك عودي إلي
    تشبثت بيدها وكأني لا أود مفارقتها، ولكنها سحبت يدها ودفعتني بلطف نحو حجرةالمديرة
    استقبلتني المديرة بتحفظ وهي تسألني:
    ــ لقد مضى على غيابك يامنى ثلاثة أسابيع كاملة كيف نبرر غيابك أثنائها ألا تدرين أن الغياب بدون عذريستوجب الفصل النهائي
    أطبقت بأسناني على شفتي السفلي دون أن أجيب؟
    قالتبهدوء:
    ــ لقد كثرت الإشاعات وتنوعت وحاولنا مراراً الاتصال ببيتكم لمعرفة ماحدث لك لكن جوبهنا باستقبال مهين وعندما حاولت المعلمة زيارتك في المنزل طردتهازوجة أبيك وهاجمتها بكلام سيئ لا يقال ولا يحكى
    امتلأت عيناي بالدموع قهراًوألماً سألتني المديرة وقد علت نبرة صوتها قليلاً:
    ــ هل حقاً تزوجت يا منى؟
    هززت رأسي بالموافقة دون جواب وتساقطت دموعي على وجنتي
    نهضت المديرة منمقعدها وجلست بجواري وهي تهمس قائلة:
    ــ كلنا نحبك يا منى لأنك طالبة متفوقةومجتهدة دائما لذلك سنحاول مساعدتك قد استطاعتنا هل تستطيعين إيجاد تقرير طبييوضح بأنك مريضة لمدة أسبوعين أو حتى أسبوع واحد ونحن نتصرف بالباقي
    أجبتهاوأنا أمسح دموعي:
    ــ شكراً يا أبله منيرة أشكرك كثيراً على مساعدتي وسأحاولإيجاد ما طلبته
    هنا نهضت المديرة قائلة:
    ــ حسناً اذهبي الآن إلىفصلك
    وفي نهاية الفسحة اصطحبتني معلمتي فاطمة إلى حجرتها، وهي تحكي ليمعاناتها مع أهلي عندما حاولت السؤال عني وكيف هاجمتها زوجة أبي بسفالة وانحطاط سألتني عما جد من أخباري حكيت لها بدموع ساخنة قصة زواجي من الرجل العجوز وحياتيمعه الجافة بلا طعم ولا روح وكيف كان أحن علىّ من أبي حين وافق على إكمال تعليمي
    قالت معلمتي بعد تفكير عميق:
    ــ لقد تزوجت الآن يا منى وانتهى الأمر واحمدي الله على هذه النهاية رغم شذوذها، فقد كان من الممكن أن تلقي من هذه المرأةما هو أشد وأنكى وطني نفسك على الاحتمال وتقبلي هذه الحقيقة أما زوجة أبيكفسيعاقبها الله أشد عقاب ولن تهنأ بالتخلص منك فالله يمهل ولا يهمل

    تنهدت بعمق وأنا أجتر آهاتي الممزقة من أعماقصدري غادرت مدرستي ذات يوم وفي داخلي حنين لأخي أحمد ولبيتنا الصغير وخادمتناالوافية المخلصة، فقد مر أكثر من شهر على زواجي ولم أطلب من زوجي زيارة أهلي ولميتكلم بدوره في هذا الأمر
    في إحدى الليالي، وبينما كنت مستغرقة في مراجعةدروسي وقد اطمأن قلبي بعد أن انتظمت بالدراسة وتجاهلت المديرة غيابي الطويلبالاتفاق معي ومع معلمتي فاطمة سمعت أنين صادر من مكان قريب من مكاني تلفتتحولي ذاهلة، فقد نام زوجي منذ زمن طويل وأوت الخادمة إلى فراشها قريباً من منتصفالليل فما هذا الصوت الغريب ومن أين يأتي؟
    وبعد برهة تلاشى الصوت وكأنه لميكن هززت كتفي بلا مبالاة، فربما كان صادراً من بيت قريب من بيتنا أو ربما يكونمن مذياع سيارة مرت قرب بيتي أو ربما أكون واهمة
    تناسيت الأمر واستغرقتنيشئون الحياة من حياة مدرسية حافلة، وحياة زوجية باردة مملة لا يتغير فيها شيء رغمأملاكي التي زادت مع مرور الأيام
    ومع الأيام عرفت أن لزوجي الشيخ زوجة أخرىطاعنة في السن هي أم أولاده وتسكن في قصر كبير في أرقى منطقة في المدينة وتعيش هيوأولادها عيشة باذخة أقرب إلى معيشة الأميرات
    وبعد عدة أيام تناهي إلى سمعيالصوت الحاد مرة أخرى ليخفت بعد ثوان وتكرر الأمر مراراً وفي إحدى المرات كانالبيت غارقاً في السكون لدرجة هائلة فقد كان الوقت شتاء والمكيفات مغلقة حينذاكفاخترق الصوت أذني ليزلزل أعماقي
    اتجهت نظراتي تلقائيا نحو الحجرة المغلقة اقتربت منها بهدوء إنها المكان الوحيد الذي لم تطأه أقدامي أبداً في هذا البيت أيضاً لم أراه يفتح ولا مرة واحدة أثناء وجودي
    اقتربت غير خائفة ولا وجلة وضعت أذني على الباب وأرهفت السمع ولدهشتي الشديدة سمعت همهمة خافتة لا تخطئهاأذن ابتلعت ذهولي وأنا أتساءل ما الذي يحدث هنا أي إنسان أو حيوان قذف به مصيرهإلى هذا المكان؟ ولماذا؟
    اجتاحني الخوف الشديد وأسئلة هائلة تغمرني كمطر لانهاية له ماذا يحدث وهل يعقل أن يسجن كائن ما في هذا المكان بدون علم أحد وفيالقرن العشرين وهل لهذا الشيخ الطاعن في السن دور في ذلك؟ انه إنسان وديع رغمأنانيته مرح رغم صرامته حنون رغم صمته فكيف كيف يحدث هذا وفي بيته!!
    قررت أن أتقصى الأمر بطريقتي وألا أحكي لأي كان ما حدث ويحدث حاولت مراقبةزوجي بدقة ليله ونهاره عند دخوله وخروجه متعللة برغبتي في إسعاده لكنني ولدهشتيلم أراه يقترب من تلك الحجرة إطلاقا ولا حتى يعبأ بها على الإطلاق، وكأنها غيرموجودة لم أحاول سؤاله كيلا أثير شكوكه والصرخات تزداد وأسئلتي تتعمق حيرةوذهولا
    حتى فاجأني زوجي ذات يوم بسؤال غريب:
    ــ ألم تشتاقي لأهلك لمأسمع يوماً منك سؤالاً عن أحوالهم أو عن رغبتك في زيارتهم ألا تحنين إليهم؟
    التمعت عيناي بالدموع وما يدريك أيها الشيخ ماذا يعتمل في أعماقي ما يدريكعن الحنين الذي يتفجر أحزاناً داخلي ما يدريك عن حرقة تكوي الضلوع وألم يتعمقبالوجدان أأحكي لك عن شوقي لأحمد ولهفتي لضمه إلى صدري وإطفاء حنيني إليه ودموعيالتي أسكبها كل ليلة حزناً وألماً لأجله أم أحكي لك صدمتي بأبي وخيبة أملي فيهرغم حبي له إن من يبيع بقرة قد يسأل عنها بعد فترة ليرى أتعيش هي أم قد ماتت أما أبي فقد باعني وأنا ابنته دون أن يكلف نفسه ولو سؤال من باب الإعزاز لي أمامزوجي
    قلت بصوت متداعي:
    ــ أبي إن إن زوجته
    قاطعني بتفهم:
    ــ أنت لا تحبين زوجة أبيك لقد عرفت هذا منذ البداية
    استجمعت إرادتيوهتفت بقوة:
    ــ إن زوجة أبي ظالمة ولا تحبني لذلك فأنا لا أحب زيارتها ولارؤيتها وأبي جازاه الله خيراً فقد نساني من أجلها
    وانسابت دموعي على الرغممني لتغرق وجهي ومن بين دموعي يأتيني صوته بحنان:
    ــ انسي أهلك يا منى فلميعد لك سواي وستعيشين معي وستغدين أم أولادي إن شاء الله ثم استدرك قائلاً:
    ــ وبمناسبة الأولاد أنا أفكر بأن أعرضك على طبيبة نسائية فقد مضى ستة أشهرعلى زواجنا دون حمل
    أحنيت رأسي على صدري مؤمنة على كلامه فلم يعد لي سواه فيالدنيا بعد أن بقيت بلا أب ولا أخ ولا سند ولا حتى ذكر أسرة
    تناسيت موضوعالحجرة المغلقة قليلاً وأنا أتأهب لزيارة الطبيبة لم يكن يهمني الإنجاب ولم يكنضمن مشاريعي يوماً ما فلم أفكر أن اربط نفسي بهذا الرجل العجوز إلى الأبد كانمجرد حاجز عبور أو محطة مؤقتة أو شيء من هذا القليل أما أن أعيش إلى جواره طوالالعمر فهذا ما لم أفكر فيه على الإطلاق
    لكنني طاوعته للذهاب إلى المستشفى،فلم يكن في الأمر ما يضر من وجهة نظري فسواء استغرق الأمر علاجاً قد تطول مدته أواتضح إنني عاقر فكل هذا يتعلق على مدى سماحته ولطفه وحبه لي
    كنت جامدة الوجهوأنا أقف أمام الطبيبة بعد انتهاء الفحص فلم يكن الأمر يهمني قدر ما يهمه
    قالت الطبيبة بعفوية موجهة كلامها إلى زوجي:
    ــ هل أنت والدها
    تقلصتملامحه بغضب شديد وهو يجيبها بحدة:
    ــ كلا هي زوجتي
    احمر وجه الطبيبةبوضوح وقالت بخجل شديد:
    ــ آسفة فقد
    قاطعها بحزم:
    ــ ما النتيجة؟
    قالت والخجل لا يزال يتردد على كلماتها:
    ــ لا شيء لا مانع من الحمل امنحا نفسيكما فرصة فهكذا الأمر عند بعض من الناس فقد تمر سنة أو سنتان ثم يحدثالحمل اطمئن وأتمنى أن أراكما قريباً
    لم تحدث زيارة الطبيبة أدنى أثر لديكما أحدثت عظيم الأثر لديه، فقد هاجمني بعنف وتخلى عن حنانه الزائف وهو يمطرنيبوابل من كلمات التسفيه والتجريح.
    أحنيت رأسي للعاصفة لتمر فقد أدركت من حياتيمعه بأن نقطتا الضعف لديه هو إشعاره بما بيننا من فارق في العمر ودموعالمرأة



    وفي الغد لم أذهب لمدرستي فقد كنتأشعر بصداع قوي أعجزني عن النهوض من سريري
    سألني بفتور إذا ما كنت سأذهبللمدرسة ولما أجبته بضعف بأنني متعبه وسأنام غادر الحجرة فوراً
    نهضتبأعقابه متحاملة رغم الألم الذي يعصف برأسي، فقد داهمني شعور بأنني سأحل لغز الحجرةالمغلقة وفعلاً ما أن وصلت إلى مكاني أعلى الدرج حتى رأيته يتجه نحو تلك الحجرةاللغز ويفتحها بمفتاح كان معه ثم يدخلها ولم يلبث دقائق حتى خرج وهو يتمتم بكلماتلم أسمعها في مكاني ذاك وإن خلت إنها شتائم موجهة إلى شخص ما
    جمدت في مكانيلحظات وأنا أرى الخادمة تهرول بصينية طعام تناولها منها زوجي ودفعها بقدمه إلى داخلالحجرة ثم أغلقها بعنف وغادر بعد لحظات وأنا غارقة في ذهولي إذن هناك شخص مايقبع في تلك الحجرة المظلمة وتلك الخادمة اللعينة تشترك مع زوجي في ذلك السروربما وهي تعرف كل شيء وأنا الوحيدة التي لا أفهم شيئاً مما يدور في بيتي
    فكرت بسرعة وقد اشتد ألم رأسي ماذا أفعل؟ هل أمسك بتلابيب الخادمة وأضربهالتحكي لي كل شيء لكن ربما هي لا تعرف إلا قليلاً ولا تدرك من الموضوع سوىالقشور ربما هي لا تعرف ماذا يوجد في تلك الحجرة ويقتصر دورها على إحضار الطعامفقط لا غير
    فلماذا أتعجل الأمر وأفسد كل خططي لأحاول معرفة كل شيء بهدوءوروية وبطريقتي الخاصة
    وفعلاً ما أن وصلت إلى هذه المرحلة في تفكري حتى هدأتنفسي وشفيت من الصداع المزعج نزلت إلى المطبخ لأعد لي كوباً من الشاي دون أنأتطرق مع الخادمة حول أي موضوع وكأن شيئاً لم يكن
    لم أنم تلك الليلة قضيتهامسهدة أفكر وجل همي أن أصل إلى ما في تلك الحجرة وأكشف السر المريب الذي يخفيهزوجي عني وتشترك معه الخادمة في ذلك ومن يكون في تلك الحجرة؟ هل هي زوجته الأولى؟فربما تكون قد ثارت عليه لزواجه، فغضب منها وحبسها في تلك الحجرة لكن لا إن هذهالحجرة المغلقة كانت موجودة منذ أول يوم لزواجي وطالما لمحتها في حلي وترحالي دونأن ألقي لها أي اهتمام ترى ما سر الصرخات التي ملأتها في الفترة الأخيرة والتي لمأسمعها في البداية ربما بسبب هدير المكيفات المزعج
    وفي لجة أفكاريالمتلاطمة لفت انتباهي سلسلة المفاتيح التي تخص زوجي والملقاة بإهمال فوق منضدةالزينة
    إن مفتاح اللغز ضمن مفاتيح هذه السلسلة لكن كيف أحصل عليه دون أنأثير انتباه زوجي أو شكوكه وخطرت لي فكرة مفاجئة أن أحاول الحصول على المفتاحلأعمل نسخة منه على وجه السرعة ثم أعيده بكل هدوء كما أخذته فأنا أعلم تماماًمن مراقبة زوجي الدقيقة أنه لا يمر على الحجرة المغلقة إلا صباحاً ومرة أخرى فيالمساء عندما يراني مشغولة بأمر ما أو أكون خارج البيت يعني أنني يجب أن أحصل علىالمفتاح وأعيده في الفترة الفاصلة بين الصباح والمساء وزوجي لا يقيم لدي إقامةكاملة إنه يتردد على بيتي في أوقات متفرقة الغالب عليها أربعة أيام في الأسبوعبلياليها
    ونمت نوماً مضطرباً تخللته كوابيس كثيرة وأحلام متنوعة عن مفتاحيطاردني في كل مكان
    ذهبت إلى مدرستي متعبة مرهقة وعاتبتني المعلمة كثيراً علىشرودي، لكنني لم أفش لأي كان بأن شيء مما يدور في حياتي الغامضة حتى حينماعاتبتني إيمان ضاحكة:
    ــ يبدو أن العروس السعيدة حامل وإلا بماذا تفسرينشرودك أثناء الدرس لدرجة أن المعلمة نبهتك مراراً لهذا؟
    ابتسمت لها ببرودة وأناأقول:
    ــ اطمئني فلم يحدث شيء مما يدور في مخيلتك الخصبة
    استعجلت العودةإلى البيت وسر الحجرة المغلقة لا يغادر تفكيري وأنا أمني نفسي بأنني سأكتشف كل شيءقريباً
    عندما عدت للبيت تناولت الغداء مع زوجي ثم استأذن لينام وبرقت فيذهني فكرة لو استطعت الاستيلاء على المفتاح وعمل نسخة منه على وجه السرعة خلالالوقت الذي ينام فيه زوجي لانتهى كل شيء وفهمت كل شيء
    لكن هذا العمل يكتنفهصعوبة كبرى وهو أن أخرج وأعود بسرعة حتى لا يكتشف أحد أمري "خاصة الخادمة اللعينة" أو حتى السائق "أحمد"
    لم يكن هناك مجال للتفكير، فالوقت يمر بسرعة ليست فيصالحي تسللت بهدوء حيث ينام زوجي وجدت المفاتيح في نفس المكان الذي اعتاد أنيضع عليه سلسلة المفاتيح تناولتها بهدوء حريصة على ألا يحدث صوت وخرجت وشخير زوجييعلو على أي صوت أخر في الحجرة
    تأكدت بأن الخادمة مشغولة في تنظيف المطبخفتدثرت بعباءتي وخرجت لم يكن هناك أثر لشخص ما مشيت لفترة بسيطة حتى وصلتلنهاية الشارع الذي يطل على خط تقاطع عام لمرور السيارات انتظرت لمدة خمس دقائققبل أن ألمح سيارة أجرة دلفت بسرعة وأنا أسأل السائق عن مكان لنسخ المفاتيح ودونكلمة أخرى توضيح انطلقت بي السيارة إلى مكان في وسط المدينة محلات متجاورة بعضهامغلق والآخر مفتوح طلبت من السائق أن يأخذ المفاتيح ينسخ منها جميعاً نسخة أخرىونفحته مبلغاً كبيراً
    انطلق يعدو وبعد دقائق عاد لي ومعه المفاتيح ونسخها ابتسمت بسعادة وأنا أضمها إلى حقيبتي
    وعدت إلى البيت كما خرجت دون أن يشعر بيأحد حتى الخادمة فوجئت عندما رأتني أقف أمامها بالمطبخ وسألتني بصوت هادئ:
    ــألم تنامي يا مدام؟
    أجبتها بصوت تتراقص فيه الفرحة لاكتشافاتي المرتقبة:
    ــكلا لا رغبة لي في النوم أعدي لي كوب من الشاي
    وألقيت بنفسي على أولأريكة في الصالة الكبيرة وأنا أفكر في خطواتي القادمة وما قد يحصل أثنائها هلأبادر من فوري عند خروج زوجي إلى فتح الحجرة واكتشاف ما بها لكن الخادمة إنهاذكية وتفهم كل شيء وستدرك فوراً ما فعلته إذن ها أبعث بها خارج البيت في مهمة؟كلا إنها أيضا طريقة غير معقولة وقد تثير الشكوك إذن ماذا أفعل؟ وما هو الوقتالملائم لما أنوي فعله؟
    إن فترة الليل هي أنسب وقت، فالخادمة تأوي إلى فراشهافي وقت مبكر وكذلك زوجي وكلاهما يعلمان أنني أسهر لأذاكر دروسي هذا إن كان زوجييبيت عندي وقتها
    عند هذا الحد من تفكيري سمعت صوت سعال زوجي الحاد فأيقنتبأنه قد نهض من قيلولته فأعددت نفسي لاستقباله
    وبعد أن تناول معي الشاي،غادرني دون أية كلمة كعادته فهو لا يتحدث معي في القيلولة بسبب السعال الذييصاحبه في هذه الفترة
    ألقيت بنفسي على الأريكة مرة أخرى عندما خرج، وقد أخذمني التعب كل مأخذ فنومي كان مضطرباً ليلة البارحة ولم أنم ظهراً كعادتي كل يوم
    فوجئت بنفسي وقد أصبحت الدنيا ظلاماً عاتبت الخادمة على عدم إيقاظي
    اعتذرت لي بأنها كانت تعلم بأنني متعبة فلم توقظني
    وما أن أوت الخادمةإلى فراشها بعد العشاء حتى أصابني قلق واضح لم أستطيع أن أفهم حرفاً من الكتابالذي في يدي ونظراتي موزعة بين الحجرة اللغز وبين كتبي المتناثرة حولي وأخيراًاستجمعت شجاعتي ودسست يدي في حقيبة كتبي لأخرج المفاتيح التي نسختها في النهار
    أحسست بأوصالي ترتعش، وأنا أهم بتجريب المفاتيح في باب الحجرة المعنية
    وأخيراً انزلق المفتاح المقصود في الباب ليدور بمنتهى السهولة واليسر تلفتحولي في ذعر الهدوء والظلام يعمان أرجاء الفيللا لا حركة ولا صوت سوى أنفاسيالمضطربة ودقات قلبي التي تعلو على كل شيء
    دفعت الباب ودخلت ثم أغلقته مرةأخرى خوفاً من أن يراني أحد ما
    وقفت لحظات في الظلام الدامس ثم بحركة عفويةأخذت أبحث عن مفتاح النور
    فجأة غرقت الحجرة في ضوء قوي ساطع وفوجئت بما أرىأمامي


    يتبع .





    رد مع اقتباس  

  6. #6 رد: بكاء تحت المطر 
    المشاركات
    613
    كان شاباًوسيماً طويلاً رشيقاً، لكن يبدو عليه المرض والإنهاك أرعبني مرآة بلحيته الناميةونظراته المصعوقة استدرت لأخرج جاءني صوته بالأمل والرجاء:
    ــ أرجوك انتظري قليلاً
    ولم ينهض من سريره وأصابعه لا تزال تمسك بمفاتيح الإضاءة وكأنهتجمد عند هذه اللحظة فكرت بسرعة ها أنا قد عرفت كل شيء هناك شاب ما يقبع فيالحجرة شاب في نحو السادسة أو السابعة والعشرين من عمره يبدو مريضاً أو شيء منهذا القبيل في حجرة رائعة، ملحقة بحمام تحتوي على كافة الكماليات ولا ينقصها شيء لكن لماذا؟ لماذا هو محبوس هنا، ومن هو، وإلى متى؟ هل أبقى لمعرفة إجابة شافية عنأسئلتي تلك أم أغادر وأنسى كل شيء؟ وفي لحظة خاطفة كالبرق تذكرت زوجي الشيخ وردةفعله هندما يعلم بفعلتي الشنعاء أنه لن يعدم وسيلة يعاقبني بها وقد يطلقني بكلسهولة وقد أعود إلى تلك المرأة الحرباء زوجة أبي لتشن علي حرباً شعواء كلا وقررت أن أخرج
    ألقيت علية نظرة سريعة وتجمدت لحظات فقد هالتني الدموعالغزيرة التي انهالت من عينيه السوداوين
    قلت بهدوء:
    ــ ماذا يبكيك أيهاالشاب؟
    قال وهو يمسح دموعه بظهر كفيه:
    ــ لقد حكم علي القدر بالإعدام وحكم علي خالي بالسجن المؤبد حتى الموت وهاأنذا أقبع في زنزانتي الحديثة أنتظرالموت في كل يوم بل في كل لحظة
    وفي لحظات من الحلكة والظلام الدامس والرعبوالعذاب أراك أمامي ثم تختفين فجأة كما دخلت فجأة ألا تريدينني أن أبكي أو حتىأحاول الانتحار إن اليأس بعد الأمل لهو مر مرارة العلقم
    أذهلني منطقةولهجته المثقفة عن كل شيء حولي أي جنون يستسلم له هذا الشاب في هذه الحجرةالمغلقة
    خرج صوتي بصعوبة وأنا أسأله:
    ــ لماذا أنت هنا؟
    لاحت ابتسامةحزينة على شفتيه قبل أن يقول:
    ــ عديني أولاً بأن تزوريني كلما أمكنك ذلك بغضالنظر عن ظروف قصتي
    همست دون وعي:
    ــ أعدك بذلك
    ألقى برأسه إلىالوراء وهو يقول بصوت يقطر آسى ومرارة:
    ــ باختصار أنا وحيد أمي بين ست بنات تعرفين بالطبع ما معنى ولد وحيد بين ست بنات طلباتي كلها مجابة دلال وأموالوعواطف بلا حدود أكملت مرحلتي الجامعية بتفوق نعم لا تندهشي رغم كل شيء كنت أحبالعلم ومتفوقاً فيه
    ثم أراد والدي أن يكافئني وكانت بداية النهاية فقدأهداني رحلة طويلة إلى عدد من العواصم العربية والأوربية تعرفت أثناءها على عددكبير من الفتيات، ثم عدت إلى أرض الوطن وفي البداية لم أكن أشعر بشيء معين حتىكانت المصيبة عندما أردت التبرع لشقيقتي بدمي فقد أصابها نزيف شديد أثناء الولادةاحتاجت معه إلى نقل دم تقدمت للتبرع وفي اليوم التالي طلبني الطبيب على وجهالسرعة لم يدر بخلدي أي شيء ولم أتوقع أي شيء المفاجأة رواها لي الطبيببهدوء قال أنني مصاب بالإيدز
    وتوقف الشاب عن الحديث ليرى وقع كلماته علىوجهي وبالفعل كنت مذهولة لكن ليس لدرجة الاشمئزاز والاحتقار كما اعتقد هذاالشاب كان إشفاقي أكبر وحزني عليه أكثر
    تابع بعد سعال متقطع:
    ــ كانوقع الأمر على الجميع مذهلاً أمي بكت وانتحبت وشقت ملابسها أخوتي أخذن ينظرن ليبارتياب والحسرة تنطلق من وجوههن الحزينة أبي مرض ومات!! ألا تصدقين هذه الحقيقةالمرعبة بلى أبي مرض مرضاً شديداً وأمضى أياماً بلياليها يهذي أنه هو السبب فيماحدث لي وانتابه حمى شديدة أبت أن تغادره إلا ميتاً وبقيت وحدي في مواجهةالعاصفة صدقيني ما حدث لعائلتي قد سلب مني شعوري وإحساسي بمرض فلم أشعر أننيمريض بهذا المرض قدر فزعي مما آلت إليه حال أسرتي
    حتى شقيقتي التي كدت أتبرعلها بدمي طلقها زوجها حينما علم بأمري وخاصمتني هي ولم تسمح لي بالنظر إلى طفلتهاالوليدة
    وبعد أن انفض العزاء من حولنا وخلا الدار إلا مني وأمي وأخوتي اتفقناعلى تكتم الأمر وعدم البوح به لأي كان يكفينا رد الفعل الذي حدث من زوج أختيفماذا سيحدث من الناس الآخرين حتى لو كان أقرب قريب
    وبعد حوالي الشهر من وفاةأبي شعرت بزكام بسيط تدهورت أحوالي بعده وخافت أمي علي فاضطرت إلى استشارة خاليدون علمي غضب خالي وقال بأن ذهابي إلى المستشفى معناه الفضيحة للعائلة بأسرها وإنطلاق أختي ليس هو بداية الانهيار بل لو علم الناس فلن تتزوج أي من أخواتي الباقياتوسينهار مستقبلنا جميعاً
    انفرد بي خالي وتكلم طويلاً، وفهمت من كلامه أن منالأشرف لي أن أبتعد عن عائلتي وأموت بسلام في مكان آخر لا يعلم فيه بأمري أحد ولاأعذب فيه أحد، ولا أجني فيه على أحباء لي لا ذنب لهم في شيء على الإطلاق
    وفهمت أنني يجب أن أسافر وأبتعد فلا أمل في علاج أو حياة شريفة بعد ذلك ودعتأمي وأخوتي والدموع تفر من عيوننا جميعاً حتى شقيقتي التي طلقها زوجها بسببي صفحتعني وبللت وجهي دموعاً وتقبيلاً وفوجئت بخالي يقودني إلى هنا بدلاً من المطار تساءلت لكنه أخر سني بقوله:
    ــ لا حق لك أن تحتج على شيء فلا مكان لك سوى هنا ولا حاجة لنا بمزيد من العار والفضائح فالزم مكانك حتى يقدر الله لنا بعد ذلكأمراً وقبعت في زنزانتي الأنيقة أواصل الليل بالنهار أنتظر أملاً لا يجئ وقدراًلا مفر من انتظاره لا أرى فيها سوى وجه خالي الذي امتلأ قرفاً واشمئزازاً وهو ينظرلي
    لقد كان في الماضي يجلني ويحترمني ويتمنى أن أوافق على الزواج بابنته لكنني أنا أنا من ضيعت نفسي بنفسي أنا السبب
    وانكفأ على وجهه يبكي
    امتلأت عيناي دموعاً وقبل أن أتكلم نظرت إلى الساعة، ففلتت مني شهقة فزع علىالرغم مني لقد كانت الساعة تقترب من الثانية فجراً دون أن أشعر بالوقت
    التفت لي بسرعة والدموع لا تزال تغرق وجهه قلت بصوت أجش وكأنه ليس صوتي:
    ــ آسفة سأذهب فإن الوقت متأخر
    قال بصوت متهدج:
    ــ أتعدينني بأنتزوريني من وقت لأخر
    لم أجب فأردف بحرارة:
    ــ لا تخافي فلست وحشاًمفترساً ولا مسخ إنسان إنما فقط أريد الترويح عن نفسي، فأنا أعلم بأنني إنسانمريض وسأموت خلال أشهر أو أسابيع أو أيام معدودة ولن يضيرك شيء عندما تمنحين بعضدقائق من وقتك لإنسان مريض يسير نحو حتفه
    هتفت بالرغم مني:
    ــ حسناً أعدكبذلك إلى اللقاء
    وخرجت بهدوء وأغلقت عليه الباب بالمفتاح دون أن يطرف له جفن أو يتحرك ولو حركة واحدة تلفتت حولي بحذر كان البيت غارقاً في سبات عميق مشيت على أطراف أصابعي حتى حجرة نومي وألقيت بنفسي على السرير كجثة هامدة لكنني لم أنم بقى عقلي مستيقظاً نشطاً وقد غيرت هذه الأحداث من مسار تفكيري، وكأنني أعيش فيلماً سينمائياً سخيفاً خال يحبس ابن أخته في حجرة من حجرات منزل كأي قطة أو حيوان أخرس ويطعمه وهو ينتظر موته
    أنني لم أسأل الشاب أخاله هذا هو زوجي العم صالح؟
    ولماذا كان هذا الشاب يصرخ تلك الصرخات المرعبة؟
    أكانت آلام المرض تعصف به أم كان تعبيراً عن الغضب والوحدة والملل أم أنه يعيش كآبة لا تحتمل أو ربما هذه الأشياء جميعاً
    ذهلت من نفسي كيف استطعت الجلوس إليه والاستماع إلى قصته بمنتهى السهولة والبساطة وكأنني مع صديقة لي أو كاتمة أسراري المعلمة فاطمة وهو أنني حتى لا أعرف أسمه بعينيه الذابلتين ووجهه الشاحب الحزين كان يعاملني كشاب مثله كصديق رآه فجأة بعد فترة انقطاع طويلة أو كشيء أليف لديه
    المدهش المبهر أنه لم ينظر لي كفتاة هبطت عليه فجأة من السماء لم يذهل ولم يستغرب الأمر وكأن عشرات الفتيات يترددن عليه كل مساء
    من هو هذا الفتى القابع في تلك الحجرة المغفلة وكيف يعيش ويفكر؟ أأنساه بسهولة بعدما عرفت قصته الدامية وأطوي صفحته من وجودي وكأنه لم يكن وعهدي الذي قطعته على نفسي وشيء ما ابتدأ يتحرك في كياني ربما هو شفقة وعطف على هذا الفتى المسكين لن أتخلى عنه بسهولة بعدما عرفت قصته إن حكايته تشبه حكايتي وإن اختلفت الظروف كلانا يعايش الوحدة والمرارة ربما هو قادته هذه النهاية إلى ذلك المرض اللعين لكن نهايتي مشابهة لنهايته فزواجي من هذا الشيخ لهو أسوأ من المرض وحكم مخيف للموت ببريق جذاب سأحاول أن أخفف وحدته وأسري عنه ما بقى من أيامه ولن يعلم بأمري أحد
    ونمت بهدوء بعد أن توصلت إلى هذا القرار الخطير الذي لو علم به زوجي لما كفاه موتي على يديه
    ذهبت إلى المدرسة خفيفة نشيطة على غير العادة رغم سهري تتألق عيناي ببريق السر التي تطويه الضلوع ويطفح وجهي بالبشر وكأنني قد وجدت كنزاً لا يقدر بمال سألتني معلمتي فاطمة عما جد حياتي وهي تجوب بعينيها ملامح وجهي وكأنما لتحاول سبر أغواري وكشف سري لكن جاوبتها بعيني بأن ليس كل ما يعرف يقال وليست كل أسرار النفس مباحة حتى لصديق
    قلت لها:
    ــ إن زوجي قلق بسبب عدم حملي حتى الآن
    ابتسمت برقة وهي تهمس:
    ــ إن موضوع الحمل يهم الرجال كثيراً لكن تساءلي قبلاً عن مدى ارتباطك بزوجك قبل التفكير بهذا الموضوع، فإذا كنت تشعرين أن حياتك مهددة وغير آمنة آمل أن تؤجلي موضوع الحمل قليلاً حتى تستقر أمورك تماماً وإذا لم تستقر الغي الفكرة من تفكيرك كلياً
    قلت لها بجدية وقد نسيت موضوع الفتى المريض:
    ــ وزوجي هل سيرضى بذلك؟
    قالت بعذوبة وهي تغمز بعينيها:
    ــ سيرضى ما دمت راضية
    فعلاً أنا لم أفكر بموضوع الحمل بهذه الجدية من قبل فقد كان الأمر لدي سيان لذلك قبلت الذهاب معه لتلك الطبيبة لكن معلمتي على حق فإن إنجابي وسط هذه الظروف ليس من صالحي ولا من صالح الطفل المرتقب فلست متأكدة أنني سأعيش مع زوجي بقية العمر ثم أنني لا أعرف حتى الآن ماذا حدث لأبي وزوجته وشقيقي أحمد فكيف أشعر بالاستقرار والراحة وأنا لا أعرف مصير أخي وموقف أبي مني وزوجته التي ربما ينكشف أمرها بين لحظة وأخرى، فالحقيقة لابد أن تظهر مهما ساد الظلم وطغى وأستمر
    قلت لمعلمتي بإصرار:
    ــ أنت على حق يا أبلة فاطمة يجب أن ألغي هذا الموضوع من فكري تماماً وسأعمل بجدية على تلاقيه
    عدت إلى البيت وقد عرفت طريقي جيداً بفضل معلمتي كنت فرحة جذلى مررت بتلك الحجرة وأنا ماضية إلى المطبخ كنت أطل على ذلك الفتى البائس لألقي عليه تحية الصباح والمساء لكنني تجاهلت كل شيء وأنا أرى زوجي جالساً في الصالة ينتظرني
    نظرت إلى وجه زوجي برهة بحثت في عينيه عن خبر ما أو قصة يمتلئ بها كياني كانت تصرفاته عادية الشيء غير العادي كان يكمن في أعماقي هدأت نفسي قليلا "إذن لم يتسرب خبر زيارتي لذلك الفتى المسجون في الحجرة"
    قلت له بارتياح:
    ــ هل تريد الغداء حالاً أم تفضل النوم أولاً؟
    قال بهدوء:
    ــ بل عجلي بالغداء، فأنا سأنام قليلاً ثم أسافر على رحلة الساعة الرابعة إلى جدة وسأعود غداً في المساء، فلا أريد التأخر على موعد الرحلة
    صفق قلبي طرباً إذن سأستطيع هذه الليلة أن أزور ذلك الفتى البائس، ولن يمنعني زوجي من أن أفي بوعدي لذلك الشاب الذي لا أعرف اسمه حتى الآن
    مر اليوم سريعاً لأجد نفسي في ظلام الليل الدامس
    فتحت باب الحجرة بهدوء شديد ودخلت بهدوء أشد كان نائما أو هذا ما أوحي به إلى الظلام الدامس السائد في الحجرة أشعلت النور لأجده بالفعل نائماً بسلام وخصلة ممتدة من شعره ترقد على إحدى عينيه تأملته بإشفاق أنه ساكن هادئ كطفل وديع لا يعرف شرور الدنيا وآثامها فتح عينيه فجأة ليراني أمامه ابتسم وهو يزيح الخصلة المتمردة من شعره من فوق عينيه ويحاول النهوض قليلاً ليستوي جالساً شققت السكون من حولي بقولي له:
    ــ ها أنذا قد وفيت بوعدي لك وأتيت
    اتسعت ابتسامه وهو يجيب:
    ــ أشكرك كثيراً على كرم نفسك ولكن من أنت
    أسدلت رموشي على عيني وأنا أهمس:
    ــ أنا زوجة العم صالح الثانية
    ندت عنه صرخة استنكار عالية نهضت من مقعدي بخوف وأنا أتأمله بفزع
    قال بارتعاش واضح:
    ــ آسف لم أقصد إخافتك لكنني اعتدت منذ سجنت في هذه الحجرة على الصراخ لأتفه سبب فإن الصراخ عزاء لي مما أعانيه في بعض الأحيان اعذريني على دهشتي أيضاً فلم أتوقع أن يتزوج خالي على زوجته أم سليمان ثم يتزوج من؟ فتاة صغيرة في سن صغرى بناته لقد جن خالي بالتأكيد

    قلت بهدوء:
    ــ إذن فالعم صالح خالك؟
    أجاب بعد سعال كاد أن يمزق صدره
    ــ نعم إنه خالي شقيق أمي الأكبر إنه يحب زوجته أم سليمان ويقدرها ويحسب لها ألف حساب إنها هي التي صنعته ولولاها أو بالأحرى لولا أموالها الكثيرة لما كان خالي صالح يعيش في كل هذا العز
    سألته برهبة:
    ــ وهل لديه أولاد كثيرون؟
    وضع يديه على رأسه وكأنه يعاني ألماً لا يطاق ثم قال بعد برهة:
    ــ لديه سبعة أولاد أربع بنات وثلاثة أولاد خمسة منهم متزوجين ولديهم أطفال، واثنان لا يزلان مع أمهما ولد وبنت الولد موظف في البنك المركزي والبنت في سنك لا تزال تدرس
    ثم استدرك بعد قليل:
    ــ إنني لا أعرف اسمك وما هي ظروف زواجك من خالي، لا بد انك كنت مجبرة إذ أنني لا أصدق أن فتاة في مثل جمالك وشبابك تقبل برجل عجوز على حافة القبر مثل خالي
    امتلأت عيناي بالدموع وأنا أحكي له كل شيء، وكأنني أحادث صديقة حبيبة إلى قلبي لا شاب التقيته في ظروف مربية وغريبة شاب مصاب بالأيدز مسجون في حجرة في فيللا لا يعرف الطريق إليها أحد نعم هذه الحقيقة وإن تجاهلتها أحياناً
    حكيت له عن موت أمي ثم شقيقتي الحبيبة ريم ثم زواج أبي وعذابي مع زوجته لأنتهي بالقصة التي دمرتني الحكاية التي لفقتها لي ليصدقها أبي، وانتهت بي إلى هذا المصير المحزن استمع إلي بهدوء وبإنصات شديد كان يذهل لكل فقرة من حكايتي وتدمع عيناه لأقل كلمة حزينة كان يشعر بشعوري ويحس بإحساسي وكأنه أقرب قريب إلى نفسي
    لو كنت التقيته في غير هذه الظروف وغير هذا المكان والزمان لاختلف كل شيء وانتهيت إلى غير ما أنتهى عليه الآن
    قلت له لأنسيه همي:
    ــ كيف تقضي أوقاتك هنا في هذه الحجرة المعزولة لماذا لا تثور على سجانك وتحاول الخروج من الأسر الوهمي الذي وضعته حول نفسك
    قال ولا تزال بقايا قصتي عالقة بذهنه:
    ــ كلانا يعيش ظروفاً مماثلة لماذا لا تثورين أنت على سجانك وتحاولين الخروج من الأسر أرجوك لا تجيبيني الآن فكري أولاً فكري بعمق ثم أجيبيني على سؤالي وسأجيبك بدوري على سؤالك اتفقنا
    هززت رأسي علامة الموافقة وسؤاله يخترق قلبي كنصل مسموم لما لا أثور على سجاني لماذا أبقى في الأسر وإلى متى!!
    أيقظني سعاله الحاد ثم همس بصوت مبحوح:
    ــ هل تنوين أن تقضي ليلتك هنا إن الفجر على وشك أن يبزغ
    اندفع الدم إلى وجهي بحرارة حارقة استشعرت الخجل العميق هالني عدم رغبتي في مغادرة حجرته على الإطلاق
    قلت دون أن أنظر نحوه:
    ــ لقد مر الوقت سريعاً، فلم أشعر به الوداع واستدرت سريعاً خارجه وأنا أسمع همسته الأخيرة سأنتظرك يا يا قلت دون أن ألتفت:
    ــ منى
    قال بصوت اخترق أعماقي:
    ــ سأنتظرك يا منى أرجوك لا تنسي "وليد"
    أغلقت الباب عليه بالمفتاح وأنا أفتح باب وباب في قلبي الصغير ماذا يحدث لي ما هذا التحول السريع الذي يسري في كياني كمسرى الدم في العروق أغمضت عيني بصعوبة وكأن بداخل كل عين جمرة تتلألأ بكل حرارة الدنيا طار النوم من عيوني تلك الليلة، فلم أستطع الإغماض واو للحظة ما الذي يحدث لي ولماذا أورد نفسي المهالك لقد كنت لاهية سعيدة قبل أن أفتح تلك الغرفة اللغز كنت أعيش حياتي بهدوء قبل أن أرى عيني وليد، واستمع لحكايته كان كل شيء في حياتي يسير في نظامه المعهود أذهب إلى المدرسة ثم أعود لأتغدى مع زوجي وأنام وأصحو لأذاكر حتى المساء وهكذا دواليك حياة روتينية كانت هادئة لم يغشاها هذا الشيء اللاهب اللاذع الذي يقلب كل شيء رأساً على عقب
    ترى ماذا فعلت بنفسي وأي منقلب أهوي إليه إن هذا الشاب رغم أنه مريض بأخطر مرض في الوجود ويعلم نهايته القريبة إلا أن فيه شيئاً كالمغناطيس يجذبك إليه رغماً عنه وعني ترى ما هذا الشيء الذي يجذب ويحرك اعتي القلوب وأقساها هل هي عيناه الذابلتان المنكسرتان أم شفاه المملوءتان سخرية واشمئزازاً
    أم هو شعره الساقط دوماً على عينيه أم هو ربما شيء أخر شيء ما يكمن في شخصيته الحزينة ربما إحساس بمأساته لا أكثر ولا أقل أو ربما هي شفقة وعطف ترى هل يمكن أن تتحول الشفقة يوما ما إلى حب صرخت من أعماقي كلا مستحيل
    والحل؟ هل أصارح معلمتي فاطمة بما يحدث من أمري طردت هذا الخاطر فوراً من ذهني فصحيح أن معلمتي فاطمة هي أقرب إنسان لي، ولكنها في هذا الموضوع بالذات لن تفهمني وربما تعاتبني وتنهرني بشدة
    كلا لن أصارحها بشيء ولكنني سأقف صامدة وأواجه نفسي بقسوة إن ما يحدث لي ضرب من الجنون لن أستمر فيه مهما حدث فلو استمر ستحدث مصائب عديدة أنا في غنى عنها، فلو علم زوجي بأمري فربما يقتلني أو يطلقني على أحسن الفروض ثم من هو هذا الشاب حتى أربط مصيري بمصيره كلا لم أزوره بعد اليوم

    وعادزوجي من السفر في الغد، وقضيت معه فترة المساء في ملل لا يطاق عجباً رغم أننيحاولت باستماتة أن أنسى كل ما يتعلق بذلك الشاب وليد وأن أطوي كل شيء في صفحةالماضي، إلا أنه يعيش معي كل لحظة من حياتي أراه في عيون زوجي وفي تحدثه لي وفيحركاته وإيماءاته في كل لفتة وكل لمسة
    لم أنتبه إلا حين تكلم زوجي قائلا:
    ــ ما بك يا منى لست على طبيعتك التي عهدتها هل أنت متعبة؟
    أنقذنيالسؤال والإجابة من حيرتي فقلت باستسلام:
    ــ نعم نعم فأنا متعبة اليوم
    لدهشتي الشديدة فقد تألقت عيناه بفرح طاغ ثم قال برقة:
    ــ هل أنت حامل يامنى؟
    ارتبكت أكثر وازدادت حيرتي هل أكذب وأقول له أنني حامل رغم ما يعتري هذاالأمر من صعوبات بالغة أم أنفي هذا الأمر فيفكر زوجي بعشرات الأسباب لتغيري قررت حلاً وسطاً بين الأثنين
    قلت بابتسامة لاهية:
    ــ حقاً لا أعرف لكنني أشعر بالتعب الشديد هذا اليوم
    وجدتها فرصة لأستأذن منه وأنام وأرتاح منالجلوس معه الذي يشكل لي مهمة شاقة بت لا أقوى على احتمالها
    وبعد أن ألقيتبرأسي على الوسادة لم أستطع النوم بسهولة، عادت لي الذكريات القريبة مع وليد استعدت حوارنا كلمة كلمة أعادت ذاكرتي سؤاله الجريء مجسماً بشعاً مخيفاً لماذالا تثورين على سجانك وتحاولين الخروج من الأسر؟
    وهل استطاع سجين أن يثور علىسجانه يوماً ثم يخرج بسهولة من سجنه ألم يكن ضحايا وتضحيات ألم يكن هناك دماءوأشلاء
    وكيف أثور ولمن أذهب بعد ذلك إلى أبي الذي تخلى عني بكل سهولة،وكأنه ينفض عن كاهله عبئاً ثقيلاً أم لزوجته تلك الحية الرقطاء التي لا تتورع عنفعل أي شيء لتزيحني عن طريقها الآثم لمن الجأ ولا أهل لي وهل سيفيدني هو الشاب التعيس المحكوم عليه بالسجن حتى الموت هل سيقيدني في شيء هل سيستطيعانتشالي مما أنا فيه هل يصلح كحائط أتكئ عليه في قادم أيامي
    أسئلة حادةتطرق رأسي بلا إجابة لكن لا لم يحن الوقت لأثور على من باعني واشتراني ليس الآنبالتأكيد، لأنني مازلت بحاجة لشاطئ أخر يحتضنني بعد تلفظي أمواج الحياة ولناستسلم أبداً
    لحق بي زوجي بعد فترة من الوقت تظاهرت بأنني نائمة أدار ظهرهلي ونام ليعلو غطيطه بعد لحظات ويعكر السكون من حولي لماذا أضحى كل ما يفعله زوجيمنفراً ومثيراً للاشمئزاز أكثر مما كان في السابق لماذا بات هماً ثقيلاً على صدريكحجر أعجز عن حمله لماذا كرهت نظراته فجأة وضحكاته وكلماته كلا كلا إنهزوجي مهما يكن ومهما حدث هو جسري الذي سأعبر عليه في المستقبل إن خسرانه ليس منمصلحتي أبداً بل على العكس يجب عليّ أن أكسبه وأحاول التفاني في حبه وخدمته أكثرمن الأول يجب أن أنسى تلك الحجرة المنزوية في ذلك الركن وأن أنسى ساكنها ذلكالشاب الذي يتحدث من العالم الآخر
    حاولت من غدي الاهتمام بدروسي أكثر فأكثرفالامتحانات على الأبواب، ونجاحي هو همي الأكبر وطموحي الأول في سلسلة مطامحيالكثيرة
    ذهبت إلى إحدى الصيدليات سراً وابتعت مانعاً للحمل لأتمكن من مواصلةرحلة كفاحي بنجاح بدون أطفال أو جراح أو عذابات
    مرت أيا كثيرة وأنا أتجاهلتلك الحجرة وذلك القابع فيها ينتظرني بلهفة بلهفة أنا متأكدة من وجددها لأنهاتحاكي لهفتي وتؤكدها كنت أسمع الصرخات أحياناً ويتمزق قلبي وتتوتر أعصابي، لكننيأتمالك نفسي بصعوبة وأمضي في المذاكرة غير عابئة بشيء واضعة نصب عيني موقفي الحرجوأوضاعي الصعبة ونجاحي المطلوب
    وفي إحدى الليالي الشتاء الممطرة، كنت مستلقيةعلى الأريكة الكبيرة أذاكر دروسي فقد كان امتحاني في الغد الباكر سمعت صرخة خافتةمنبعثة من الحجرة هززت كتفي بلا مبالاة رغم الألم الذي يهتف في أعماقي وبعدلحظات فوجئت بصوته ينادي أسمي ( منى منى ) جزعت نبض قلبي بقوة وتصلبت قدمايفي خوف شديد هل جن هذا الفتى؟
    كيف وصل به الأمر إلى مناداتي باسمي بهذهالطريقة
    وحمدت الله أن زوجي كان في بيته الثاني والخادمة نائمة وإلا لكانتمشكلة عظيمة تناولت المفتاح من مخبئه وأسرعت إلى الحجرة أفتحها بيد مرتعشة فوجئت به أمامي أصابني دوار من شدة الصدمة دخلت بسرعة وأغلقت الباب خلفي لأصبحأمامه مباشرة
    كان طويل القامة بشكل لم أكن أتصوره وهو راقد في سريره
    تمالكت أعصابي وأنا أهتف:
    _ كيف تجرؤ كيف تواتيك الجرأة على مناداتي بهذاالشكل ألا تخشى أن يسمعك أحد غيري؟
    ابتسم بمرارة وهو يجيب:
    لقد تأخرتيعلي كثيرا وافتقدتك بشكل لا تتصورينه، حتى خشيت أن يكون قد أصابك مكروه فقررت أنأتأكد بنفسي ولا تخافي فأنا أعرف متى يكون خالي صالح موجوداًً في المنزل منعدمه
    قلت بغضب:
    _ مهما يكن من أمر، فأنا لا أسمح لك إطلاقاً بهذا التصرفالجريء أرجوك ليس معنى أنني قبلت أن أتحدث معك أنني أقبل أي شيء
    ابتعدبسرعة ومضى إلى سريره ليلقي نفسه فيه بتثاقل ثم تناول محرمة ورقية يسعل فيها بشدةخلت معها أن صدره سينشق عن ضلوعه
    نظر إلي ودموع حائرة تلوح في عينيه قالبصدق:
    ـــ كنت أظن بأنك تبادلني نفس شعوري رغم كل شيء كنت أعتقد بأن العهدالذي بيننا أقوى من أي شيء آخر في الدنيا كنت اعتقد بأنك ال,حيدة التي أحسست بيوشعرت بمعاناتي وشاركتني همومي
    صمت لتتحدث دموعه
    ثم أضاف بحرقة:
    ـــ لكن يبدو أنني هم آخر أضيف إلى همومك وعبء ثقيل لا طاقة لك بتحمله إننيأتمنى الموت على أن يحدث هذا الأمر
    صدقيني أنا لا أجبرك على شيء فإذا شئتفاذهبي، وأعاهدك بأنني لن أناديك بعد اليوم وسأنسى اسمك ورسمك وكأنني لم أرك أوأعرفك
    ثم أشاح بوجهه قائلاً:
    ــ اذهبي



    موجة هائلة من الحزن اجتاحتني بقوة، أحسست بقلبي ينقبض وكأن أيد هائلة تعتصره بقسوة
    طفرت من عيناي دموعاً وأنا أقول:
    ــ أرجوك يا وليد لا تفهمني خطأ أنا لا أحتقرك ولست عبئاً يضاف علي لكن وضعي ليس صحيحاً
    أفرض لو عرف أحد بأمرنا ماذا سيكون؟ ماذا يعتقدون بنا؟ بل ماذا سيفعلون بنا؟
    تألقت عيناه بنظرة حالمة وهو يقول بصوت خافت:
    ــ لا يهم ماذا يعتقد الآخرون ما دمنا لم نفعل شيئاً نندم عليه
    أنت تعرفين مصيري وتعرفين أنك مجرد صديقة جاد عليّ بها الزمان في آخر أيامي
    قاطعته باكية:
    ــ أرجوك لا تقل هذا الكلام إنك لن تموت إن الأعمار بيد الله وحده وهو القادر على كل شيء عنده الداء والدواء فلن نيأس
    نظر إلي بدهشة وهو يهتف:
    ــ أتحبينني كما أحبك!!
    شهقت فزعة يا لصراحته الجارحة
    تابع بصوت رقيق:
    ــ اعذريني يا منى على صراحتي، فليس في حياتي متسع للصبر والانتظار فأنا أحبك حقاً أحبك منذ رأيتك أول مرة وأنت تحبينني أيضاً لكن حبنا محكوم عليه بالفشل الساحق، فأنت متزوجة وأنا مريض بمرض لا شفاء منه لكن هذا لا يقضي على الحب الذي هو آخر أمل أودع به حياتي القصيرة
    انتحبت باكية دون أن أنبس بكلمة جاءني صوته مضمخاً بالحب والعذاب:
    ــ أنا لا أمل لي في نجاة أو شيء من هذا القبيل ولكن الأمل كبير أمامك يا منى، بإمكانك أن تطلبي الطلاق من زوجك وأن تتابعي دراستك ثم تتزوجين من شاب مرموق يستحقك
    شعرت باليأس يطوقني بأغلاله المستحيلة هتفت بقوة:
    ــ لن أتزوج بعد ذلك سأعيش لأخي فقط
    نكس رأسه بأسى وهو يقول:
    ــ لو شفيت سأتقدم لخطبتك وأتزوجك لكنني لن أشفي وسأموت وحبك يملأ روحي وعقلي وقلبي
    قلت ودبيب من الأمل يتسلل إلى أعماقي:
    ــ إن الله قادر على كل شيء والعلم يتطور كل يوم وكل ساعة قد تأتي بجديد فلا تيأس وسأعود لك
    انتزعت نفسي من مقعدي انتزاعاً قلت وأنا أبتسم من بين دموعي:
    ــ إلى اللقاء
    قال بأسى:
    ــ هل ستعودين؟
    أجبت بحرارة:
    ــ نعم سأعود
    وخرجت بسرعة وأقفلت الباب عليه واستمرت اللقاءات يسترها الليل ويضمها الصمت في ردائه ونجحت نجاحاً باهراً أخر العام
    لكن زوجي ما فتأ يطاردني بالسؤال المر الذي كرهته كما لم أكره شيئاً في حياتي هل أنت حامل يا منى أخيراً قررت أثور عليه وأن أعلنها بوجهه صراحة فبعد أن استلمت شهادة نجاحي قلتها له بهدوء:
    ــ لقد نجحت وبامتياز:
    قال بلا مبالاة:
    ــ مبروك ثم استدرك وفي عينيه بريق مفاجئ:
    ــ ومتى نقول مبروك للقادم الجديد؟
    قلت وابتسامتي لا تزال على شفتي:
    ــ أي قادم جديد؟
    ضحك بعصبية وهو يقول:
    ــ أقصد متى نفرح بحملك؟
    جابهته بثورة عاتية:
    ــ لن نفرح بشيء ولست حاملا
    ثم أن الطبيبة أفهمتك بأنني لا أعاني من أي مرض يعيق الحمل فلماذا الإصرار وحرب الأعصاب إذا لم تستطع الانتظار فتزوج بأخرى
    وكأنني قد ألقيت بوجهه ماء بارد فقد هدأت ملامحه واسترخت أعصابه واقترب مني محاولاً إرضائي، لكنني كنت قد كرهته ونفرت منه نفوراً شديداً بقدر حبي لوليد
    فلم أرضى حتى قدم لي ساعة مطعمة بالماس الذي يخطف الأبصار وقد اعتدت منه هذه الطريقة، أهجره ويراضيني بهدية قيمة فجمعت قدراً كبيراً من المجوهرات النفيسة التي لا تقد بمال
    وما أن جلست أتأمل الساعة الجميلة بشغف حتى خطر لي خاطر لماذا لا أطلب الطلاق من زوجي، فالوقت ملائم لي، فقد حصلت على الشهادة الثانوية وجمعت كنزاً من المجوهرات أستطيع أن أعيش من ثمنها حتى أكمل دراستي الجامعية ثم عندي عقاراً كتبه لي زوجي باسمي فيمكنني أن أعيش فيه بحرية دون أن أتنازل لأبي وزوجته وربما أستطيع إحضار شقيقي أحمد ليعيش معي ويبتعد عن تلك الأفعى زوجة أبي التي بالتأكيد تعذبه بالليل والنهار
    ووليد
    دوت هذه الكلمة في أعماقي وكان لها رنين مزعج معذب انقبض قلبي فجأة ودمعت عيناي، فقد تدهورت أحواله في الفترة الأخيرة تدهوراً شديداً وقل وزنه بدرجة ملحوظة وشحب لونه أكثر من ذي قبل وغدا لا يستطيع مغادرة الفراش إلا لماماً انه يموت لا لن أدعه يموت على الأقل لن أدعه يموت بين يدي لن يموت بدون أهل ولا سند وبدون معونة الأطباء والتقدم العلمي سأفعل شيئاً لأجله لن يكون ضحية أنانية خاله وخشيته من الفضيحة ألا يدري هذا الخال الجاهل بأن الفضيحة هي ما سطرها هو بيديه الفضيحة ليست بالمرض حتى ولو كان مرضاً خطيراً جلبه شاب طائش بنفسه لنفسه بل الفضيحة هي التستر على المرض وحبس المريض في حجرة ليموت في عزلة عن الناس ولن يترحم عليه أحد
    كلا لن أكمل المسيرة وأتستر على ما عشت قصته بنفسي وتبوأ بقلبي وسري سريان الدم في شراييني
    كان الوقت صباحاً زوجي في عمله والخادمة تعمل في الطابق الثاني من البيت وأنا في إجازة مدرسية فتحت الحجرة على وليد كان نائماً فتح عينيه بصعوبة ذهل من وجودي في هذا الوقت من الصباح فلم يعتد على رؤيتي إلا ليلاً
    قلت له بسرعة:
    ــ وليد هيا سأصطحبك إلى المستشفى
    نظر إلي بريبة وكأنه ينظر لشخص مجنون
    تابعت بهدوء وروية:
    ــ أنت في حاجة إلى علاج أو على الأقل إلى أناس تتعاطف معك تحس بمرضك تتفهم أعراضك انفرادك هنا بزنزانة لا جدوى منه بل سيعجل في القضاء عليك
    هتف وقد تفهم الأمر:
    ــ والفضيحة؟
    قلت بجدية:
    ــ لا عليك لست أول ولا آخر شاب يخطئ ثم ألا تشعر بالحرمان لابتعادك عن والدتك وشقيقاك أنت الآن بأمس الحاجة إلى حنانهن وصبرهن وتفهمهن أنت بحاجة إلى الدعاء من القلب الدعاء الصادق من الأعماق لعل الله يغفر ويستجيب إن الله غفور رحيم هيا بنا بسرعة
    نظر إلى بإعجاب قائلاً:
    ــ إنك بهذا تضرين نفسك سيعلم خالي وستكون الطامة الكبرى ربما يطلقك
    ضحكت بسخرية وأنا أقول:
    ــ وهذا هو ما أريده ثم تابعت بابتسامة:
    ــ لا تخشى شيئاً لن يعلم أحد هيا

    سعلبشدة وهو ينهض قائماً ثم قال وصدره يعلو ويهبط:
    ــ صدقيني لقد كنت سأعرض عليكهذا الأمر منذ زمن، لكنني خشيت أن تفهميني خطأ وتعتقدي بأنني أستقلك صدقيني
    قاطعته وابتسامتي لا تزال على شفتي:
    ــ لا داعي للكلام الآن، هيا ولنؤجل كلشيء حتى وقت آخر من يدري ربما حيت تشفى سيكون لنا متسع من الوقت حينذاك
    أغمض عينيه بشدة حين رأى النور لأول مرة منذ شهور طويلة مضت بدا مرتبكاًحائراً ومريضاً استعجلته وأنا أنادي سيارة الأجرة
    وفي المستشفى الكبيراجتمع حوله الأطباء وهم يتدارسون حالته تسللت إلى الخارج بهدوء دون أن يشعر أحدبي بعد أن أنهيت مهمتي بنجاح
    استلقيت على فراشي الوثير بعد أن تأكدت من إغلاقتلك الحجرة التي يسكنها وليد جيداً وبدأت استعد نفسيا لهبوب العاصفة وأرى زوجيبعين خيالي وهو يلقب البيت رأساً على عقب بحثاً عن وليد ويواجهني بتهمة تهريبه لنأنكر سأعترف ببرود وليفعل كل ما باستطاعته فعله ولن يستطيع أكثر من الطلاق وهذاهو مناي الذي عشت ليالي وأياماً بانتظاره لن أبكي ولن أندم فهذا قدري وأين يفرالإنسان من قدره؟
    لم أستطع النوم وتفكيري يتشعب في كل الاتجاهات كعاصفة لا تدريمستقرها فتحت عيناي على صوت زوجي نبض قلبي بقوة تأملت وجهه والعرق الغزيريبلل جسدي، لكن وجهه كان جامداً لا يعبر عن شيء لم يتغير فيه شيء البتة يبدووكأنه لم يعرف شيئاً بعد
    قال كعادته:
    هل الغداء جاهز؟ أم أنام قليلاً حتىيجهز؟
    نهضت بسرعة وقد أخفيت عيناي تحت رموشي وأنا أقول بحرارة مصطنعة:
    ــحالاً سيكون جاهزاً
    وأسرعت إلى الطابق الأرضي وقلبي لا يزال يخفق بقوة انهلم يكتشف بعد اختفاء وليد وربما يمر اليوم بطوله دون أن يكتشف شيئاً فعل سيستمرتوتري حتى اكتشافه للأمر كلا يجب أن أتجاهل كل شيء وكأن شيء لم يكن ولن يحدثإلا ما قدر الله لي ولن أندم
    في المساء وبعد أن عدت من السوق، اكتشفت التغييرالهائل الذي طرأ على زوجي عيناه الزائغتان ووجهه الممتقع وتقوقعه في ركن من أركانالبيت إلى جوار الهاتف ويداه ترتجفان بشدة هوى قلبي بين أقدامي، لكنني أيقنت بأنهقد اكتشف اختفاء وليد استجمعت شتات نفسي لأواجه زوجي بكل شجاعة وثبات قبل أنأنطق بكلمة قال بسرعة وارتباك:
    ــ اصعدي إلى حجرتك هيا بسرعة فهناك ضيوفقادمين
    سألته ببراءة:
    ــ لماذا ماذا حدث؟
    قال بارتباك وقد غاب عنهأنني قد أكون السبب في كل ما يحدث:
    ــ أبداً أحاول أن أجري بعض الإصلاحات فيالبيت وتجديد بعض الحجرات فيه هيا اصعدي ــ سيحضر بعض العمال الآن
    صعدت إلىفوق وأنا أكتم ضحكة كبرى كادت تفلت مني دون أن أشعر ابتسمت بجذل وأنا أصعدالدرجات بسرور أسعدني غضبه وحزنه وارتباكه وغفلته عن كل ما حدث ويحدث
    لايهمني حتى إن استدعى رجال الأمن وهو ما اعتقد أنه سيفعله فوليد في يد أمينة،وسيحاولون علاجه بقد استطاعتهم كما أنهم لن يدعوا خاله ينعم بالراحة والأمان وهوالذي سجنه فترة طويلة منذ بداية مرضه الخطير
    توالت الأحداث بعد ذلك سريعاً وسقط زوجي مريضاَ لا أدري هل هو أثر صدمة اختفاء وليد أم تساقط وريقات العمر آذنةبالأفول لم أتوانى عن خدمته طوال فترة مرضه التي طالت، حتى فوجئت ذات يوم بشابيبلغ قرابة السادسة والثلاثين من العمر يقتحم المنزل بدون استئذان سألته بخوف عمايريد اكتفى بأن وجه لي نظرة هازئة وهو يهتف:
    ــ أهي أنت إذن، زوجة أبي؟
    ابتلعت صمتي ودموعي، وأخذت أرقب الموقف بين الأب وابنه من بعيد سمعته يصرخبأبيه عالياً بعد لحظات:
    ــ هذا ليس مكانك يا أبي مكانك الطبيعي هو بيتكالكبير إلى جوار أم أولادك
    ثم خفض صوته لكن ليس لدرجة أن بغيب عن رهافة حسي!!
    قال بصوت خفيض:
    ــ إنها لن تهتم بك كأم أولادك إنها صغيرة ولن يهمها سوىنفسها إنها فضيحة يا أبي أن تموت خارج دارك
    علا أنين الرجل المصدوم فيأولاده قال بصوت ضعيف:
    أتريد لي أن أموت يا سليمان أهذه نهاية تربيتي لك أخرج فلن أغادر هذا البيت إلا إلى قبري
    تناهى إلى سمعي بعدها أصوات بكاءوقبلات ودموع ثم غادر الشاب بدون أدنى كلمة يوجهها لي
    أحسست بالخوف يقتحمعالمي بعنف لما يحدث حولي فكيف يحضر أبنائه بهذه البساطة إلى بيتي وكأنني غيرموجودة فيه وهل يعجز زوجي المريض أن يرد لي اعتباري وكرامتي المجروحة وقبل أنأفيق من الصدمة، فوجئت بزوجة زوجي الأولى وثلاث من بناته وأبنه ذاته الذي غادر منذساعات يدخلون بيتي بهدوء وثقة
    توقفت زوجته أمامي بضع لحظات كانت كافية لأنتوجه لي من خلالها نظرة احتقار واشمئزاز واضحة ولم يتبادل أحد منهم معي بحوار
    وصلوا مباشرة إلى حيث يرقد زوجي وأغلقوا الباب خلفهم وبعد دقائق لا أدري كمطالت خرج الجميع بصحبته زوجي كان بادئ الضعف زائغ النظرات يكاد لا يقوى علىالوقوف
    قال لي قبل أن يغادر المنزل:
    ــ سيعود أحمد لاصطحابك إلى بيتأهلك
    رباه أهذه هي النهاية أعود إلى بيت أبي مرة أخرى وبعد عام طويل مريرمن البعد عنه وماذا سيحدث لزوجي وما معنى كلامه ذاك أكان تعبيراً مهذباً عنرغبته في طلاقي أهذا ما كنت أهوى وأتمنى لكن ما بالي أعاني من الحزن الضاغطالمرير ما بالي لست سعيدة بل ومكتئبة ألأنني سأعود لأبي الذي تخلى عني وزوجتهالتي باعتني بأبخس الأثمان وأحمد ألا يقلقني مصيره ألست أحن لرؤيته
    لمأفق من تساؤلاتي إلا على صوت الخادمة تسألني إذا كنت أريد العشاء الآن أم فيمابعد تركتها ومضيت أجمع حاجاتي بحرص ودقة أشيائي الثمينة وأوراق العقار الذيكتبه زوجي باسمي وملابسي وأحزاني الكثيرة وتوقعاتي التي لا حد لها ولاح في فكريوليد يجب أن أعرف مصيره قبل أن أغادر هذا البيت لابد أن اطمئن عليه قبل أنأغادر إلى مصير لا أدريه
    أدرت قرص الهاتف بالمستشفى الذي أودعت وليد لديه فسألني الطبيب بحدة:
    ــ من أنت
    أجبت بصوت مهزوز:
    ــ أ أخته شقيقته
    أجاب بنفس الحدة:
    ــ غريبة ألا تعرفين مصيره إلى الآن وأنت شقيقته ألا تعرفين بأنه مات
    ودارت بي الدنيا ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أسارع لإغلاق سماعة الهاتف وكأنني أخمد أنفاس العذاب إلى الأبد وليد مات لا يا ربيإنه شاب لطيف ولا يستحق الموت أبداًً لا لا
    وانهرت باكية على سريري،لأفاجأ بظل شاحب ينعكس على وجهي قال بصوت عرفت نبرته:
    ــ أتبكين أبي أم تبكين نفسك هيا استعدي للأنتقال إلى دار أبيك أمامك عشر دقائق ثم تخرجين مرغمة
    نظرت إليه من خلال دموعي كان جاداً في كلامه ودلائل القسوة تلون ملامحه نهضت بأسى وأنا أهتف:
    ــ أنا جاهزة الآن
    نظر إلي باحتقار قائلاً:
    ــ هيا إذن
    طرقت الباب برقة في البداية ثم توالت طرقاتي العنيفة بعد ذلك استقبلني أبي أمام الباب
    تبادلنا نظرات الدهشة المؤلمة دهش لرؤيتي بعد هذه الفترة الطويلة، وأذهلتني طلته الشاحبة خلال أمد قصيرة نحوله المريع الشيب الذي كلل شعره الأسود الغزير وجهه الأصفر الذابل
    بدأ غير مرحب بوجودي أو هذا ما أوحيبه بصمته قطعت الصمت بصوتي المرتجف:
    ــ كيف حالك يا أبي؟
    قادني إلى الداخل دون أن يجيب عن سؤالي وجدتها أمامي ذاتها بجمالها الشرس ونظراتها النفاذة ووجها البغيض المنفر لكن لا إنها ليست هي إن جمالها يعتريه شحوب واضح ونظراتها توحي بانكسار ووجهها تغطيه هالة من حزن لا يختلف عليه اثنان
    مددت لها يدا باردة فتناولتها بكل لهفة تقبل يدي ودموعها تغرق وجهها
    قالت بصوت مضطرب:
    ــ منى حاولت كثيراً أن أتصل بك لكن أبوك رفض رفضا ًقاطعاً خوفاً من إزعاجك أو إفساد حياتك سامحيني يا منى
    هنا فقط بدت الحقيقة واضحة أمامي كشمس منتصف النهار إنها مريضة طريحة الفراش والأدوية تملأ خزانتها ودموع الألم والعذاب تغرق عينيها إذن نالت عقابها الرادع وإن فلتت من عقاب أبي رحمتك يا رب
    لأهرب من ألم الموقف تساءلت:
    ــ أين أحمد؟
    امتلأت عينا أبي بالدموع دون أن يتفوه بحرف أعدت السؤال بصوت أكثر حدة:
    ــ أين أحمد يا أبي أي مصير واجهه هذا البائس؟
    أجهشت بالبكاء على صدر أبي وبين ذراعيه وصرخاتي تشق السكون من حولي:
    ــ أحمد مات واليوم بالذات فقد عاش شريداً طوال العام المنصرم يتنقل بين السجون بتهم مختلفة التسول السرقة التشرد استنشاق المذيبات المتطايرة التعدي على الغير خلافات صغيرة ومشاجرات كبيرة ضياع في ضياع ثم بحور من الضياع وأخيراً دهسته إحدى السيارات السريعة اليوم هذا اليوم فقط ومات
    أهكذا يا أبي طفلك الوحيد الذي لم يكمل عامه الثاني عشر بعد،ينتهي هكذا، تائه ومعذب وشريد وكأن لا أهل له لقد صدقت أمي رحمة الله عليها حين قالت بأن الأب الحنون هو الذي تكون معه الأم وغير ذلك لا يكون أباً على الإطلاق أبي أيها القاتل لقد شردتنا وقتلتنا جميعاً تحت تأثير نزواتك ورغباتك وأنانيتك أمي ضحيتك الأولى ماتت وفي داخلها جراح لم تندمل ونزيف لم يتوقف وقلب شبع هواناً وتحقيراً ماتت أمي وفي جسدها ألف طعنة ومرض غادر لم يصبها إلا من قهرك وظلمك وعدوانك حبيبتي ريم الملاك الطاهر ماتت وفي حلقها غصة وحشرجتها دموع وآلاف اللعنات تطاردك حتى يومك الأخير في الدنيا ضحيتك التالية جرحت طفولتها الندية وفتحت عيناها البريئتان على عالم بشع لم تكن تعيه أفهمتها أن الشقاء هو الأصل وهو المنبع هو الأساس وإن السعادة ما هي إلا هنات راحلة زرعت داخلها أنا لشقاق هو ملح الحياة وأن الوفاق من الأطايب النادرة علمتها أن الخيانة هي الحياة وما عداها فروع لا قيمة لها سرقت منها الطفولة والبراءة والسعادة وهم كيان كل طفل فقتلتها وهي على القيد الحياة عجلت برحيلها حين أدرت لها ظهرك وهي في أمس الحاجة إليك لم تلحظ انطفاءها التدريجي لأنك مشغول عنها بملذاتك
    فماتت وهي تمقتك نعم هي أوصتني بك خيراً لكنها لن تنسى لك ما فعلته بنا
    أحمد الطفل البائس الذي لم يرى منك خيراً قط رغم أنه ولدك الوحيد فتح عينيه على صراخك بسبب وبدون سبب قتلته ألف مرة بمشاجراتك التي لا تنتهي وخلافاتك التي تفتعلها مع أقرب الناس لنا وخياناتك الموجعة ثم جاءت طعنتك الأخيرة في الصميم وأصبته بمقتل أنت الذي قتلته يا أبي وليس أحد سواك حتى هذه الحية الرقطاء لم تكن إلا عاملاً مساعداً أو أداة لقتله ليس غير قتلته حينما شردت أهله أمام عينيه، ثم وكأنك تطفئ سجائرك فيقلبه بتعذيبك إياه المتواصل وطره من البيت وتجويعه وتشريده حتى أضحى من المتشرد ينا لسوقة وهو ابن عائلة وله أصل مرموق وفي الأخير يموت كقطة متشردة تحت عجلات سيارة يالها من نهاية يا أبي ويا لك من ظالم
    ألم أكن أنا من جملة ضحاياك ألم تقتلني بتعذيبك لأمي كل يوم بل كل دقيقة لقد سلبت منا الأمن والأمان وتركتنا نعيش على حافة جرف لا ندري هل تستقيم الحياة بنا أم تجرفنا الهاوية يوما ًما أترقب النهاية ويدي على قلبي وكل النهايات تعيسة فقدت أمي ثم فقدت شقيقتي ثم فقدت شقيقي الوحيد وقبلهما فقدت نفسي فقدت سعادتي واطمئناني لم أعش يوماً كمراهقة تفتح ذراعيها للعالم وتفكر بالمستقبل بل أدرت ظهري للدنيا وعشتفي الماضي بكل مآسيه سرقت مني أحلامي وطموحاتي وحتى شبابي حتى شبابي ومستقبلي بعتهما لشيخ عجوز على مشارف قبره، وكأنك تدفنني معه لقد نجحت يا أبي أنني أهنيك يا أبي فقد قتلتنا جميعاً وقضيت علينا كما تهوى وتتمنى بأنانيتك وحمقك ونزواتك
    تحسست مفاتيح بيتي الجديد في جيبي ثم استدرت لأخرج استوقفني أبي ودموعه تهطل بغزارة وتبلل لحيته الكثة ثم تسيل على ثيابه
    ــ صدقيني يا بنيتي ليس لي ذنبفي موت أحمد
    نظرت إليه بإشفاق ثم ربت على كتفيه هامسة:
    ــ مكاني ليسهنا يا أبي
    ألقيت على زوجته نظرة قائلة:
    ــ لا تخشي شيئاً من أجلي فليبيتي الخاص وأملاكي الخاصة ولن أحتاج لأحد بعد الآن
    جاءني صوتها متهافتاً ضعيفاً:
    ــ أرجوك يا منى سامحيني لقد أخطأت في حقك كثيراً، وقد فعلت الكثير والكثير حتى انتهيت طريحة الفراش كما ترين، ولا أمل لي في حياة سوية كبقية البشر هذا إذا بقيت على قيد الحياة منى أنني أتوسل إليك أن تغفري لي
    ثم أجهشت بالبكاء وقفت بالباب مترددة ثم همست قبل أن أخرج:
    ــ الله هو الذي يغفر الذنوب جميعاً سبحانه

    )( تمت )(





    رد مع اقتباس  

  7. #7 رد: بكاء تحت المطر 
    المشاركات
    156
    عبق الزهور

    مشكورة أختي على الموضوع





    رد مع اقتباس  

المواضيع المتشابهه

  1. بكاء الروح
    بواسطة راسم الكلمه في المنتدى المنتدى العام
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 25-Jun-2010, 05:39 PM
  2. بكاء قلمي
    بواسطة ريانه في المنتدى خواطر - نثر - عذب الكلام
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 24-Mar-2007, 04:57 PM
  3. بكاء الروووح أعظم من بكاء الجسد !!!
    بواسطة hal3yon في المنتدى المنتدى العام
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 31-Dec-2006, 12:47 AM
  4. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 25-Aug-2006, 10:21 PM
  5. حفلة بكاء !!!
    بواسطة راسم البسمه في المنتدى خواطر - نثر - عذب الكلام
    مشاركات: 24
    آخر مشاركة: 26-Apr-2006, 11:18 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

عرض سحابة الكلمة الدلالية

المفضلات
المفضلات
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •