الثلج, الزجاج, صورة
[frame="1 80"]السورة غايتها أعمق من مجرد أن تكون رسالة إنذار لظالم واحد، فرسالتها عميقة في الإصلاح النفسي والتهذيب الروحي لكل نفس تشرد عن طريق ربها، أو شذت عن الغاية التي خلقت من أجلها.
سورة البلد رسالة لا تنتهي صلاحيتها لانعدام آفاق محدوديتها. فهي رسالة عامة لا تتأثر بالطقس ولا بالظروف، ورسالة إنسانية تخاطب في الإنسان عقله وروحه سواء بسواء؛ دون تمييز للون أو جنس.
هي رسالة يحتاجها البشر في زمن التجبر المادي والتسلط الإلكتروني، وطغيان حضارة المادة على فطرة الروح. هي رسالة إصلاحية هدفها الإنسان مجرد من الزمان والمكان والأوصاف والألوان، وهدفها المجتمع المفتقر إلى قيم التراحم والصبر والتعاون والبر.
رسالة لكل أمة
معالم الرسالة الأولى موجهة لكل أحد يظن أن بنيانه البدني؛ قد يكون مدعاة له على ظلم الناس أو الظهور عليهم. وهي رسالة لكل أمة تظن أن تقدمها في عالم المادة تحصيل أسباب التقدم، يجعل من حقها أن تدعي تسلطها على العالم، فتنصب من نفسها قيّمة على إرادة الشعوب، ومصدرة لما ترتئيه صوابًا، فتجعل منه قانونًا يحكم به في الأرض، وتنصب لمخالفيه المشانق.
كما أنها رسالة لكل من يظن أن ذكاءه العقلي ونبوغه الذهني يبيح له الاستيلاء على عرش الأرض فيضارع الله في ملكه منخدعًا بما أوتي من بنيان قوي وعقل ذكي.
هذا السلطان البدني أو العقلي يحتاج إلى صيحة تنبيه أن ثمة قوة أعلى وأقوى عليه أن يذعن لها هي قوة الخالق العظيم، وأن إذعانه وإقراره بضعفه هو أعلى صورة من صور قوته الحقيقية، فتطوره ونموه العقلي جزء من مشيئة الخالق العظيم. تأتيه الرسالة موجزة في استنكار: "أيحسب ألن يقدر عليه أحد؟!" أيها المخدوع قف! فهناك من يسيرك!.
أيحسب ألم يره أحد!
ربما انخلع الإنسان من أحابيل الاغترار بقوة البدن والعقل؛ فوقع فريسة الاغترار بقوة المال. وحاول أن يعوض نقص نفسيته بالسير هنا وهناك؛ متفاخرًا ومتحدثًا بآثاره الجليلة، ومشاركاته في خير البشر - أصاب أم أخطأ.
وكثيرًا ما نصادف في حياتنا نماذج من هؤلاء البشر الذين يستولي عليهم الإحساس بالحاجة إلى المدح والمفاخرة، فيطلقون ألسنتهم مثرثرين بما فعلوا من صنائع معروف أو أنفقوا من أموال.
هذه النزعة الخادعة، ألجأت عددًا لا بأس به من ذوي السلطان في الماضي أن يستسلموا لحفنة من المرتزقة المتزيين بزي الشعراء، فكالوا لهم أصناف العطايا في مقابل سطور من الشعر، تصاغ لهم تملقًا وتعلقًا من أمثال:
إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
ولعل هؤلاء الممدوحين قد أصابهم نقص ما فحاولوا أن يعوضوه بالبذل للمداحين بدلاً من أن يحثو في وجوههم التراب كما علمنا الإسلام؛ إذ إن التجمل ليس للناس وإنما هو لرب الناس.
وهؤلاء المداحون يدخلون في دواخل الإنسان عظمة أكبر منه، وينسونه أنه في المال مستخلف وما له فيه من نعمة، وهل للعبد إن أنفق من نعمة، وهل له من تصرف إلا كما أراد سيده؟ "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه".
لذا تأتي صيحة الإنذار الثانية لمن تسول له نفسه أن يتزيا بما ليس له أو يدعي نعمة ليست من عنده فيمشي يصيح: أهلكت مالاً لبدًا. هنا يأتيه النداء! "أيحسب ألم يره أحد" أتظن أننا في غفلة عما أنفقت؟ بم تفخر ولم تفخر؟ أتطلب المدح بإنفاق ما ليس لك، أم تستجدي الثناء ببذل ما لم تعمل يداك؟ حالك كحال أفقر الفقراء، هو يستجدي العطاء وأنت تستجدي الثناء!
أدوات التصحيح
القرآن منهج حياة
لا بد لكل غافل من أداة تنبيه، ولا بد لكل مصحح من أداة تعينه على تصحيح مساره وتعديل وجهته. والقرآن ينبّه إلى أدوات التصحيح هنا: "ألم نجعل له عينين" كي يرى أن في الكون من هو أشد منه قوة وأحكم بناء. وكأن القرآن ينبّه أيضًا أن من جمله شكر نعمة البصر؛ أن يستغلها الإنسان في إبصار حقيقة الأمور، فيدرك أنه ضئيل إذا ما قورن بعلامات قوة الله الظاهرة.
والأداة الثانية تعالج خلل الغرور بالمال والإنفاق الزائف، "ولسانًا" يتحدث به عن مسبل النعمة الأصلي، ويستخدمه فيما يفيد، وينفع بدلاً من الثرثرة فيما لا ينفعه نفعًا حقيقيًّا.
ويتبع هذا بالحديث عن الشفتين، والعلاقة بين اللسان والشفتين جد واضحة، فهما حارسا اللسان يمنعانه من كل قبيح، ويذكرانه عندما يهمّ بالخروج من ذلك التجويف المسمى بالفم؛ أنه على وشك الخروج للعالم فماذا سيقول؟ ولما تنبه السابقون لهذه العلاقة قالوا: "إنما جعل على اللسان حارسان من لحم (الشفتان) وحارسان من عظم (الأسنان العليا والسفلى)".
ثم يوضح القرآن أن الله قد زاد على هذا، فهدى الإنسان إلى ما يصح وما لا يصح، وبيّن له الخير والشر والخطأ والصواب وعليه أن يميز. فالتمييز هنا أداة ثالثة من أدوات إصلاح الخلل؛ فمن العي ألا يميز المرء علته، ولا يعرف نقيصته.
والحاصل من هذه الأدوات كلها؛ إنسان استكمل مقومات التغلب على ضعف نفسه. هذا الإنسان يمكنه الآن أن ينطلق من عالم الفكرة إلى عالم الفعلة، ويحول ما تعلمه إلى واقع ملموس.
فلا اقتحم العقبة.
هذا نداء تحفيزي الغرض منه تشجيع هذا الإنسان الحائز لأدوات الإصلاح أن ينطلق دون عوائق؛ لتحويل ما تعلمه نظريًّا إلى واقع ملموس يسعد البشر. والتطبيق صورة من صور تميز رسالة القرآن الإصلاحية، فهي تشخص الداء وتبين الدواء، وتصف أنجع الطرق التي يمكن للدواء من خلالها أن يكون فاعلاً.
والقرآن يوضح بعد استثارة ذهن هذا الإنسان؛ أن العقبة الكئود التي تقف أمامه هي قدرته على تحويل ما آمن به إلى فعل، وتبين أن وسائل ذلك هي: "فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيمًا ذا مقربة * أو مسكينًا ذا متربة".
وهنا نتمثل العلتين ثانية، فمن يفك الرقبة إنسان أدرك أن القوة الحقيقية لا تعني أن يتحكم الإنسان في أخيه الإنسان، أو يسيطر على حريته. وإنما تعني أن يدرك المرء قيمة المساواة والخضوع أمام رب العالمين.
والعقبة الثانية هي تحرير النفس من شره طلب المدح والثناء ببذل المال وإهلاكه. وكأن القرآن يرشد إلى أن الإنفاق بغرض التمدح إنما هو ضرب من ضروب السفه؛ إذ إنه إهلاك للمال وأن العاقل لا يهلك ماله، وإنما يرسله سخاء فيما ينفع الناس.
إن التغلب على هذه العقبة يكون بترشيد الإنفاق، وبذل المال في بناء العلاقة الطيبة بين الناس؛ بإطعام الفقراء والمعوزين، واجتثاث بذرة الحسد، والحقد من سويداء قلوبهم، واقتلاع شهوة الأنانية والأثرة وحب الأنا من قلب المنفق.
هنا تقف أمم العالم على تعاون الإنسانية جمعاء على حماية الضعفاء، وسد حاجة الفقراء، وترشيد ثروات الأمم الغنية باستثمارها في الطاقة البشرية التي قد تعاني -في غياب قيم العدالة الإنسانية والرحمة والتكافل- من المجاعة والموت والتطرف والشطط.
وتواصوا بالمرحمة
وهنا تستطيع أمم الأرض الغنية بأموالها أن تكون غنية بأخلاقها وقيمها وحضارتها؛ بترشيد استخدام الفائض من ثرواتها في دعم بني البشر من أبناء الأمم الأقل حظًّا؛ بدلاً من إهلاك تلك الأموال في صناعة الأسلحة الذرية التي لا تبقي ولا تذر، وتهلك البيئة والبشر أو بإلقائها -في سفه- في قاع المحيطات ضنًّا بالقمح والطعام على بني آدم، وسخاء به على الأسماك والقواقع.
لقد بيّن القرآن السبيل نحو مجتمع خال من هذه الأوضاع، وذلك بأن ينطلق الصالحون متواصين وموصين بالصبر والرحمة. فالصبر عنوان القوة الحقيقية؛ إذ إن صاحب القوة الحقيقية هو الذي يملك القوة على التحكم في نفسه وتصبيرها على أذى البشر وصروف الدهر.
والرحمة هي البديل العاطفي الشعوري عن طلب المحمدة، فلو امتلأت القلوب بالرحمة لأدرك المنفقون أن بذلهم مهما كثر فهو قليل أمام معاناة الناس.
ما أصعب قيادة الروح
وإذا تواصى الناس بالصبر؛ علموا أن القوة تتحقق في أمكن صورها عندما يتحمل بعضنا بعضًا. كما تتحقق حينما يستطيع المرء أن يملك زمامه أمام مزالق الشهوات العفنة، ومراتع الرذيلة القذرة، وينأى بنفسه عن الدناءة. فما أيسر قوة الجسد، وما أصعب قوة القياد والروح.
وإذا تواصى الناس بالمرحمة لارتفع المجتمع من ضنك الحاجة والعوز ومساقط الحقد والكراهية والأثرة والأنانية والطبقية الفاحشة. إذا تواصى الناس بالرحمة غابت من بينهم وجوه بائسة وقلوب يائسة وجباه عابسة، وأرواح تطلب الموت لفقد القوت.
هذه رسالة سورة البلد لكل بلد، تأتي على عجل لتغرس الأمل في قلوب أضناها الكلل، تدعو للعمل وهجر الكسل، واقتحام العقبة في الأزمنة الصعبة.
هي رسالة إصلاح لأمة الصياح في زمن نحتاج فيه لإدراك المعاني، بعد أن غابت المعاني، وعلت الأماني، وتغشانا التواني. فهل من معتبر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.
منقول[/frame]
s,vm hgfg] Ywghp gHlm hgwdhp