أطفال الحجارة
ثمة عطلة مدرسية طويلة لا يذكر سمير مناسبتها ؛ و لكن في أحد أيامها تجمع الصبية كالمعتاد و لكن بدلا من مباشرة لعبهم حولوا أنفسهم إلى مظاهرة صغيرة أخذت تجوب الشارع جيئة و ذهابا ، ثم أخذت تتعاظم بينما أخذ أفرادها يعترضون حافلات الترام و يرشقونها بالحجارة و من ثم بدؤوا يطالبون التجار و الحرفيين بإغلاق دكاكينهم .
و ما أن انتصف النهار حتى كان الشارع مقفرا إلا منهم ، عندما تدخل رجال شرطة مخفر الحي المجاور ، و بعد صدام قصير عاد كل شيء إلى طبيعته ؛ و لكن المصادمات بين الجانبين توالت خلال الأيام التالية و أصبح من المألوف أن يتحول الشارع و بستان الباشا إلى ساحة معارك حقيقية تضطر معها العربات و حافلات الترام إلى النكوص على أعقابها من حيث أتت و يهرع أصحاب الدكاكين إلى إغلاق أبوابها أما المهنيون فيضطرون إلى استمرار أعمالهم من وراء أبواب موصدة من الداخل ذلك أن حالتهم المادية لا تسمح لهم بلحظة بطالة واحدة .
ثم أخذت الأمور تتطور نحو العنف و أخذت بعض الإصابات تظهر هنا و هناك ، سواء بين الصبية المتظاهرين أو بين الأبرياء من المارة أحيانا أخر ، و بدأ تدخل الشرطة يتفاقم و يزداد شراسة مع تفاقم العنف و التخريب .
و في يوم استبدت فيه النشوة بالصبية بعد أن تمكنوا من السيطرة على الحي ثم توجهوا لإشعال الإضراب في الحيين المجاورين ، فتصدى لهم على غير المألوف تجمع معارض كبير أخذ يصدهم و يرشقهم بالحجارة أيضا ، ثم بدت عن بعد عربات كثيرة لرجال الشرطة و الدرك* أخذت تستعد لمهاجمة الحي ؛ هنا تراجع الصبية و أخذوا يقيمون حاجزا من جذوع أشجار كانت معدة في البستان لبيعها حطبا ، ثم بدأ الحاجز ينمو بما أضيف إليه من أنقاض جمعت على عجل من كل صوب .
كان رجال الأمن ينظمون صفوفهم ، عددهم و عددهم تنذر بالشر ؛ كانت خوذهم المعدنية تعكس نور الشمس كعشرات المرايا ، و تروسهم المثبتة على أذرعتهم ، و بنادقهم المعلقة على أكتافهم و صفوفهم المنظمة و هم يتقدمون على إيقاع صفارة كبير ضباطهم ملوحين بعصيّهم الغليظة ، كل ذلك كان يوحي بالرهبة و يدب الرعب في قلوب سمير و أمه و مربيته أم محمد ، و لكن ليس في قلوب صبية الحي الذين ما أن شاهدوا رجال الأمن يباشرون بإزالة الحاجز حتى انهالوا عليهم رشقا بالحجارة و الزجاجات الفارغة و ما طالت أيديهم من أجسام صلبة .
و بأمر من قائدهم تراجعوا قليلا ثم شنوا هجومهم الكاسح ؛ فدب الذعر بالصبية و لاذوا بالفرار على غير هدى فقد كان الضغط أقوى من أن يحتملوه .
تعثر بعضهم فكان هدفا سهلا للضرب بالهراوات و كعوب الأحذية العسكرية حتى إذا رووا غليلهم ممن وقع بين أيديهم جروه إلى شاحنة الاعتقال .
و بينما انهمك بعض رجال الأمن باستكمال إزالة الحاجز استمر آخرون في ملاحقة الصبية و تحطيم عظام من يطولونه منهم ، و أخذت نسوة الحي اللواتي امتدت رؤوسهن من النوافذ و الشرفات يولولن أو يناشدن الجنود بأن يكونوا أكثر رأفة فالصبية لا يتجاوز أكبرهم الخامسة عشر ؛ أما أم محمد فكانت من فرط انفعالها تلطم خديها في حين كانت أم سمير تضم سميرة إلى صدرها و هي ترتعش و تمسح بطرف خمارها قطرات من الدمع كانت تتسرب من حين لآخر من مقلتيها .
و استمر رجال الشرطة و الدرك بقيادة ضباطهم الفرنسيين يلاحقون أطفال الحجارة و قد أبدى بعضهم وحشية فاقت كل توقع .
كان التجار و المهنيون و عمالهم و بعض شبان الحي حتى اللحظة من المتفرجين و لكن عندما أصيب صبي إصابة بالغة فأغمي عليه هرع شابان لإسعافه فما كان من أحد الضباط إلا أن أمر بضربهما و اعتقالهما فازداد عويل النساء إلا أن الشبان اشتعلوا غضبا فبادر أحدهم بقذف زجاجة فارغة استهدفت ذلك الضابط الأحمق فأصابته إحدى شظاياها و هنا جن جنونه فأخرج مسدسه و أطلقه باتجاه أحد التجمعات و اشتعلت من ثم الحرب .
صمت عويل النسوة و انسحب الصبية إلى مداخل الحارات و صاح صائح :" لا تخافوا يا شباب الموت لا يخيف الرجال " . ثم عزز كلامه بقذف حجر كبير من مقلاعه بعد أن لوحه في الهواء فأصاب صلعة دركي كان قد رفع لتوه خوذته ليمسح عرقه ، و على الفور انبثقت نافورة دماء فغطت وجهه و ثيابه ، فما كان من زملائه إلا أن جهزوا أسلحتهم و أخذوا يطلقون النار في كل اتجاه .
هبت أم سمير إلى ( الروشن ) فانتزعت سمير من مكمنه و اندفعت به إلى الداخل و للتو سمع ثلاثتهم صوت قذيفة أصم آذانهم كانت قد اندفعت إلى إحدى النوافذ فحطمتها ثم أكملت طريقها إلى الثريا المعلقة في وسط الصالة فبعثرتها لتملأ شظاياها الحجرة و أثاثها .
شل الرعب سمير و أمه بينما أصيبت أم محمد بحالة هستيريا أخذت تردد خلالها بلا هوادة : " يا لطيف ، إنه يوم القيامة ، يا لطيف خربت الدنيا فوق رؤوسنا ، يا لطيف يا لطيف إجعل للبلا تصريف ." كررتها عشرات المرات قبل أن يفتح الباب و يدخل الأستاذ فهرعوا جميعا لاستقباله .
قالت له أم سمير :
- لقد أحسست بالضياع ، حسبت لوهلة أني فقدت كل شيء ، كان ابنك جالسا على (الروشن) قبيل دخول الرصاصة ، ربك قدر و لطف فقد جررته من هناك في اللحظة المناسبة كأنما هاتفا هتف لي لأفعل . ثم أردفت متسائلة :
- - و آخرتها يا عبد الباقي ؟
- لا أحد يمكنه التكهن بالنهاية ، الإنسان المخدوع يا قمر لا يمكنه العيش بسلام لا مع نفسه و لا مع الآخرين ، هو يصارع نفسه لأن الخديعة انطلت عليه فيعيش تحت سياط الإحساس بالذنب ، و تظل أعصابه مستنفرة متحفزة للثورة و التمرد ، و من ثم يتطلع إلى وسيلة يقارع بها من خدعه .
- لم أفهم كلمة واحدة ، من الخادع و من المخدوع ؟
- لقد عاملت فرنسا قادتنا معاملة الأطفال فبعد توقيع المعاهدة التي استغرق التفاوض من أجلها أشهرا ، جمدتها الجمعية الوطنية الفرنسية بحجة أو بأخرى ، و بعد أن تركونا نؤلف الدستور عطلوا المواد المتعلقة بالممارسة الفعلية للاستقلال ، و عندما ظهر التضامن بين مختلف فئات الشعب سنوا قانون الطوائف لإشعال نار الفتنة بإثارة النعرات العقائدية من جديد ؛ و لكن بينما تراخت روح النضال لدى القادة الذين بدؤوا يستسلمون للأمر الواقع ، و خاصة بعدما تبوؤوا المناصب ؛ فإن الروح النضالية لم تخمد لدى عامة الناس ؛ تلك هي المسألة يا قمر .
- لو رأيت رجال الشرطة و الدرك ، كانوا وحوشا !
- ملكيون أكثر من الملك !
*****
و في اليوم التالي أفاق الناس ليروا جنودا أفارقة يملؤون الحي ، تميزهم طرابيشهم و أحزمتهم الحمراء ؛ كانوا مدججين بالسلاح ، في حين قامت مجموعات من الشرطة – منذ الفجر – باعتقال زعماء الحي ووجهائه بعد اقتحام بيوتهم .
و عرف حي بستان الباشا الهدوء للمرة الأولى منذ أشهر و لكنه كان هدوءا حذرا تحت ظلال الحراب الفرنسية .
ثم فتحت الدكاكين أبوابها ، فعاد النول اليدوي إلى قرقعته الرتيبة ، كما عادت حافلات الترام الكهربائية إلى رحلاتها المكوكية ، و كذلك عاد سمير إلى مدرسته بعد انقطاع طويل .
=================================
*الدرك : شرطة الأرياف و يستعان بهم عند تأزم الأوضاع
H'thg hgp[hvm