هلاك القذافي والدرس المستفاد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الكبير المتعال، العزيز المتكبر الجبار، مكور النهار على الليل والليل على النهار، وأصلي وأسلم على المصطفى المختار، وعلى آله وصحبه البررة الأخيار، أما بعد؛
فإنَّ لله في كونه سنناً لا يطرأ عليها تبديل، ولا يعتريها تغيير.
{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب/62].
{وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء/77].
{ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر/43].
وإنَّ من سنن الله في هذا الكون أنَّ ليلَ الظالم مهما طالَ فإنَّه إلى زوال.
ففي الحديث المتفقِ على صحته عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»، قَالَ ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}.
فلن يفلت ظالم من بأس الله.
قال النووي رحمه الله: "ومعنى «لم يفلته»: لم يُطلقه، ولم ينفلت منه. قال أهل اللغة: يقال: أفلته أطلقه وانفلت منه"([2]).
وفي سنن أبى داود، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدرُ أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبةَ في الدنيا مع ما يدَّخرُ له في الآخرة مثلُ البغيِ وقطيعة الرحم».
وفي مسند أحمد ومستدرك الحاكم، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذنبان معجلان لا يؤخران: البغي وقطيعة الرحم».
فالحديث دال على أنَّ الظالم وقاطع الرحم لابد أن تنالهما عقوبة الله في الدنيا، وعذاب الآخرة أشد وأبقى.
وهذا البأس الذي قضت الأدلة بحلوله في ساحة الطغاة لا يمكن لأحد أن يصرفه عنهم، أو أن يحول بينه وبينهم إذا جاءهم، أو أن يرد منه شيئاً، قال تعالى في البقرة وآل عمران والمائدة: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}، وقال: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}[الحج/71]. قال السعدي رحمه الله: "{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} ينقذونهم من عذاب الله، أو يدفعون عنهم بعض ما نزل بهم"([3]). وكما أنه يدخل في الآيات عدمُ النصرة في الآخرة بصرف وجوههم عن النار، فإنه يراد منها الإنجاء مما ينزل بهم من العقوبة في الدنيا. قال تعالى عن صاحب الجنتين: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} [الكهف:43]، وقال عن قارون: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص:81].
فما الحكمة من تأخير نزول العذاب بالظالمين؟
في ذلك ثلاثُ حِكَم
الحكمة الأولى:
لتظهر آثار بعض أسماء الله. فمن أسماء الله: الحليم. والحليم الذي لا يعاجل بالعقوبة.
الحكمة الثانية:
في هذا التأخير رفعة في درجات المظلوم.
رأى أحد الناس مظلوماً مصلوباً في عهد الحجاج –أستاذ الطغاة-، فقال: ربِّ إنَّ حلمك بالظالمين أضرَّ بالمظلومين. فرأى في منامه كأن القيامة قامت، ورأى المظلوم المصلوب في أعلى الجنة، ثم سمع من يقول له: إن حلمي بالظالمين، أورث المظلومين أعلى عليين.
الحكمة الثالثة:
ليزاد الطغاة إثماً إلى آثامهم. قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران/178].
متى يعتبر الطغاة؟
أيها الطغاة
إنَّ لكم في سِيَر أسلافكم الماضين من الذين بغوا في الأرض فأكثروا فيها الفساد لعبرةً، ماذا كانت عاقبة بغيهم وظلمهم؟ أين فرعون الذي قال: {أنا ربكم الأعلى}؟ أين أبو جهل فرعون هذه الأمة؟ أين أمية بن خلف والملأ من قومه الذين اشتدت وطأتهم على المستضعفين من المؤمنين؟ أين البسيوني حمزة؟ أين مبارك؟ أين شارون؟ أين شين الهاربين المسمَّى بزين العابدين ماذا حل به؟ {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت/40].
قصة وعبرة
في الزواجر عن اقتراف الكبائر للهيتمي رحمه الله: "قال بعضهم: رأيت رجلا مقطوع اليد من الكتف وهو ينادي: من رآني فلا يظلمن أحدا. فتقدمت إليه وقلت له: يا أخي ما قصتك؟ فقال يا أخي قصتي عجيبة، وذلك أني كنت من أعوان الظلمة، فرأيت يوما صيادا قد اصطاد سمكة كبيرة فأعجبتني، فجئت إليه فقلت: أعطني هذه السمكة، فقال: لا أعطيكها، أنا آخذ بثمنها قوتا لعيالي. فضربته وأخذتها منه قهرا ومضيت بها، قال: فبينما أنا أمشي بها إذ عضت على إبهامي عضة قوية، فلما جئت بها إلى بيتي وألقيتها من يدي ضربت عليَّ إبهامي وآلمتني ألما شديدا حتى لم أنم من شدة الوجع، وورمت يدي، فلما أصبحت أتيت الطبيب وشكوت إليه الألم فقال: هذه بدو أَكَلَة، اقطعها وإلا تلفت يدك كلُّها. فقطعت إبهامي، ثم ضربت يدي فلم أُطِق النوم ولا القرار من شدة الألم، فقيل لي: اقطع كفَّك. فقطعتُها، وانتشر الألم إلى الساعد، وآلمني ألماً شديداً ولم أطق النوم ولا القرار، وجعلت أستغيث من شدة الألم، فقيل لي: اقطعها من المرفق. فانتشر الألم إلى العضد، وضربت علي عضدي أشد ما كان من الألم، فقيل لي: اقطع يدك من كتفك وإلا سرى إلى جسدك كلِّه. فقطعتها، فقال لي بعض الناس: ما سبب ألمك؟ فذكرت له قصة السمكة، فقال لي: لو كنت رجعت من أول ما أصابك الألم إلى صاحب السمكة فاستحللت منه واسترضيته لم تقطع يدك، فاذهب الآن إليه واطلب رضاه قبل أن يصل الألم إلى بدنك. قال: فلم أزل أطلبه في البلد حتى وجدته، فوقعت على رجليه أقبلهما وأبكي وقلت: يا سيدي سألتك بالله إلا ما عفوت عني. فقال لي: ومن أنت؟ فقلت: أنا الذي أخذت منك السمكة غصبا، وذكرت له ما جرى، وأريته يدي. فبكى حين رآها ثم قال: يا أخي قد حاللتك منها؛ لما قد رأيت بك من هذا البلاء، فقلت له: بالله يا سيدي هل كنت دعوت علي لما أخذتها منك؟ قال: نعم. قال: فما قلت؟ قال: قلت: اللهم هذا تقوَّى عليَّ بقوتِه على ضعفي، وأخذ مني ما رزقتني ظلماً، فأرني فيه قدرتَك.
السنة عند هلاك الطغاة
إذا هلك الطغاة فثَمَّ أربعُ سنن
السنة الأولى: الفرح بموته.
والثانية: شكر الله على ذلك.
والثالثة: التحميد.
والرابعة: والتكبير.
ثبت في مسند أحمد، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وقد ضُربت رجلُه وهو صريع، وهو يذبُّ الناس عنه بسيف له. فقلت: الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله. فقال: هل هو إلا رجل قتله قومه؟ قال: فجعلت أتناوله بسيف لي غير طائل، فأصبت يده، فندر سيفه فأخذته فضربته به حتى قتلته، ثم خرجت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أُقَلُّ من الأرض، فأخبرته، فقال: آلله الذي لا إله إلا هو؟ قال: -فرددها ثلاثا- قال: قلت: آلله الذي لا إله إلا هو. قال فخرج يمشي معي حتى قام عليه، فقال: «الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله، هذا كان فرعون هذه الأمة». وفي رواية في المسند أيضاً: «اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ».
وفي الصحيحين، عن أبي قتادة بن ربعي رضي الله عنه أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة فقال: «مستريح ومستراح منه». قالوا: يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: «العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب».
أحكام تتعلق بموت الهالك القذافي
- القذافي كافر مرتد عن دين الإسلام، لا يجوز دفنه في مقابر المسلمين ولا تشييعه.
- لا يجوز أن يستغفر للمشركين.
- لا يجوز إبداء عورة الكافر؛ لأن النظر إلى العورات محرم، والإبداء يقتضيه.
- يجوز صلب الكافر والطاغية لأخذ العبرة.
- لا ينبغي أن تأخذنا رأفة حيال مصرع هذا الطاغية، فإنَّ موته وما لحقه من مهانة وذل لأمر تُشفى به صدور الثكالى والأرامل والأيتام والمؤمنين الذي رأوا ما فعله بالإخوة الثوار في ليبيا. قال ابن القيم رحمه الله: "سبحان الله كم بكت في تنعم الظالم عين أرملة، واحترقت كبد يتيم، وجرت دمعة مسكين، {كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون}، {ولتعلمن نبأه بعد حين}"([4]). وسبحان الله كيف انتهت حياة الطاغية في المجاري وهو من كان ينعت شعبه بالجرذان! والبلاء موكل بالمنطق.
- من نشر صور الطاغية بعد موته بغرض العظة والعبرة فهو مأجور على ذلك مثاب إن شاء الله.
- من الولاء للمؤمنين والعداوة للكافرين إظهار الفرح بموت هذا الطاغية.
الظلم ظلمات
كان يزيد بن حاتم يقول: ما هِبْتُ شيئًا قط هيبتي من رجل ظلمته، وأنا أعلم أن لا ناصر له إلا الله، فيقول: حسبي الله، الله بيني وبينك.
وقال كعب الأحبار لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء. فقال عمر: إلا من حاسب نفسه. فقال كعب: والذي نفسي بيده إنها لكذلك: إلاَ من حاسب نفسه، ما بينهما حرف. يعني في التوراة.
ونادى رجل سليمان بن عبد الملك - وهو على المنبر -: يا سليمان اذكر يوم الأذان. فنزل سليمان من على المنبر، ودعا بالرجل، فقال له: ما يوم الأذان؟ فقال: قال الله تعالى: {فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين} [سورة الأعراف:44].
وقيل: من سَلَبَ نعمةَ غيرِه سَلَبَ نعمتَه غيرُه.
ويقال: من طال عدوانه زال سلطانه.
وقيل: لو بغى جبل على جبل لدكّ الله الباغي منها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام"([5]).
اللهم أرنا في الطغاة قدرتك، وأنزل بهم بأسك، وخلِّص العباد من شرهم، وألحق من بقي منهم بأسلافهم الذين مضوا بأليم عقابك.
رب صل وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------
[1] / هو موضوع جمعة 21/10/2011م، وإنما تأخرت في كتابته نسبة لانشغالي بأمر أُسَري.
[2] / شرح مسلم (16/137).
[3] / تفسير السعدي، ص239.
[4] / بدائع الفوائد (3/762).
[5] / الاستقامة (2/247).
igh; hgr`htd ,hg]vs hglsjth]