[ الرسول و التسامح ] .
جاء فتى من قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الزنا ، فثار الصحابة وهموا به لجرأته على النبي صلى الله عليه وسلم ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وقف منه موقفاً آخر ، فقال : * أدنه * فدنا ، فقال : * أتحبه لأمك ؟ * قال : لا والله ، جعلني الله فداك ! قال : * ولا الناس يحبونه لأمهاتهم * ، ثم قال له مثل ذلك في ابنته وأخته وعمته وخالته . في كل ذلك يقول : * أتحبه لكذا ؟ * فيقول : لا والله ، جعلني الله فداك .
فيقول صلى الله عليه وسلم : * ولا الناس يحبونه . * فوضع يديه عليه ، وقال : * اللهم أغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وحصن فرجه * . فلم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شيء .
وإنما عامله النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الرفق ، تحسيناً للظن به ، وأن الخير كامن فيه ، والشر طارىء عليه ، فلم يزل يحاوره حتى اقتنع عقله ، واطمأن قلبه إلى خبث الزنا وفحشه ، وكسب مع ذلك دعاء النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد يقال : هذا الرجل لم يقترف المعصية بعد ، فهو أهل أي يعامل بالرفق والملاينة ، بدل الفضاضة والمخاشنة ، فإليك هذا المثل ، وهو تلك المرأة الغامدية التي زنت ، وهي محصنه وحملت من الزنا ، وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ليطهرها بإقامة الحد عليها ، فما زالت به حتى أقام عليها الحد ، ولما بدرت من خالد بن الوليد جملة فيها سبها ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : * أتسبها يا خالد ؟ والله لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين بيتاً من أهل المدينه لوسعتهم ! وهل ترى أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل * .
أو مثل الصحابي الذي كان يشرب الخمر ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنه ، حتى لا يعينوا عليه الشيطان .
هذا وقد جاء أعرابي يوماً يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً فأعطاه ، ثم قال له : * أحسنت إليك ؟ * قال الاعرابي : لا ، ولا أجملت ! فغضب المسلمون وقاموا إليه ، فأشار إليهم أن كفوا ، ثم دخل منزله ، وأرسل إلى الاعرابي وزاده شيئاً ، ثم قال : * أحسنت إليك ؟ * قال نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : * إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك ، فإذا أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي ، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك * ، قال : نعم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : * إن هذا الاعرابي قال ما قال ، فزدناه ، فزعم أنه رضي ، أكذلك ؟ * فقال الاعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ، فقال صلى الله عليه وسلم : * إن مثلي ومثل هذا الاعرابي : كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه ، فتبعها الناس ، فلم يزيدوها إلا نفوراً ، فناداهم صاحب الناقة : خلو بيني وبين ناقتي ، فإني أرفق بها مأعلم ، فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض ، فردها هوناً هوناً ، حتى جاءت واستناخت ، وشد عليها رحلها واستوى عليها ، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار * .
فهذا هو الاسلام ؛ نظام واقعي في مواجهته للنفس البشرية والواقع البشري ، وأنه لا يحملهم فوق طاقاتهم ، ولا يفترض فيهم الرفعة الدائمة التي لا تسقط أبداً ولا تهبط أبداً ، ولا يطلب منهم أن يلغوا بشريتهم ليكونوا مسلمين ، وإنما يعاملهم على أنهم بشر ، ويتطلب منهم ما يقدر عليه البشر ، وكيف يواجه لحظات الضعف العارضة التي تعرض للناس في حياتهم بسبب ثقله إلى الأرض ؟
وكيف يسعى إلى علاجها لترتفع النفوس من جديد ، وتصل إلى المستوى المطلوب ثم المرغوب ؟
ومن تسامحه صلى الله عليه وسلم كما يقول أنس بن مالك - خادم الرسول صلى الله عليه وسلم : خدمت النبي عشر سنين ، فما قال لي ( أف ) قط ، ولا قال لي لشيء صنعته ( لم صنعته ؟ ) ولا لشيء تركته ( لم تركته ؟ ) وكان لا يظلم أحداً أجره ؟ .
وتقول عائشة رضي الله عنها : ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده ، ولا امرأة ولا خادماً ، إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نيل منه شيء فينتقم من صاحبه ، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله ، فينتقم لله .
ويروي الثقات أنه كان يقبل معذرة المسيء ، ولا يجابه أحداً بما يكره ، وإذا بلغه خطأ عن أحد نبه عن خطئه بصيغ العموم فيقول : * ما بال أقوام يفعلون كذا * ، دون أن يذكر أسم المسيء ، ثم يرشد إلى الصواب فينتفع بذلك المسيء وغيره .
وكان لا يحب أن يقوم له أحد ، ويجلس حيث انتهى به المجلس ، وكان يقول صلى الله عليه وسلم : * لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبده ، فقولوا عبد الله ورسوله * .
فكان ينزل إلى الاسواق فيرشد الناس إلى الأمانة ، وينهاهم عن الخداع والغش في المعاملات ، ومن عادته أن يكون باش الوجه ، طلق المحيا مع من يجلس إليه ، حتى يظن أنه أحب أصحابه إليه ، وأن يقرب إليه السابقين في الاسلام والجهاد ولو كانوا من غمار الناس ، وأن يستشير ذوي الرأي في أمور السياسة أو الحرب أو شئون الدنيا ، وينزل عند آرائهم إذا اتضح له صوابها ، كما حصل في غزوة بدر وسواها ، وكان يشارك أصحابه فيما يعملون ،،، ويتحمل من الصعاب ما يتحملون ، ومن ذلك ما حدث في غزوة الحندق ، فقد كان ينقل معهم التراب من الحندق الذي كانوا يحفرونه حول المدينه بمشورة سلمان الفارسي ، حتى لا يقتحم الاحزاب المدينة بجحافلهم ، وكان يتمثل بشعر ابن رواحة :
اللهم لولا انت ما اهتدينا ----- ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ----- وثبت الأقدام إن لا قينا
والمشركون قد بغوا علينا ---- وإن أرادوا فتنه أبينا
فهل ترون أكرم نفساً ، وأعظم تواضعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصنع مثل ذلك مع من هو في أتم الاستعداد لبذل النفس والنفيس في سبيلة ، وتحمل الصعاب عنه ، فعليه صلوات الله وسلامه ، وأخرج الإمام أحمد بسنده ، عن الأسود بن سريع ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بأسير ، فقال : اللهم أني أتوب إليك ، ولا أتوب إلى محمد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : * عرف الحق لأهله * ، فانظر إلى سماحته صلى الله عليه وسلم مع هذا الغليظ الجاف ، وحسن تأويله لسلوكه معه ، كما روى البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه قال : كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجبذه برادته جبذه شديدة - أي شده وجذبه - ثم قال : مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه فضحك ، ثم قال * أمر له بعطاء * .
وروى الحاكم وغيره عن زيد بن سعنه - وهو من أجل اليهود الذين أسلموا - أنه قال : لم يبقى من علامات النبوة شيء إلا عرفته في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه - إلا اثنتين لم أخبرهما منه ، يسبق حلمه جهله ، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ، فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله ، فابتعت منه تمراً إلى أجل فأعطيته الثمن ، فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة أتيته ، فأخذت بمجاميع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ ، ثم قلت : الا تقضيني يا محمد حقي ، فوالله إنكم يا بني عبد المطلب مطل ، فقال عمر : أي عدو الله ، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع ، فوالله لولا ما أحاذر قسوته لضربت بسفي رأسك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم - ثم قال : * انا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر ، أن تأمرني بحسن الأداء ، وتأمره بحسن التقاضي ، اذهب به يا عمر ، فاقضه حقه ، وزده عشرين صاعاً مكان ما رعته * ففعل ، فقلت : يا عمر كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه ، إلا اثنتين لم أخبرهما فقد اخبرتهما ، أشهدك أني قد رضيت بالله ربَّا وبالإسلام ديناَ وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياَ .
إنك لا تجد أروع من العفو عند المقدرة ، والتواضع عند النصر ، والسماحة والكرم مع المسيئين الظالمين ، وكل ذلك تمثل في رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فتح مكة .
كتاب سماحة الاسلام / الاستاذ الدكتور عمر بن عبد العزيز قريشي