بارك الله فيك
|
الحمد لله الذي لهيبة عظمته تحرك الساكن وارتج، ولعظيم قدرته التطمت أمواج البحر وثج، ومن يسير بلائه استغاث الشديد الصبر وضج، وإلى كثير عطائه قطع قاصدوه العميق الفج، الذي أظهر في شهركم هذا من دماء القرابين السفح والشج، وأحب من أكثر الدعاء فيه وألح ولج، وسماه ذا الحجة وشرع فيه إلى بيته الحج، الذي استدعى من شاء إلى زيارة بيته العتيق، وحرك عزم القاصد وأعانه بالتوفيق، وسهل للسالكين إلى حرمه مستوعر الطريق، ووعد الطائعين القبول وهو بإنجاز الوعد خليق، وأزعج قاصديه عن مساكنهم وأخرجهم من أماكنهم بالتشويق، فرضوا من أهلهم وفريقهم بالبعاد والتفريق، وجدت بهم النجائب من كل بلد سحيق، فأقبلوا بين ماش على قدميه استسعاه يقين الصديق، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}1، أحمده حمد موقن آمن به وعرفه، وأشكره على إدراك ذي الحجة ويوم عرفة.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله ربه بالرحمة والرأفة، فحل من القلوب محل الشرفة
كل القلوب إلى الحبيب تميل **** ومعي بذلك شـاهد ودلـيل
أما الدليل إذا ذكرت محمداً **** صارت دموع العارفين تسيل
هذا رسول الله نبراس الهدى **** هـذا لـكل العالمين رسول
صلى الله، وسلم عليه-، ورضي عن صاحبه أبي بكر الصديق الذي حالفه وما خالفه، وعلى عمر الذي رفض الدنيا أنفة، وعلى عثمان الذي جهز جيش العسرة وأسعفه، وعلى علي الذي ما أشكل علم إلا وكشفه، وعلى عمه العباس الذي عظم الله بيته وشرفه.2
أما بعد:
فمن أين أبدؤوها وكيف أصوغها وبأي شعر يستفيض لساني
هاجت من الأعماق فيض مشاعر خفاقة ترتاع في وجداني
تهفو إلى البيت العتيق قلوبنا منا السلام أهيل ذاك الوادي
طوف وسعي والمبيت ومشعر وتضرعات القلب في عرفات
ما أروع اللحظات بل وأجلها في نفس مشتاق إليه وشاكي
عباد الله:
إن في نفوس المحبين شوق عارم، وصبابة جارفة، يعجز اللسان إن أراد وصفها، ويحتار البيان إذا تقحم دربها، حين يحدو قاصدي البيت الحرام حادي الركب ويصرخ في أذانهم أن هلموا، وإلى حرم الله أقبلوا، ونحو بيت الله شدو، فما أن يبلغ صداها أسماعهم، حتى تسابق عباراتهم عبراتهم، وتغلب عيونهم دمعاتهم.
تجري بهم قلوبهم قبل أن تسير بهم أقدامهم يأتون {مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}3، لا يألون على شيء سواء أن يشرفهم الله برؤية بيته، وينعمون بزيارة كعبته، ويبلغهم مقاصدهم {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}4
لا إله إلا الله ما أعظمها من رحلة في حياتهم.
رحلة الإيمان وإن تحركت الأبدان.
رحلة القلوب وإن سارت الأجساد، تفيض مشاعرهم فلا يجدون إلا الدموع تؤنس لوعة حنينهم فلا تروي ظمأ شوقهم ولهفهم، يترقبون في كل سهل ووادي، وبين وجوه الرائح الغادي.
متى اللقيا تلوح على محـب *** أذاب فـؤاده بعد الـتلاقي
لأبيت الله قد سابقت شوقي *** وطارت في الربي روح العناقي
أيها الكرام:
إن في الحج الذي يصفه الفقهاء بعبادة العمر، وختام الإسلام، وكمال الدين، روحانية عجيبة، ونسمات إيمانية رهيبة، تحلق بالقلب لتحوم به حول العرش، وتسمو بالنفس في مقامات العبودية بعيداً عن حثالة الحش، تلتف يمنة ويسرة وأنت بين المناسك والمشاعر في الحج، فتكاد تصدع فؤادك مناظر البكاء والخشية، وهتافات الدعاء والضراعة، وتأسرك موقف الانكسار والافتقار بين يدي الملك الجبار، كل يسأل ربه النجا النجا الوحا الوحا.
أيها الحاج:
إن هذه الروحانية، والمواقف الإيمانية تتجلى في مواقف عديدة، ومواطن فريدة تسير مع القاصد لبيت الله من أول وهلة يطير فؤاده معانقاً {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ}5حينها يكون قد رد المظالم، وقضاء المغارم، واستسمح وزار الأرحام، وأعلن بين يدي ربه ندمه من كل ما يزري المكارم.
وهو في طريقه يقتله الحنين إلى ربى مكة كلما صعد تل أو جبل، وهبط وأدي أو سهل، يرقب الأفق وإن طال امتداده لعله تلوح له تلك الرحاب الطاهرة، والديار العامرة.
يقول صاحب المدهش: حج قوم من العباد فيهم عابدة، فجعلت تقول: أين بيت ربي، أين بيت ربي؟ فيقولون: ألا ترينه؟
إذا دنت المنازل زاد شوقي ولا سيما إذا دنت الخيام
فلما لاح البيت، قالوا: هذا بيت ربك، فخرجت تشتد وتقول: بيت ربي، بيت ربي، حتى وضعت جبهتها على البيت فما رفعت إلا ميتة.6
قَالَ الربيع بن سليمان: حججنا مع الشافعي، فما ارتقى شرفاً ولا هبط وادياً إلا وهو يبكي وينشد:
يا راكباً قف بالمحصب من منى *** واهتف بقاعد خيفنا والناهضِ
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى *** فيضاً كملتطم الفرات الفائضِ
إن كان رفضاً حب آل محمدِ *** فليشهد الثقلان أني رافضي7
عباد الله:
ثم لما تلامس أقدامهم موضع ميقاتهم، عندها يتخلى الحجاج عن كل ما له بالدنيا من صلة، من لبس أبهى ثيابهم، وجميل لباسهم، متجردين من كل مظاهر المادية، سامين بأرواحهم لينالوا شرف الضيافة على مائدة الرب سبحانه، تاركين كل أهواء الدنيا من رياء وشهرة وسمعة؛ ليتعلقون بنور السماء، يسعهم في ذلك ما وسع قدوتهم وأسوتهم يوم توجه بالدعاء إلى ربه فقال: "اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها ولا سمعة "، ويقول: " لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً"، ينتقل بنفسه من ماديات الأرض بكل ما فيها إلى أول مظاهر الروحانية
فتذكره ملابس الإحرام بفنائه الذي يلقى به ذي الطول والإنعام.
تذكره بالرحلة إلى الدار الآخرة، عندما يطوي في ذلك الكفن ويسكن بيت العفن.
تذكره تجرده من المخيط، يوم تنزع منه ثياب المخيط، لا حول له ولا قوة.
تذكره بأنه بقدر ما سعى سوف يلقى؛ ليجد بعد ذلك نفسه في عالم تجرد من كل مظاهر الترف، أقبل على ربه ولرجاء النجاة زحف الكل فيه يردد: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك))، والكل ينتقل بتلبيته من عالم الماديات إلى عالم آخر من الرهبانية وتجريد المقاصد لله {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}8.
أيها الأخ المسلم الكريم:
وما إن يتأهب الحاج لدخوله البلد الحرام "مكة"، حتى يجد قوافل الإيمان التي جاءت طالبة المغفرة والعفو من خالقها -عز وجل-، أقبلت من كل صوب، وجاءت من كل حدب، هتافهم تسبيح، ونداؤهم تلبية، ودعاؤهم تهليل، مشيهم عبادة، وزحفهم صلاة، وسفرهم هجرة إلى ربهم، وغايتهم مغفرة من الله ورضوان، مجتمعين على كلمته، متأملين لبيته، مظهرهم كأنهم بنيان مرصوص، شطت بهم الديار، ونأت برحيلهم الأقطار، تركوا البلاد والأهل والأولاد، وساوموا بتجارتهم رب العباد {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ}9، آمين بيته، عاشقين رحابه، ينعمون بقدسيته، ومتشرفين بضيافته، متلمسين لرحماته، متعرضين لنفحاته، مستمطرينه رضوانه وسائلينه فسيح جناته، كل ذلك: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}10.
بـلدة عظـمى وفي آثـارها *** أنفع الذكرى لقوم يعقلون
شب في بطحائها خـير الورى *** وشبا في أفـقها أسمح دين
وهاهم أمام بيته -بيت الله- وبين أركانه الجود الأجر مضاعف، والجزاء موفور، والذنب مغفور، والسعي مشكور. عند رب لا تُغلق رحابه، ولا تُسد أبوابه، لا يخيب سائلاً، ولا يرد طالبًا، فهو الحليم الذي لا يعجل، والكريم الذي لا يبخل.
وفي ميدان هذا البيت يتجلى الدين في أروع صورة وأبدع مظهر، جموع تطوف وتطوف، وأناس تنادي الرؤوف، يتعلم العبد أثناء طوافه مبدأ التعاون على البر والتقوى، وإنكار الذات مراعاة لإخوانه في الدم والعقيدة، يرى الحجيج – على كثرتهم، واختلاف أجناسهم، وتباين لغاتهم - يسيرون في اتجاه واحد، وارتباط وتآزر، ووحدة وتكاتف، فيتسأل أي شيء جمع هذه القلوب، وأي عرى رابطت بين تياك النفوس.
ففي ربعهم لله بيتٌ مباركٌ***إليه قلوبُ الخَلْقِ تهوى وتهواهُ
يطوفُ بِهِ الجاني فَيُغْفَرُ ذَنبُه***ويسقُطُ عنه جرمُه وخطاياهُ
فكم لذةٍ كم فرحةٍ لطوافهِ***فللهِ ما أحلى الطوافَ وأهناهُ
نطوف كأنَّا في الجنانِ نطوفُها***ولا همَّ لا غمٌّ فذاك نفيناهُ
فيا شوقنا نحو الطواف وطيبه***فذلك شوقٌ لا يحاط بمعناهُ
فمن لم يذقْه لم يذقْ قطُّ لذةً***فَذُقْهُ تَذُقْ يا صاحِ ما قد أُذِقنَاهُ
أيها الكرام:
وروحانية أخرى نتعلم منها التضحية والجهد، فأثناء السعي بين الصفا والمروة، يري هذا الجهد الذي قاسته السيدة هاجر من أجل شربة ماء تروي غلة طفل رضيع أنهكه الجوع وأرهقه الظمأ، امرأة وحيدة وسط الجبال الشاهقة، وبطون الوديان السحيقة تهرول هنا وهناك، في صعود وانحدار، وحيرة واضطراب، يمزق أحشاءها أنين ولد عليل، جف ريقه، وجمد لسانه، يلهث من شدة العطش، فإذا ما اشتد الخطب، وادلهمّ الأمر، تجلت رحمة الله كالنور في الظلمة، كالأمل الباسم وسط اليأس الحالك، فتفجر الماء سلساً، وانساب عذباً دافقاً، إنه بئر زمزم الميمون المبارك، النبع الطاهر، الرحيق الحلو، الدواء الشافي؛ ليعرف الناس أن الله تعالى لا ينسى أولياءه، وأن الفرج بعد الضيق، وأن مع العسر يسراً {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}11
ويستحضر المرء وهو يسعى بين الصفا والمروة فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه، وصلاح حاله، وغفران ذنبه، وإن يلتجيء إلى الله -عز وجل- لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يثبته عليه إلى مماته، وأن يحوله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي، إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة، كما فعل بهاجر -عليها السلام- عندما قاست من الشدائد ما قاست، ولاقت من المشاق ما بسببه عانت؛ ليعيش بلقبه حدثا مهيباً مسترجعاً في ذلك عجلة الزمن، مع موقف خلده الله -عز وجل- وجعله آية تتلى ومنسكاً يؤتى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها يقول سبحانه: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ}12؛ وكلكم يرى أفواج الحجاج والمعتمرين عاماً بعد عام، ومع هذا لم يزل ذلك المعلم مكانه لم يتغير أكراماً من الله لها، جزاء صبرها وجلدها.
أيها الكرام:
إنها مواقف تفيض بالمشاعر الجياشة، والأحاسيس الصادقة المرهفة.
مواقف تهيج الذكرى، وتزرع الأمل في نفوس البائسين اليائسين.
مواقف تجعل الإنسان ينطلق بين رحاب المشاعر، وكأنه أمام مشاهد مصورة، تحوطه من كل جانب.
سبحان الله ما أروعها من لحظات، وما أجلها من تجليات، تنطلق بالعبد بعيداً عن فجاج الأرض، ذات الطول والعرض.
فيا عبد الله ويا أمة الله: بالله أي حج نتقلب في مشاعره وقد غابت عنا معالم الروحانية، وأي مناسك نؤديها ونرجو نتاجها ونحن نسير إليها بأبداننا، ولم تتحرك لها قلوبنا أو تصنع فيها أثراً.
والله ما المحروم حقاً إلا من لم يذق روحانية الحج، ولذة العج والثج، وسار يتقلب بين تلك المناسك بجسده، وقلبه يهيم في وأدي الغرام والعشق.
نسأل الله لا يحرمنا خير ما عنده بسوء ما عندنا، وأن يرحمنا ضعفنا، وأن يتولى أمرنا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، مدبر الخلائق أجمعين، باعث الرسل صلواته وسلامه عليهم لهداية الثقلين، وبيان الهدى وشرائع الدين، والصلاة والسلام على من جمع الله به شعث البشرية، ووحد به كيان الإنسانية، وحمل مشعل الوحدانية ولم به فرقة العربية، وعلى آله وصحبه الكرام البررة، وسلم تسليماً كثيراًوبعد:
فيا رب: إليك وإلا لا تشد الركائب.
ومنك وإلا فالمؤمل خائب.
وفيك وإلا فالغرام مضيع.
وعنك وإلا فالمحدث كاذب.
عباد الله:
وإلى عرفات وما أدراك ما عرفات، هل سمع الكون بمشهد يأسر القلب، ويسبل الدمع مثل عرفات.
هل عرفت الدنيا مكاناً تتصدع له الأفئدة، وتنكسر عند عتباته النفوس، وتخضع وتذل ببابه الرقاب كيوم عرفة.
وأروني بالله موقفاً تذوب فيه الطبقية، ويصير الناس سواسية، وإن كانوا من أصقاع شتى، وبطون متفرقة، لباسهم واحد، ونداءهم واحد، وصعيدهم واحد، وهمهم واحد أن يرضي الله عنهم أِشبه بعرفات.
في عرفات لا يقع بصرك في مكان، إلا وترى فيه عابدًا يتبتل، ومذنبًا يتوجع، ومؤمنًا يخشع، ومصليًا يركع، وعاصيًا ذا عين تدمع، فكأنه بحيرة قدسية تغسل الآثام، وتمسح الخطايا، وتمحو السيئات.
الناس حولك حاسرين رؤوسهم، منكسين وجوههم، الكل في ضراعة وابتهال، ذاك يترنم بآيات ربه، وذاك يسكب عبرات خوفه وشفقته، وثالث جالس يناجي خالقه ويشكوى إليه ضره، وآخر قد ألهب الشوق قلبه، يتطلعون لمغفرة ربهم ورضوانه، ورحمته وسلوانه، فيوم عرفة يوم العتق من النار، يوم المباهاة بأهل الموقف، يباهي الله -عز وجل- بهم ملائكته ففي صحيح مسلم من حديث عَائِشَةُ -رضي الله عنه- أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ))( ) . وفي رواية للإمام أحمد : ((انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا)).
فيدن به الجبار جل جلاله ** يباهي بهم أملاكه فهو أكرم
يقول عبادي قد أتوني محبة ** وإني بهم بر أجود وأرحم
وأشهدكم أني غفرت ذنوبهم ** وأعطيتهم ما أملوه وأُنعم
فبشراكم يا أهل ذا الموقف الذي ** به يغفر الله الذنوب ويرحم
لقد كان للرعيل الأول مع يوم عرفة مواقف ذات عبر، فمشهد عرفات المهيب يبعث في نفوسهم كوامن الشجن، وزفير الدمعات، ونشيج الخوف فهذا مطرف بن عبد الله، وبكر المزني لما وقفا بعرفة، قال أحدهما: اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي، وقال الآخر: ما أشرفه من موقف وأرجاه لولا أنّي فيهم!13
وروي عن الفضيل بن عياض أنه وقف بعرفة والناس يدعون، وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة، فلما كادت الشمس أن تسقط قبض على لحيته ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: "واسوأتاه منك وإن عفوت".
قال ابن محبوب: ما رأيت خائفاً إلا رجلاً واحداً، كنت بالموقف فرأيت شاباً مطرقاً منذ وقف الناس إلى أن سقط القرص، فقلت له: يا هذا ابسط يدك للدعاء، فقال لي: ثَمَّ وحشة، فقلت له: فهذا يوم العفو عن الذنوب قال: فبسط يده ووقع ميتاً.14
وكان أبو عبيدة الخواص يقول في الموقف: واشوقاه إلى من يراني ولا أراه، وكان بعد ما كبر يأخذ بلحيته ويقول: يا رب، قد كَبرتُ فأعتقني، وكان ينشد وهو واقف بعرفة:
سبحان من لو سجدنا بالعيون له *** على شبا الشوك والمحمى من الإبر
لم نبلغ العشر من معشار نعمته *** ولا العشير ولا عشراً من العشر
هو الرفيع فلا الأبصار تدركه *** سبحانه من مليك نافذ القدر15
عباد الله:
في عرفات ينسى المؤمن الدنيا وما فيها من متاع، ويهجر الحياة بما تحويه من ترف وملذات، لا يهمه لفح الهجير، أو وهج الشمس، ولا يمنعه شدة برد، أو هطول مطر؛ لأنه خرج من نطاق البشرية إلى رحاب الروحانية؛ لأنه انسلخ من هزال المادية إلى عالم الرهبانية؛ لأنه تجرد من متع الدنيا وحضيضها؛ ليصعد بروحه إلى الملأ الأعلى من الملائكة، وينتظم في صفوف الأبرار.
عرفات يذكرك بوقوفك على العرصات، عند القيام لرب الأرض والسموات، فيستشعر العبد المشهد العظيم، والحشر العظيم، والهول العظيم في يوم القيامة :{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}،16
إنه يومٌ من أيام الله العظيمة.
إنه مشهدُ من المشاهد التي تحيي القلوب الميتة، وتوقظ العقول الغافلة، وتحيي الأنفس التي كثر عليها الران فانشغلت بالدنيا وضربت عليها الغفلة.
اعلم أخي المسلم أن يوم عرفات هو يوم التعرض لنفحات الله، وموسم التوبة، والإنابة والأوبة لله -عز وجل– تذكر يا عبد الله كم أسرفت على نفسك في المعاصي؟ وكم قصرت في حق الله - عز وجل - من الواجبات؟ وكم تركت من المندوبات والمستحبات؟ وكم غرقت في الشهوات؟ تذكر؛ فإن هذا الموقف موقف تذكّرٍ واتعاظٍ واعتبار، وتوبة واستغفار.
فلله ذاك الموقف الأعظم الذي *** كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم
عباد الله
إن الاجتماع في هذا الصعيد عظيم ، ودلالاته عديدة، إنه أمرُ تحتاج الأمة أن تتنبه إليه، وقد كثرت بينها الشقاقات، وتعاظمت الخلافات، وكثرت النِّزاعات، ذلك أن القلوب لم تكن مخلصةَ لله- عز وجل-، وأن الغايات لم ترتبط برضوان الله -عز وجل-، وهنا يكثر البلاء، ويعظم العناء، ولا حل ولا نجاة إلا بالعودة لله -عز وجل-.
فهنيئاً لك أخي الحاج:
يا من رزقك الله الوقوف بعرفة بجوار قوم يجأرون إلى الله بقلوب محترقة ودموع مستبقة، فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه، ومحب ألهبه الشوق وأحرقه، وراج أحسن الظن بوعد الله وصدقه، وهارب لجأ إلى باب الله وطرقه، فكم هنالك من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقه، ومن أعسر الأوزار فكه وأطلقه، وحينئذ يطلع عليهم أرحم الرحماء، ويباهي بجمعهم أهل السماء، ويدنو ثم يقول: ما أراد هؤلاء؟ لقد قطعنا عند وصولهم الحرمان، وأعطاهم نهاية سؤلهم الرحمن.
أيها المسلمون:
وأما يوم رمي الجمرات فتتجلى فيه آيات الانقياد والرق والعبودية لله الواحد القهار، حينما يتشبه الحجاج بأبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- في رمي الجمرات، يوم عرض له إبليس لعنه الله؛ ليصده عن ذبح ابنه في ذلك الموضع، فأمره الله -عز وجل- أن يرميه بالحجارة طرداً له وقطعاً لأمله، فرجع خائب الرجاء خسئاً، وأنت وإن كنت ترمي في الظاهر الحصى إلى العقبة، لكنك في حقيقتك ترمي به وجه الشيطان، وتقصم به ظهره؛ إذ لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله سبحانه وتعالى؛ تعظيمًا له بمجرد الأمر من غير حظ للنفس والعقل فيه.
وها هو الحاج في أخر نسك يتقرب به إلى الله وهو ذبح الهدي الذي يعد من أعظم القربات التي يتقرب بها الحاج إلى الله تعالى، فإنه سبحانه يعتق بكل جزء منه جزءاً منك من النار، لسان حاله {إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}17
عباد الله:
لعل من علامات قبول الحج أن يعود الحاج وقد ازداد زهدًا في الدنيا، وإقبالاً على الآخرة، ويعود أرقّ فؤادًا، وأزكى نفسًا، وأخشى قلبًا، يعود وقد أدرك أنه هاجر بحجة إلى الله تبارك يقول الحسن: الحج المبرور، أن ترجع وأنت زاهداً في الدنيا، طامعاً في الآخرة.
فيا أيها الحجاج: فرغوا قلوبكم من الدنيا ولبوا قولوا: ((لبيك))، تلبي معكم بطاح عرفات وجبال مكة، وتلبي معكم أرواح المسلمين الذين ذهبوا للقاء ربهم، وتلبي معكم ذراريكم وهي في عالم الغيب، فيأتي منها إن شاء الله جيل يمحو عنا أوضار الهزيمة، يمحو عنا آثار الانقسام، يأتي جيل من أصلابنا يكون خيراً منا، يسترد من أرضنا ما أضعنا، ويكمل من بنائنا ما هدمنا أو نقصنا.
هذي ضيوفـك يـا إلهي تبتغـي *** عفوا وترجو ســابغ البركات
غصـت بهم في حلـهم ورحيلهم *** رحب الوهـاد وواسع الفلوات
تركوا وراء ظهورهم دنيا الورى *** وأتوك في شوق وفي إخبـات
وفدوا إلى أبواب جودك خشعـا *** وتزاحموا في مهبط الرحمـات
فاقبل إله العرش كل ضراعــة *** وامــح الذنوب وكفر الزلات
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
منقوووول
j[gdhj v,phkdm td hgp[
بارك الله فيك
بارك الله فيك ونفع بك
ربي يفتحه عليك وينور قلبك و دربك يارب
أشكر لك على الموضوع القيم
يعطيك ألف عافية
في ميزان أعمالك يارب
دمتي بحفظ الرحمن
تحياتي
يعطيك العافيه
« الحج رحلة العروج | نصائح للمراة اثناء الحج والعمرة » |