آخر أيام الرقص: الغرق في مسارب الحب والنساء
بقلم: محمد ديبو
تنسيق : محمد سعد
بعد أن صال وجال طويلا في عوالم سيدة الجلالة "--الصحافة"--، انتبه –ربما- إلى أنه أضاع عمره في سراب اللحظات التي لا تصنع شيئا في عالم عربي لا صحافة فيه ولا حقيقة يمكن التوصل إليها، لذا ترك خلفه كل مجد اللحظات العابرة، وانزوى ملتحفا في عزلته ليكتب روايته، وليفرغ ذاكرة يدرك كل من احتك بها أنها تختزن جزءا من تاريخ عاصف بالتحولات والخيانات، وجزءا من حيوات بشر بعضهم مضى إلى حتفه، وبعضهم خان طريقه، وبعضهم التحفه النسيان.
-
انطلاقا مما سبق، تغدو رواية نبيل الملحم الصادرة حديثا عن داري روافد والجمل معا، تحت عنوان"-- آخر أيام الرقص"-- جزءا من سيرة ذاتية شخصية وأخرى جمعية، تستحضر أناسا نعرفهم في الحياة العامة السورية، وتقودهم إلى طاولة الكتابة حبا و مساءلة ونقدا، وانتحارا!
تقوم الرواية على ثنائيات متضادة، بين ذاكرة فتية تلتهم كل شيء، وذاكرة ممتلئة حد الألم، فتبحث عن شيء لتتكئ عليه، وتكمل حياتها بسلام، لتفاجئ أنها اتكأت على حب يداعب خريف العمر، ويوقظ جروح الماضي وخيباته التي تسطو على سطح علاقة فيها من الخيبات الكثير ومن الحب سطوعه وألقه ولوعته.
-
تبدأ أحداث الرواية، بفتاة شابة "-- سارة"-- تعيش وحيدة مع عمتها العانس، التي تصادر لها حياتها وتدقق في كل خصوصياتها، تحت ذريعة حماية الشرف، فتسعى بجوارحها للخروج من أسر عمتها، إلى أن تقع بحبّ "--سليمان"-- الرجل الذي يوازي بعمره عمر والدها الذي فقدته سارة في سنّ مبكرة، لترى فيه الأب والحبيب، ولتبدأ قصة حبّ غريبة في توتّرها وصخبها وكسرها إيقاع المألوف من العلاقات، قصة حبّ بين ذاكرة فتية تتطلع لاكتشاف الحبّ والحياة يقودها نهمها لتجريب كل شيء، وبين ذاكرة أتخمت بالحياة، وليس لها سوى الماضي والتذكر والتهرب سبيلا لمواجهة اندفاعات الحبّ الشقية، لنجد أنفسنا أمام صراع مغلّف بحبّ محكوم بعلاقة متوترة بين حبّ أوّل لفتاة تريد امتلاك كل شيء، بكل ما يعنيه الحبّ الأوّل من اكتشاف وتملّك وغيرة قاتلة، وبين حبّ رجل له من العلاقات ما يجعله يعجز عن معرفة دروب أبنائه الذين تركهم نطفا في أرحام نساء عاشرهن في الفنادق ومحطات المترو وأقبية بيروت، نساء لم يتوقفن في ذاكرته أكثر من لحظة عابرة، ليجد فجأة نفسه أمام مراهقة في الحبّ تريده كله، ولا ترضى بـأقله، وهو الرجل العصيّ على الامتلاك، والخارج على الترويض، فتكون سارّة المنبّه الذي يوقظ ذاكرته، ليسائل حياته، عبر سؤال يلح عليه طويلا: من أنا ؟ لِمَ لمْ أتزوّج؟
-
وداوها بالتي كانت هي الداء:
وفي سياق بحثه عن إجابة، تسعفه للهرب من خيال سارة، يجد نفسه دائما في أحضان راما، في غرفتها التي يفاجئها بها في أي وقت، ليغوص في جسدها، على وقع اتصالات سارة التي تثقل هاتفه بالرنين، فيجد نفسه مناديا راما باسم سارة، لينهض قبل أن يكمل نشوته، ويهرب مرة أخرى…يهرب من سارة ومن ذاكرة راما التي تحاصره، لنجد أنفسنا أمام شخصية هاربة، تبحث عن شيء لا تعرف ما هو، شيء أضاعته ولم يعد بإمكانها العثور عليه، فينعكس شعورها بالفقدان والوحدة على كل شيء، عدا عن أننا أمام شخصية تعاني ازدواجية هائلة، فهي تريد حبّ سارة الكامل وإخلاصها، وفي نفس الوقت هي تهرب من حصار سارة، وتلجأ إلى أحضان راما وغيرها، ثمة نوع من إيديولوجيا الرجولة (التي خصص لها جورج طرابيشي كتابا حمل عنوان أيدلوجيا الرجولة في الرواية العربية) التي تبيح لنفسها باسم قيم رجولة سائدة، ما لا تبيحه للحبيبة، بل نراها تعيش هاجس لحظة الخيانة قبل حدوثها، وتتنبأ بها، لتدفع الحبيبة من حيث لا تدري إلى خيانة حقيقية هذه المرة، فتزداد العلاقة التباسا وتوترا.
إذن نحن أمام شخصية، حرة ومقيدة، شكاكة ومتسامحة، ويبدو الشك واضحا من خلال مراقبته سارة التي بدأت دروسا في مدرسة الرقص، فإن تحدثت عن أستاذ الرقص، سألها سؤالا يشي بغيرته، وإن وقفت مع مدرس الجامعة رأى في نظرات المدرس شيء يقوده إلى الشك بسارة، وإن رقصت مع أحد في محترف عيسى الذي يجمع شخصيات الرواية، تشتعل فيه الغيرة ليهرب ويترك سارة بين عيون رجال تلتهم جسدها وتفترسه.
انتظار اليائسين:
في الرواية، ثمة انتظار ما تعيشه كل الشخصيات، انتظار لا أحد يعرف أنه يعيشه، ومن يعرف لا يعرف ماذا ينتظر، وكأن الحياة في سيرورتها ما هي إلا انتظار، يوقظنا منه حدث ما، بحجم انتحار "--يحيى"-- الصحفي الذي يعيش حياة مأزومة، نتيجة سلسلة من التغيرات التي دخلت عالم الإعلام وجعلت من الصحفي مجرد بوق لأصحاب المال بعد تحول الوطن إلى شركة يتقاسمها التجار الذين يتنافسون على تمجيد أولياء نعمتهم، فيجد نفسه محاصرا بين ماضيه اليساري وبين لقمة خبزه التي تحاصره بها مديرة لا تفقه في الإعلام أكثر من فقهها بتدبير الشؤون الليلية لسادتها الجدد، ليجد نفسه أمام لازمة يكررها يوميا: سأقدم استقالتي غدا، وأنشر بيانا أفضح فيه أولاد الكلب! ليمر اليوم التالي ويتابع يومه كما سبقه، إلى أن تحصل سهرة الرقص التي ينهض فيها سميح الذي يعاني عرجا في قدمه، ليسبح في فضاء الرقص، محلقا مع سارة التي تفتك بقلب سليمان الشكاك، وبين نشوة تضيء عجز يحيى الذي ينتبه إلى ضعفه وهشاشته، فيحمل مثقبا ويضعه في قدمه، لتتحول حفلة الرقص إلى ما يشبه مأتما برسم التأجيل، الذي ينتظر انتحار يحيى الذي لن يطول، لنكتشف أن الشخصيات كلها تعاني يأسا مزمنا لا شفاء منه، يأسا لا يغيبه حضور الموت، ولا أغطية الفرح والرقص الخادعة، لتغدو هذه الشخصيات معادلا لوطن مهزوم، يستر عريه ويأسه تحت أقنعة متعددة ومتراكمة.
موت وخيانة!
rwi lshvf hgpf ,hgkshx