أمريكا, خطل, خطر
--------------------------------------------------------------------------------
ليس يخفى على أحد في العالم اليوم, أن أمريكا هي قائدة العالم, وأنها القوة الأكبر فيه اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً وتكنولوجياً. ومن موقع قيادتها هذه باتت أمريكا المتدخلة الأولى في شؤون معظم الدول الأخرى, تحالف هذه الدولة وتعادي تلك, والهدف هو إبقاء قيادتها للعالم, ضماناً لمصلحتها الخاصة, وأمنها القومي.
طبعاً, فإن أمريكا لم تنل هذه القيادة صدفة أو دون عناء, ولكن هناك أسباباً جعلت من هذه الدولة هي الأقوى بين دول الأرض, على الرغم من حداثتها نسبياً, إذ لم يتم توقيع استقلال بعض ولاياتها عن إنكلترا إلا في عام 1776م.
ولعل أبرز مصادر قوة أمريكا هي العلم, والمكتشفات والأبحاث العلمية, والتي غيرت وجه العالم كله.
قوة أمريكا في العلم:
يعتبر التعليم الحديث والمتطور هو المصدر الأبرز من مصادر قوة أمريكا, فبفضل البحوث العلمية والدراسات والمكتشفات صارت أمريكا أكثر البلاد تقدماً على كافة المستويات: الإقتصادية والعسكرية والمعلوماتية. ومازال نظامها التعليمي مرجع ونموذج لدول العالم الأخرى, وماتزال أمريكا تحتفظ بأسرارها العلمية والتكنولوجية, والتي تعد أمضى أسلحتها على الإطلاق. وتشير التقديرات أن الولايات المتحدة ستحتفظ بقيادة العالم على مدى ثلاثين عاماً قادمة على الأقل قبل أن تظهر قوة أخرى تنافسها على هذه الزعامة.
إلا أن زعامة الولايات المتحدة الأمريكية للعالم مهددة بالتراجع, بل إنها مهددة بالزوال, والسبب هو النظام التعليمي الأمريكي نفسه, والذي يقول عنه الخبراء إنه في خطر حقيقي, فهناك أكثر من 25 مليون من أصل 300 مليون أمريكي لا يحسنون القراءة والكتابة, وهناك 40 مليون يقرؤون بصعوبة ولا يعرفون الكتابة, واحتلت أمريكا المرتبة رقم 17 بين الدول الصناعية الكبرى من حيث الإنفاق على التعليم, بالإضافة إلى مشاكل أخرى لا تقل خطورة, مثل انتشار العنف والمخدرات في المدارس, فهناك مثلاً واحدة من كل عشر مدارس رسمية أمريكية شهدت أعمال عنف خطرة عام 1997م, مما انعكس على تقدم الطلاب, حيث تراجع مستواهم في اتقان الرياضيات والعلوم الطبيعية إلى مراحل متأخرة, واحتلت الولايات المتحدة المرتبة الأخيرة بين الدول الصناعية من حيث الاستثمار الفاعل في التعليم( ).
كل هذا دفع القائمين على إدارة التعليم في أمريكا إلى التنبه إلى هذا الخطر, فعملوا على دراسة الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع الخطير, في محاولة لتلافي الخلل من أجل المحافظة على مكانة أمريكا الريادية عالمياً.
أمة في خطر
بدأت الدراسات التي تنبه إلى خطر التراجع الأمريكي علمياً في وقت مبكر نسبياً, حيث صدر التقرير الشهير " أمة في خطر" “A nation At Risk” في الولايات المتحدة عام 1983م, وكان بمثابة صرخة مدوية, أظهرت مدى الخطر الذي يتهدد التعليم في أمريكا, ومدى تدني نوعية التدريس, والذي نتج عنه انخفاض في المستويات التحصيلية والأكاديمية للطلاب الأمريكيين. ومما جاء في التقرير " أنه لأول مرة في مسيرة التعليم العام بأمريكا سيتخرج جيل لا يتفوق على آبائه, وحتى لا يساويهم أو يدانيهم في المهارات والمعارف والقدرات". ويقول التقرير أيضاً:" لو كان التعليم بحالته في بداية الثمانينات بأمريكا مفروضاً عليها من قوى خارجية كان الأمريكيون سينظرون إليه كعمل حربي ضدهم، ولكن ما حدث أنهم سمحوا بأن يفعلوا ذلك بأنفسهم".
وعلى إثر هذا التقرير انطلقت الخطوات العاجلة لإصلاح التعليم في الولايات المتحدة, والتي وضعت نصب عينيها الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع الخطير في التعليم, فكان المعلم هو السبب الرئيس فيما وصلت إليه الأمة الأمريكية من ضعف تعليمي, فكان لا بد من العمل على الارتقاء بمستوى تأهيل المعلمين لديها, ولم يأتِ عام 1988م إلا وقد طبقت 44 ولاية أمريكية نظام امتحان الكفاية, والذي يتحدد بموجبه مدى كفاءة المعلم المتقدم لشغل هذه الوظيفة.
ولم يكتفِ المسؤولون عن إصلاح التعليم في أمريكا بمسألة كفاءة المعلم فقط, بل عمدوا إلى العمل على إعطاءه مزيداً من المكانة المهنية والحرية والثقة, بما يمنحه استقلالية ومكانة اجتماعية مميزة, تعيده كقدوة لها احترامها ومكانتها في النفوس.
وفي عام 1991م, في عهد الرئيس جورج بوش الأب نُشر مشروع بعنوان (أمريكا عام 2000ـ استراتيجية للتعليم) , تضمّن الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها نظام التعليم الأمريكي , ومنها : " أن يحتل الطالب الأمريكي المرتبة الأولى عالمياً بين دول العالم في مادتي العلوم والرياضيات" . ومن أجل تحقيق هذه الغاية قدّم الباحثون الأمريكيون تقارير حول أفضل الطرق التي تمكّن الطلاب من التفوق في هذه المواد الأساسية, منها وثيقة "معايير منهج وتقويم الرياضيات المدرسية"Standards for Curriculum and Evaluation for School Mathematics. التي اعتمدتها معظم الولايات الأمريكية في كثير من خطواتها لتطوير تعليم الرياضيات فيها.
ووثيقة "مبادئ ومعايير الرياضيات المدرسية" Principle and Standards for School Mathematics. التي أصدرها المجلس القومي لمعلمي الرياضيات في آذار مارس من عام 2000م, بعد دراسة متأنية وجادة لواقع تعليم الرياضيات في أمريكا.
واليوم قدّم العلماء وثيقة بعنوان " الارتفاع فوق العاصفة القادمة" , تعكس مدى خوفهم من تراجع الهجرة العلمية إلى أمريكا, وذلك بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر مما سينعكس على تراجع القدرات العلمية الأمريكية, والتي يُخشى إن هي استمرت أن تفقد أمريكا بسببها تفوقها العلمي على العالم خلال عقد واحد من الزمن فقط.
ويقول العالم ستيفن شو مدير مختبر لورنس بيركلي الذي شارك في وضع هذا التقرير: "بعد الحادي عشر من سبتمبر أصبحنا أقل ترحيباً وعلينا أن نوقف هذا فوراً", ووصف شو أمريكا بأنها "كضفدعة سقطت في ماء يغلي ببطء فهي لا تقفز من الماء لأنها لا تدرك أنها في طريقها إلى الموت".
إن القائمين على رأس الإدارة التعليمية في الولايات المتحدة لمسوا سوء الحالة التي وصل إليها الطلاب هناك حيث بيّنت الدراسات ازدياد حالات العنف وتعاطي المخدرات بين التلاميذ, مما أدى إلى تدني مستوى تحصيلهم العلمي, فكان لابد من تلافي هذا الخطر ومحاولة تدارك الأمر قبل استفحاله بصورة تنعكس على مكانة الولايات المتحدة وقيادتها للعالم. ومنذ شهر يونيو عام 1999م، عمل قسم التربية ومكتب الخدمة السرية في الولايات المتحدة الأمريكية كفريق واحد لفهم قضية العنف في المدارس، ولإيجاد الوسائل التي تمنعه, فصدر دليل العنف في المدارس الأمريكية الذي طبع عام 2002م, ليبحث في هذه المشكلة الخطيرة, سعياً لايجاد الحلول الناجعة لها( ).
بعد الحادي عشر من سبتمبر
لسنا بحاجة إلى بيان مدى التأثير الكبير الذي تركته أحداث الحادي عشر من سبتمبر على العالم ككل, وخصوصاً في أمريكا نفسها, فقد أصبح الهاجس الأمني عند الحكومة الأمريكية موجّهاً لسياساتها الداخلية والخارجية على حد سواء.
فعندما أعلنت أمريكا حربها على الإرهاب, ضخّت الأموال الضخمة من أجل القيام بحرب شاملة وكاملة على الإرهاب ومنابعه, وفق وجهة النظر الأمريكية, مما أوقع السياسة الأمريكية الداخلية بمطبات كثيرة, انعكست على الحياة الأمريكية عموماً, ومنها قطاع التعليم. وبدأت أصوات العلماء والباحثين ترتقع مطالبة بزيادة الإنفاق على التعليم, وزيادة الاستثمار في البحث العلمي بين 5 و7 بلايين دولار سنوياً, من أجل تلافي التقصير والتدهور الحاصل في نظام التعليم والبحث العلمي في أمريكا.
وكما قال مايكل لوبيل مدير الجمعية الفيزيائية الأمريكية " هذا ليس مبلغاً كبيراً مقارنة بثمانية بلايين دولار ننفقها شهرياً في العراق وأفغانستان" .
إلا إن الإدارة الأمريكية مازالت مستمرة في سياستها المعلنة في حربها على الإرهاب لذلك فقد اهتمت الولايات المتحدة بنظم التعليم في العالم الإسلامي, بعد أن اُتهمت المناهج التربوية الإسلامية بزرع مفهوم الإرهاب في عقول ونفوس الطلاب المسلمين في العالم, فكانت بنظر أمريكا منبعاً لتخريج الإرهابيين. وبالفعل فقد بدأت البلاد الإسلامية عموماً والعربية منها خصوصاً بتغيير مناهجها التعليمية, استجابة للضغوط الأمريكية غالباً.
أمة في خطل
إن العرض الماضي لحال التعليم الأمريكي يرسم صورة قد تسر كثيراً من الأمم في الأرض, هذه الأمم التي عانت من جبروت أمريكا وتدخلها المستمر في شؤون العالم, وأعتقد أنها تسرنا كأمة عربية ومسلمة كانت ومازالت الهدف الأول لسياسات أمريكا الخارجية وتدخلاتها, بصورة ألحقت ظلماً كبيراً بأمتنا وقضايانا الوطنية.
ولكنني أقول إن هذا السرور يعكس مدى الخطل الذي نعيش فيه, لأننا نأخذ بظواهر الأمور, ونتمنى زوال نفوذ أمريكا, حتى لو رسمنا في مخيلتنا صوراً خادعة عن تدهور القوة الأمريكية. فنحن مازلنا ننتظر النصر من الله بمعجزة, لا تكلفنا أي جهد, لإتكائنا على فهم خاطئ لمبدأ صعود الأمم وهبوطها, وتخاذل وتكاسل فظيع أسميناه ظلماً توكل على الله, وإلا ما الفرق بيننا وبين قريش عندما هاجم أبرهة الحبشي الكعبة يريد هدمها, فقابلوا ذلك بقولهم إن للبيت رباً يحميه؟!. لقد حمى الله بيته صحيح, ولكن قريشاً كان لا بد من ذهابها, لأنها أمة لا تصلح لحفظ البيت وصونه, وهذا ما سيحدث لأمة الإسلام إذا لم تحسن تمثيل هذا الدين العظيم وتقديمه للعالم, وصدق تعالى بقوله:" وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ "(محمد: من الآية38)
العرض الماضي لمشاكل التعليم في أمريكا يعكس لنا مسألة على غاية من الأهمية, وهي أن ريادة أي دولة وتفوقها العلمي العالمي يحتاج إلى متابعة دائمة وتقويم مستمر, متابعة للنتائج, وتقويم للأداء, لمعرفة مدى ملائمة النظام التعليمي, لخدمة الأهداف المرسومة. وهذا ما يقوم به القائمون على الإدارة التربوية العامة في أمريكا. لذلك فقد وجدنا هذا الكم الكبير من الدراسات والمتابعات لواقع التعليم الأمريكي ومشاكله, بغية اتخاذ التدابير المناسبة في الوقت المناسب لتلافي أي خلل أو تقصير.
بينما نحن كأمة عربية إسلامية مازلنا نتلقى الأوامر بتغيير المناهج التعليمية, دون أن ندرك بعد مدى الانحطاط في نظام التعليم عندنا.
نغيّر وفق الطلب الأمريكي, ولكننا لم ندرس مشاكلنا لأننا لم نستوعب بعد أننا في الدرك الأسفل تعليمياً على مستوى العالم كله, فالأمية تصل في بعض الدول العربية إلى 60% في الوقت الذي لا تزيد فيه عن 3% فقط في بعض الدول الصناعية, واستخدام الوسائل التكنولوجية عندنا محدود جداً بصورة مخجلة, وهناك مشاكل كبيرة في الإدارات التربوية, وسوء كبير في إعداد المعلمين, وقصور كبير في المناهج التي تعتمد على الشكل النظري ولا تقترب من التطبيق العملي حتى في الجامعات والأقسام العلمية.وطبعاً فإن هذه المشاكل لا تقتصر فقط على قطاع التعليم, ولكنها تنسحب على كافة المجالات الأخرى.( )
لذلك كانت مهمتنا الأساسية اليوم هي في إصلاح العقول, ولن يتم ذلك قبل إصلاح التربية والتعليم, إصلاحاً ينبع من حاجاتنا, بعد درس واستيعاب لحجم المشاكل التي يعاني منها التعليم عندنا, وليس استجابة لإملاءات خارجية تهدف إلى تحقيق مصالحها الخاصة فقط.
Hlvd;h td o'v ,kpk td o'g >