دع عنك الهمهمة المعتادة :
الله لا يؤاخذنا صرفنا واجد اليوم
اليوم وكل يوم أنت تفعل الشئ نفسه تتقمص نفس الدور المسخ (آليه)
كأني بك مسرورا ، وهم ينادونك : Mr. Market Mechanism
اليوم وكل يوم أنت تمارس بسادية ، وأد الانسان في داخلك .
تعـال معي لتستعيد إنسانيتك ، حينما يفجرها الألم لمشهد الحرمان الـذي يصنعـه الفقر
تعال لترى الانسان عند نقطة الصفر كيف هو
أتعلم ماذا يكون الانسان عند نقطة الصفر ؟
تستلب الحياة من كل شئ فيه إلا عينيه
أتعلم ماذا يكون الانسان عند نقطة الصفر ؟ الكلمات في قاموسه ليس لها أضداد أنت تعرف السعادة وربما سمعت عن الشقاء ، هو لا يعرف الا الشقاء .
أنت تعرف شيئا اسمه الحزن والفرح ، هو لا يعرف إلا الحزن
أنت تعرف الشئ ونقيضه ، بدرجات متفاوته هو يعرف الكلمة وحدها بمعناها السلبي فقط بدون أضدادها ، وبأقصى درجاتها قسوة
البؤس والعجز والحرمان والألم والعري والجوع
استفزني عبدالكريم بكلامه ، واستثار التحدي عندي ، فقررت أن أذهب معه لأرى هذه (البيئة) التي سوف تعيد خلق الانسان في داخلي ، كما يقول ، ولأتاكد إذا ما كان ذلك (الانسان) الجامد البليد موجودا
كنت اتنقل مع عبدالكريم ، من بيت إلى بيت كنت معه في سباق مع الألم في كل مرة يغرس نصلا :
- أترى هذا الطفل لا يملك إلا ثوبا واحدا إذا عاد من المدرسة خلعه وخرج إلى الشارع ، يلعب بسروال فقط أتدري لماذا ؟ ليس لغزا ولا رياضة ذهنية إنه لا يملك غيره ويجب أن يبقى نظيفا حتى يستطيع أن يذهب به من الغد إلى المدرسة ، لم ينتظر مني تعليقا
في بيت آخر - أرأيت هذه الطفلة تم سحبها من المدرسة بعد أن وصلت الصف الرابع لا أهلها ليسوا ضد تعليم البنات لكنهم اضطروا لذلك ، لأن شقيقها وصل سن الدراسة وليس لديهم القدرة على الصرف إلا على (دارس) واحد فكان الولد
من منزل لآخر حتى استغرقنا النصف الأول من الليل كنت لا أسمع إلا : أرأيت أرأيت كان عبدالكريم ، وهو يتجول بي من بيت لبيت يفتح أمامي أبواب الحزن والبؤس على مصاريعها ويوقفني على مشاهد للحرمان ويسكب في عيني ألما
- توصلني قريب من مدرستي لو كلفت عليك ؟ أتى رجاؤها مخنوقا ممزوجا بالخوف ، ليقطع علي سلسلة الصور التي تداعت إلى ذهني عن حي الأمل ، وما بقى من آثار تجربه إعادة اكتشاف الانسان البليد الجامد، المغموس بالتفاهات ، الموجود في داخلي . - لا . تبقين معي إلى وقت الخروج من المدرسة ثم أوصلك غمرها شعور بالسكينة لاحظت ذلك وأنا أرى صدرها يهبط ثم تطلق نفسا عميقا ، دفع غطـاء وجهها إلى الأمام
أخذت أقلب الأفكار فيما أفعله ، لأخرج من هذا المأزق الذي وقعت فيه . الواقع المزري لحي الأمل كان حاضرا ، وأنا أبحث عن حل يتجاوز أن (أتخلص) أنا ، من (ورطة) موضي كنت أريد حلا لها هي ، حتى لا تعود لنفس الطريق . من السهل أن (أرميها) ، كما تقول ، قرب مدرستهـا ، لتذهب لبيت أهلها ، وسوف تجد إجابة تقنع بها أمها ، عن سبب تمزق (مريولها) ، أشعر أني غير قادر على الخروج بشيء ذي بال في موضوعها . هل يملك (رجال الهيئة) حلا يعطي التجاوز فرصة ، ويوفر علاجا جذريا ، لو أني لجأت إليهم ؟
ماذا لو اتصلت عليهم لطلب الاستشارة فقط ؟
مرت دقيقة أو أكثر ، والافكار تطوح بي يمينا وشمالا ، قبل أن يقطع تفكيري صوت بكائها. توهمت في البداية أنها سمعتني ، وأنا أحدث نفسي حول الاتصال بالهيئة . التفت إليها ، كانت قد وضعت وجهها بين كفيها وتنتحب . - ما بك يا موضي ؟ قالت بصوت يقطعه البكاء - كيف أشكرك (وشلون) أشكرك ؟
لم يكن بكاؤها عن سبب ، كانت تفرغ شحنة عاطفية مكبوتة ، منذ الصباح ، وهي تراكم هما وخوفا وإحباطا وعجزا وقلقا وتنتظر أملا حين أقتربت من مقر عملي ، قلت لها : - موضي سأنزل هنا لدى أمور سأنجزها قد يحتاج ذلك ساعة أو أقل . سأقف هنا المكان آمن سأترك مكيف السيارة مفتوحا . أبق الأبواب والزجاج مغلقة ، لا تفتحي لأي إنسان ، مهما كانت الاسباب ولا تغادري السيارة أبدا . سأترك جوالي معك إتصلي على هذا الرقم عند أي طارئ ولا تردي على أي إتصال .
كنت أهم بالنزول ، عندما قالت : - خذ الجوال أنا لا أعرف كيف استخدم الجوال هذه أول مرة في حياتي أرى فيها جوالا . توقفت للحظة ، قبل أن آخذ منها الجوال ، الذي بقى في يدها الممدودة وشعرت بمثل حد السكين يحز في أعماقي وتداعت إلى ذهني قصة (ولد البسام) والصدى يجلجل في تلك المساحات الفارغة ، في قطعة اللحم التي تدعي مجازا (قلبا) : هذه أول مرة في حياتي أرى فيها جوالا .
يا لبلادة المترفين . ألتقطت منها الجوال ، والمرارة والشعور بالاحباط وغياب (الانسان) ، ترغم شفتي على الانفراج ، لتصنعا شيئا يسمونه (إبتسامة) . - ليه تضحك ما أنت مصدقني ؟
- مصدقك والله يا عمري - أجل ليه تضحك ؟ - أضحـك على الإنســان البليد في داخلي الرقم العينة المسحية في أبحاث السوق - ما فهمت . - تفهمين بعدين .
أغلقت الباب ومضيت . حينما سرت بضع خطوات سمعت نقرا على الزجاج التفت ، كانت تلوح بيدها ، تناديني ، رجعت ، ولما فتحت الباب ، قالت : - أبغى أطلب منك طلب لكني خجلانه
- تفضلي . - أنا جايعة من أمس الظهر والله ما ذقت شئ أصل أمس . خلص الزيت ، وما قدرت أمي تطبخ وحنا بعد يعنى . لم تستطع أن تكمل عبارتها ، ولم تقدران تفصح عما كانت تريد قوله ، كانت تفرك كفيها ببعضهما ، مطأطئة رأسها
حرت في مكاني لبضع ثواني ، ها هو الانسان البليد في داخلي ، يتلقى صفعة ثانية ، - جائعة وأنا رائحة الشواء ، الذي أتخمت منه البارحة ، حتى لم يبق مكانا لنسمـة هواء ما زالت خياشيمى
هناك شئ نفعله حينما يبلغ بنا الشعور بالمرارة والمهانة أقصاه . نبصق على شئ صورة المسئول في الجريدة مثلا أو على الارض بجانبنا ، وهو أقصى إحتجاج نقدر عليه ، كنت أريد أن أبصق على خيالي ، الذي يعكسه الزجاج على (شكل) الانسان الذي أدعي أنه موجود لدي ، كنت أهم بأن أفعل ذلك ، لكني خشيت أن تفهم أنها هي المقصودة
رفعت راسها ، وأنا مازلت واقفا . كانت عيناها تلمعان من خلف غطاء وجهها . قالت ، وهي ما تزال تفرك كفيها ، لكن بوتيرة أقل : - الظاهر أن طلبي ما كان في محله . أو (شكلي) أحرجتك - لا ابدا نمشي الآن .
كنت على وشك أن أغلق الباب حين لمحت بقعة دم على ثوبها ، قريبا من موضع الركبة . انقبض قلبي بشدة ، وداهمني خاطر سئ وشعور بالغضب ، لم أستطع أن أواريه ، فقلت لها بلهجة جافة لا تخلو من إتهام : - موضي من وين الدم هذا ؟ - انجرحت ركبتي يوم طحت من السيارة
عيناها مازالتا تلمعان من خلف الغطاء معلقتان بوجهي ، الذي ارتسمت عليه علامة استفهام كبيرة أحست أن إجابتها لم تقنعني ، وأني لم أصدق كلامها ، فأزاحت عباءتها ، ورفعت ثوبها عن موضع الاصابة ، دون أن تتكلم ، أو ترفع رأسها ، كان جرحا سطحيا ، تيبس الدم حوله . ليس عميقا ، لكنه بدا ، بلونه الداكن ، وتشققاته ، التي أبرزها إهابها الأبيض الرقيق ، مثيرا للألم والشفقة ، أغلقت الباب ، وركبت من الناحية الأخرى . كانت ما تزال مطأطئة راسها أعرف أني جرحت كرامتها
كثيرا ما نوقع أذى بهذا الحجم وأكثر ، بالآخرين وكثيرا ما يكون ذلك بدافع من الشعور بـ (طهرانية) مبالغ فيها لذواتنا والشعور بـ (دنس) الآخر ، وقابليته للخطيئة ، التي تحتاج إلى (مخلص) مثلنا لم يقف يوما في صف ، ويسمع ، من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر .
وأحيانـا نمارس الأذى ، ونوقعه بقسوة لا تعطي فرصة للتجاوز على من نحب بدعوى الحب ، كيف يؤذي من يحب .؟
حاولـت أن أغير الموضوع ، وألطف الموقف ، بسؤالها عن ماذا تريد أن تأكل ، لكنها لم ترد. فكرت أن أشتري لها سندويتشات وعصير ، لكني لا أعرف محلا قريبا ، يقدم هذا النوع من الفطائر ، وعملية البحث ستأخذ مني وقتا .
اتجهت إلى مطعم قريب ، يقدم وجبات سريعة . في الطريق إليه لمحت صيدلية نزلت وأشتريت شاشا ومعقما ولاصقا ، وصلنا المطعم قلت لها : - انزلي . - إلى أين ؟ - إلى المطعم لتفطري .
نزلنا وفي قسم العائلات ، أخذنا إحدى المقصورات . كانت تتلفت واضح أنها تدخل مطعما لأول مرة قالت ببراءة : - آكل قدام الناس . ما يشوفوني الرجال ؟ - لا أنت لوحدك هنا
تيقنت أنها بريئة ولم تتمرس على الانحراف تستحي أن يراها الرجال كاشفة وجهها وهي تأكل ، الحياء لا يتكلف ، ولا يصطنع
التظاهر في مثل هذه المواقف ، بغير الحقيقة ، يتطلب درجة عالية من الخبث ، والتمرس على المكر لا يمكن أن تتقنه طفلة في هذا السن ، وأوجعني قلبي مرة أخرى أن ظننت بها ظن السوء
طلبت لها أكلا ، وسألتها إن كانت تريد عصيرا بعينه ، قالت : - أبغي (كوتيل) - تقصدين كوكتيل .؟ - ما أدري أسمع البنات يقولون ، عصير (الكوتيل) حلو . مرة أخرى يبرح بي الألم تبدو لغة المحرومين ساذجة بريئة ، لكنها تدمي القلب . يحق لك أن تزهو إبن الطبقة الوسطى ، أو فوقها بقليل تعرف الكوكتيل والسكالوب والستيك
ها أنت أمام كائن يشاركك نفس الكوكب ونفس الوطن بل على الطرف الثاني من المدينة ربما لم يعرف سائلا غير الماء في حياته أو معلبات الكولا ، التي تعمل عمل الأسيد في قنوات جهازه الهضمي . إنه (البرجوازي) البشع يتربع في داخلك كتمثـال من البرونز منصوب في ميدان ، في عاصمة (رأسمالية) يأتيه العمال ، والمهاجـرون المغتربون المسحوقون يتمسحون فيه ويطوفون حوله يلتقطون الصور التذكارية ويصطنعون عنده (لقطات فرح) انتزعوها من بقايا آدمية مطحونة ، في قيعان المناجم أو بين هدير ألات المصانع ، يتفصدون دما وعرقا ، يصنع منه طلاء يحفظك من الصدأ ويبقيك لامعا متوهجا ليؤموك مرة ، تلو أخرى ، صرت (ربا) صنما ، حولك (يولد) فرح المسحوقين ، ومن عصارة أجسادهم تبقي لامعا لتسعدهم أي فخر أعظم من هذا .؟
جاء الأكل ، واستلمته من العامل ، ووضعته على الطاولة وقلت لها : - أفطري بعد عشر دقائق أرجع لك - وين تروح ؟ - أتركك تأخذين راحتك - لا لا تتركني أنا راحتي معك انتفض قلبي لعبارتها تملكني براءة الأنقياء وصدق المشاعر