الدليل النقلي الذي يرد على منكر البعث
الأول رد للمؤمنين الذين يكفيهم أن يقرر، أو يبين الله تعالى مسألة ليؤمنوا بها، فلا يحتاجون إلى دليل آخر، بل أعظم دليل عندهم هو كلام الله، فكلام الله عندهم يستدل به ولا يحتاج إلى أمر آخر، فهؤلاء يكفيهم أقل الكلام، لأن قلوبهم مشرقة، فاكتفى بقوله: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4] فهذه للمؤمن كافية، البعث حق ولا غرابة فيه، ولا بُعد، لأن الله تعالى عالم بكل شيء، حتى عملية أكل الأرض لأجساد هؤلاء الموتى: أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً [ق:3] تحول الجسد إلى تراب أمر معلوم لله تعالى، ومسجل عنده: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق:4] تأكل وتأخذ منهم شيئاً فشيئاً وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4] وهو اللوح المحفوظ الذي سجل الله تعالى فيه مقادير الخلائق كلها، قبل أن يخلق السماوات والأرض، وهنا انتهى الأمر بالنسبة للمؤمن والمسلم الذي لا يحتاج بعد هذا الكلام الإلهي إلى دليل آخر، فهذا هو الدليل الذي نستطع أن نسميه الدليل النقلي: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4] فإذا كان ذلك كذلك فلا بعد، ويكفي أن الله تعالى قرر ذلك وأثبته. ثم عقب الله ببيان أن الضلال الذي وقع فيه المشركون هو بسبب إعراضهم عن هذا الحق الذي قرره فقال: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5] فهذا هو الحق الذي كذبوا به، كذبوا بالبعث، كذبوا بعلم الله عز وجل، وأن لديه كتاباً حفيظاً، كذبوا بالنبوة، فليسوا على قاعدة يستقرون عليها، فلذا قال: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5] والأمر المريج هو المختلط المضطرب، مِنْ مرج الشيء: إذا دخل في شيء آخر، كما في قوله: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ [الرحمن:19] فالمروج يدل على دخول الشيء في شيء، ومعناه أيضاً الاضطراب والاختلاط، إذا دخل فيه، فقد اختلط به واضطرب هذا مع هذا، فهذه تصور حال المشركين ليس في زمن النبوة فقط، بل في كل زمان أنهم فقدوا القاعدة التي يستقرون عليها، وهي قاعدة الإيمان بوحي الله، فاضطرب أمرهم. وفي هذه الآية دليل على أن من ترك الكتاب والسنة فإنه لا يستقر على حال، ولا يهتدي إلى الخير، ولا إلى صواب، لأن النص الشرعي والوحي الإلهي هو أعظم نعمة أنعم الله بها على الناس، فإذا تركوها وأهملوها أو كذبوا بها، فيضطرب أمرهم، اضطرب أمر العلم عندهم -مثلاً- لأنه علم دنيوي مبني على الحدس والتخمين، لا على الحق واليقين، واضطرب أمر اجتماعهم، واضطرب أمر اقتصادهم، وأمر سياستهم، وحربهم وسلمهم، وعلمهم؛ لأنهم تركوا القاعدة اليقينية، وهي قاعدة الحق: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ [ق:5] الذي نـزلت به الكتب وبعثت به الرسل، وبالمقابل إذا كان الإنسان يقتبس من الوحي، فأمره مستقر، لأن الله تعالى بيّن كل شيء، فلا يكون عنده اضطراب. إذاً: اضطرب المشركون لأنهم كذبوا بالوحي، وكان من اضطرابهم استبعادهم للبعث بعد الموت استبعاداً مجرداً عن الدليل، لكن عقولهم لم تتعود على ذلك، فلما سمعته استغربت، فلما استغربت استنكرت وأنكرت. فهذا هو الدليل النقلي ثابت، فالوحي حق، والبعث حق: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7] وهكذا هنا: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4] هذا الكلام لا يقنع الكفار بطبيعة الحال، لأنهم يجادلون فيه هو -أيضاً- فهم يجادلون في الله، ويجادلون في آياته، ويجادلون في علمه، ويجادلون في اللوح المحفوظ فلا ينفعهم هذا.
إثبات البعث بالدليل العقلي
ولذلك انتقل إلى ما يمكن أن نسيمه بالدليل العقلي على مسالة البعث، فذكر لهم أربعة أدلة: أولاً: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6] فهذا الدليل خلق السماء بما فيه من قوة وجمال. ثانياً: وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق:7-8] فهذه الأرض أيضاً بما بسطها الله تعالى، ومدها، وجعل فيها من الاستقرار لصلاحيتها للحياة عليها، واستخدامها في البناء، وفي الإنبات والزرع، وفي غير ذلك. ثالثاً: وَنـزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:9-11] فالدليل الثالث هو إحياء الأرض بالمطر بعد موتها، وهي ظاهرة مرئية، فأنت ترى الأرض يابسة هامدة، فإذا أنـزل الله عليها الماء انقلبت إلى خضراء تهتز بألوان النباتات، فهذا اُستُدِلَ به في القرآن الكريم لأمرين: الأول: إثبات البعث كما أن هذه الأرض بالأمس كانت ميتة فنـزل المطر فأحياها الله تعالى به بعد موتها، فكذلك الإنسان يُحيا بعد موته، بل ويُحيا بالمطر، فقد جاء في حديث البعث: {إن الله تعالى ينـزل من السماء ماء فتنبت به جثثهم، فكل ما في الإنسان يبلى إلا عجب الذنب .} إلى أن قال: ومنه يعود مرة أخرى {فينبتون كما ينبت البقل } كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام فسواء بسواء كما تنبت الأرض بالمطر كذلك ينبت الإنسان بعد موته. الثاني: اُستدل عليه بهذا، وهو حياة القلب بعد موته، فإنَّ القلب يموت بالإعراض عن الله وآياته، حتى يظن الناس أن هذا القلب لا حياة فيه. وقبل يومين حدثني إنسان عن شخص، فذكر ما فيه من الضلال والانحراف، فقلت: لعل الله أن يهديه، قال: مستحيل أن يهتدي هذا الإنسان! قالها هكذا دون أن يفكر في معناها (مستحيل!) سبحان الله! نعم لو قلنا: إنك أنت الذي ستهديه ربما نصدق هذا، لكن إذا قلنا: إن الله يمكن أن يهديه فلا مستحيل على الله جل وعلا فقد هدى من هو شر منه، ولهذا تعرفون الموضع الذي نبه الله تعالى فيه على أنه كما تحيا الأرض بالمطر، كذلك القلوب تحيا بعد موتها بالوحي والإيمان، في سورة الحديد: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نـزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16] فهذه دعوة إلى إيقاظ القلوب بالخشوع لله تعالى وعدم القسوة، فأعقب ذلك إشارة إلى أنه كما أن الأرض تحيا بالمطر، فكذلك القلوب تحيا بالوحي، فلا ييئس الإنسان من إمكانية أن يعود ويؤوب قلبه إلى الهدى، ويلين بعد أن كان قلباً قاسياً أو منحرفاً. ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الحديد وغيره، وهو مأخذ حسن، وهاهنا في سورة (ق) ذكر الله تعالى إحياء الأرض بالمطر وَنـزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً [ق:9-11] كل ذلك أتبعه بقوله: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:11] كما تحيا الأرض بالمطر وينبت منها هذا الخير الكثير، كذلك يكون خروج الناس يوم القيامة.


LinkBack URL
About LinkBacks





