هذه السورة سميت بهذا الاسم في المصاحف وكتب التفسير، وكذا كان عنوانها في سنن الترمذي رحمه الله. وهي سورة مكية بالاتفاق، نزلت بعد سورة الذاريات وقبل سورة الكهف، وآياتها ست وعشرون آية، وهذه السورة ترتكز على أربعة مواضيع ضخمة: الموضوع الأول: عن تهويل يوم القيامة، وما فيه من عقاب قوم أعرضوا عن ربهم، مبينة حالهم، ومشوهة حالتهم، ومبينة واقعهم في النار، نعوذ بالله من النار. الموضوع الثاني: عن طائفة وهم أهل الإيمان. أسأل الله أن نكون وإياكم منهم وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ [الغاشية:8] بين الله حالهم وما لهم من النعيم وما أعد لهم في جنات عدن؛ بسبب صلاحهم وإيمانهم وتقواهم. الموضوع الثالث: اشتملت السورة على الركن الثاني: وهو النظر في آيات الله الكونية، والاستدلال بمخلوقات الله تعالى التي نصبها الله أمام أعين الناس يشاهدونها ليل نهار، بل إنها تلتصق بحياتهم فلا يستغنون عنها طرفة عين، سواء في الإبل -وهذه حالة العرب معهم، وسيأتي الكلام عليهم- أو في السموات أو الجبال أو الأرض إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] من كان ذا لبٍ ممتلئٍ بالإيمان والصلاح والتقوى فإنه يستجيب لتلك الآيات: وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:101] ومن كان في غفلة وإعراض عن ربه فلا يدري مهما جاءته من آية، ومهما مرت عليه، فما تغني عنه تلك الآيات، ونعوذ بالله أن نكون من القوم الغافلين. الموضوع الرابع: ختمت بالركن الثالث: وهو تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الإسلام، وألا يعبأ بإعراض الكافرين: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21]. وختام هذه السورة يحتاج إلى محاضرة كاملة؛ لأنها منهج للذين يدعون إلى الله ويريدون أن يتأسوا بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وتلك تربية ربانية للأنبياء والرسل، وتربية لنا نحن ممن يريد أن يتأسى بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وتربية للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء: (فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر). ومبينة في ختام هذا الركن: أن الذين يعرضون عن دين الله أن وراءهم البعث، وأنهم راجعون إلى ربهم سبحانه وتعالى وسيجازيهم على كفرهم وعنادهم.
بيان حديث الغاشية وصفات من تغشاهم
قال تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] استفتحت هذه السورة بالاستفهام: هل بلغك حديث الغاشية؟ وهل هذا معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغه؟ لا. وهو خطاب لنا، وجيء بهذا الاستفهام للتشويق إلى معرفة الخبر بما يترتب عليه من الموعظة، ويدل على أهمية الخبر الذي بعده، وهذا في القرآن كثير كما في قوله تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ [ص:21] وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى [طه:9] وهنا: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] وذكر الحديث ولم يفصل فيه أي حديث عن الغاشية هو؛ وذلك لزيادة التشويق في القلب: أي حديث هو؟! وذلك لأن الآتي من الأخبار عنهم، فيصبح الذهن متوجهاً ليعرف هذا الخبر وهذا الحديث، وليتمكن في القلب. والحديث هو: الخبر المتحدث عنه. ثم تأتي قضية الغاشية، وسبحان الله! إنك إن تتأمل أسماء يوم القيامة تجد أنها أسماء ضخمة: حاقة، قارعة، صاخة، غاشية، آزفة، كلها تهز القلب والوجدان كلها معانٍ ضخمة يقف المسلم معها متأملاً: أي حديث هو؟! وسميت غاشية؛ لأنها من الغشيان، فهي تغطي على القلوب فلا تستشعر شيئاً، ويصبح الإنسان في فزع، وقد حكاه الله في قوله: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى [الحج:2]. وذكر الله عنها: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]. وسميت غاشية؛ لأنها إذا قامت لم يجد الناس مفراً من أهوالها، فكأنها غشت على عقولهم، ويبقون حيارى فيها. وتلك المعاني في هذه الأسماء ليوم القيامة تقف في النفس موقفاً عجيباً: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:1-3] الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:1-2] إنها تقرع القلوب وتغشاها وتفزعها، هذا إذا كان في القلب شيء من الإيمان يحركه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع القرآن تأثر به أشد التأثر، أليس لما سمع من ابن مسعود رضي الله عنه سورة النساء ووصل إلى قوله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء:41] قال النبي: (حسبك)؟ لأن ما بعدها مفزع: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء:42] ويصبح محمد أشفق الناس وبكى وذرفت عيناه بالدمع صلوات الله وسلامه عليه؛ من هول ذلك اليوم ومطلعه، إذ يقف محمد شهيداً على الأمة، والله سبحانه وتعالى مطلع لا تخفى عليه خافية. قال الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] وما هو حديث الغاشية؟ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ [الغاشية:2] وجيء بلفظ الوجوه؛ لأن الوجه تظهر فيه معالم ما في القلب، فإنك عندما ترى أخاك أو عزيزك أو قريبك وتنظر إلى ملامح وجهه تعرف أهو مسرور أم مصاب، وتعرف أنه في حزن أو في فرح، وتصبح تلك الوجوه تعبر عما في القلوب وأثر الجوارح عليها، وليس المقصود هنا الوجه وحده وإنما الجسد كله، ويعبر عن الوجه هنا بالذات، وقال بعض العلماء: يستدل عليه بقول الله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27] مقصود به الله سبحانه وتعالى، قالوا: واستدل لذلك في قوله تعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية:6] كناية عن الناس وليس كناية عن الوجوه؛ لأن الطعام للجسد وليس للوجه. وسبحان الله! نجد هذا في القرآن كثيراً: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس:38-39]. وفي القرآن كذلك: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس:40-41] والسبب؟ لأن المعاصي أظلمت عليه، أو الكفر والشرك والبدع أثرت عليهم فتصبح وجوههم مغبرة، ونعوذ بالله من تلك الوجوه. ووصفها أنها خاشعة، ويقصد به الذل، خشعت من الذل والفضيحة والخزي، ونعوذ بالله أن يفضحنا ربنا بسوء أعمالنا، بل نسأله سبحانه وتعالى أن يسدل علينا كنفه وألا يبدي لنا سوءة نكرهها يوم القيامة. ويأتي الخشوع بمعنى الذلة: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ [الشورى:45] وكذلك في قوله تعالى: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [القلم:43] وفي قوله تعالى: وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً [طه:108] يصبح الناس في هذا اليوم في خشوع وسكون فما يستطيع أحد أن يحرك ساكناً، وهذه حال أهل الكفر والعناد والإعراض عن صراط الله المستقيم.


LinkBack URL
About LinkBacks






