الرسول, سمي, شجرة, عليه
مختصر سيرة الرسول (( صلى الله عليه و سلم ))
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة هذه الطبعة
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن من حكمة الله ورحمته أن أرسل الرسل لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، واقتضت حكمته أن يكون الرسل أكمل الخلق في الصفات الخلقية والخلقية، كما اقتضت حكمته جل ثناؤه أن يكون آخر الرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأن يكون أعظمهم كمالاً وأوفاهم خصالاً .
ولأن الله جعل محمدًا صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة للبشرية فقد عنيت الأمة بحفظ سيرته حفظًا عجيبًا شمل كل دقائقها وتفاصيلها، فحفظت لنا كيف كانت صلته بربه ومناجاته له، وعلاقته بأصحابه وتربيته لهم، وكيف كان في بيته ومعايشته لأهله، وكيف كان يقود الجيوش ويبعث البعوث والسرايا فحفظت هذه السيرة حفظًا لا يدانيه ولا يماثله حفظ أي سيرة في الأولين والآخرين
ولذلك كان من الأهمية بمكان العناية بهذه السيرة العطرة، وبثها في العالمين؛ لتكون أنموذجًا يحتذى، وقدوة يقتدى بها في كل مناحي الحياة.
وبما أن كتاب (مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم) تأليف العالم المجاهد والإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من خير ما كتب في هذا الباب؛ لما اشتمل عليه من اهتمام بأمور العقيدة، وجزالة في الألفاظ، ووضوح في المعاني مع إيجاز غير مخل رأت الوزارة أن تطبعه وتوزعه.
فالله نسأل أن يجزي عنا صاحب هذه السيرة خير ما جزى به نبيًا عن أمته، وأن يبلغنا شفاعته، وأن يحشرنا تحت لوائه إنه جواد كريم وبالإجابة جدير وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
الحمد لله رب العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، والذين اتبعوهم بإحسان، وسلم تسليمًا.
أما بعد: فإن كتاب مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للإمام المجدد والمصلح المجاهد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأسكنه فسيح جناته آمين لمن خير ما ألف في بابه، فإنه مختصر من كتاب السيرة النبوية لأبي محمد عبد الملك بن هشام المعافري المؤرخ المشهور، فإنه كتاب وجيز يعدّ خلاصة لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم التاريخية، وقد ضمنه بعض الاستنباطات المفيدة مع ما أضاف إلى ذلك من المقدمة النافعة التي بَيّن بها واقع أهل الجاهلية اعتقادًا وسلوكًا، وما أشد حاجة المسلم وضرورته إلى معرفة هذا الواقع لما تثمره هذه المعرفة عند أولي البصائر من توقي شرور الجاهلية والاهتداء إلى محاسن الإسلام كما في الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه "قال: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية" كما بين -رحمه الله- حقيقة التوحيد الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنه ليس مجرّد التلفظ بلا إله إلا الله، بل قد يكون الإنسان كافرًا حلال الدم والمال وهو ينطق بكلمة التوحيد، وقد استدل على ذلك بأمثلة تقرر هذا الأصل مما جرى في عهد الصحابة كقتالهم لبني حنيفة وكتحريقهم للغالية في
عليّ رضي الله عنه، وما جرى ك ذلك بعد الصحابة كما أجمع التابعون على استحسان قتل الجعد بن درهم لما جحد صفات الرب مع تلفظه بالشهادة واشتهاره بالعلم والعبادة، وكما أجمع العلماء على تكفير العبيديين لما ظهر منهم ما يدل على شركهم ونفاقهم مع أنهم يظهرون شرائع الإسلام ويقيمون الجمعة والجماعة.
ولا ريب أن الضرورة داعية إلى إيضاح هذا الأصل الذي خفي على كثير من الناس حتى المنتسبين إلى العلم منهم، لذلك اهتم الشيخ بتقرير هذا الأصل وإيضاحه، وليرد به على من خالفه من أهل زمانه.
هذا ولقد عزمت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على إعادة طباعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بعد المقابلة بين ما وجد من النسخ الخطية والمطبوعة واختيار الأفضل منها، وقد عهدت أمانة أسبوع الشيخ إلينا بمقابلة هذا المختصر الذي نقدم له، وقد قمنا بمقابلة مطبوعتين بمخطوطتين: مطبوعة السنة المحمدية بتحقيق الأستاذ الشيخ محمد حامد فقي وهي المطبوعة الأولى، وقد ذكر أنه اعتمد في إخراجها على أصل قيم محقق للشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله، ومطبوعة مؤسسة دار السلام - دمشق - بإشراف الأستاذ محمد زهير الشاويش وهي المطبوعة الثانية، وأما المخطوطتان فإحداهما بخط سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان بتاريخ 16 محرم عام 1341 ه وهي موجودة في المكتبة السعودية بالرياض تحت رقم 518-86 وعدد صفحاتها 101 صفحة وفيها سقط من ص83 إلى ص88.
والمخطوطة الأخرى موجودة في المكتبة السعودية بالرياض تحت رقم 49-86، وعدد صفحاتها 226 صفحة وقد كتب في آخرها "وقع الفراغ من هذه النسخة عصر يوم الثلاثاء 26 من شوال عام 1235ه ولم يسمّ الكاتب نفسه.
ومن الملاحظ خلو المخطوطتين من المقدمة التي سبق التنويه بذكرها وهي في المطبوعة الأولى 33 صفحة من القطع المتوسط بحرف دقيق، وفي مطبوعة مؤسسة دار السلام 45 صفحة من القطع المتوسط لكن بحرف كبير، كما يلاحظ أن المخطوطتين كثيرتا السقط والتحريف وإن كانت القديمة أسلم بخلاف المطبوعتين فإنهما في الجملة سليمتان مع اشتمالهما على المقدمة ومع ما بذل من الجهد في تحقيقهما.
لذلك فقد رأينا أن يكون الاعتماد على في طباعة هذا الكتاب على المطبوعة الأولى التي بتحقيق الأستاذ محمد حامد فقي، لأنها هي الأصل، ولأنه اعتمد فيها على مخطوطة الشيخ سليمان بن سحمان وهو العالم الجليل المعروف بالعناية بكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة رحمهم الله تعالى، وقمنا أيضًا بترقيم الآيات في الهوامش وتسمية السور بدلا من ترقيمها في داخل الكتاب، كما خرجنا ما تيسر من الأحاديث مع بعض التعليقات، ورأينا أن تبقى تعليقات الشيخ محمد حامد فقي كما هي وجعلنا الرقم الدال عليها بين قوسين هكذا ( ).
ونسأل الله تعالى أن ينفعنا وعامة المسلمين بهذا الكتاب وسائر مؤلفات الشيخ وغيرها من كتب أهل العلم النافعة والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد الرحمن بن ناصر البراك عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
محمد العلي البراك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
اعلم رحمك الله: أن أفرض ما فرض الله عليك معرفة دينك. الذي معرفته والعمل به سبب لدخول الجنة، والجهل به وإضاعته سبب لدخول النار.
ومن أوضح ما يكون لذوي الفهم قصص الأولين والآخرين، قصص من أطاع الله وما فعل بهم، وقصص من عصاه وما فعل بهم. فمن لم يفهم ذلك ولم ينتفع به فلا حيلة فيه. كما قال تعالى { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ } (1) .
وقال بعض السلف: " القصص جنود الله " يعني أن المعاند لا يقدر يردها.
فأول ذلك: ما قص الله سبحانه عن آدم، وإبليس، إلى أن هبط آدم وزوجه إلى الأرض. ففيها من إيضاح المشكلات ما هو واضح لمن تأمله، وآخر القصة قوله تعالى: { قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (2) . وفي الآية الأخرى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى }{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } إلى قوله { وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } (3) .
_________
(1) الآية رقم 36 من سورة ق .
(2) الآيتان 38، 39 من سورة البقرة.
(3) من الآيات 123-127 من سورة طه.
وهداه الذي وعدنا به: هو إرساله الرسل. وقد وفى بما وعد سبحانه، فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. فأولهم: نوح . وآخرهم: نبينا صلى الله عليه وسلم. فاحرص يا عبد الله على معرفة هذا الحبل، الذي بين الله وبين عباده، الذي من استمسك به سلم، ومن ضيعه عطب.
فاحرص على معرفة ما جرى لأبيك آدم، وعدوك إبليس، وما جرى لنوح وقومه، وهود وقومه، وصالح وقومه، وإبراهيم وقومه، ولوط وقومه، وموسى وقومه، وعيسى وقومه ومحمد صلى الله عليه وعليهم وسلم وقومه.
واعرف ما قصه أهل العلم من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وقومه وما جرى له معهم في مكة ، وما جرى له في المدينة .
واعرف ما قص العلماء عن أصحابه وأحوالهم وأعمالهم. لعلك أن تعرف الإسلام والكفر. فإن الإسلام اليوم غريب وأكثر الناس لا يميز بينه وبين الكفر. وذلك هو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح.
وأما قصة آدم، وإبليس: فلا زيادة على ما ذكر الله في كتابه. ولكن قصة ذريته. فأول ذلك أن الله أخرجهم من صلبه أمثال الذر، وأخذ عليهم العهود: أن لا يشركوا به شيئا، كما قال تعالى { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا } (1) (2) ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج. ورأى فيهم رجلا من أنورهم. فسأله عنه؟ فأعلمه أنه داود . فقال: كم عمره؟ قال: ستون سنة. قال: وهبت له من عمري أربعين سنة، وكان عمر آدم ألف سنة. ورأى فيهم الأعمى والأبرص والمبتلى. قال: يا رب لم لا سويت بينهم ؟ قال إني أحب أن أُشْكَر. فلما مضى من عمر آدم ألف سنة إلا أربعين أتاه ملك الموت. فقال: إنه بقي من عمري أربعون سنة. فقال: إنك وهبتها لابنك داود . فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته.
_________
(1) ولا يزال ربنا سبحانه يقيم الحجة بسننه في الخلق والرزق، وآياته وكتابه، ويأخذ العهود والمواثيق. ولكن أكثر الناس عن هذا غافلون، لأنهم يدينون دين الآباء والشيوخ فيشركون كما يشركون وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ( الآية رقم 170 من سورة البقرة).
(2) من الآية رقم 172 من سورة الأعراف.
فلما مات آدم بقي أولاده بعده عشرة قرون على دين أبيهم، دين الإسلام. ثم كفروا بعد ذلك. وسبب كفرهم الغلو في حب الصالحين. كما ذكر الله تعالى في قوله { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } (1) وذلك أن هؤلاء الخمسة قوم صالحون كانوا يأمرونهم وينهونهم. فماتوا في شهر. فخاف أصحابهم من نقص الدين بعدهم. فصوروا صورة كل رجل في مجلسه لأجل التذكرة بأقوالهم وأعمالهم إذا رأوا صورهم، ولم يعبدوهم. ثم حدث قرن آخر فعظموهم أشد من تعظيم من قبلهم، ولم يعبدوهم. تم طال الزمان، ومات أهل العلم. فلما خلت الأرض من العلماء: ألقى الشيطان في قلوب الجهال: أن أولئك الصالحين ما صوروا صور مشايخهم إلا ليستشفعوا بهم إلى الله، فعبدوهم.
فلما فعلوا ذلك: أرسل الله إليهم نوحًا عليه السلام، ليردهم إلى دين آدم وذريته الذين مضوا قبل التبديل، فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه، ثم عَمَرَ نوح وأهلُ السفينة الأرض، وبارك الله فيهم، وانتشروا في الأرض أممًا، وبقوا على الإسلام مدة لا ندري ما قدرها ؟
_________
(1) الآية رقم 23 من سورة نوح.
ثم حدث الشرك. فأرسل الله الرسل. وما من أمة إلا وقد بعث الله فيها رسولا يأمرهم بالتوحيد وينهاهم عن الشرك. كما قال تعالى { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (1) وقال تعالى { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ } الآية (2) .
ولما ذكر القصص في سورة الشعراء ختم كل قصة بقوله { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } .
فقص الله سبحانه ما قص لأجلنا. كما قال تعالى { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى } الآية (3) .
ولما أنكر الله على أناس من هذه الأمة - في زمن النبي صلى الله عليه وسلم - أشياء فعلوها (4) قال { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ } (5) .
وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على أصحابه قصص من قبلهم، ليعتبروا بذلك.
وكذلك أهل العلم في نقلهم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جرى له مع قومه، وما قال لهم، وما قيل له.
_________
(1) من الآية رقم 36 من سورة النحل.
(2) من الآية رقم 44 من سورة المؤمنون.
(3) من الآية رقم 111 من سورة يوسف.
(4) هم المنافقون وما فعلوا في غزوة تبوك .
(5) الآية من الآية 70 من سورة التوبة.
وكذلك نقلهم سيرة الصحابة، وما جرى لهم مع الكفار والمنافقين، وذكرهم أحوال العلماء بعدهم. كل ذلك لأجل معرفة الخير والشر.
إذا فهمت ذلك:
فاعلم أن كثيرا من الرسل وأممهم لا نعرفهم؛ لأن الله لم يخبرنا عنهم لكن أخبرنا عن عاد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد. فبعث الله إليهم هودا عليه السلام. فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه وبقي التوحيد في أصحاب هود إلى أن عُدم بعد مدة لا ندري كم هي؟ وبقي في أصحاب صالح . إلى أن عدم مدة لا ندري كم هي ؟
ثم بعث الله إبراهيم عليه السلام، وليس على وجه الأرض يومئذ مسلم. فجرى عليه من قومه ما جرى، وآمنت به امرأته سارة. ثم آمن له لوط عليه السلام، ومع هذا نصره الله، ورفع قدره، وجعله إماما للناس.
ومنذ ظهر إبراهيم عليه السلام لم يعدم التوحيد في ذريته. كما قال تعالى { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (1) .
فإذا كان هو الإمام فنذكر شيئا من أحواله. لا يستغني مسلم عن معرفتها. فنقول:
_________
(1) الآية رقم 28 من سورة الزخرف.
في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لم يكذب إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم قط إلا ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله قوله: { إِنِّي سَقِيمٌ } وقوله: { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } وواحدة في شأن سارة . فإنه قدم أرض جبَّار ومعه سارة . وكانت أحسن الناس. فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي: يغلبني عليك، فإن سألك. فأخبريه: أنكِ أختي. فإنكِ أختي في الإسلام. فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك. فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه. فقال: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك. فأرسل إليها، فأُتيَ بها. فقام إبراهيم إلى الصلاة. فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها. فَقُبِضَتْ يده قبضة شديدة. فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي، فلك الله: أن لا أضرك. ففعلت، فعاد: فَقُبِضَتْ يده أشد من القبضة الأولى. فقال لها مثل ذلك، فعاد فَقُبِضَتْ يده أشد من القبضتين الأولتين. فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي، ولك الله أن لا أضرك، ففعلت. فأطلقت يده. ودعا الذي جاء بها، فقال له: إنك إنما جئتني بشيطان ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي، وأعطاها هاجر . فأقبلت. فلما رآها إبراهيم .
انصرف، فقال لها: مَهْيَم ؟ قالت: خيرًا. كف الله يد الفاجر، وأخدم خادمًا » . قال أبو هريرة : فتلك أمكم يا بني ماء السماء (1) (2) .
وللبخاري : « أن إبراهيم لما سئل عنها قال: هي أختي، ثم رجع إليها. فقال: لا تكذبي حديثي. فإني أخبرتهم أنك أختي. والله ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك. فأرسل بها إليه فقام إليها. فقامت تتوضأ وتصلي. فقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط عليَّ يد الكافر، فغطَّ حتى ركض برجله الأرض. فقالت: اللهم إن يمت، يقال: هي قتلته. فأُرسِل. ثم قام إليها فقامت تتوضأ وتصلي، وتقول: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط عليَّ هذا الكافر فغط حتى ركض برجله. فقالت: اللهم إن يمت يقال: هي قتلته. فأُرسِل في الثانية أو الثالثة. فقال: والله ما أرسلتم إليَّ إلا شيطانًا، أرجعوها إلى إبراهيم وأعطوها هاجر . فرجعت إلى إبراهيم، فقالت: أشَعُرْتَ؟ إن الله كبت الكافر، وأخدم وليدة » .
_________
(1) الحديث عند البخاري في باب واتخذ الله إبراهيم خليلا من كتاب أحاديث الأنبياء. ولكن فيه بعض اختلاف في اللفظ. ويقصد أبو هريرة رضي الله عنه العرب، لكثرة ملازمتهم للفلوات التي بها مواقع القطر لأجل رعي دوابهم. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (ج6 ص276) الطبعة الأميرية، ففيه متمسك لمن زعم أن العرب كلهم من ولد إسماعيل. وقيل: أراد بماء السماء: زمزم. لأن الله أنبعها لهاجر. فعاش ولدها بها. وقيل: أراد الأوس والخزرج لأن جدهم عمرو بن مزيقيا كان يسمى بذلك. لأنه كان إذا أقحط الناس أقام لهم مقام المطر.
(2) ورواه مسلم أيضا فهو من المتفق عليه عن أبي هريرة .
وكان عليه السلام في أرض العراق . وبعد ما جرى عليه من قومه ما جرى هاجر إلى الشام. واستوطنها، إلى أن مات فيها. وأعطته سارة الجارية التي أعطاها الجبار. فواقعها. فولدت له إسماعيل عليه السلام، فغارت سارة . فأمره الله بإبعادها عنها. فذهب بها وبابنها فأسكنها في مكة . ثم بعد ذلك وهب الله له ولسارة إسحاق عليه السلام، كما ذكر الله بشارة الملائكة له ولها بإسحاق . ومن وراء إسحاق يعقوب .
وفي الصحيح عن ابن عباس قال: « لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان: خرج بإسماعيل وأم إسماعيل، ومعه شَنّة فيها ماء. فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فَيَدِرُّ لبنها على صبيها، حتى قدم مكة. فوضعها تحت دَوْحة فوق زمزم في أعلى المسجد - وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء - ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء. ثم قَفّى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل . فلما بلغوا كداء (1) نادته من ورائه: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت له: آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا - وفي لفظ: إلى من تَكِلنا ؟ قال: إلى الله. قالت: رضيتُ - ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية ، حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } (2) . وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب
_________
(1) قال الحافظ في الفتح (ج6 ص284) بفتح الكاف ممدودا: هو الموضع الذي دخل منه النبي صلى الله عليه وسلم مكة في حجة الوداع.
(2) الآية رقم 37 من سورة إبراهيم.
من الشنة فيدر لبنها على صبيها، حتى إذا نَفَدَ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها. وجعلت تنظر إليه يَتَلَوَّى - أو قال يَتَلَبَّطَ - فانطلقت كراهيةَ أن تنظر إليه. فوجدت الصفا أقرب جبل إليها، فقامت واستقبلت الوادي تنظر: هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدًا. فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها. ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة ، فقامت عليها. فنظرت: هل ترى أحدا ؟ فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات - قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك سعي الناس بينهما - ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل ؟ - تعني الصبي - فذهبت فنظرت. فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت (1) فلم تقر نفسها. فقالت: لو ذهبت لَعَلِّي أحس أحدًا ؟ فذهبت فصعدت الصفا . فنظرت. فلم تحس أحدًا. حتى أتمت سبعًا. ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل ؟ فإذا هي بصوت. فقالت: أغِثْ إن كان عندك خير. فإذا بجبريل. قال: فقال بعقبه على الأرض. فانبثق الماء فذهبت أم إسماعيل فجعلت تحفر، فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينًا معينًا - وفي حديثه: فجعلت تغرف
(1) النشغ: الشهيق بشدة حتى يبلغ إلى الغشي من شدة البكاء .
الماء في سقائها - قال: فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة. فإن ههنا بيتًا لله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، إن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية. تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله. فكانت كذلك حتى مرَّت بهم رفقة من جُرهم مقبلين من طريق كَداء ، فرأوا طائرا عائفًا، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء. لَعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جَريّا، أو جريين (1) . فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا، وقالوا لأم إسماعيل : أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم - قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفَى ذلك أمَّ إسماعيل وهي تحب الأنس - فنزلوا . وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم. حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشَبَّ الغلام. وتعلم العربية منهم. وأنْفَسَهم (2) وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم. وماتت أم إسماعيل . وجاء إبراهيم - بعد ما تزوج إسماعيل - يطالع تَرِكَته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة. فشكت إليه. قال: فإذا جاء
_________
(1) قال الحافظ في الفتح (ج6 ص 286) بفتح الجيم وكسر الراء وتشديد الياء: الرسول. وقد يطلق على الوكيل وعلى الأجير. وقيل: سمي بذلك لأنه يجري مجرى مرسله أو موكله، أو لأنه يجري مسرعًا.
(2) بفتح الفاء بوزن أفعل التفضيل من النفاسة. أي كثرت رغبتهم فيه.
زوجك اقرئي عليه السلام، وقولي له يُغَيِّر عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا، فقال: هل جاءكم من أحد ؟ قالت: نعم جاءنا شيخ - كذا وكذا - فسألنا عنك، فأخبرته، وسألني: كيف عيشنا ؟ فأخبرته: أنا في جهد وشدة. قال: فهل أوصاك بشيء ؟ قالت: نعم. أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غَيّر عتبة بابك. قال: ذاك أبي. وقد أمرني أن أفارقك. الحقي بأهلك، فطلقها. وتزوج منهم امرأة أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، فقال لأهله: إني مُطّلع تركتي. فجاء، فقال لامرأته: أين إسماعيل؟ قالت: ذهب يصيد. قالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب ؟ قال: وما طعامكم وما شرابكم ؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء. قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم - قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: بركة دعوة إبراهيم، فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذ حب. ولو كان لهم حب دعا لهم فيه - وسألها عن عيشهم وهيئتهم ؟ فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله. قال: إذا جاء زوجك، فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد ؟ قالت: نعم. شيخ حسن الهيئة -
وأثنت عليه - فسألني عنك ؟ فأخبرته. فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا بخير. قال: هل أوصاك بشيء ؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي. وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك. ثم لبث عنهم ما شاء الله، فقال لأهله: إني مطلع تركتي، فجاء. فوافق إسماعيل يَبْري نَبْلًا له تحت دَوْحة قريبًا من زمزم. فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد. ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني ؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتًا - وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها - قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت. فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني. حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له. فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . »
هذا آخر حديث ابن عباس .
فصارت ولاية البيت ومكة لإسماعيل . ثم لذريته من بعده، وانتشرت ذريته في الحجاز وكثروا. وكانوا على الإسلام دين إبراهيم وإسماعيل قرونا كثيرة. ولم يزالوا على ذلك حتى كان في آخر الدنيا: نشأ فيهم عمرو بن لُحَي . فابتدع الشرك، وغَيّر دين إبراهيم . وتأتي قصته إن شاء الله.
وأما إسحاق عليه السلام: فإنه بالشام. وذريته: هم بنو إسرائيل والروم. أما بنو إسرائيل : فأبوهم يعقوب عليه السلام ابن إسحاق، ويعقوب هو إسرائيل .
وأما الروم: فأبوهم عيص بن إسحاق .
ومما أكرم الله به إبراهيم عليه السلام: أن الله لم يبعث بعده نبيًا إلا من ذريته، كما قال تعالى: { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } (1) . وكل الأنبياء والرسل من ذرية إسحاق . وأما إسماعيل : فلم يبعث من ذريته إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بعثه الله إلى العالمين كافة، وكان مَنْ قبله من الأنبياء: كل نبي يبعث إلى قومه خاصة. وفضله الله على جميع الأنبياء بأشياء غير ذلك.
_________
(1) من الآية رقم 27 من سورة العنكبوت.
وأما قصة عمرو بن لُحَيٍّ، وتغييره دين إبراهيم : فإنه نشأ على أمر عظيم من المعروف والصدقة، والحرص على أمور الدين. فأحبه الناس حبًا عظيمًا. ودانوا له لأجل ذلك. حتى مَلّكوه عليهم. وصار ملك مكة وولاية البيت بيده. وظنوا أنه من أكابر العلماء، وأفاضل الأولياء. ثم إنه سافر إلى الشام . فرآهم يعبدون الأوثان. فاستحسن ذلك وظنه حقًا. لأن الشام محل الرسل والكتب. فلهم الفضيلة بذلك على أهل الحجاز وغيرهم. فرجع إلى مكة ، وقدم معه بهُبَل. وجعله في جوف الكعبة ، ودعا أهل مكة إلى الشرك بالله. فأجابوه. وأهل الحجاز في دينهم تبع لأهل مكة . لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم . فتبعهم أهل الحجاز على ذلك ظنا أنه الحق. فلم يزالوا على ذلك حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بدين إبراهيم عليه السلام وإبطال ما أحدثه عمرو بن لحي .
وكانت الجاهلية على ذلك، وفيهم بقايا من دين إبراهيم لم يتركوه كله. وأيضًا يظنون أن ما هم عليه، وأن ما أحدثه عمرو : بدعة حسنة. لا تغير دين إبراهيم . وكانت تلبية نزار: لبيك. لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، فأنزل الله: { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } (1) .
_________
(1) الآية رقم 28 من سورة الروم.
ومن أقدم أصنامهم " مناة " وكان منصوبًا على ساحل البحر بقُدَيد. تعظمه العرب كلها، لكن الأوس والخزرج كانوا أشد تعظيما له من غيرهم. وبسبب ذلك أنزل الله { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } (1) .
ثم اتخذوا " اللات " في الطائف ، وقيل: إن أصله رجل صالح كان يَلُتُّ السّويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره.
ثم اتخذوا " العُزَّى " بوادي نخلة بين مكة والطائف .
فهذه الثلاث أكبر أوثانهم.
ثم كثر الشرك. وكثرت الأوثان في كل بقعة من الحجاز .
وكان لهم أيضا بيوت يعظمونها كتعظيم الكعبة . وكانوا كما قال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (2) .
_________
(1) من الآية رقم 158 من سورة البقرة.
(2) الآية رقم 164 من سورة آل عمران.
ولما دعاهم رسول الله إلى الله اشتد إنكار الناس له، علمائهم وعبادهم، وملوكهم وعامتهم، حتى إنه لما دعا رجلًا إلى الإسلام قال له: " من معك على هذا ؟ قال: حر وعبد" ومعه يومئذ أبو بكر وبلال رضي الله عنهما.
وأعظم الفائدة لك أيها الطالب، وأكبر العلم وأجل المحصول - إن فهمت ما صح عنه صلى الله عليه وسلم - أنه قال: « بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبا كما بدأ » (1) .
وقوله: « لتتبعن سنَن من كان قبلكم حَذْو القُذّة بالقُذّة، حتى لو دخلوا جُحْر ضبّ لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى ؟ قال: فمن ؟ » . (2) .
وقوله: « ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة » . (3) .
فهذه المسألة أجل المسائل. فمن فهمها فهو الفقيه. ومن عمل بها فهو المسلم. فنسأل الله الكريم المنان أن يتفضل علينا وعليكم بفهمها والعمل بها.
_________
(1) الحديث رواه مسلم عن أبي هريرة وابن عمر كما في كشف الخفا وذكر عن النجم أنه مشهور أو متواتر.
(2) الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) الحديث رواه الأربعة، ورمز له في الجامع الصغير بالصحة.
أما البيت المحرم: فإن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لما بنياه، صارت ولايته في إسماعيل وذريته. ثم غلبهم عليه أخوالهم من جُرْهُم. ولم ينازعهم بنو إسماعيل، لقرابتهم وإعظامهم للحرمة، أن لا يكون بها قتال. ثم إن جرهم بغوا في مكة. وظلموا من دخلها، فَرَق أمرهم. فلما رأى ذلك بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة، وغبشان من خزاعة، أجمعوا على جرهم فاقتتلوا، فغلبهم بنو بكر وغبشان ونفوهم من مكة.
وكانت مكة في الجاهلية لا يقر فيها ظلم، ولا يبغي فيها أحد إلا أُخرج، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك.
ثم إن غبشان - من خزاعة - وليت البيت دون بني بكر. وقريش إذ ذاك حلول وصرم، وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة. فوليت خزاعة البيت يتوارثون ذلك. حتى كان آخرهم حليل بن حبيشة . فتزوج قُصَي بن كلاب ابنته.
فلما عظم شرف قصي، وكثر بنوه وماله: هلك حليل، فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وأَمْرِ مكة من خزاعة وبني بكر، وأن قريشًا رءوس آل إسماعيل وصريحهم، فكلم رجالا من قريش وكنانة في إخراج خزاعة وبني بكر من مكة، فأجابوه.
وكان الغوث بن مرة بن أُدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر يلي الإجازة للناس بالحج من عرفة، وولده من بعده. لأن أمه كانت جرهمية لا تلد. فنذرت لله إن ولدت رجلا: أن تتصدق به على الكعبة يخدمها. فولدت الغوث فكان يقوم على الكعبة مع أخواله من جرهم .فولي الإجازة بالناس؛ لمكانه من الكعبة، فكان إذا رفع يقول :
اللهم إني تابع تباعة . إن كان إثمًا فعلى قضاعة
وكانت " صوفة " تدفع بالناس من عرفة، وتجيزهم إذا نفروا من منًى. فإذا كان يومُ النّفْر أتوا رمي الجمار ورجل من صوفة يرمي لهم، لا يرمون حتى يرمي لهم. فكان المتعجلون يأتونه يقولون: ارم حتى نرمي. فيقول: لا والله حتى تميل الشمس. فإذا مالت الشمس رمى ورمى الناس معه. فإذا فرغوا من الرمي وأرادوا النفر من مِنًى أخذت صوفة بالجانبين. فلم يجز أحد حتى يمروا، ثم يخلون سبيل الناس.
فلما انقرضوا ورثهم بنو سعد بن زيد مناة من بني تميم.
وكانت الإفاضة من مزدلفة في " عدوان " يتوارثونها. حتى كان آخرهم كَرْبُ بن صفوان بن جناب : الذي قام عليه الإسلام. فلما كان ذلك العام، فعلت صوفة ما كانت تفعل، قد عرفت العرب ذلك لهم. هو دين لهم من عهد جرهم وولاية خزاعة .
فأتاهم قصي بمن معه من قريش وقضاعة وكنانة عند العقبة ، فقال: نحن أولى بهذا منكم. فقاتلوه فاقتتل الناس قتالا شديدًا. ثم انهزمت صوفة. وغلبهم قصيّ على ما كان بأيديهم. وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي ، وعرفوا أنه سيمنعهم، كما منع صوفة. ويحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة .
فلما انحازوا بادَأهم وأجمع لحربهم. فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا. تم تداعوا إلى الصلح، فحكّموا يَعْمُر بن عوف، أحد بني بكر. فقضى بينهم بأن قصيًا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة. وكل دم أصابه قصي منهم موضوع شَدْخُه تحت قدميه، وما أصابت خزاعة وبنو بكر ففيه الدية، وأن يخلى بين قصيّ وبين الكعبة ومكة . فسمي يومئذ يعمر الشداخ.
فوليها قصي . وجمع قومه من منازلهم إلى مكة . وتملك عليهم وملكوه. لأنه أقر للعرب ما كانوا عليه. لأنه يراه دينا لا يغير فأقر النّسَأَة وآل صفوان وعدوان، ومرة بن عوف على ما كانوا عليه. حتى جاء الإسلام، فهدم ذلك كله. وفيه يقول الشاعر:
قُصَي لعمري كان يُدْعَى مجمعًا . به جمع الله القبائل من فِهْرِ
فكان قصي بن لؤي أصاب ملكًا أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة، والسقاية والرفادة، والندوة، واللواء. وقَطّع مكة رباعًا بين قومه. فأنزل كل قوم منهم منازلهم.
وقيل: إنهم هابوا قطع الشجر عن منازلهم. فقطعها بيده وأعوانه، فسمته قريش " مجمعًا" لما جمع من أمرهم، وتيمنت بأمره. فلا تُنكح امرأة منهم ولا يتزوج رجل ولا يتشاورون فيما نزل بهم، ولا يعقدون لواء حرب إلا في داره يعقده لهم بعض ولده.
فكان أمره في حياته - وبعد موته - عندهم كالدين المتبع، واتخذ لنفسه دار الندوة، فلما كبر قصي ورقّ عظمه - وكان عبد الدار بِكْره. وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه، وعبد العزى وعبد الدار . فقال قصي لعبد الدار : لألْحقَنّك بالقوم وإن شرفوا عليك. لا يدخل أحد منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له. ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت. ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك. ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعامًا إلا من طعامك. ولا تقطع قريش أمرًا من أمورها إلا في دارك.
فأعطاه دار الندوة ، والحجابة، واللواء، والسقاية والرفادة، وهي خَرْج تخرجه قريش في الموسم من أموالها إلى قصي ، فيصنع به طعامًا للحاج، يأكله من لم يكن له سعة ولا زاد. لأن قصيا فرضه على قريش . فقال لهم: إنكم جيران الله وأهل بيته. وإن الحاج ضيف الله، وهم أحق الضيف بالكرامة. فاجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيام الحج حتى يصدروا عنكم. ففعلوا.
وكان قصي لا يخالف، ولا يرد عليه شيء صنعه.
فلما هلك أقام بنوه أمره لا نزاع بينهم. ثم إن بني عبد مناف أرادوا أخذ ما بيد عبد الدار، ورأوا أنهم أولى بذلك فتفرقت قريش : بعضهم معهم. وبعضهم مع عبد الدار . فكان صاحب أمر عبد مناف عبد شمس؛ لأنه أسنهم، وصاحب أمر بني عبد الدار عامرُ بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار . فعقد كل قوم حلفًا مؤكدًا. فأخرج بنو عبد مناف جَفْنة مملوءة طيبًا. فغمسوا أيديهم فيها، ومسحوا بها الكعبة . فسموا " المطيبين " وتعاقد بنو عبد الدار وحلفاؤهم فسموا " الأحلاف " ثم تداعوا إلى الصلح، على أن لعبد مناف السقاية والرفادة، وأن الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار، فرضوا. وثبت كل قوم مع من حالفوا، حتى جاء الله بالإسلام. فقال صلى الله عليه وسلم: « كل حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة » .
وأما حلف الفضول: فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه، وهم: بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وأسد بن عبد العزى ، وزهرة بن كلاب ، وتيم بن مرة تعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها، أو ممن دخلها، إلا قاموا معه، حتى ترد إليه مظلمته، فقال الزبير بن عبد المطلب :
إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا . أن لا يقيم ببطن مكة ظالم
أمر عليه تحالفوا وتعاقدوا (1) . فالجار والمعتر فيهم سالم
فولي السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف . لأن عبد شمس سَفّار، قلما يقيم بمكة. وكان مُقلا ذا ولد. وكان هاشم موسرًا، وهو أول من سن الرحلتين، رحلة الشتاء والصيف. وأول من أطعم الثريد بمكة، فقال بعضهم: (2) .
عمرو الذي هشم الثريد لقومه . قوم بمكة مسنتين عجاف
ولما مات هاشم ولي ذلك المطلب بن عبد مناف . فكان ذا شرف فيهم، يسمونه الفياض لسماحته.
_________
(1) عند السهيلي «وتواثقوا».
(2) هو عبد الله بن الزبعرى.
وكان هاشم قدم المدينة . فتزوج سلمى بنت عمرو، من بني النجار، فولدت له عبد المطلب . فلما ترعرع خرج إليه المطلب ليأتي به، فأبت أمه. فقال: إنه يلي مُلك أبيه. فأذنت له. فرحل به. وسلم إليه ملك أبيه. فولي عبد المطلب ما كان أبوه يلي. وأقام لقومه ما أقام آباؤه. وشَرف فيهم شرفًا لم يبلغه أحد من آبائه. وأحبوه وعظُم خطره فيهم.
ثم ذكر قصة حفر زمزم ، وما فيها من العجائب.
ثم ذكر قصة نذر عبد المطلب ذبح ولده، وما جرى فيها من العجائب.
ثم ذكر الآيات التي لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولادته، وبعدها. وما جرى له وقت رضاعه وبعد ذلك.
ثم ذكر كفالة أمه له. ثم كفالة جده. ثم كفالة عمه أبي طالب .
ثم ذكر قصة بحيرى الراهب وغيرها من الآيات.
ثم ذكر تزوجه خديجة، وما ذكر لها غلامها مَيْسرة، وما ذكرته هي لورقة، وقول ورقة :
لججتَ وكنت في الذكرى لجوجًا . لَهِم طالما بعث النّشيجا
إلى آخرها.
ثم ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم بين قريش في الحجر الأسود عند بنائهم الكعبة . وذكر قصة بنائها.
وذكر أمر الحُمْس - وقال: إن قريشًا ابتدعته رأيًا رأوه. فقالوا: نحن بنو إبراهيم، وأهل الحرم ، وولاة البيت. فليس لأحد من العرب مثل حقنا. فلا تعظموا أشياء من الحل مثلما تعظمون الحرم ، لئلا تستخف العرب بحرمتكم. فتركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها، مع معرفتهم أنها من المشاعر ومن دين إبراهيم . ويرون لسائر العرب أن يقفوا بها، ويفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم . فلا ينبغي لنا أن نخرج منه. نحن الحمس و"الحمس" (1) أهل الحرم .
ثم جعلوا لمن وُلدوا من العرب من أهل الحرم : مثل ما لهم بولادتهم إياهم. أي يحل لهم ما يحل لهم. ويحرم عليهم ما يحرم عليهم.
وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك.
ثم ابتدعوا في ذلك أمورًا، فقالوا: لا ينبغي للحُمْس أن يَقِطوا الأقطَ، ولا أن يَسْلوا السمن وهم حُرم، ولا يدخلوا بيتًا من شَعر، ولا يستظلوا إلا في بيوت الأدم ما داموا حُرُما.
_________
(1) أصله من التحميس وهو التشدد والتنطع في الدين، بقصد الترفع والتعالي على غيرهم وسميت قريش «حمسا» لتشددهم وتنطعهم فيما ابتدعوه من الدين الذين خالفوا به الناس، يريدون الشرف عليهم والعلو في الأرض وكانت هذه من صوفية قريش.
ثم قالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به من الحل إلى الحرم ، إذا جاءوا حجاجًا أو عمارًا، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا - أولَ طوافهم - إلا في ثياب الحمس. فإن لم يجدوا منها شيئًا طافوا بالبيت عراة فإن لم يجد القادم ثيابَ أحمس: طاف في ثيابه وألقاها إذا فرغ. ولم ينتفع بها ولا أحد غيره. فكانت العرب تسميها "اللّقَى" وحملوا على ذلك العرب . فدانت به. أما الرجال: فيطوفون عراة وأما النساء: فتضع المرأة ثيابها كلها إلا درعًا مفرجًا ثم نطوف فيه، فقالت امرأة وهي تطوف (1) :
اليوم يبدو بعضه أو كله . وما بدا منه فلا أُحِلُّه
فلم يزالوا كذلك حتى جاء الله بالإسلام فأنزل الله { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } (2) وأنزل فيما حرموا { يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ } إلى قوله { يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } إلى قوله { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } (3) .
_________
(1) قال السهيلي: هي ضباعة بنت عامر بن صعصعة. ثم من بني سلمة بن قشير. وإنما كانت قريش ابتدعت هذا لتبيع الثياب للحجاج، وتكسب ما تشاء من المال. ثم تغالت حتى عجز الكثير عن الأثمان التي تطلبها قريش. فأمروهم أن يطوفوا عراة.
(2) من الآية 199 من سورة البقرة.
(3) الآيات من 26 إلى 32 من سورة الأعراف.
وذكر حدوث الرجوم، وإنذار الكهان به صلى الله عليه وسلم ونزول سورة الجن وقصتهم .
ثم ذكر إنذار اليهود ، وأنه سبب إسلام الأنصار ، وما نزل في ذلك من القرآن. وقصة ابن الهيبان وقوله: " يا معشر يهود، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع ؟ " وقوله: " إنما قدمت هذه البلدة أتوكّف خروج نبي قد أظَلَّ زمانه. وهذه البلدة مهاجره " إلى آخرها.
ثم ذكر قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه.
ثم ذكر الأربعة المتفرقين عن الشرك في طلب الدين الحق: وهم ورقة بن نوفل ، وعبيد الله بن جحش ، وعثمان بن الحويرث ، وزيد بن عمرو بن نفيل .
ثم ذكر وصية عيسى ابن مريم عليه السلام باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وما أخذ الله على الأنبياء من الإيمان به والنصر له، وأن يؤدوه إلى أممهم. فأدوا ذلك. وهو قول الله تعالى { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ } الآية (1) (2) .
_________
(1) من الآية 81 من سورة آل عمران 81.
(2) ظاهر الآية وتنكير لفظ «رسول» - والله أعلم - أن الله أخذ العهد والميثاق على كل نبي ورسول أن يؤمن بالرسول الذي يأتي من بعده. حتى تكون سلسلة الرسالات مرتبطة، لإقامة الحجة على البشرية من أولها إلى آخرها ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ( سورة النحل، من الآية 36) وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( سورة فاطر، من الآية 24) وبذلك تبطل مزاعم الجاهلين في كل وقت وحين لئلا يكون للناس على الله حجة. وما زال ذلك حتى كانت بشارة موسى بمحمد صلى الله عليه وسلم مجملة في الكناية عن دار بعثته بتجلي النور من جبال فاران ثم بشارة عيسى بأظهر صفاته التي يحمد بها « اسمه أحمد » وأحمد وصف لا علم.
ثم ذكر قصة بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقصة في الصحيحين - وفيها: أن أول ما نزل عليه: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } إلى قوله { مَا لَمْ يَعْلَمْ } (1) . ثم أنزل عليه { يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }{ قُمْ فَأَنْذِرْ }{ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ }{ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ }{ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ }{ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ }{ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } (2) .
فمن فهم أن هذه أول آية أرسله الله بها: عرف أنه سبحانه أمره أن ينذر الناس عن الشرك الذي يعتقدون أنه عبادة الأولياء ليقربوهم إلى الله قبل إنذاره عن نكاح الأمهات والبنات. وعرف أن قوله تعالى: { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } أمر بالتوحيد قبل الأمر بالصلاة وغيرها. وعرف قدر الشرك عند الله وقدر التوحيد.
فلما أنذر صلى الله عليه وسلم الناس، استجاب له القليل. وأما الأكثر: فلم يتبعوا ولم ينكروا، حتى بادأهم بالتنفير عن دينهم وبيان نقائصه وعيب آلهتهم. فاشتدت عداوتهم له ولمن تبعه. وعذبوهم عذابًا شديدًا، وأرادوا أن يفتنوهم عن دينهم.
فمن فهم هذا، عرف أن الإسلام لا يستقيم إلا بالعداوة لمن تركه وعيب دينه وإلا لو كان لأولئك المعذَّبين رخصة لفعلوا (3) .
_________
(1) الآيات من 1 إلى 5 من سورة العلق.
(2) الآيات من 1 إلى 7 من سورة المدثر.
(3) أي لو كان لهم رخصة في مداهنتهم وعدم إظهار العداوة والبغضاء لهم ولدينهم لفعلوا ذلك ليخلصوا من تعذيب المشركين لهم.
وجرى بينه وبينهم ما يطول وصفه. وقص الله سبحانه بعضه في كتابه.
ومن أشهر ذلك: قصة عمه أبي طالب لما حماه بنفسه وماله وعياله وعشيرته. وقاسى في ذلك الشدائد العظيمة. وصبر عليها، ومع ذلك كان مصدقًا له، مادحا لدينه، محبا لمن اتبعه، معاديًا لمن عاداه، لكن لم يدخل فيه. ولم يتبرأ من دين آبائه، واعتذر عن ذلك بأنه لا يرضى بمسبة آبائه. ولولا ذلك لاتبعه. ولما مات - وأراد النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار له - أنزل الله عليه: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي }{ قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } (1) .
فيا لها من عبرة ما أبينها ! ومن عظة ما أبلغها ! ومن بيان ما أوضحه ! لما يظن كثير ممن يدعي اتباع الحق فيمن أحب الحق وأهله، من غير اتباع للحق، لأجل غرض من أغراض الدنيا.
_________
(1) الآية 113 من سورة براءة.
ومما وقع أيضا: قصته صلى الله عليه وسلم معهم - لما قرأ سورة النجم بحضرتهم - فلما وصل إلى قوله: { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى }{ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } (1) ألقى الشيطان في تلاوته: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى. وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، ففرحوا بذلك فرحا شديدا، وتلقاها الصغير والكبير منهم، وقالوا كلاما معناه: هذا الذي نريد، نحن نقر أن الله هو الخالق الرازق، المدبر للأمور، ولكن نريد شفاعتها عنده. فإذا أقر بذلك فليس بيننا وبينه أي خلاف.
واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فلما بلغ السجدة سجد وسجدوا معه. وشاع الخبر: أنهم صافوه، حتى إن الخبر وصل إلى الصحابة الذين بالحبشة، فركبوا بالبحر راجعين لظنهم أن ذلك صِدْق. فلما ذُكِر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خاف أن يكون قاله. فخاف من الله خوفا عظيما، حتى أنزل الله عليه: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } إلى قوله { عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } (2) .
_________
(1) الآيتان رقم 19، 20 من سورة النجم.
(2) الآيات من 52 إلى 55 من سورة الحج.
فمن عرف هذه القصة (1) ، وعرف ما عليه المشركون اليوم وما قاله ويقوله علماؤهم، ولم يميز بين الإسلام الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، وبين دين قريش الذي أرسل الله رسوله ينذرهم عنه، وهو الشرك الأكبر: فأبعده الله. فإن هذه القصة في غاية الوضوح، إلا من طبع الله على قلبه وسمعه. وجعل على بصره غشاوة، فذلك لا حيلة فيه، ولو كان من أفهم الناس، كما قال الله تعالى في أهل الفهم الذين لم يوفقوا: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ } (2) الآية.
_________
(1) ذكر صاحب فتح الباري ج 8 ص 439 ط السلفية: أن القصة رويت بثلاثة أسانيد على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض قال: وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر وهو قوله: ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى، ثم ذكر أجوبة للعلماء في ذلك، وأحسنها القول: إن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وليس كذلك في نفس الأمر ا ه.
(2) من آية 26 من سورة الأحقاف.
ثم لما أراد الله إظهار دينه وإعزاز المسلمين: أسلم الأنصار - أهل المدينة - بسبب العلماء الذين عندهم من اليهود، وذِكْرِهم لهم النبي وصفته، وأن هذا زمانه وقدر الله سبحانه أن أولئك العلماء الذين يتمنون ظهوره وينتظرونه ويتوعدونهم به - لمعرفتهم أن العز لمن اتبعه - يكفرون به ويعادونه. فهو قول الله سبحانه { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } (1) .
فلما أسلم الأنصار : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من المسلمين بالهجرة إلى المدينة . فهاجروا إليها. وأعزهم الله تعالى بعد تلك الذلة. فهو قوله تعالى: { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ } (2) الآية .
_________
(1) آية 89 من سورة البقرة.
(2) من آية 26 من سورة الأنفال.
وفوائد الهجرة والمسائل التي فيها كثيرة، لكن نذكر منها مسألة واحدة. وهي:
أن ناسا من المسلمين لم يهاجروا، كراهة مفارقة الأهل والوطن والأقارب، فهو قول الله تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } . (1) .
فلما خرجت قريش إلى بدر: خرجوا معهم كرها. فقتل بعضهم بالرمي، فلما علم الصحابة: أن فلانا قتل، وفلانا قتل، تأسفوا على ذلك وقالوا: قتلنا إخواننا. فأنزل الله تعالى فيهم: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ } إلى قوله: { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } (2) .
_________
(1) آية 24 من سورة براءة.
(2) الآيات من 97 إلى 100 من سورة النساء.
فليتأمل الناصح لنفسه هذه القصة، وما أنزل الله فيها من الآيات. فإن أولئك لو تكلموا بكلام الكفر، وفعلوا كفرًا ظاهرًا يُرضون به قومهم: لم يتأسف الصحابة على قتلهم. لأن الله بين لهم - وهم بمكة - لما عذبوا قوله تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } (1) .
فلو سمعوا عنهم كلاما أو فعلا يرضون به المشركين من غير إكراه، ما كانوا يقولون: " قتلنا إخواننا ".
ويوضحه قوله تعالى: { قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ } ولم يقولوا: كيف عقيدتكم ؟ أو كيف فعلكم ؟ بل قالوا: في أي الفريقين كنتم (2) ؟ فاعتذروا بقولهم: { كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ } فلم تكذبهم الملائكة في قولهم هذا، بل قالوا لهم { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } ويوضحه قوله { إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا }{ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } (3) .
_________
(1) من الآية 106 من سورة النحل .
(2) الاستفهام « فيم كنتم » يفيد السؤال عن الحال والصفة، والسؤال عن القرناء . وهو عن الحال والصفة أظهر.
(3) الآيتان رقم 98، 99 من سورة النساء.
فهذا في غاية الوضوح. فإذا كان هذا في السابقين الأولين من الصحابة فكيف بغيرهم ؟
ولا يفهم هذا إلا من فهم أن أهل الدين اليوم لا يعدونه ذنبا.
فإذا فهمت ما أنزل الله فهما جيدا. وفهمت ما عند من يدعي الدين اليوم، تبين لك أمور:
منها: أن الإنسان لا يستغني عن طلب العلم. فإن هذه وأمثالها: لا تعرف إلا بالتنبيه. فإذا كانت قد أشكلت على الصحابة قبل نزول الآية، فكيف بغيرهم ؟
ومنها: أنك تعرف أن الإيمان ليس كما يظنه غالب الناس اليوم، بل كما قال الحسن البصري - فيما روى عنه البخاري : ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال .
نسأل الله أن يرزقنا علما نافعا، ويعيذنا من علم لا ينفع.
قال عمر بن عبد العزيز : يا بني ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن تعقل عن الله، ثم تطيعه .
ولما هاجر المسلمون إلى المدينة ، واجتمع المهاجرون والأنصار : شرع الله لهم الجهاد. وقبل ذلك نهوا عنه، وقيل لهم: { كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ } فأنزل الله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (1) فبذلوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى، رضي الله عنهم، فشكر الله لهم ذلك، ونصرهم على من عاداهم، مع قلتهم وضعفهم، وكثرة عدوهم وقوتهم.
فمن الوقائع المشهورة، التي أنزل الله فيها القرآن: وقعة بدر، قد أنزل الله فيها سورة الأنفال، وبعدها وقعة قَينُقَاع، ثم وقعة أُحد بعد سنة، وفيها الآيات التي في آل عمران وبعدها وقعة بني النضير ، وفيها الآيات التي في سورة الحشر، ثم وقعة الخندق ، وبني قريظة ، وفيها الآيات التي في سورة الأحزاب ثم وقعة الحديبية ، وفتح خيبر . وأنزل الله فيها سورة الفتح. وفتح مكة . ووقعة حنين وأنزل الله فيها سورة النصر. وذكر حنين في سورة براءة. ثم غزوة تبوك وذكرها الله في سورة براءة.
_________
(1) آية 216 من سورة البقرة.
ولما دانت له العرب ، ودخلوا في دين الله أفواجا، وابتدأ في قتال العجم : اختار الله له ما عنده. فتُوُفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد ما أقام بالمدينة عشر سنين. وقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، فوقعت الردة المشهورة.
وذلك: أنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارتد غالب من أسلم، وحصلت فتنة عظيمة، ثبت الله فيها من أنعم عليهم بالثبات، بسبب أبي بكر الصديق رضي الله عنه. فإنه قام فيها قياما لم يدانِه فيها أحد من الصحابة، ذكّرهُمْ فيه ما نسوا. وعلمهم ما جهلوا. وشجعهم لما جبنوا. فثبت الله به دين الإسلام. جعلنا الله من أتباعه وأتباع ما حمله أصحابه.
قال الله تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الآية (1) قال الحسن : هم والله أبو بكر وأصحابه.
_________
(1) من الآية 54 من سورة المائدة.
قتال أهل الردة
وصورة الردة: أن العرب افترقت في ردتها. فطائفة رجعت إلى عبادة الأصنام. وقالوا: لو كان نبيا لما مات . وفرقة قالت: نؤمن بالله ولا نصلي. وطائفة أقروا بالإسلام وصلوا. ولكن منعوا الزكاة. وطائفة شهدوا أن لا إله إلا الله ! وأن محمدا رسول الله. ولكن صدقوا مسيلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أشركه معه في النبوة.
وذلك: أنه أقام شهودا شهدوا معه بذلك. وفيهم رجل من أصحابه معروف بالعلم والعبادة، يقال له: الرَّجال، فصدقوه لأجل ما عرفوا فيه من العلم والعبادة. ففيه يقول بعضهم ممن ثبت منهم:
يا سعاد الفؤاد بنت أثال . طال ليلي بفتنة الرجال
فتن القوم بالشهادة والل . ه عزيز ذو قوة ومحال
وقوم من أهل اليمن ، صدقوا الأسود العنسي في ادعائه النبوة.
وقوم صدقوا طُليحة الأسدي .
ولم يشك أحد من الصحابة في كفر من ذكرنا، ووجوب قتالهم، إلا مانع الزكاة ولما عزم أبو بكر رضي الله عنه على قتالهم قيل له: كيف نقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها » . قال أبو بكر : فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عِقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه (1) .
ثم زالت الشبهة عن الصحابة رضي الله عنهم، وعرفوا وجوب قتالهم، فقاتلوهم ونصرهم الله عليهم. فقتلوا من قتلوا منهم، وسبوا نساءهم وعيالهم.
_________
(1) رواه بهذا اللفظ مسلم وأبو داود والترمذي وقال السيوطي: هو متواتر.
فمن أهمِّ ما على المسلم اليوم تأمل هذه القصة التي جعلها الله من حججه على خلقه إلى يوم القيامة. فمن تأمل هذا تأملا جيدا - خصوصًا إذا عرف أن الله شهرها على ألسنة العامة، وأجمع العلماء على تصويب أبي بكر في ذلك، وجعلوا من أكبر فضائله وعلمه: أنه لم يتوقف في قتالهم بل قاتلهم من أول وهلة. وعرفوا غزارة فهمه في استدلاله عليهم بالدليل الذي أشكل عليهم. فرد عليهم. بدليلهم بعينه، مع أن المسألة موضحة في القرآن والسنة.
أما القرآن: فقوله تعالى: { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } (1) .
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك: عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى » .
_________
(1) من آية 5 سورة براءة.
فهذا كتاب الله الصريح للعامي البليد. وهذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا إجماع العلماء الذين ذكرتُ لك.
والذي يعرفك هذا جيدا: هو معرفة ضده، وهو أن العلماء في زماننا يقولون: من قال: " لا إله إلا الله " فهو المسلم، حرام المال والدم لا يُكَفّر ولا يقاتل، حتى إنهم يصرحون بذلك في شأن البدو الذين يكذبون بالبعث. وينكرون الشرائع. ويزعمون أن شرعهم الباطل هو حق الله، ولو طلب أحد منهم خصمه أن يخاصمه عند شرع الله لعدوه من أنكر المنكرات، بل من حيث الجملة: إنهم يكفرون بالقرآن من أوله إلى آخره. ويكفرون بدين الرسول كله، مع إقرارهم بذلك بألسنتهم، وإقرارهم: أن شرعهم أحدثه آباؤهم لهم كفرًا بشرع الله.
وعلماء الوقت يعترفون بهذا كله. ويقولون ما فيهم من الإسلام شعرة. وهذا القول تلقته العامة عن علمائهم، وأنكروا به ما بينه الله ورسوله. بل كَفّروا من صدق الله ورسوله في هذه المسألة، وقالوا: من كَفّر مسلما فقد كفر. والمسلم عندهم: الذي ليس معه من الإسلام شعرة، إلا أنه يقول بلسانه: " لا إله إلا الله " وهو أبعد الناس عن فهمها وتحقيق مطلوبها علما وعقيدة وعملا.
فاعلم - رحمك الله - أن هذه المسألة: أهم الأشياء كلها عليك. لأنها هي الكفر والإسلام. فإن صدقتهم فقد كفرت بما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا لك من القرآن الكريم والسنة والإجماع. وإن صدقت الله ورسوله عادوك وكفروك.
وهذا الكفر الصريح بالقرآن والرسول في هذه المسألة: قد اشتهر في الأرض مشرقها ومغربها. ولم يسلم منه إلا أقل القليل.
فإن رجوت الجنة، وخفت من النار: فاطلب هذه المسألة وادرسها من الكتاب والسنة، وحررها، ولا تقصر في طلبها، لأجل شدة الحاجة إليها، ولأنها الإسلام والكفر. وقل: اللهم ألهمني رشدي، وفهمني عنك، وعلمني منك، وأعذني من مضلات الفتن ما أحييتني.
وأكثر الدعاء بالدعاء الذي صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو به في الصلاة. وهو « اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخْتُلِفَ فيه من الحق بإذنك. إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم » (1) .
ونزيد المسألة إيضاحا ودلائل لشدة الحاجة إليها، فنقول:
_________
(1) الحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
ليفطن العاقل لقصة واحدة منها. وهي أن بني حنيفة أشهر أهل الردة ، وهم الذين يعرفهم العامة من أهل الردة .وهم عند الناس أقبح أهل الردة. وأعظمهم كفرا. وهم - مع هذا - يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويؤذنون ويصلون، ومع هذا فإن أكثرهم يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك، لأجل الشهود الذين شهدوا مع الرَّجال.
والذي يعرف هذا - ولا يشك فيه - يقول: من قال " لا إله إلا الله " فهو المسلم، ولو لم يكن معه من الإسلام شعرة، بل قد تركه واستهزأ به متعمدًا. فسبحان الله مقلب القلوب كيف يشاء !! كيف يجتمع في قلب من له عقل - ولو كان من أجهل الناس - أنه يعرف أن بني حنيفة كفروا، مع أن حالهم ما ذكرنا. وأن البدو إسلام. ولو تركوا الإسلام كله، وأنكروه، واستهزءوا به على عمد. لأنهم يقولون: " لا إله إلا الله " لكن أشهد أن الله على كل شيء قدير. نسأله أن يثبت قلوبنا على دينه، ولا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة. إنه هو الوهاب.
تحياتي لكم
lojwv sdvm hgvs,g wgn hggi ugdi ,sgl