العتاهية, النزعة, شعـر
بأبي العتاهية تكون تحولات الشعر، من اسر الذاكرة الى حضور الوعي ومن حاكمية الارث الطللي، الى شرعية الواقع اليومي ومن مجالس الامراء، وحلقات العلماء ورواة الشعر، الى حيث العامة في الاسواق، وبين ازقة بغداد
من مبلغ عني الإما م نصائحا متواليه
أنى أرى الأسعار اسعار الرعية غاليه
ليس هنالك من شاعر هز مقاييس الشعر المتعارف عليها، كما فعل ابو العناهية إذ اتجه بالشعر اتجاها مغايرا، لم يعرف من قبل،، وكأنما الشعر اسلم القياد والامر له، دونما تردد يذكر، لينفض عنه ابو العتاهية الكثير مما ورثه، من صيغ التعبير ومن قيم شعرية متداولة، ومما علق به من صفات الفخامة، ليلبسه ثوبا متواضعا، اراد ان يكون له وحده، شرف قده وتفصيله، دون الشعراء جميا، فاذا بالثورة لصالح الواقع المعاش، تتجلى كأوضح ما يكون، سخطا وتمردا، على قداسة وسطوة الإرث الشعري، واذا بثورته تلك تتأرجح ابداعا وجمالا تارة :
ودفنت مرارة الاشياء طراً
فما طعم أمرّ من السؤال
ولم أر في الامور أشد وقعاً
وأصعب من معاداة الرجال
ولم أر في عيوب الناس عيبا
كنقص القادرين على الكمال
وسقوطا وابتذالا تارة اخرى:
يا عتب، سيدتي أما لك دين
حتى متى قلبي لديك يهين
وانا الذلول لكل ما حملتني
وانا الشقي البائس المسكين
شاء ابو العتاهية ان يجعل من لغة العشر، لغة حية تنتمي لواقعها، لتصبح بنت يومها المتمردة، على ارثها الطللي لغة تنال شرعية وجودها الابداعي، في احاديث الناس، لتكون ايضا للناس . .لا لغة تسعى في غربة عن ذاتها، الى نيل اعجاب وحظوة الخاضة من امراء وعلماء، فلاتملك من امرها شيئا غير اجترار احاديث الصحراء، ورتابة حياتها، فكان ابو العتاهية بمفهومه هذا عن لغة الابداع الشعري . يقترب اقترابا شديدا من اللغة التي عاصرها، حتى في مديحه وشعره الرسمي، الذي كان يلقي به الخلفاء"(2).
اجل، اراد للغة الابداع، ان تكون شيئا آخرا مغايرا، شيئا معاشا، بسيطا، بل كأبسط شيء يمكن مصادفته في شوارع بغداد، او بين ازقتها واسواقها لغة تعيش في وجدان العامة، فيتشكل الشعر منها، ليتنفسها ابداعا، ممتدحا بمفرداتها الشعبية البسيطة، رأس الخلافة، ونظامها الرسمي، با له من عقلية ارثية محافظة:
اتته الخلافة منقادة اليه تجرر اذيالها
ولم تك تصلح الا له ولم يك يصلح الا لها
لو رامها احد غيره لزلزلت الارض زلزالها
لغة الشعر بأبي العتاهية، غير ما كانت عليه من قبل، لم تعد لغة متوارثة مشدودة للماضي، تستمد مرجعيتها من اشعار الاوائل، اذ نقلها من علوها الى ارض الحياة اليومية، واخرجها من مجالس الامراء، ومن حلقات العلماء ورواة الشعر، كي تكون حرة طليقة بين بسطاء الناس، لتصير لغتهم هي لغة الشعر، فتلقفتها قلوب العامة، لانها منهم. واذا بالمعادلة تتحقق : (لغة الشغر = لغة الناس) اذاً، لاغرابة ان رأي ابو العتاهية في احاديث الناس شعرا لذلك كاد يكون كلامه شعراً كله"(3) وليعلن صراحة أن اكثر الناس يتكلمون بالشعر، وهم لايعلمون، ولو احسنوا تأليفه كانوا شعراء كلهم".
وبقوله هذا، يكون ابو العتاهية قد اقر بشعبية الشعر، حيث العامة لاحيث الخاصة من علية القوم والمتأدبين بل ان ابا العتاهية، كان يتباهى بنزعته الشعبية تلك، ويزهو بها امام كل الشعراء، ومن ذلك رده على (سلم الخاسر) حينما سمعه في احدى قصائده، وانتقد سوقية الفاظها قائلا : لقد جودتها لو لم تكن الفاظها سوقية" فيجيبه ابو العتاهية باعتزاز : والله ما يرغبني فيها الا الذي زهدك فيها"
ومن هذا الحوار، نخلص الى ان الشاعر العباسي ، واجهته - كغيره من الشراء - اشكالية اللغة الابداعية، اذ كان هناك اتجاهان في اسلوب التعبير اللغوي، اولها : اتخذ اللغة المعيارية، اساسا لعمليته الابداعية، اعتمادا على ذاكرة لها مخزون ضخم من الارث الشعري، الى جانب امتلاكه قدرات عالية في الحفظ والاسترجاع، اضافة اللى مهارات التقليد والتحوير.
وغالبا ما قامت تلك الذاكرة بوظيفة تأسيس اللغة ، لذلك سار هذا الاتجاه في مسالك الفحول المتقدمين، يستلهم صيغ تعبيرهم الشعري، ويحاكي اساليبهم واخيلتهم، ليلقى بذلك استحسان العلماء والسلطة، فكان ينهجه هذا ، يمثل الابداع الرسمي المحتكم، الى ذاكرة تاريخية محافظة بنهجه هذا، يمثل الابداع الرسمي المحتكم الى ذاكرة تاريخ محافظة. اما الاتجاه الثاني: فقد اسس لغة وجدانية، باعتماده ع لى وعي مدرك لمحيطه، ليقيم من مفردات الواقع اليومي بنية لغوية، تتحقق فيها تلقائية التعبير، وصدق التصوير، وبذلك يقوم هذا الاتجاه في تأسيس لغته، على الوعي بمفردات وعبارات المجتمع، ليجعل منها معجم للغته في الشعر، وهو اتجاه اقرب الى الاتجاه الواقعي في اللغة، ليحظى بقبول العامة واستحسانها
وقد اشار ابو العتاهية الى وجود تلك الاشكالية، وما نتج عنها من تنو في اساليب لغة الابداع بقوله : . الشعر ينبغي ان يكون مثل اشعار الفحول المتقدمين فان لم يكن كذلك فالصواب لقائله ان تكون الفاظه مما لاتخفى على جمهوريا لناس مثل شعري"(4)
ان النزعة الشعبية في شعره، بما لها من بساطة المفردات، وسهولة التركيب، كانت هي طريقه الى عالم الابداع الشعري المعتمد على لغة الحياة، حتى يخيل لقارئه وسامعه ان الشاعر لم يبذل جهدا في صوغ شعره"(5).
نزوعه صوب لغة، تعبر عن وجدان العامة، دفع به الى تسخير عناصر ابداعه في سبيل تأصيل تلك النزعة الشعبية، من خلال تأكيد مفهومه، وتجسيد تصوره لبناء القصيدة، عبر مفرداتها الآتية:
1 - اللفظ : من حيث اختياره واستخدامه :
أبو العتاهية هو ابن بيئته (بغداد)، إذ لم يعرف عنه ملازمة كبار الشعراء، او انه روى عنهم ، كما لم يعرف عنه، انه قصد بوادي العرب، بحثا عن صفاء وجزالة اللغة وغريب الفاظها، وانما استقى اللغة من بيئته الحضرية، التي اضفت على شعره الكثير من السهولة وربما الليونة، اذ جعل من الفاظ بيئته قاموسا منه يختار مفرداته، فلم تعدل جزالة للالفاظ، وفخامتها، اساس ابداعه الشعري، بل اراد البساطة والسهولة، فتحقق له بذلك الاقتراب من كلام العامة، وكان يتخذ ذلك مذهبا في صنعة شعره، حتى يكون اكثر تداولا، ومع ذلك لم يخرج عن الفصحى"(6).
فاذا بقصائده تنتشر بين الناس، وتحظى بإعجاب العامة والخاصة :
كم زمان بكيبت منه قديماً ثم لما مضى بكيت عليه
وقوله :
لانس واذكر سبيل من هلكا ستسلك المسلك الذي سلكا
2 - العبارة : من حيث صياغتها وبناؤها :
لم يشغل ابو العتاهية باله او يجهد فكره في امر تأليف عباراته، فهو لايركب الصعب، ولا ينشد التفوق على غيره في هذا المجال، لذلك لانجد في اسلوبه قوة السبك، ومتانة العبارة على طريقة الفحول الاوائل، بل وجدنا سهولة الصياغة وبساطة البناء، ويسر التركيب، فاتسمت عباراته وجمله بالوضوح والمباشرة، وتلكم كانت غايته ومراده من الشعر :
أتاك محياك المماتا فطلبت في الدنيا الثباتا
أو في قوله :
هي الدنيا إذا كملت وتم سرورها خذلت
وتفعل في الذين بقوا كما فيمن مضت فعلت
هذه العبارات، بما تتصف به من بساطة ومباشرة، انما كانت بسب موضوعاته في الزهد، التي اثرت، وتدخلت بقوة في تشكيل اسلوبه السهل، كي تنتشر بين اوساط مجتمعه، حتى ان قارئ ديوانه، يشعر انه امام رجل يتحدث، لا امام شاعر، بل ربما تمادى ابو العتاهية في طلب السهولة والوضوح، الى حد الضعف والوهن والسقوط :
يا عتب ما انت الا بدعة خلقت
من غير طين وخلق الناس من طين
وغالبا ما وظف ابو العتاهية، عبارات تتداولها العامة في احاديثها اليومية، كعبارة (يرد الروح) في قوله:
لولا يزيد بن منصور لما عشت هو الذي رد روحي بعد ما مت
ان نهج أبي العتاهية مسلك السهولة والوضوح لم يكن آمناً خالياً من العثرات والسقوط، بل كثيرا ما اوقعه في الركاكة والضعف، وقد ادرك ذلك نقاد عصره، فهاهو (الاصمعي) يقول : شعر أبي العتاهية كساحة الملوك، يقع فيها الجوهر والذهب، والتراب والخزف والنوى".
hgk.um td auJv Hfd hgujhidm