الكلمة, بعد, فاعلة؟
[align=left]
أتوقف فجأة وأنا استقرئ تاريخ الكلمة وفاعليتها عبر مسيرتها التاريخية, متسائلاً لماذا لم تعد الكلمة فاعلة وذات أثر وخاصة بين المثقفين من جهة وبين الحكام من جهة أخرى؟!!
وقبل أن نجيب عن هذا التساؤل أستعرض أولاً ما تعرضت له الكلمة منذ بدايتها وحتى الآن ممثلاً بحياة صناعها الذين قضوا حياتهم إما بين المفاوز والمغارات فارين بجلودهم من الملاحقة وإما بين ظلمة السجون وقد أثقلتهم الأغلال مكبلين تتناوشهم سياط الجلادين اللاهبة وإما في قبورهم مغيبين وقد قضوا نحبهم إما بتهمة الزندقة والردة أو بتهمة الخروج على ولي الأمر, وهو ما يشبه اليوم السكتة القلبية وأخواتها!!
وحسن الحظ منهم عاش كئيباً ذليلاً مذعوراً جالساً القرفصاء تحت ظل سيف الحاكم يستجديه شفقته وينتظر سقوط رأسه بين يديه لا ينبس بما يغضب الحاكم, وإن تكلم فخفية وبعيداً خارج بلاط صاحب الجلالة "ظل الله في أرضه والحاكم بأمره" لئلاً يلحقه ما لحق بأصحابه, الأمر الذي اضطر آخرين ممن تبقى أن يتخذ للكلمة سرباً آخر غير ما صنعت له أصلاً يتمثل في المديح والوصف وهو ما جعل المديح في الشعر العربي يتجاوز نظيره في جميع أشعار الأمم الأخرى وتكاد كتب التراث تمتلئ بفن المديح قياساً بفنون أخرى اللهم إلا فن الغزل, وذلك من أجل أن يعيش صانع الكلمة آمناً مطمئناً بعيداً عن فوبيا "الحاكم بأمر الله" الذي يرى-دون غيره- بنور الله ولا تجوز معارضته أو مجرد مساءلته لماذا!!
أعمل بنو أميه سيوفهم في حاملي الكلمة أكثر مما عملت دموية القصاب في كباش الأضاحي, تحت مبررات شتى ظهرت لأول مرة "الزندقة أنموذجاً" وما الزندقة إلا خرافة روج لها فقهاء السلطان ومثقفو البلاط الذين استظلوا طوال حياتهم بظل دراهم الحاكم التي أغدقها عليهم, فشكلوا بطريق غير مباشر أداة قمع لإخوانهم أرباب الكلمة, وهذا أسوأ ما يقدم عليه مثقف ما حيث يجعل من ثقافته بضاعة مستهلكة يبعها بثمن بخس وفي ذل خسيس, ولهذا فقد رد شاعر ما يعرف قداسة الكلمة وقيمتها على هذا النوع ممن يطلق عليهم بمثقفي البلاط رد عليهم في قصيدة من ضمنها هذا البيت:
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة
إذن فاتباع الجهل كان أسلما
هذا في حين جنى مثقف آخر على الكلمة وربما على الدين حين وقف جباناً في بلاط الحاكم منشداً:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار!!
فماذا أبقى لله عزوجل من صفات العظمة الجبروت أمام هذا الطاغية ولا أعتقد أن الخليفة نفسه قد صدق هذا المذعور المتملق في ما يقول حتى وإن أمر له بصلة مقابل ذلك إلاّ أن يكون هذا الحاكم من فصيلة "كاليجولا"!!
هل كان عبدالله بن المقفع "شهيد الترجمان" يستحق-كمثقف- تلك القتلة البشعة التي لم يقتل بها إنسان على مر التاريخ, حيث قطعت أطرافه أولاً عضواً عضوا وهو يرى ويتضور ألماً حتى أُتي على جميع جسده وقد أسجر التنور وعلا لهيبه وألقيت تلك الأعضاء فيه عضواً عضوا, ثم أطبق عليه التنور بعد ذلك.
ولا أدري لماذا أطبق عيه التنور؟! هل خيفة من أن تتجمع أعضاؤه مرة أخرى وتلتحم ثم يعود كما كان؟!! ولا أدري أيضاً هل كان مفهوم تلويث البيئة آنذاك سائداً كما هو اليوم, فيكون الإطباق لهذا السبب؟!! لا أعتقد المسألة "زنديق" وكفى.
مع أن السبب الحقيقي لهذه القتلة كما يرى بعض المحققين هو ذلك العهد الذي كتبه بين الخليفة المنصور وبين أعمامه والذي شدد فيه العهود على الخليفة بحيث لا يستطيع الخليفة الغدر بهم مثل "ومتى غدر خليفة المسلمين بأعمامه فنساؤه طوالق ودوابه حبس وعبيده أحرار, والمسلمون في حل من بيعته" والقصة مشهورة في كتب التاريخ. زد على ذلك تلك الأبعاد السياسية في بعض قصص "كليلة ودمنة" التي ترجمها من الهندية إلى العربية كما يقال, وينسبها البعض إليه بتلك الرمزية السياسية سواء في هذه الترجمة أو في غيرها من رسائله التي كان يراسلها للخليفة بين الحين والحين متطلعاً إلى نظام شوروي مؤسسي يشترك فيه الحاكم والمحكوم.
وقريباً منه أيضاً الشاعر والفيلسوف عماد الدين النسيمي الذي حكم عليه بالإعدام وذلك بسلخ جلده عن لحمه كما يسلخ جلد الشاة, وزاد بعض الفقهاء فأفتى بأن دمه نجس رجس فإذا ما وقعت قطرة منه على جسد أي واحد من الحاضرين فإنه يجب عليه قطع عضوه هذا أما غسله فلا يجدي ولا يزيل النجاسة, وكان أن وقعت قطرة على أصبع هذا الفقيه المفتي, فلما طالبه الحاضرون بقطع أصبعه تنصل عن فتواه هذه وأولها بمعنى آخر, وهنا ينكشف زيف فتواه التي أراد بها التقرب للحاكم الذي رأى في هذا الفيلسوف شبحاً يهدد عرشه.
أعود إلى التساؤل الآنف: لماذا لم تعد الكلمة فاعلة كما كانت سابقاً؟!
وحقيقة فلا أجد لنفسي جواباً مقنعاً غير أني أفترض عدة افتراضات قد لا تخطئ الحقيقة واحدة من هذه الافتراضات أولاً أن الكلمة نفسها لم تعد ذات تأثير لافتقادها مادة التأثير المتمثلة في قوتها وفي كنه الحقيقة التي تحملها, في صداها, في حساسيتها, في نوع "الجين" الذي تحمله, فقد تحولت من جمرة متقدة إلى رماد بارد.
الافتراض الثاني يقول بعكس الأول وهو أن الكلمة هي الكلمة لا تزال بفاعليتها بحوهرها وحقيقتها لفظاً ومعنى, إلا أن الطرف الآخر هو الذي تبلدت أحاسيسه وصار لا يتأثر بقوة الكلمة بعد أن ملك كلمة القوة التي يحتكم إليها, وبالتالي فما حال المثقف بكلمته والسياسي ببلادة إحساسه إلاّ كمن ينفخ في رماد أو يضرب في حديد بارد أو يطعن في جثة هامدة.
وثمة افتراض ثالث يتصل بسابقيه ويمكن أن يقترب من الاثنين, وهو أن الكلمة فاعلة أيضاً كما هي والسياسي أيضاً حساس ومتفهم لمعناها, لكن سعة صدره منعته من أي تصرف تجاه هذا المثقف الذي تعمد استثارته وغضبه ولم يكن أحمق كما كان سلفه بالأمس, وبالتالي نستطيع القول أن حكام اليوم أعدل من حكام الأمس الذين تذمروا من كل كلمة أو صوت معارض يمس عروشهم وسلطانهم قد يكون قد يكون!!
[/align]
hg;glm glh`h gl ju] thugm?!