3 - الانشغال بالوظيفة فيذهبُ زَهرةُ وقته فيها، ويعتذر بأنه لا يستطيع أن يشاركَ في خير ما دام عملُهُ هكذا، أو يجير وظيفتَهُ ويحسبُها في إطار الدعوة ويخادع نفسه بذلك، وهو لا يقدم شيئا من الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، ولاشك أن الوظيفة من وسائل الدعوة إن استغلها ووظفها في ذلك، قال سفيان بن عيينة: من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه.
قلت لأحد الأطباء من الذين يعملون بعياداتهم إلى الساعة الخامسة عصرا: ما ذا قدمت لدينك؟ هل قلت يوما لمريض: هل أنت تؤدي الصلاة؟ ذكرته بمعاصيه الظاهرة؟ هل تحافظ على الأوراد؟ من الشافي المعافي؟ إنه الله. كيف تطلب الشفاء ممن تبارزه بالمعاصي؟.
فكأن هذا الأخ الطبيب انتبه من غفلة، وما تصور أنه بإمكانه أن يخدم دينه ويساهم في الخير بهذه البساطة.
4 - يقول البعض بأنه فاته القطارُ، وتجددت الوسائلُ وتغير الزمانُ، وأصبح لا يحسن العملَ في هذه الظروف!
وهذا لضعفِ الشعورِ بالمسؤوليةِ، وتبلدِ الإحساس، وتجمدِ الحماس.
عن مالك بن دينار قال: إن صدور المؤمنين تغلي بأعمال البر، وإن صدور الفجار تغلي بأعمال الفجور، والله تعالى يرى همومكم فانظروا ما همومكم رحمكم الله.
ولو كان قلب هذا يغلي أو فيه هم للآخرة لعرف كيف يخدم دينه.
5 - إفساح المجال للآخرين: هذه يتعلل بها كثير من المتقاعسين وكأن المجال فيه ازدحامٌ، حتى أصبح هو عقبةً في طرقِ الخير، وليت هذا الأخَ أفسحَ المجالَ للآخرين في طلب الرزق والوظيفة والتي عليها قطاراتٌ من الناس ينتظرون وظيفتَهُ تشغر!.
قال تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلمُتَّقِينَ﴾، وقال سبحانه في وصف المؤمنين: ﴿أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾.
وكان عمر رضي الله عنه يحاول جاهداً مسابقة أبي بكر رضي الله عنه في الخير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فمجموعُ أمتِه ( يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ) تقومُ مقامَه في الدعوة إلى الله، ولهذا كان إجماعُهم حجةً قاطعةً، فأمتُه لا تجتمعُ على ضلالة، وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله وإلى رسوله.
وكلُّ واحدٍ من الأمةِ يجب عليه أن يقومَ من الدعوة بما يقدرُ عليه إذا لم يقم به غيرُه، فما قام به غيره: سقط عنه، وما عجزعنه لم يطالب به.
وأما ما لم يقم به غيرُه وهو قادرٌ عليه، فعليه أن يقومَ به، ولهذا يجب على هذا أن يقوم بما لا يجب على ذاك، وقد تقسطتِ الدعوةُ على الأمة بحسب ذلك تارة وبحسب غيره أخرى، فقد يدعو هذا إلى اعتقاد الواجب، وهذا إلى عمل ظاهر واجب، وهذا إلى عمل باطن واجب، فتنوعُ الدعوة يكون في الوجوب تارة، وفي الوقوع أخرى.
وقد تبين بهذا كله أن الدعوةَ إلى الله تجبُ على كل مسلم، لكنها فرضٌ على الكفاية، وإنما يجب على الرجل المعينِ من ذلك ما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره، وهذا شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبليغِ ما جاء به الرسول، والجهادِ في سبيل الله، وتعليم الإيمان والقرآن.
وقد تبين بذلك أيضا أن الدعوة نَفسَها أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر، فإن الداعي طالبٌ مستدعٍ مقتضٍ لما دعا إليه، وذلك هو الأمر به، إذ الأمر هو طلب الفعل المأمورِ به، واستدعاءٌ له ودعاءٌ إليه، فالدعاء إلى الله: الدعاء إلى سبيله، فهو أمر بسبيله، وسبيلُه تصديقُه فيما أخبرَ، وطاعتُهُ فيما أمر.
6 - التعذر بعدم البرامج والخُطط، وإلقاءُ اللوم على العلماء والمشايخ في ذلك وينتظر منهم كل شيء.
ولا يفكرُ أن يضعَ برنامجاً أو خطة في محيطِهِ الصغيرِ الذي يعايشه في حيه أو موقع وظيفته، فيجلس ينتظر البرنامج بزعمه، بينما لو أراد أن يبني بيتاً لعمل لذلك خططاً تجريبة لا تحصى، وقد قيل: الجالسون الخاملون لا تنتظر منهم أفكاراً جديدة في تطوير الأساليب والوسائل الدعوية، ومن ظن ذلك فقد اعتمد على الأوهام والأحلام، إن الذي لا يعيشُ همَّ الدعوة وينامُ ويستيقظُ عليها محال أن ترد عليه أفكارٌ في تطويرها والرفع من شأنها وقد قيل : ليست الثكلى كالمستأجرة.
7 - الانشغال بنقد الآخرين بأن هذا لا يحسن أن يلقي درساً، وذاك لا يعرف أن يكتب مقالاً، وفلان لا يصلح أن يشرف على عمل. الخ.
قال الحسن البصري في وصف أناسٍ مثل هؤلاء لما وجدهم قدِ اجتمعوا في المسجد يتحدثون: إن هؤلاء ملوا العبادة ووجدوا الكلامَ أسهلَ عليهم وقلَّ ورعُهم فتحدثوا، وقال الوليد بن مزيد: سمعت الأوزاعي يقول: إن المؤمنَ يقولُ قليلاً، ويعملُ كثيراً، وإن المنافقَ يتكلمُ كثيراً، ويعملُ قليلاً.
قال النسابةُ البكريُّ لرؤبةَ بنِ العجاج: ما أعداء المروءة؟ قال: تخبرني، قال: بنو عمِّ السوء: إن رأوا حسناً ستروه، وان رأوا سيئاً أذاعوه.
قال ابن زنجي البغدادي:
يمشون في الناس يبغون العيوبَ لمن*** لا عيب فيه، لكي يستشرفَ العطبُ
إن يعلموا الخيرَ يخفوه، وإن علموا *** شرا أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا.
ومن أعراض هذا المرض أيضاً: التهويلُ والمبالغةُ، واستعمال العدسةِ المكبرةِ للتفتيش عن صغائرِ الغَير.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: يبصر أحدُكم القذاةَ في عين أخيه، وينسى الجذلَ أو الجذعَ في عين نفسه.
وتعـذر نفسك إذا ما أســــأت *** وغيرك بالعــذر لا تعـــــذر
وتبصر في العين منه القـــــذى *** وفي عـينك الجذع لا تبصــــر
وكيف ترى في عين صاحبك القـذى *** ويخفى قذى عينيك وهو أعظم
8 - إبرازُ الشخصياتِ المتقاعسةِ وتعليلُ النفس بهم، وأنه ليس الوحيدَ في هذا المجال.
ونسي هذا الأخ بأنه يدفن وحدَه ويبعثُ يوم القيامة وحده وسيقفُ بين يدي الله وحده، فيومئذ: ﴿ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ﴾ نسي هذا أنه في مضمار مسابقة. وقد لام الله تعالى القاعدين فقال سبحانه: ﴿رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم﴾.
قال إبراهيم الحربي عن الإمام أحمد: ولقد صحبته عشرين سنةً صيفاً وشتاءً وحراً وبرداً وليلاً ونهاراً، فما لقيته في يوم إلا وهو زائدٌ عليه بالأمس.
قال حماد بن سلمة: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاعُ اللهُ فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعةِ صلاةٍ وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعةُ صلاة وجدناه إما متوضئاً، أو عائداً مريضاً، أو مشيعاً لـجَنَازة، أو قاعداً في المسجد، وكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي الله.
ذكر جرير بن عبد الحميد: أن سليمان التيمي لم تمر ساعةٌ قطُّ عليه إلا تصدقَ بشيء، فإن لم يكن شيءٌ، صلى ركعتين.
9 - الحساسيةُ المرهفةُ من النقدِ أو اللومِ، فالبعض لا يريدُ أن يلامَ أو يحاسبَ، أو ينتقدَ، فإذا واجه ذلك تأثرَ وانقطعَ عن العمل، إما بالشعور بالإحباطِ بأنه لا يحسنُ، أو أنه وصل إلى مقامٍ لا ينبغي أن ينتقدَ، أو أن مثلَ فلان كيف يوجهُهُ وينتقدُهُ.
وأين هذا من عمر رضي الله عنه حيث قال: رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا!.
وهذا عمر بن عبد العزيز ـ الخليفة الراشد، التابعي العالم، الزاهد التقي، الإمام القرشي ـ يقول لمولاه مزاحم: إن الولاةَ جعلوا العيونَ على العوام، وأنا أجعلك عيني على نفسي، فإن سمعت مني كلمةً تَربأُ بي عنها، أو فعلاً لا تحبُّه، فعظني عنده، وانهني عنه
قال بلال بن سعد لصاحبه: بلغني أن المؤمن مرآةُ أخيه، فهل تستريبُ من أمري شيئاً؟
قال ميمون بن مهران: قولوا لي ما أكرهُ في وجهي، لأن الرجلَ لا ينصحُ أخاه حتى يقولَ له في وجهه ما يكره .
قال بعض السلف: من حق العاقلِ أن يضيفَ إلى رأيه آراءَ العلماء، ويجمعَ إلى عقلِهِ عقولَ الحكماء، فالرأي الفذُّ ربما زلَّ، والعقل الفردُ ربما ضل.
10 - قد يتساقط أناسٌ بسبب أنه لا يذكرُ عملُهم أو ينوهُ به أو يحمدون عليه، وكأن عملَهم للناس، كأن يقول: ليس هنا أحدٌ يقدرُ الجهودَ أو ينظر في النتاج، أو يحترمُ العاملين، وما عندنا أحد ينزلُ الناسَ منازلَهم!!
وصدق الربيع بن خيثم رحمه الله حيث قال: كل ما لا يراد به وجهُ الله: يضمحل.
وقال ابن الجوزي: والصدقُ في الطلب منارٌ أين وجد يدلُّ على الجادة وإنما يتعثرُ من لم يخلص.
وقال الجيلاني: يا غلام: فقهُ اللسان بلا عمل القلب لا يخطيك إلى الحق خطوةً، السيرُ سيرُ القلب.
قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا ﴾
روى حماد بن زيد عن أيوب قال: قيل لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين لو أتيت المدينةَ، فإن قضى الله موتاً، دفنت في موضع القبر الرابع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله لأن يعذبني اللهُ بغير النار أحبُّ إلي من أن يعلمَ من قلبي أني أراني لذلك أهلاً.
11 - تفريغُ الطاقة في التناجي بأن يناجي شخصاً بأن شيخَه ليس مؤهلاً، أو ليس عندَه برامجُ تواكبُ التطور، أو لا جديدَ عنده، فإذا وافقه صاحبُهُ على ذلك انتقل إلى آخر فيحدثه بمثل ذلك الحديث.
وليس عنده بدائل يطرحُها ولا برامجُ يقترحها، وإنما حمله الحسدُ أو السآمةُ من العمل، أو حبُّ الرياسة والظهور، أو لا يريد أن ينقطعَ عن القافلة وحده.
قال السري السقطي البغدادي: ما رأيت شيئاً أحبطَ للأعمال، ولا أفسدَ للقلوب، ولا أسرعَ في هلاك العبد، ولا أدومَ للأحزان، ولا أقربَ للمقت، ولا ألزمَ لمحبة الرياء والعجب والرياسة من قلة معرفة العبدِ لنفسه، ونظرِهِ في عيوب الناس.
وتنافر القلوب لا يتعدى الأسباب التالية: فلتةُ لسان، أو هفوةٌ لم تغتفر، أو ظنٌّ متوهم.
قال ابن القيم رحمه الله: من قواعد الشرع، والحكمة أيضاً، أن من كثرت حسناتُه وعظمت، وكان له في الإسلام تأثيرٌ ظاهرٌ، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل لغيره، وعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماءِ القليل، فإنه لا يحتمل أدنى خبث.
ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وهذا هو المانع له صلى الله عليه وسلم من قتل من جَسَّ عليه وعلى المسلمين وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه شهد بدراً، فدل على أن مقتضى عقوبتِهِ قائمٌ، لكن منع من ترتبِ أثرِهِ عليه ما له من المشهد العظيمِ، فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات، ولما حض النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة فأخرج عثمان رضي الله عنه تلك الصدقةَ العظيمةَ قال: ما ضر عثمانَ ما عمل بعدها، وقال لطلحة لما تطأطأ للنبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد على ظهره إلى الصخرة: أوجب طلحة.( مفتاح دار السعادة- 1/176) .
وما الناس إلا من مسيء ومحسنٍ وكم من مسيء قد تلافى فأحسنا
من الذي ما ساء قط *** ومن له الحسنى فقط
من ذا الذي ترضا سجاياه كلُّها *** كفى المرءَ نبلاً أن تعد معايبُه