البكاء, الصامت
بعض الدموع غالٍ . و معظمها رخيص
بعض الدموع صادق و معظمها تمثيل و جلَّسرين
وهي في صدقها أو زيفها لغة عالمية مفهومة بلا قاموس أو دروس
يفهمها الصادقون و يدركها النصابون
ثم يعمل كلٌ منهم وفقا لرسالتها في قلبه أو أثرها على جيبه
هذا مايقوله الكاتب الأستاذ / محمد حسن الألفي في كتابه " الجسد الخائن"
والذي يقول فيه أيضاً أن "دموع المرأة هي قمة القوة
بينما دموع الرجل هي انهيار جبل !!"
والعين لاتبكي إلا إذا بكى القلب والقلب لايبكي إلا إذا اشتد وقع الهم عليه ,
والهم هو الحمل الثقيل على القلب الذي يطبق على الصدر
فيجعل النَفَس الداخل مستحيلاً والخارج معجزة
عند ذلك . تنطلق الدموع
لكن ليس كل الرجال قادرين على البكاء
بل ومن النساء من تعز عليهن الدموع
على أن البكاء الناجم عن سبب هو بكاء مريح في معظم الأحيان
لكن البكاء بدون سبب هو المشكلة أصلاً والعذاب المضاعف
ومع ذلك .
ليست كل الدموع خيراً ؛ فهناك نقطة تصبح فيها الدموع ضرراًَ وشراً
ففي بعض النساء تنفتح العين من شدة البكاء
كما أن البكاء المتصل الحزين يُذهب النظر !!
وعدم البكاء أيضاً يعني انحباس الشعور وتحجره
فينعكس قرحةً وصداعاً وألماً في المفاصل وأوجاعاً في الأمعاء
تثور من آنٍٍ لآخر بلا سبب .
إلا أن أصعب الدموع هي التي تنهمر أمام الغرباء .
أو دموع المذلة والتقريع وأعز الدموع دموع الشوق والانتظار .
أما أشدها صدقاً وهواناً على صاحبها
فهي دموع استعطاف قلب طرأت عليه صفات الصلب المقوى .
وإن كنا ربينا على أن الدموع عيب وأن الرجل لايبكي لأنه هو القوة
والقوي لايناله الضعف ولا تدمع له عينان
نجد أن المرأة لطبيعة فطرية ونفسية خلقت بها هي الأسرع تأثراً
والأسرع بكاءً من الرجل ودموعها وإن عبرت عن قمة لحظات الضعف الإنساني لديها
هي سلاحها الأمضى والأشد فتكاً وضراوة
أما الرجل فقد أجمع أغلب المحللين على أن بكائه أمرُ شائك محير
إذ أنه يختلف من رجلٍ لآخر ويرتبط ارتباطاً وثيقاً
بالعادات والبيئات والمهن والثقافات
فالرجل المتجمد المشاعر من النادر أن تنسكب دموعه
فبكاؤه عزيز ولا ينطلق بسهوله .
لكن الفنان مثلاً .
يقف عاجزاً ولا يستطيع كبح جماح دموعه أمام مشهد طفلٍ يتيم أو معاقٍ يبكي
كذلك ينهار الشاعر المرهف الحس تأثراً لمرأى شعاعات الغروب الذهبية
والكاتب الأديب الذي يبتكر شخصياته وينسج لها خطوط سعادتها أو شقائها
يبكي أحياناً أمام لوحته المكتوبة عند استحكام الأزمات والمآسي لأبطالها
.هناك أيضاً الملوك والحكام والقواد الذين وضعت بين أيديهم مصائر شعوبهم
و بعض هؤلاء بكوا في مواقف محددة عجزوا عن الثبات في مواجهتها
فهتلر عندما هزمت جيوشه انهار باكياً بمرارة بين يدي زوجته
التي تزوج منها قبيل انتحاره بساعات .
وانخرط معها في بكاءٍ مرير قبل أن يطلق الرصاص على رأسها . ثم ينتحر
والملك النعمان بن المنذر قتيل الوشاية والمكيدة
فقد بكى لأيام يبكي الهوان والإذلال في سجون كسرى قبل إعدامه تحت أقدام الفيلة
إنها لحظاتٌ
تعد نادرةً تلك التي سطرت ذروة تفاعل المشاعر واصطخابها عند الإنسان ,
لحظاتٌ في عمر الزمن تركت لنا الكثير عن هؤلاء الذين انسابت دموعهم
حرقةً . و لوعةً . و ألماً و عذاباً .
فعندما أرداد يوليوس قيصر الاستئثار بالحكم في روما
, كان بروتوس وهو صديق عمره و ابنه بالتبني من أشد المعارضين له ,
ولما أتيحت الفرصة لمعارضيه طعنوه بالخنجر وهو يعتلي سلم قصره ,
كان بروتوس بينهم واعتقد القيصر بأنه سينزع الخنجر ويثأر له من قاتليه ,
لكن صديقه نزع الخنجر
ثم هوى به في ضربةٍ قاتلةٍ اخترقت القلب
فنطق قيصر عندئذٍ عبارته الأخيرة الشهيرة :
" حتى أنت يابروتوس"
ثم ارتج الجسد واستقر منكفئاً ووجد بعدها القيصر دامع العينين
إذ كان يبكي الصداقة والذكريات الطويلة والوفاء .
لا شدة الطعنة وآلام الجراح
وإن كان بعض الشعراء قد خلد زوجته الوفية بقصائد باكية ومحزنة
فإن كامل الشناوي الشاعر المصري قد خلد حبيبته الخائنة
- (وهذا حاصلٌ في العلاقات الغير وثيقة برباط الشرع) -
التي فجرت إبداعاته بقصائد تلهب الشعور وتمزق النفس
ذلك أنه عاش تجربةً قاسيةً أدمت فؤاده فعاش ينزف نيران الخيانة
كتب فيها قصيدته الشهيرة
(لاتكذبي)
لدرجة أن حروف القصيدة كانت تكاد تبدو غير واضحةٍ لكثرة الدمع .
ولما اتصل بها وهو يبكي ويقرأ عليها قصيدته كانت تضحك عبر الأسلاك ساخرةً
وهي تقول : أتضحك من قصيدة ؟!!!
فيقول لها في نشيجه : إنما أبكي امرأةً أحببتها وخانت .!!!
ويبقى ذلكم البكاء الأعظم
حينما يتأمل الإنسان في نعم ربه و عظيم حلمه و كرمه
وتأخره عن اللحوق بركب الصالحين
وعندما يتذكر لحظات فراق نبيه صلى الله عليه وسلم
وهو معصوب الرأس و قطرات العرق تتصفد من على جبينه وهو يقول :
(لا إله إلا الله. إن للموت لسكرات)
ويتذكر ذلك اليوم المهيب
وتلك اللحظة الساكنة التي ارتخت فيها يداه
ومال فيها رأسه
وأٍسلم روحه إلى بارئها
في لهفًٍ إلى الله عز وجل ولقائه
(بل الرفيق الأعلى . بل الرفيق الأعلى)
وكما يقول بلال رضي الله عنه وأرضاه :
"عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم المدينة
أضاء فيها كل شيء
ولما مات . أظلم فيها كل شيء
وما أن نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى أنكرنا أنفسنا صلوات الله وسلامه عليه "
و ترك من بعدها الأذان
حتى عندما جاء بعد سنين إلى المدينة
وكان مؤذن المسجد قد تخلف عن أذان الفجر
أذن بلال خوفاً من أن لا ينتبه الناس لصلاة الفجر
فضجت المدينة بالبكاء
لأنهم تذكروا محمداً صلى الله عليه وسلم
وبكى معهم بلال حين أذانه
هنا نتذكر ونبكي بكاءً صامتاً حقاً
يستحق أن نذرف عليه دموع قلوبنا لأجله
من كتاب (البكاء الصامت)
للكاتب المصري / أ.فريد الفالوجي
(( بتصرف ))
منقولـ
))) > hgf;hx hgwhlj > (((