بارك
الله
فيك
أيتها الغالية
وننتظر جديدك
بفارغ
الصبر
يسلموا
|
الودة
أخطاء في النية
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن أهمية النية في العمل، وعن تحسين النية، وأن صلاح الظاهر دليل على صلاح الباطن، واشتراك النية بين العبادات والمباحات، وكذلك مسألة تداخل المقاصد مع النية الصالحة، سواء كانت مقاصد دنيوية لا بأس بها أو مقاصد رياء وسمعة، وحذر عن التكلف في النية، والوسوسة فيها، وختم بالإجابة على الأسئلة.
أهمية النية في العمل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70]. أما بعد: فموضوع حديثي إليكم هو عن النية، والأخطاء التي تقع فيها. والمصيبة أن الحديث عن النية يحتاج إلى نية، وهذا لا نشك فيه؛ فنسأل الله عز وجل أن يرزقنا حسن النية فيما نقول ونعمل ونسمع، وألا يؤاخذنا بذنوبنا ولا بما كسبت أيدينا.
معنى النية
أما المقصود بالنية: فهي القصد والتوجه الذي يرمي إليه الإنسان من خلال أعماله، يستوي في ذلك نية العمل ونية المعمول له، فنية العمل تميز بين نية العبادة من العادة، أو نية المعمول له، ومن يريد الإنسان بعمله، هل أراد الله -تعالى- أم أراد غيره. إن النية من أعظم العبادات وأجل القربات، حتى قال الإمام ابن حزم رحمه الله: النية سر العبودية وروحها، وهي من الأعمال بمنـزلة الروح من الجسد، ومحال أن يكون في العبودية عمل لا روح فيه، إذ هو بمنـزلة الجسد الذي لا روح فيه، فهو جسد خراب، ومع هذه الأهمية العظيمة للنية فإن الكثير من الناس يغفلون عنها، وقد تجد الكثيرين يتنافسون في الأعمال؛ كالتبكير إلى الصلاة -مثلاً-، وكثرة قراءة القرآن، أو قيام الليل، أو الصدقة، وهذه لا شك من الأعمال الفاضلة التي يؤجر عليها الإنسان، لكن هذه الأعمال مفتقرة إلى نية، فإذا خلت من النية لم يكن لها ثمرة، بل على العكس تصبح ضرراً على صاحبها، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن النية تنفع الإنسان بذاتها، فإذا نوى الإنسان العمل الصالح ثم لم يتمكن منه رزقه الله تبارك وتعالى ثواب ذلك العمل، كما في أحاديث كثيرة جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، والسبب في تنافس الناس في الأمور والأعمال الظاهرة، وعدم تنافسهم في النية والقصد: أن النية محلها القلب، فلا يدري أحد عن أحد ما نيته وما قصده، فيقل فيها التنافس، وإلا فإن الإنسان لو تأمل لأدرك أن النية هي الرحى التي تدور عليها الأعمال، وأن العناية بتصحيح النية وإصلاحها يجب أن يكون أعظم من العناية بتصحيح الأعمال الأخرى وتكثيرها؛ لذلك أمر الله تعالى في كتابه بالإخلاص في العبادة في مواضع كثيرة ليس هذا موضع بسطها، ويكفي أن الله تعالى عد الإخلاص هو الدين فقال:وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] فالإخلاص لله في العبادة هو دين القيّمة، وهو الدين الذي بعث به جميع الأنبياء والمرسلين، وهو دعوة الناس إلى إخلاص العبودية لله تعالى، وهذا هو لب النية: أن يقصد الإنسان في عبادته وعمله وجه الله عز وجل. ولذلك تعجبني الكلمة التي ذكرها أحد العلماء وهو الإمام عبد الله بن أبي جمرة يقول: (وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النية ليس إلا) يقول: (فما أتي كثير ممن أتي إلا من تضييع ذلك) إذاً فـابن أبي جمرة يقترح على الفقهاء أن يكون من بينهم من يتفرغون لتعليم الناس قضية النية، وتصحيح النية، ومعنى النية، والسبيل إلى إصلاحها، وأحكامها، وما يتعلق بها، وهذا من فقهه رحمه الله؛ لأن النية شأنها عظيم، حتى أن العلماء لما تكلموا عن حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي رواه أئمة الحديث كـالبخاري ومسلم وأصحاب السنن وأحمد والدارمي ومالك في الموطأ، وغيرهم، وهو حديث عمر بن الخطاب المتفق على صحته {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى} منهم من عده ربع الإسلام، ومنهم من عده ثلث الإسلام؛ وما ذلك إلا لأن مدار الأعمال كلها على النية؛ ولهذا فـابن أبي جمرة رأى أن يتفرغ من الفقهاء من يعلم الناس النية، كما تفرغ من يعلم الناس كيف يصومون، وكيف يصلون، وكيف يحجون. كذلك يجب العناية كثيراً بإصلاح القلوب، وتصحيح المقاصد، وتربية الناس على النية الحسنة في كل شيء.
أعلى الصفحة
الاهتمام بالعمل أكثر من النية
كان سفيان الثوري رحمه الله يقول عن سلفه من الأئمة والعلماء: كانوا يتعلمون النية كما تتعلمون العمل أي أن الناس منذ القديم أولعوا بتعلم الأعمال أكثر من ولعهم بتعلم النيات، وخذوا على سبيل المثال واقعنا نحن الذي نعيش فيه، ربما يكون أكثرنا يستطيع أن يقوم ليصلي صلاة هي الصلاة الشرعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كيف يضع يديه، وكيف يركع، وكيف يسجد، وماذا يقدم، وماذا يؤخر، وطريقة القعود في التشهد الأول، وطريقة القعود في التشهد الأخير، وكيفية السلام، وهذه الأشياء لا أريد التقليل من شأنها من أجل الرفع من شأن النية، كلا، فهذه سنن، وبعضها واجبات، بل وبعضها أركان لا تتم الصلاة إلا بها، ويجب على الإنسان أن يتعلم ما تقوم به صلاته وعبادته، هذا لا إشكال فيه. لكنني أقول: إن بعض الناس؛ بل بعض طلاب العلم -أحياناً- يهتمون بهذه الأمور أو ببعض الجزئيات فيها أكثر بكثير مما يهتمون بقضية النية، فقد تجد طالب علم -مثلاً- يعتني عناية بليغة بكيفية تحريك الأصبع في التشهد، ويعتني عناية بليغة كيف يضع يديه أثناء السجود، وكيف يرفع يديه بالتكبير، وتعلم هذه أمور -كما ذكرت سابقاً- تعلم مطلوب، لا أحد يستطيع أن يقلل من أهمية هذه الأمور، لكن بلا شك أن هناك سنناً زاد الناس في الاهتمام بها، وغفلوا عن ما هو أهم منها، وهو العناية بإصلاح القصد والنية. وليس هدف هذه الموضوع أن أتكلم عن النية، وأهمية النية، والنصوص الواردة فيها فهذا له مجال آخر، إنما الكلام عن أخطاء في النية. ولذلك فإنني سوف أصحبكم في هذا الحديث في رحلة أرجو أن تكون غير مملة -إن شاء الله- في ذكر بعض الأخطاء التي يقع فيها الناس في موضوع النية، وأقول: أرجو أن تكون غير مملة؛ لأن من عادة الناس أنهم حين يستمعون إلى موضوعات علمية يتطرق إليهم الملل، فهم بحاجة إلى من يحرك عواطفهم، وينقلهم من نكتة إلى قصة، إلى طرفة، إلى خبر، إلى شعر، إلى غير ذلك. ولكنني أوثر في كثير من الأحيان -أو هكذا طبيعتي- أنني أميل إلى الموضوعات التي يكون لها طابع علمي مفيد للمستمع، ولو كان فيه بعض الإثقال الذي يتطلب أن يوطن الإنسان نفسه على الاستماع، وسوف أطرح هذه الأخطاء على شكل أسئلة ترد من بعض الناس.
أعلى الصفحة
إصلاح النية أمر غير مستحيل
بعض الناس يتساءل ويقول: أنتم تطالبون بإصلاح النية، ونحن نعلم أن النية من أعمال القلب، وأعمال القلب ليس للإنسان عليها سلطان، فلو كانت النية باليد لكان كل واحد منا يجعل نيته من أفضل النيات، لكن هذا أمر بيد الله تعالى. وهذا لاشك أنه تساؤل خطأ. لماذا هو خطأ؟! خطأ أولاً: لأن الله تعالى كلفنا بأن نصلح نياتنا، والله تعالى لا يكلف عباده بما لا يطيقون، فالتكليف بما لا يطاق غير وارد في الإسلام، لا يكلفنا الله إلا بما نستطيع، كما قال:لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]فلما كلفنا الله تعالى وأمرنا بإصلاح النية، عرفنا أن إصلاح النية ممكن وليس مستحيلاً.
كيفية إصلاح النية
أما كيف يمكن إصلاح النية؟ فسوف أضرب لكم أمثلة أخرى في غير موضوع النية؛ حتى يتضح الأمر، يقول الله عز وجل على لسان يعقوب عليه السلام أنه قال لبنيه لما حضرته الوفاة: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] والسؤال نفسه قد يرد هنا، قد يقول قائل: هل الموت على الإسلام بيدي؟ الموت بيد الله، لذلك فقوله: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132]كيف يكون؟! ومثل ما ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من استطاع منكم أن يموت بـالمدينة فليفعل} فقد يقول قائل: هل الموت بيدي حتى أذهب إلى المدينة لأموت فيها؟! هذا أمر لا أستطيعه، أو لا أطيقه. فنقول الجواب على ذلك: أن المطلوب من الإنسان ما هو داخل في حدود الطاقة والاستطاعة، فحين يأمرنا الله عز وجل أن لا نموت إلا ونحن مسلمون، فمعنى هذه الآية أن الله تعالى يأمرنا بأن نستقيم على الإسلام في حال الحياة، ونحرص على القرب من الله عز وجل، ونتعرف إلى الله في الرخاء؛ حتى إذا نـزلت بنا كربات الموت وسكراته كان الله معنا يحفظنا ويثبتنا، فلا نموت إلا ونحن مسلمون، فيكون المطلوب من الإنسان إذاً هو السبب، الذي يستطيع به أن يصل إلى ما أمره الله تعالى به، ومثله الموت بـالمدينة -مثلاً- فإن الإنسان حين يذهب إلى المدينة ويستقر فيها، ويسكن فيها، يكون فعل السبب الذي به يحقق { من استطاع منكم أن يموت بـالمدينة فليفعل } لكن ربما يحصل للإنسان عارض بسفر أو غيره فيموت وهو في مكان آخر بحادث أو بغير حادث، هذا ليس أمراً مقطوعاً به. ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه {كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل} لما جاء ذكر الفتن قال: {كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل} أي افعل السبب، كف يدك عن قتل المسلمين والظلم والاعتداء؛ حتى إذا وقع عليك القتل تكون مظلوماً لا ظالماً، ومقتولاً لا قاتلاً، فحين يأمرنا الله تعالى بإصلاح النية يأمرنا بأن نفعل الأسباب والوسائل التي تؤدي إلى صلاحها. إذاً فالتحكم في النية ممكن وليس محالاً أو صعباً، وذلك من خلال معالجة الإنسان لقلبه، وتذكر أسماء الله تعالى وصفاته، ومعرفة ما له من الكمال، ومعرفة الدنيا وهوانها، وأنها لا تستحق أن يعمل من أجلها، ومعرفة الجنة ونعيمها التي يستحق أن يتعب الإنسان في سبيل تحصيلها، ومعرفة النار وعذابها التي يستحق أن يهرب منها الإنسان بكل ما أوتي من قوة. إلى غير ذلك من المقاصد، والمعاني، والأسباب التي لما يسعى الإنسان في تحصيلها تكون سبباً في إصلاح نيته. هذا هو السؤال الأول الذي قد يرد، ويمثل الخطأ الأول، إذ يظن بعض الناس أن لا سبيل إلى إصلاح النية.
أعلى الصفحة
إصلاح الظاهر دليل على صلاح الباطن
هناك خطأ آخر، وهو كثير اليوم، خاصة في أوساط الذين يرتكبون بعض القاذورات والمحرمات والمنهيات، فإذا سمعوا من ينهاهم أو يأمرهم أويذكرهم؛ أشار أحدهم إلى صدره، وقال: التقوى هاهنا، ويضرب صدراً منتفخاً، ويقول لك: التقوى هاهنا، ثم يقول: ربما تجد إنساناً ملتحياً مقصراً لثوبه، ومع ذلك يرتكب المعاصي، ويأكل أموال اليتامى ظلماً، وقلبه ممتلئ بالحقد والحسد، وأنا -ولله الحمد- قلبي نظيف وطاهر، وليس في قلبي غل على أحد، ولا آكل مالاً إلا من حلال، فالتقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، أو أكثر من ثلاث مرات. هكذا يقول بعض الناس! فنريد أن نبحث في نصوص القرآن والسنة هل ما يقول هؤلاء يمكن أن يكون صحيحاً أو لا يمكن أن يكون صحيحاً؟ وباستقراء نصوص الكتاب والسنة يتبين أن هناك تلازماً بين الظاهر والباطن، فإذا صلح الظاهر فهو دليل على صلاح الباطن، وإذا صلح الباطن فلابد أن يصلح الظاهر. لذلك نفى الله تعالى الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه الظاهرة فقال الله عز وجل عن الذين يدّعون الإيمان ثم يوالون الكفار: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:81] فنفى عنهم الإيمان لأنهم يوالون الكفار بالابتسامة، وبالمحبة، وبالتواد، وبالتلطف، وبكشف أسرار المؤمنين، وبإعانتهم على المسلمين، إلى غير ذلك من صور الموالاة. فنفى عنهم الإيمان لانتفاء لوازمه الظاهرة، وكذلك في قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22] فنفى عنهم الإيمان؛ لموادتهم أعداء الله عز وجل، والأمور كلها تدور على القلب، ولا بأس أن نستشهد بالحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب}. إذاً فالحديث نص على أن الجسد يدور على هذه المضغة، فإذا صلحت هذه المضغة صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد، فإذا رأيت إنساناً ظاهره الصلاح، وسيماه الخير، والاستقامة، ويتردد على الجماعة في المساجد، وكلامه طيب، ولسانه رطب بذكر الله، وقصير الثوب غير مسبل، مرسل لشعره اتباعاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومحسن إلى الناس، ومتجنب لإساءتهم؛ اكتشفت من خلال هذه الأعمال الظاهرة أن هذا الإنسان صاحب قلب سليم. وعلى العكس من ذلك حين ترى إنساناً مظهره مظهر سوء، يجر ثوبه خيلاء، ويشتم هذا، ويسب هذا، ويلطم هذا، ويعتدي على الناس، ويؤذيهم في أموالهم وأعراضهم وأمورهم، ويسيء إلى جيرانه، ويتكلم على والديه، ويأكل الربا، ويترك الجمعة والجماعة، ويحلق شعر لحيته، ويطيل شاربه، ويدخن، عرفت من خلال هذه الظواهر بأن هذا الإنسان صاحب قلب مريض، وهذا المرض خرج من القلب وفاض إلى الجوارح. إذاً في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد، فالذي يقول: التقوى هاهنا. نقول له: نعم، التقوى في الأصل هاهنا، لكنها مثل الشمس إذا خرجت لابد أن تنتشر أشعتها في كل مكان، فالذي عنده تقوى في قلبه لابد أن تنتشر آثار التقوى في جوارحه؛ فيتكلم بالكلام الطيب، ولا يأخذ ويعطي إلا الطيب، ولا يمشي إلا إلى طيب، ولا يتصرف إلا بطيب. ومن فقد التقوى في قلبه ظهرت آثار فقدان التقوى في جوارحه. وهذه هي النقطة الثانية أو السؤال الثاني الذي يمثل الخطأ الآخر أن بعض الناس يريدون أن يفصلوا بين النية وبين العمل، ونقول لا يمكن الفصل بين النية وبين العمل، لذلك كان الحديث الذي يقول: {نية المؤمن خير من عمله} ضعيفاً، لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النية والعمل متلازمان. وإن كانت نية الإنسان العمل الصالح يثاب عليها ولو لم يعمل هذا العمل؛ لأن النية في ذاتها عمل، فالنية عمل، وهي شرط لتصحيح العمل.
النية في العبادات والمباحات
السؤال الثالث الذي يمثل خطأ عند كثير من الناس: وهو أن بعض الناس يظنون النية في العبادات فقط، فيقول لك -مثلاً-: أنا ممكن أن أنوي نية طيبة إذا أردت أن أذهب للمسجد، أو أذهب للعمرة أو للحج، أو صوم رمضان، لكن هل معقول أن أنوي النية الطيبة وأنا أذهب لأفتح الدكان في التجارة -مثلاً- أو أنا أذهب لأدرس في المدرسة، أو ما أشبه ذلك من المقاصد؟! هل يمكن أن أنوي النية الطيبة في هذه الأمور؟! أقول: نعم، النية الطيبة تتصور في كل عمل، اللهم إلا أن يكون العمل محرماً، أما الأعمال التي ليست محرمة فتتصور فيها النية الطيبة، وهي تنقلب بالنية الطيبة إلى عبادات يثاب عليها الإنسان. ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم الأعمال والصدقات، قال: {وفي بضع أحدكم صدقة -والبضع: هو الفرج، يعني في جماع الرجل لزوجته صدقة- قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! -استغرب أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام- قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم. قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان لـه أجر} وهذا ما يسميه بعض أهل العلم "قياس العكس" فكما أن الإنسان لو وضع هذه الشهوة في حرام أثم بذلك، كذلك حين اختار طريق الحلال، وأعرض عن طريق الحرام كان له أجر بهذا العمل. خذ على سبيل المثال: اللباس. قد يلبس الإنسان ثوباً جميلاً، فيكون مثاباً بهذا العمل، وهو ثوب جميل يتزين به للناس، ويفرح به؛ لأن الإنسان يحب ذلك بطبيعته غالباً. إن هذا الثوب الجميل الذي يلبسه قد يثاب عليه، كيف؟! لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم -أيضاً- {إن الجنة لا يدخلها من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً }. والرجل والمرأة في ذلك سواء، بل المرأة على سبيل الخصوص تعنى بتحسين ملابسها وثيابها وتنويعها أكثر بكثير مما يُعنى بذلك الرجل، ولذلك تجد أن لباس الرجل غالباً هو الأبيض، خاصة في أيام الصيف، أما بالنسبة للمرأة في الصيف والشتاء وفي جميع الأوقات تجد أن لها من الملابس الملونة والمنوعة والمزوقة والمزركشة ما لا يأتي عليه العد والحصر. فالمهم هذه فطرة عند الإنسان يستوي فيها الجميع، حتى الصبيان والصغار يفرح الواحد منهم بأن يلبس ثوباً جميلاً، ومع ذلك قد يؤجر عليه، فالصحابة قالوا: يا رسول الله، إن أحدنا يجب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس} إذاً ليس من الكبر أن تحرص على جمال ثيابك، وحسن بزتك، وجمال حذائك، وحسن هندامك وهيئتك أمام الناس، فليس هذا من الكبر بسبيل، إنما الكبر هو شيء في القلب أي بطر الحق وغمط الناس، فيترتب عليه أن يرفض الإنسان الحق، ويبخس الناس أشياءهم، ويتعاظم في عين نفسه، ويستكبر في نفسه. إذاً اللباس يمكن أن يكون عملاً يؤجر عليه الإنسان، وخذ مثلاً آخر: الطيب -مثلاً- قد يتطيب الإنسان، وهو أمر يحبه كل فرد منا، ومع ذلك يؤجر على هذا الطيب، الذي وضعه في ثيابه أو شعره أو بدنه؛ لأنه أراد من وراء الطيب ألا يجد الناس الذين يخالطونه رائحة كريهة منه، وأراد من ورائه ألا يتأذى به من يصلي إلى جواره، وأراد من ورائه ألا يتعرض الناس له بالغيبة أو بالتنقص؛ وهذا أمر قد يأثمون بسببه؛ فأراد دفع الإثم عن الناس، ودفع الغيبة والتنقص عن نفسه؛ فأجر بهذا العمل الذي هو في الأصل قد يقال أنه مباح، وقد يقال -أيضاً- أنه سنة؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حرص السلف على استحضار النية
كان كثير من السلف يحرصون على استحضار النية في جميع أمورهم، حتى قال سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله: يسرني أن يكون لي في كل شيء نية، حتى في الأكل والنوم، فهكذا تربوا، أن يكون للإنسان نية فيما يأكل، أو نية حين ينام، وهذه النية التي كانوا يحرصون عليها في الأعمال المباحة، التي تقلب المباح إلى عمل قربة يؤجر عليه الإنسان، هذه النية لا تحتاج إلى تكلف، بل هي تكون من القلب الموصول بالله عز وجل، فكل قلب ارتبط بالله، وراقب الله أصبحت النية تنبعث منه. لذلك يعجبني قول الإمام الشافعي -رحمه الله- وهو يعلم الناس العلم، وينشره بينهم، ويؤلف ويكتب، ويتحدث- يقول: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم ولم ينسب إلي منه شيء، الله أكبر ما أعظم هذه الكلمة! والله إن كل من وقف أمامها يدرك عظمة هذا الإمام الشافعي -رحمه الله- يقول: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن ألا ينسب إلي منه حرف ويقول أيضاً: ما ناظرت أحداً إلا وددت أن يظهر الله الحق على لسانه، على النقيض من الكثير من الناس تجد أنه قد يناظر شخصاً وهو يتمنى أن يخفق خصمه، وأن تظهر الحجة له عليه؛ حتى ينتصر. لكن الشافعي لقوة إخلاصه كان يقول: ما ناظرت أحداً وناقشته وجادلته إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه؛ لأنه كان في مناظراته طالب حق ما كان طالب علو في الأرض ولا فساد. وليبشر مثل هذا بما أعد الله تعالى لهم تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] وكأن النية تنبعث منهم عفوية وتلقائية، دون أن يحتاجوا إلى أن يتكلفوها.
أعلى الصفحة
التنطع في استحضار النية
بخلاف أقوام من المتأخرين أصبح الواحد منهم يحاول أن يتكلف النية تكلفاً يخرج بها عن حدود المشروع إلى نوع من الهوس المرفوض. وأذكر أن الإمام أبا حامد الغزالي -غفر الله لنا وله ورحمه الله- في كتاب إحياء علوم الدين ذكر بعض الطرائف والقصص من أخبار هؤلاء، وفي الواقع هو ذكرها على سبيل الاستحسان، ولكنها في الواقع تذكر على سبيل التندر، لا على سبيل الاستحسان. فمما ذكر من هذا الباب: أن بعضهم كان إذا أراد أن يأكل قبل أن يأكل اللقمة يقول: نويت أن آكل هذه اللقمة لله، ثم يضعها في فمه، فإذا أراد أن يأكل الأخرى قال: نويت أن آكل هذه اللقمة لله، ثم يضعها في فمه، وهذا لا شك تكلف شديد. وذكر عن آخر أنه قال لزوجته: هات المشط. يريد أن يسرح شعره -طلب من زوجته مشطاً- فقالت له: والمرآة؟ -وأعطيك المرآة أيضاً-؟ فسكت قليلاً، ثم قال: والمرآة. فقال له رجل ممن حوله يا فلان، لماذا توقفت قليلاً قبل أن توافق على أن تحضر زوجتك المرآة؟! قال لم أكن قد هيَّـأت في قلبي نية لطلب المرآة، فلما عرضتها علي انتظرت النية، فلما هيأ الله لي النية في طلب المرآة طلبتها، وهذا هو والله عين التكلف. وحكى الغزالي -أيضاً- أنه لما مات الحسن البصري، لم يحضر محمد بن سيرين جنازته -هكذا يقول- فقيل له: لماذا لم تحضر جنازة الحسن البصري؟ قال: لم تتهيأ لي نية. ونقل عن رابع أنه قال: أنا منذ شهر أجاهد نفسي في إحضار نية لعيادة رجل، فلم تصح لي النية بعد. يعني رجل مريض منذ شهر ما زاره، لماذا ما زرت جارك المريض يا فلان؟ قال: والله أنا لي منذ شهر أجاهد نفسي على أن أوجد نية صالحة لزيارته، لكن حتى الآن ما حصلت النية. هذا تنطع في العبادة، وتنطع في النية، ولا شك يترتب على هذا ترك الأعمال الصالحة؛ بحجة أنه ما توفرت النية بعد. إذاً النية ليست حاجة يجب أن تستدعى -هكذا- عند الحاجة إليها، النية أمر ينبعث من القلب، فقلب المؤمن المرتبط بالله تعالى آلياً تكون أعماله المباحة في الغالب مقصود بها وجه الله تعالى، فمتى ما استحضر هذا الأمر في قلبه كفى، ولا يحتاج إلى أن يتنطع الإنسان في إحضار النية من أجل هذه الأكلة، ومن أجل هذه الشربة، ومن أجل هذا النومة، ومن أجل هذه الزيارة، ومن أجل هذه الكلمة؛ لأن هذا لا شك هو عين التكلف والتنطع الذي نهينا عنه. ومن طريف ما يروى في ذلك: أن رجلاً من الصالحين لبس قميصاً مقلوباً على عكس ما يلبس، فكان جيب هذا القميص إلى الوراء -مثلاً- ومشى بدون علم، وهو غافل، فلما كان في عرض الطريق استوقفه بعض المارة وقالوا له: يا فلان، قميصك مقلوب. فنظر فوجد الأمر كما ذكر، فهم ليخلع القميص حتى يقلبه، ثم تراجع عن ذلك، وقال: إنني لبست هذا القميص بنية لله تعالى، فلا أريد أن أغير هذه النية فأقلب القميص بنية للناس، وترك القميص على حاله، ولا شك أن هذا العمل -كما ذكرت- هوس مرفوض عند من يعقلون أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنية لا تحتاج إلى هذا التكلف والتنطع -كما سيأتي- لا في العبادات، ولا في غيرها. إذاً السؤال الذي يمثل الخطأ الثالث: هو أن بعض الناس يتصورون أن النية لا تكون إلا في العبادات، والواقع أن النية تكون في العبادات كما تكون في الأمور المباحة.
أعلى الصفحة
تعدد المقاصد في النية
الخطأ الرابع الذي يقع فيه بعضهم: أنهم قد يعملون العمل الصالح؛ لكن تتعدد المقاصد الحسنة عنده، فربما صلى الواحد منهم فيقول: أنا صليت ابتغاء رضوان الله، وطمعاً في الجنة، وخوفاً من النار، ورغبة إلى النظر في وجه الله الكريم يوم القيامة، وحباً لله، وأنساً بذكره والقرب من مناجاته، فهل يصح أن أصلي بهذه النيات المتعددة أم لابد من توحيد النية؟ ويظن بعضهم أنه لابد من توحيد النية. والصواب أنه لا بأس أن يتعبد الإنسان بنيات متعددة إذا كانت هذه النيات كلها حسنة، والمقصود بها وجه الله والدار الآخرة، كأن يصلي -كما ذكرت- لله؛ طمعاً في الجنة، وخوفاً من النار، وحباً في الله وذكره، وأنساً بقربه، وما أشبه ذلك. فهذه الأشياء لا تعارض بينها، بل كلها ممكنة، وبعضها يعضد بعضاً.
التعبد بقصد حصول الكرامات
كما أنه لا يجوز أن يكون المقصود بالعبادة أن تفتح على الإنسان أمور الغيب والكرامات التي قد تحصل، فبعض العباد قد يعبد الله طويلاً من أجل أن يحصل له كرامة، هو يسمع أن فلاناً سافر إلى المكان الفلاني بدون طعام ولا زاد ولا راحلة، وفلان رأى كذا، وفلان رأى كذا من الكرامات، فقال: أتمنى أن يحدث لي مثل ما حدث لفلان وفلان. فصار يتعبد، ويصوم النهار، ويقوم الليل من أجل يحصل له كرامة -أي أمر خارق للعادة- مثل: أن يكلمه ميت مثلاً، أو يصل إلى مكان بعيد في مدة وجيزة، أو ما أشبه ذلك. فهذا مما لم نؤمر أن نتعبد من أجله، بل إن الإنسان الذي يتعبد من أجل هذا العمل لا يحصل له، ولذلك يقال أن أحد الناس سمع حديث أن من تعبد الله تعالى أربعين يوماً ظهرت ينابيع الحكمة على لسانه، فصار يتعبد أربعين يوماً حتى يرى ينابيع الحكمة من لسانه، وإذا بهذا الرجل لا يستطيع أن يتكلم إلا بكلام يشبه كلام مسيلمة الذي كان يعارض به القرآن. فشكا إلى أحد الناس فقال له: أصلاً أنت لم تتعبد لله أربعين يوماً، إنما تعبدت للحكمة؛ فلم يتحقق فيك الشرط، لذلك لم تظهر ينابيع الحكمة على لسانك! إذاً لا ينبغي للإنسان أن يتعبد من أجل حصول الكرامات، ولعل مما يدخل في هذا الباب أن بعض الناس يعبد الله؛ طمعاً في أن يرى رؤيا صالحة، فتجده يتعبد ويصلي ويذكر الله من أجل أن يرى في المنام رؤيا صالحة يسر بها أو يتحدث بها. ولا شك أن الرؤيا الصالحة عاجل بشرى المؤمن، لكن يعطيها الله من يشاء، ويعطيها الله من تأهل لها، والتأهل لها يكون بالعبادة التي يقصد بها وجه الله، لا يقصد بها أن ترى رؤيا صالحة، أو ترى كرامةً من الكرامات تحصل لك؛ بل اعبد الله لطلب مرضاته وثوابه، والخوف من عقابه، وهذه الأمور كلها قد تأتي تبعاً وقد لا تأتي، فمن المعلوم أن الكرامة -كما ذكر أهل العلم- قد تحصل للمفضول ولا تحصل للفاضل، فهي مما لا ينبغي للإنسان أن يسعى في طلبه.
أعلى الصفحة
العمل من أجل ثناء الناس
الأمر الذي لا يجوز في النية: هو أن يعمل الإنسان العبادة بقصد كسب ثناء الناس، كأن يصلي -مثلاً- من أجل أن يمدحوه، أو يثنوا عليه، فهذا لا شك لا يجوز، لذلك يقول الله عز وجل:مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَأُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:16] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} وقد ورد عند الطبراني بسند صحيح -كما يقول ابن حجر-: أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة من أجل أن يتزوج امرأة كان اسمها أم قيس، فهاجر هذا الرجل ليس من أجل الله، إنما هاجر من أجل أم قيس، من أجل سواد عيون أم قيس، فتزوج بها؛ فكانوا يسمونه مهاجر أم قيس. وروى الزبير بن بكار أن هذا القصة هي سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} ورجحه ابن تيمية -رحمه الله- ولذلك جاء في الحديث: {فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة (يعني مثل أم قيس) ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه } فهذا المهاجر ليس له من هجرته إلا أم قيس التي ظفر بها. وأذكر قصة ذكرها ابن الجوزي في تلبيس إبليس وهي قصة عجيبة فعلاً، يقول -عن وهب بن منبه-: أن رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد الله تعالى عبادة صحيحة، وفي يوم من الأيام كان هذا العابد جالساً في مجموعة من مريديه وأصحابه وخلانه، فالتفت إليهم وقال: لقد هربنا إلى عبادة الله تعالى خوفاً من الطغيان، والله إني لأخشى أن نكون وقعنا في هذه العبادة في طغيان، حيث أصبحنا نفرح بأن يوقرنا الناس، ويقدرونا، ويقاربونا في السعر والبيع والشراء من أجل عبادتنا. يعني يقول: أصبح الواحد منا -نحن العباد- يفرح بأن يعظمه الناس، ويقبلوا رأسه، ويكرموه لأنه عابد، ويفرح إذا جاء إلى دكان خفضوا في قيمة البضاعة من أجله. فقال: أخشى أن يكون هذا طغيان في عبادتنا لله عز وجل. فهو يلوم نفسه ويوبخها، فتعجب الناس من هذه الكلمة. ومن فقه هذا العابد وكثرة مراقبته لنفسه، وصاروا يتناقلون هذه الكلمة منه، حتى وصلت إلى الحاكم أو الأمير أو السلطان، والأمراء عادة يحبون أن يشاهدوا أمثال هؤلاء الصالحين ولو كان فيهم فساد وانحلال، لكن يحبون أن يروا أهل الصلاح ويقتربوا منهم، خاصة في الأزمنة الماضية. فركب الأمير لينظر إلى هذا العالم، ويقف عنده، ويستفيد منه. فعلم العابد بأن الأمير قد ركب إليه؛ فخاف أشد الخوف. قال: الآن الأمير ركب من أجل أن يأتي إلي!! هذا ربما يؤدي بي إلى أن أرتكب والعياذ بالله أخطاء أكبر من ذلك في موضوع النية، وقد تنتقل نيتي في العبادة إلى نية الحصول على الدنيا، وكسب ثناء الناس، ومجيء الأمراء إلى بيتي، وما أشبه ذلك. فخاف خوفاً شديداً؛ فأراد أن يحتال لرد الأمير، وكان هذا الرجل كثير الصيام جداً، فلما علم بقرب الأمير قدم مائدة من الطعام الموجود عنده -خبز وما أشبه ذلك- وبدأ يأكل بنهم، فلما جاء الأمير ووقف على بابه قال للناس: أين الرجل الذي ذكر لي عنه من العبادة ما ذكر؟ قالوا: هو هذا. والرجل يأكل بنهم، فسلم عليه الأمير، فرد على الأمير رداً ضعيفاً، واستمر في أكله. فقال: هذا الذي يمدح؟ قالوا: نعم. قال: هذا لا خير فيه. وانصرف الأمير وتركه. فلما انصرف رفع الرجل يديه إلى السماء وقال: الحمد لله الذي نجاني من هذه الفتنة. انظر كيف تغلب الرجل على خوف حبوط عمله بإرادة الدنيا، وإرادة ثناء الناس ومدح العامة، وتقرب السلاطين منه، وما أشبه ذلك. إذاً فالعبادة لا يجوز أن يكون المقصود بها الدنيا، ولا يجوز أن يكون المقصود بها ثناء الناس.
أعلى الصفحة
التكلف في استحضار النية
الخطأ الخامس الذي يقع فيه بعض الناس هو: أن بعضهم يتكلفون استحضار النية، سواء أكان ذلك في العبادة أم كان في غيرها، ويعجبني الكلام الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما قالوا: إن النية تحدث في القلب بمجرد علم الإنسان بما يريد أن يعمل، فإذا علم الإنسان ماذا يريد أن يعمل فإن النية تأتيه ضرورة، حتى لو أراد دفعها فإنها لا يمكن أن تندفع. ولذلك لو كلف الناس أن يدفعوا النية عن قلوبهم فلا يمكن أن يدفعوها. ما معنى هذا الكلام؟ معنى هذا الكلام أنك إذا سمعت المؤذن، ثم خرجت من بيتك إلى المسجد، ووقفت في الصف، لماذا جئت إلى هذا المكان؟ هل أتيت من أجل أن تشتري أو تبيع أو تزور صديقاً؟ أتيت لتصلي، هذا مكان معد للصلاة، مخصص للصلاة، فبصورة طبيعية ضرورية أنت لم تأت إلى هذا المكان إلا للصلاة، وبذلك لا تحتاج إلى أن تقول أستحضر النية أو لا أستحضر النية، فأنت -أصلاً- لماذا جئت إلى هنا؟ جئت لتصلي، هذا كاف. فإذا سمعت المؤذن ثم أتيت، وفتحت صنبور الماء وغسلت يديك، فلماذا تفعل هذا؟ تفعله للوضوء، وهذا أمر بديهي لا يحتاج إلى تكلف استحضار النية. بعض الموسوسين يتكلف استحضار النية، فيصعب عليه هذا الأمر، حتى يؤدي به والعياذ بالله إلى ألوان من التكلف، يشك الإنسان في عقل من يفعله، أو على الأقل يشك في فقهه ودينه، ويعتقد أنه إما أن يكون مخبول العقل أو جاهلاً بأمور الدين. هذه النية لا تحتاج إلى استحضار، لا تحتاج إلى تكلف؛ لأنه كما ذكر العلماء أنه من علم ماذا يريد أن يعمل جاءته النية تلقائياً، اللهم إلا في حالات معينة، مثلاً: لو فرض أن إنساناً عليه جنابة، واليوم الجمعة ونسي أنه مجنب، ودخل يغتسل -في دورة المياه- للجمعة لا للجنابة، أو دخل يغتسل للتنظف، وقد نسي أن عليه جنابة، هذا صحيح أنها لا تجزئه؛ لأنه غابت عنه نهائياً قضية الجنابة، لكن مجرد تذكره أن عليه جنابة، وأنه يغتسل الآن هذا كاف. ومثله: -مثلاً- لو فرض أن هناك إنساناً كافراً أسلم الآن، وأردنا أن نعلمه كيف يتوضأ، فقام محمد ووقف أمامه وقال له: الآن أريك كيف الوضوء. فغسل يديه، وتمضمض، واستنشق، وغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه وأذنيه، وغسل قدميه، وقصده أن يعلم الكافر كيف الوضوء، وقد نسي أن عليه حدثاً. هنا أيضاً يمكن أن تكون النية غابت في هذا الحال، ولا يرتفع الحدث إلا بنية كما هو رأي جمهور العلماء، وهو الصحيح إن شاء الله. أما فيما عدا ذلك من الحالات، كإنسان متذكر أن عليه حدثاً ويأتي ليتوضأ أو يغتسل هذا كاف، ولا يحتاج إلى أن يتكلف ويتنطع في استحضار النية كما يفعل بعض الموسوسين. وقل مثل ذلك في الصلاة، يقوم الواحد فكلما رفع يديه تراجع، كلما ملأ صدره بالهواء ليقل: "الله أكبر" تراجع، ثم انتفض، ورجع مرة أخرى وهو رافع يديه، وثالثة ورابعة، حتى يصبح مظهراً مزرياً والعياذ بالله، ويسيء إلى الدين في الواقع، والمتدينين مع أنه أمر لا يؤجر عليه، لا هو عبادة، ولا قربة، ولا يؤجر عليه، بل يسبب بغض العبادة عند هذا الإنسان، وبعضهم يضطر إلى الجهر بالنية حتى يدفع هذا الوسواس، فإذا أراد أن يجهر انعقد لسانه، حتى ذكر بعضهم نكتة أن أحد هؤلاء قام ليصلي في الجماعة، فصار يقول: (نويت أن أصلي الظهر). وكل كلمة يرددها عشرات مرات (أربع ركعات، فريضة الوقت، أداء، أداء) كلمة أداء هذه عجز يقولها (أدا، أدا) فقال له رجل بجنبه: نعم، أذاءً لله، ولرسوله، وللمؤمنين. هذا ليس أداء وإنما هو أذاء، وفعلاً هذا يؤذي كثيراً من الناس، فإذا صلى بجنبك إنسان موسوس فلا يهنأ الإنسان بصلاته، ولا يدري ماذا قال. فأنا أوجه من خلال هذه الكلمة نصيحة للإخوة الموسوسين: أن يخافوا الله في أنفسهم، ولا يقبلوا هذا الوسواس بحال من الأحوال.
علاج الوسواس
ويقول الغالب منهم: كيف أتخلص من الوسواس؟! أصلاً هذا الوسواس من تلاعب الشيطان وتلبسه بك، فما عليك إلا أن ترفض هذا الأمر، وتكون مثل غيرك من الناس، يكفي أنك ناوٍ أن تذهب إلى المسجد فهذه النية كافية، وناوٍ أن تتوضأ هذا كافٍ، ولا داعي لأن تقول: أستحضر النية مقارنة للتكبير، أو قبل التكبير بيسير، أو ما أشبه ذلك. هذه أمور كلها معروفة بالبديهة، إنسان دخل رمضان، وقام قبل صلاة الفجر بساعة؛ قام من أجل ماذا؟ هل قام ليسافر أو ليعد بحثاً؟! لا قام من أجل أن يتسحر ويصلي ويصوم، هذا كافٍ في نية الصيام، ولا داعي للتكلف في هذه الأمور. والمؤسف أن بعض الذين كتبوا في هذه الأمور من الفقهاء، قد يتسببون في وقوع الناس في بعض التكلف في النية، ببعض التشقيقات والتفريعات والتطويلات التي يذكرونها، فأذكر -مثلاً- أن ابن الحاج في المدخل والكتاب مفيد على كل حال، لكن لكل جواد كبوة، لما تكلم عن نية الصلاة -مثلاً- ذكر أن الإنسان يمكن أن ينوي بخروجه إلى الصلاة (160) نية، يعني وأنت خارج للصلاة تنوي أنك سوف تكبر، وسوف تقرأ الفاتحة، وتركع، وتقوم، وتسجد، وتتشهد، وتسلم، وكذا، وكذا مائة وستين، لا أدري كيف جمعها! تنوي بخروجك من البيت إلى المسجد مائة، وحتى أكون دقيقاً يقول: مائة وتسعاً وخمسين نية، حتى أن من العجيب أنه قال: أنك إذا خرجت إلى المسجد -الله يغفر لنا وله- يستحسن أن تأخذ معك سكيناً. ولماذا يأخذ سكيناً؟ قال: لأنه يمكن أن يلقى في طريقه شاة مريضة، وقد قاربت الموت، فيذكيها بهذه السكين، فيكون نوى إذا وجد شاة يذكيها، ويكون حصل بذلك نية العمل الصالح. إذاً الإنسان يمكن أن يلقى في طريقه إلى المسجد اثنين يتخاصمان فيحتاج إلى الصلح بينهما، ويمكن أن يرى حريقاً فيحتاج إلى أن يطفئه، وممكن أن يجد -مثلاً- حوادث كثيرة إذا أراد أن يتصور الإمكانيات العقلية، فهذا كله من التكلف الذي نهى الله تعالى عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما التكلف في الأمور المباحة فقد أشرت فيما سبق إلى جوانب كثيرة من هذا التكلف.
أعلى الصفحة
أشياء تخالط النية الخالصة
الخطأ الخامس الذي يقع فيه بعض الناس: هو الخطأ المتعلق بوجود نية أخرى مصاحبة لإرادة وجه الله تعالى. يعني كون الإنسان يعمل العبادة لوجه الله، لكن يخالط ذلك نية أخرى، وهذه قضية خطيرة، ويقع فيها الخلط من كثير من الناس، فلابد أن ألقي عليها بعض الضوء، وهي تقريباً من أواخر النقاط التي أريد الوقوف عليها. فأولاً الأشياء التي تخالط نية الإنسان بإرادة وجه الله تعالى نوعان:- النوع الأول: الرياء. وهو أن ينوي الإنسان بأصل العبادة غير الله تعالى، كان ينوي -مثلاً- مدح الناس وثناء الناس، والسمعة الحسنة، وكسب الجاه والمكانة بين الخلق، كمن يصلي من أجل الناس، أو يصوم من أجلهم، أو يحج، أو يتصدق حتى يكتب اسمه في الجرائد والنشرات وغيرها، أو ما أشبه ذلك، فهذا الرياء ما حكمه؟
حدوث الرياء أثناء العمل
لكن هنا أمور يجب التنبه لها حتى لا يقع الخطأ: لو أن إنساناً في أصل عمله أراد وجه الله تعالى، لكن طرأ الرياء عليه فيما بعد، يعني: قام يصلي لله، وعندما قام يصلي رأى الناس ينظرون إليه فارتاح بذلك وداخله رياء، ورغبة في أن ينظر الناس إليه، ويثنوا عليه بهذا العمل، وداخله الرياء. فهاهنا ذكر جماعة من أهل العلم أن هذا لا يحبط العمل، كما ذكره العز بن عبد السلام، والإمام ابن القيم، بل نقل عن الإمام أحمد، وابن جرير الطبري، وغيرهم من أهل العلم أن هذا لا يحبط العمل لكن يقلل من أجره. كذلك إذا كان الرياء ليس في أصل العمل، حتى لو كان من البداية، لكن في صفة العمل، مثلاً في الصلاة: هناك إنسان يصلي سواء أرآه الناس أم لم يروه، لكن لما رأى الناس ينظرون إليه حسن الصلاة وطولها وصلحها وجملها من أجل عيون الناس الذين يرونه، فهاهنا القول الراجح الذي رجحه العلماء السالفون ومثلهم -أيضاً- ابن رجب والسمرقندي: أن هذا العمل لا يحبط أيضاً، وإنما الزيادة التي صارت من أجل الناس هي التي تحبط، أما أصل العمل الذي عمله لله فهو -إن شاء الله- باق. ولا شك أن هناك فرقاً كبيراً بين هذا الإنسان وبين من عمل العمل كله لوجه الله تعالى. هذا في موضوع الرياء، وهو القسم الأول من الأشياء التي تخالط إرادة الإنسان، أي أن يريد بما يعمل وجه الله، ويريد ثناء الناس ومدح الناس، ويريد الجاه والمكانة عند الناس. هذا هو النوع الأول مما يخالط إرادة وجه الله بالعمل.
أعلى الصفحة
حالات الرياء
ذكر الإمام الغزالي ثم الصنعاني أن هذا الرياء له أربع حالات:- الحالة الأولى: أن يكون قصد الإنسان بهذا العمل الرياء المحض، يعني لم يعمل العمل أصلاً إلا من أجل الناس، وهذا لا خلاف فيه عند أحد من أهل العلم أن عمله مردود وحابط بل هو عليه كما قال تعالى:فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَالَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ [الماعون:6] ويقول الله عز وجل: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فأنا منه بريئ وهو للذي أشرك} وفي لفظ: {تركته وشركه} ويوم القيامة يقول الله عز وجل للذين كانوا يراءون في الدنيا {اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً}. الحالة الثانية: أن يكون قصد بالعمل الرياء ووجه الله، فأراد الأجر وأراد كذلك المدح من الناس في الوقت نفسه، لكن إرادة الرياء أغلب، يعني (70%) من الدوافع من أجل الناس، و(30%) من أجل الله، وهذه النسبة لمجرد الإيضاح، وإلا فليس هناك مقياس ترمومتر يقيس النية أنها سبعون أو ستون، فإذا كان الأغلب أنه فعل ذلك من أجل الناس فهذا العمل رياء وحابط ولا يقبل من الإنسان. الحالة الثالثة: أن يستوي الطرفان فيكون قصده وجه الله ومدح الناس بنسبة متعادلة، يعني (50%) من أجل الله و(50%) من أجل الناس، فيقول الغزالي: هذا لا له ولا عليه، ليس عليه أجر ولا إثم أيضاً، أو نقول الأجر الذي حصله يدفع الإثم الذي حصله، فيتاكفآن ويتساقطان. الحالة الرابعة: أن يكون قصده وجه الله أكثر وقصد الناس يأتي ضمنه، يعني (70%) لوجه الله، لكن (30%) لوجه عبيد أو زيد من الناس، فهذا له أجر على هذا العمل، وإن كان عمله أقل أجراً بكثير ممن أخلص لوجه الله. هل هذا التقسيم الذي ذهب إليه الغزالي والصنعاني وجماعة من أهل العلم تقسيم صحيح؟ أكثر أهل العلم يقولون: لا، ثم لا، ثم لا. بل العمل الذي يتقرب به إلى الله تعالى، وأراد الإنسان به رياءً ولو بنسبة معينة فإنه لا يقبل، فلو أراد وجه الله بنسبة (90%) وأرد الناس بنسبة (10%) في وقت واحد، وفي أصل العمل فإن هذا العمل لا يقبل، كما هوصريح النصوص السابقة، وفي القرآن الكريم قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110] والحديث القدسي {من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه}بغض النظر عن نسبة هذا الشرك قليلة كانت أم كثيرة، لذلك لو وقع الإنسان -أيضاً- في الشرك الأكبر ولو بعبادة واحدة أُحبطت جميع أعماله، كذلك من وقع في الرياء في عمل معين فإن الرياء وإن قل يحبط هذا العمل، هذا إذا كان الرياء في أصل العمل.
أعلى الصفحة
اشتراك النية الصالحة بالمباحة
النوع الثاني: هو أن يريد الإنسان بعمله أمراً دنيوياً مباحاً، يعني أراد وجه الله، لكن مع ذلك أراد أمراً دنيوياً مباحاً، وذلك مثل إنسان حج إلى بيت الله الحرام؛ لأنه تاجر يبيع في مكة، البضائع على الحجاج، لكنه لا يخادع الحجاج، ولا يضحك عليهم، ولا يبخس حقوقهم، ولا يستغل ظروفهم الصعبة، بل يبيع بالطريقة الشرعية، فحج، وفي الوقت نفسه أراد الحج وأراد البيع. فهذا أجمع أهل العلم على أن حجه صحيح، وأنه لا شيء عليه في هذا، وقال كثير من المفسرين -لو صح عن ابن عباس- أنه في هذا نـزل قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] فقالوا: هذه نـزلت فيمن أراد الحج وأراد التجارة. ومثله إنسان ذهب إلى الجهاد في أي بلد إسلامي، مثلاً ذهب إلى الجهاد في أفغانستان. يا فلان: لماذا ذهبت لتجاهد في أفغانستان؟ قال: والله أنا ذهبت لإعلاء كلمة الله ومقاتلة الكفار، لكن لا شك -أيضاً- كان عندي قصد آخر. ما هذا القصد الآخر؟ قال: والله كان عندي أن أحصل على شيء من الغنائم التي نصيبها من الكفار، وعندي أمل كبير أن الله سبحانه وتعالى سيرزقنا منهم كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم، أو أريد أن أحصل على أمة من نساء بني الأصفر، من نساء الروس، تكون أمة عندي فأتزوجها، هذا من مقاصدي أيضاً. هذا أيضاً لا بأس به ولا يضر، ولا نشك مطلقاً بأن الذي حج للحج فقط أو غزا لإعلاء كلمة الله فقط أنه أعظم أجراً بكثير من الذي حج ليحج وليتاجر أو غزا ليرفع كلمة الله وليحصل على مغنم، لكن أيضاً التجارة وطلب الحصول على مغنم لا يؤثر في أصل إرادة وجه الله تعالى. هناك أمثلة عديدة لهذا الموضوع من واقع حياة الناس، ربما يتساءل عنها الكثيرون، فأحببت أن أشير إليها، وهي تنقص من أجر الإنسان وقيمة عمله، لكنها لا تحبط العمل، ولا تعد محرمة. مثلاً: أحد الشباب تجده يصوم الاثنين والخميس، أو يصوم يوماً ويفطر يوماً. لماذا؟ قال: لعدة أسباب، أنا أصوم -من الأسباب- أصوم بالدرجة الأولى لوجه الله؛ لما ورد من النصوص في فضل صيام هذه الأيام، وأتحرى صيامها. لكن أيضاً عندي أمر آخر: وهو أنني أصوم من أجل الصحة؛ لأن الصوم فيه صحة ثابتة، ومعلومة لدى الأطباء، فحاولت أن أعمل هذا العمل لوجه الله، ورأيت أنه يفيدني -أيضاً- في مجال الصحة، إضافة إلى ما ورد في الحديث أن الشاب إذا لم يستطع الباءة فعليه بالصوم، حديث ابن مسعود المتفق عليه {من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء}. فنقول لا بأس بهذا العمل، ولكن كان الأفضل أن تنوي بصيامك وجه الله فقط، دون أن تدخل في ذلك مقاصد دنيوية أخرى، وإن كانت هذه المقاصد مباحة. مثال آخر: إنسان شديد البر بوالديه، يا فلان لماذا هذا البر بوالديك -ما شاء الله، تبارك الله-؟ قال: والله نعم، الحقيقة أنا أبر بوالدي لأسباب، أهمها وأولها: ما أعلم من نصوص القرآن والسنة في حق الوالدين، التي تجعل كل من قرأها لا يملك إلا تقدير الوالدين والقيام ببعض حقوقهما التي يستطيع، ومما دفعني إلى الالتزام بذلك -أيضاً- أنني أعلم من خلال التجربة، والقراءة في بعض الكتب أن الإنسان الذي يبر والديه يبره أبناؤه، فأنا أريد أن يبر بي أبنائي، لذلك أبر بوالدي. فليس هناك مانع من هذا العمل، ولكن الأكمل أن ينوي في بره بوالديه وجه الله تعالى فقط دون أن يدخل في ذلك الرغبة في أن يبر به أبناؤه. كذلك إنسان كثير العبادة والذكر والدعاء والصلاة، سُئل لماذا تفعل هذا؟ قال: والله أنا أفعل لأن الله تعالى أمر به، فهي عبادة أمر الله تعالى بها، وأيضاً أجد أن هذه الأعمال فيها سعادة، وراحة، وطمأنينة بال، وهدوء قلب، وهذا أمر يفقده كثير من الناس من غير المتعبدين، فأنا -أيضاً- أطلب بهذه الأعمال مع رضوان الله وطلب ثوابه، والخوف من عقابه، أيضاً أطلب السعادة القلبية، والراحة النفسية. هذا مطلب دنيوي مباح، لكن لو قصد بعبادته وجه الله فحسب؛ كان هذا أكمل وأتم وأعظم أجراً لعبادته. إنسان آخر -أيضاً- يعبد الله تعالى ويطيعه، يقصد وجه الله تعالى، ويريد مع ذلك أن يرزقه الله الذرية والمال، وينعم عليه، أخذاً من قوله تعالى في سورة نوح على لسان نوح عليه السلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراًيُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراًوَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12] هذا العمل لا بأس به، لكن الأكمل أن يقصد بعبادته وعمله وجه الله تعالى وحده. وهناك مثال يتكرر كثيراً في أوساط الشباب: شاب يدرس، عنده تخوف شديد أدراسته لوجه الله أم لغير الله؟ يقول: أخشى أن أكون مرائياً أو يكون عملي لغير الله تعالى. فنقول: ينظر الإنسان هل قصده الرياء بالدراسة؟ فهذا لا شك أن الرياء يحبط العمل -كما سبق- لكن إن كان قصده بالدراسة عملاً دنيوياً أو أمراً دنيوياً وهذا الأمر الدنيوي لا ينافي أن يكون قصده وجه الله تعالى، فهذا في نظري -وهو نظر قاصر لا شك- أنه لا يحبط العمل أو يؤثم صاحبه، لكن الأكمل ألا يكون. مثال ذلك: طالب تخرج من الثانوية العامة، قال: أنا الآن على مفرق الطرق، لا أدري أأذهب إلى كلية الطب والهندسة، أم إلى كلية الشريعة، أنا في الواقع -ولله الحمد- عندي إمكانيات كبيرة، عندي قدرة على الحفظ، وعندي قدرة على الاستنباط -ولله الحمد- فهذا كله من فضل الله -هذا كلام الطالب- وأرغب في الواقع أن أدرس علوم الشريعة لأنفع المسلمين وأفيدهم، وأنفع نفسي أيضاً، لكني أخاف من شيء وهو النية! فأقول أذهب لدراسة الطب؛ لأني -أيضاً- أريد وظيفة مثل غيري من الناس، أريد الشهادة التي أتوظف بها، فأخشى أن أكون بعملي بالدراسة في كلية الشريعة -مثلاً- درست من أجل الشهادة، أو من أجل الوظيفة. ففي نظري نقول لهذا الإنسان: كلا، أنت الآن ستدرس على كل حال، ولو ذهبت لتدرس في كلية الطب -مثلاً- كانت الوظيفة التي ستحصل عليها أعظم -يعني من حيث الراتب- من الوظيفة التي ستحصل عليها حين تتخرج من الشريعة، فأنت الآن حين تذهب إلى الشريعة هذا الاختيار المحدد للشريعة لم يكن لغرض دنيوي، بل كان لغرض ديني، وهو أن تريد أن تنفع الناس، وتنفع نفسك بتعلم علوم الدين والتفقه فيها، وإنما الشهادة أمر مشترك في جميع الكليات التي كنت ستدرس فيها، فاختيارك الشريعة -مثلاً- على غيرها أمر لا حرج فيه، وهذا أيضاً لا يعني أن الإنسان يسلم بهذا الأمر، بل ينبغي أن يعمل على تصحيح نيته بقدر ما يستطيع، فكلما صفت نية الإنسان كان هذا أكثر في تحصيله، وأدعى إلى توفيق الله تعالى له. كما أن هذا لا يعني التقليل من الكليات الأخرى التي يدرس فيها الطلاب، بل المسلمين بحاجة إلى الطبيب المسلم، والمهندس المسلم، والعالم الاجتماعي المسلم، وعالم النفس المسلم، وجميع التخصصات المباحة التي يحتاج المسلمون فيها إلى متخصصين، والفقيه المسلم يحيل إلى الطبيب أحياناً، وإلى المهندس أحياناً أخرى، فالمجتمع يحتاج إلى جميع هؤلاء، وإنما هو مجرد مثال.
ترك العمل خوف الرياء
الخطأ السادس هو مرتبط بما قبله في موضوع الرياء، لكني أعُدُّه مستقلاً لأهميته: وهو أن كثيراً من الناس خوفاً من الرياء يتركون الأعمال، فيترك مثلاً إمامة الجماعة، وخطبة الجمعة، والتدريس في المسجد، والوعظ والإرشاد، والتبكير إلى المسجد، وقراءة القرآن، وهذا كله حدث، يقول: أنا أخاف من الرياء؛ لأن الرياء بدأ يداخل النفس. والواقع أن إمكانية تخلص الإنسان من جميع الواردات التي قد ترد على قلبه أمر متعذر، فلا يزال الإنسان في جهاد حتى يموت، والشيطان يحاول أن يشكك الإنسان في نيته، ويوقعه في نيات ومقاصد لغير الله تعالى. إذاً الذي يظن أنه سوف يتخلص من الرياء واهم، لكن ترك العمل خوف الرياء لا يجوز. خاصة الأعمال الواجبة، لذلك يقول القاضي عياض -رحمه الله-: ترك العمل من أجل الناس رياء، كما أن العمل من أجل الناس شرك. ما معنى هذه الكلمة؟ هذه الكلمة معناها -كما يقول الإمام النووي-: إن من أراد أن يعمل عملاً صالحاً ثم تركه خوف الرياء من الناس، فإنه يكون مرائياً بهذا الترك؛ لأن الترك من أجل الناس، فكما أن العمل من أجل الناس هو رياء أو شرك، كذلك الترك من أجل الناس هو الآخر رياء أيضاً. إذاً من أراد أن يعمل عبادة ثم تركها من أجل الناس فقد وقع في الرياء -كما يقول القاضي عياض والنووي وغيرهما- كما أن من عمل العمل من أجل الناس فقد أشرك أو راءى، وأما -والكلام لا يزال للنووي- من ترك العمل من أجل الناس علناً ليعمله في الخفاء فهذا لا بأس به. وفيما يتعلق بكلام النووي أرى إن كان المقصود ترك عمل مخصص، يعني إنسان مثلاً أراد أن يصلي الراتبة في المسجد، ثم نظر والناس ينظرون إليه، وخشي أن يدخل في قلبه الرياء فقال: أصليها في البيت. هذا صحيح، والأفضل أن يصليها في البيت أصلاً، لكن لو كانت عبادة مطلقة أو نافلة مطلقة ليست مخصصة نقول: صل هنا، وصل في البيت. ولا تباعد بينهما، ولا تناقض بينهما. وأنا في الواقع أفضل ألا يترك الإنسان أي عمل من الأعمال من أجل الناس؛ لأن هذا قد يدخل الإنسان في متاهة ليس لها نهاية، والأفضل أن يعود الإنسان نفسه عدم النظر إلى الناس مطلقاً، وهذا ممكن بالتعود، وهو أمر مجرب، فعود نفسك أن تتجاهل الناس سواء أمدحوا أم ذموا أم نظروا أم أعرضوا، فلا تلتفت إلى هذه الأمور، وإذا ورد إلى قلبك شيء من ذلك ادفعه بالوسائل الممكنة، أما أن تترك شيئاً من أجل الناس أو تعمل شيئاً من أجل الناس فهذان كلاهما ممنوع، لذلك يقول ابن حزم -رحمه الله- في كتابه القيم الأخلاق والسير في مداواة النفوس يقول: لإبليس في ذم الرياء حُبالة، فكم من إنسان ممتنع من فعل خير خشية أن يظن به الرياء. ويقول ابن حزم -رحمه الله-: فإذا طرقك شيء من ذلك فامض على فعلك فهو شديد على الشيطان. فالوصية التي ينصح ابن حزم بها الإنسان: أنه إذا خطر في بالك أن تترك العمل من أجل الناس فامض في هذا العمل، فإن مضيك في هذا العمل شديد على الشيطان، وإلا فلو تركت العمل خوف الرياء لعرض لك الشيطان عند كل عمل صالح تعمله؛ لأنه قد علم منك هذا الضعف، وقد حدثني جماعة من الشباب أن هناك من ترك التبكير إلى المسجد، يقول: أخاف الرياء. وترك قراءة القرآن يقول: أخاف الرياء. وترك الإمامة؛ يقول: أخاف الرياء. وترك تدريس وتعليم القرآن الكريم خوف الرياء، إلى غير ذلك!! ثم إن كثيراً من الأعمال إذا عملها الإنسان مرة أو مرتين أو ثلاث وأربع واستمر عليها قلَّ الخوف من الرياء. فمثلاً: أول مرة يقوم الإنسان ليعظ في المسجد فتكون المخاوف من الرياء كبيرة؛ لأنه يحس أنه يقوم بعمل جليل، فيأتيه الشيطان فيقول رياء! رياء! رياء! لكنه بعد أن يتعود على إلقاء الكلمات في المساجد يضعف عنده الخوف من الرياء، وهذا أمر مجرب، خاصةً إذا كان يجاهد نفسه على الإخلاص؛ فيعينه الله تعالى على ذلك. ومما يدخل في هذا الباب -أيضاً- ما ذكره ابن قدامة في مختصر منهاج القاصدين: أن بعض الناس يكون في بيته لا يعمل الأعمال الصالحة، فإذا صحب بعض المتعبدين انبعثت نفسه إلى العبادة، فيخشى أن يكون هذا من الرياء؛ فيترك العمل! أنا -مثلاً- لا أقوم الليل في بيتي، لكن سافرت مع بعض الصالحين في حج أو عمرة فرأيتهم يقومون الليل؛ فوجدت في نفسي دافعاً لقيام الليل، وبدأت أقوم، جاءني الشيطان؛ وقال: أنت تقوم رياء! بدليل أنك لما كنت في المنـزل ما كنت تقوم الليل، إنما تقوم من أجل فلان وفلان. هل هذا الكلام صحيح؟! لا، ليس بصحيح على إطلاقه، بل نقول: إن الذي جعلك لا تقوم الليل -أصلاً-؛ أنك في المنـزل تنام على فراش وثير، وإلى جوار زوجة حسناء، وربما تستعمل من الأشياء الكثيرة التي تجعل نومك ثقيلاً، ويصعب عليك الاستيقاظ، ولا تجد من يعينك، لكن لما ذهبت في السفر؛ فليس هناك الفراش الوثير، ولا الزوجة الحسناء، وربما يجد الإنسان شيئاً من البرد أثناء نومه -مثلاً- إن كان في وقت الشتاء، إضافة إلى أنه وجد عوامل تساعده على الاستيقاظ مثل هؤلاء الصالحين؛ فانبعثت نفسه إلى العبادة لوجه الله. فعليه أن يقوم ويتعبد ولا يبالي، لكن لو كانت -فعلاً- عبادته من أجل الناس بحيث إذا كانوا لا يعلمون بصلاته ما صلى. يعني: لو كان -على سبيل المثال- مصاحباً لإنسان أعمى لا يدري هل هذا يقوم أو لا يقوم، فلم تنبعث في نفسه دوافع العبادة، لماذا؟! لأنه يقول: لا يراني؛ فلا داعي أن أقوم. هذا لا شك أنه رياء محض ومن النفاق. هذا ما أحببت أن أحدثكم به، وأرجو الله تعالى أن ينفع بها من قرأها، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.Ho'hx td hgkdm
بارك
الله
فيك
أيتها الغالية
وننتظر جديدك
بفارغ
الصبر
يسلموا
[mark=000000]جزاك الله خير
يعطيك الف عافيه على الموضوع
تقبلي مروري[/mark]
هلا فيكي نبض
« صفات الله عز وجل | واهتز العرش » |
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع |