" وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ "
الحمد لله الذي جعل الدنيا ميدان لعمارة الآخرة , والصلاة والسلام على خير قدوة في ذلك سيدنا الهادي الأمين محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وسلم-, و بعد فإن من أطال النظر في هذا الزمن اعتبر , ومن ساء نظره فعن الحق نفر , وإن الحصيف يعلم كنه إيجاد الخلق , ويرى أن الله-عز وجل- ذلل كل شيء لهذا الإنسان , ليعبد الله ويتقه .
وإن مما يعيق المسيرة الجادة نحو إعمار الآخرة مرض أوشك أن يهلك القوم , وإن كان قد أهلك الكثير ممن سلف , ومضى .
لقد فطن له أرباب النهى والإيمان , وعلموا بأن العمر محدود , والعقبة كؤود . فأحسنوا وزينوا واتخذوا من العمل الصالح خير زاد .
إن لــلــه عــبـــاداً فــطــنــا --- طـلقـوا الـدنـيـا وخـافـوا الـفـتـنـا
نـظـروا فـيـهـا فـلـمـا عـلـمــوا --- أنـهـا لـيـســت لـحــي وطـنــا
جـعـلـوهــا لــجــة واتــخــذوا --- صـالـح الأعـمـال فـيـهـا سـفـنــا
أما ذاك الصنف الغائر في بحر الأماني (عافانا الله) , الذين اغتروا بعجوز شمطاء ليس لهم منها إلا العناء والكد هم الذين وقعوا فريسة طول الأمل , والغرور بالدنيا , وهم من قال الله-سبحانه وتعالى- عنهم :"ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ "(الحجر:3).
روى البخاري عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- أنه قال :" ارتحلت الدنيا مدبرة , وارتحلت الآخرة مقبلة , ولكل واحدة منهما أبناء , فكونوا من أبناء الآخرة , ولا تكونوا من أبناء الدنيا , فإن اليوم عمل ولا حساب , وغداً حساب ولا عمل".
وروى أيضاً عن ربيع بن خثيم عن عبد الله –رضي الله عنه- قال خط النبي –صلى الله عليه وسلم- خطاً مربعاً , وخط خطاً في الوسط خارجاً منه , وخط خُططاً صغارًا إلى هذا الذي في الوسط , وقال :" هذا الإنسان , وهذا أجله محيطاً به-أو قد أحاط به-وهذا الذي خارج منه أمله , وهذه الخطط الصغار الأعراض , فإن أخطأه هذا نهشه هذا , وإن أخطأه هذا نهشه هذا ".
وإن من أبشع السيئات أن يكن من هؤلاء من عرف الله , وأدرك نعمه , وقد يكون ممن وُفق للخير ثم تأخذه زبانية الأماني إلى الهاوية , و لا رجعة بعد ذلك (نسأل الله العافية والسلام) , وروى أبو هريرة-رضي الله عنه- عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-قال: " لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين : في حب الدنيا، وطول الأمل " (رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري).
وإن ما دفعني لهذا الموضوع مشاهدة بعض المظاهر التي يتجلى فيها هذا الداء في المسلمين , و إن كان يدخل في ذلك بعض الصالحين فضلاَ عن غيرهم , وليس الغاية من هذا الموضوع البحث العلمي , وإيراد الأدلة والنماذج , ولكن تشخيص سريع لظواهر معاصرة مفادها غياب واعظ الإيمان في القلب , وتلاشي الخوف من الله .
* من الظواهر الدالة من وجود مرض كثرة الأماني وطول الأمل :
1. قسوة القلوب , وجفاف المقل عند ذكر الله , وأحوال الآخرة . قال تعالى:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ".وعن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :"عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشيه الله وعين باتت تحرس في سبيل الله".
2. ضعف الإقبال على مجالس الذكر ورياض الجنة , وقلة الجلوس في المساجد , والتأفف من إطالة الصلاة والمطالبة بالتعجيل والإقامة البكرة , وبعد ذلك النفور النفسي من المسجد ذاته . روى أحمد والترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:قال رسول الله: صلي الله عليه و سلم :"إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا , قالوا : وما رياض الجنة؟ قال: حِلَقُ الذكر " .
3. السعي خلف الدنيا , و الغرق في المرابحة والتجارة بحجة تخليف شيء للأبناء , وقلة التورع في المعاملات المالية لاسيما التي في دائرة الشبهه , وضعف الحصيلة العلمية في ذلك , والغرق الشديد في الرفاهية وعادة ذلك في المسكن والمركب والملبس والمأكل , وكل هذا تحت بغية إظهار النعمة المكتسبة , ويأتي جراء ذلك قصر اليد في أبواب الخير , والبعد عن مجالسة الوضيعين والفقراء , وعدم السؤال عن حاجة الأقارب والجيران . ولقد قال تعالى في ذم اليهود:"وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ "(البقرة:96). و عن أنس –رضي الله عنه –قال :قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم- : " يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان: حب المال ، وطول العمر " (رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري) .
4. التخطيط للمستقبل , وإبرام الخطط ذات السنوات المديدة , وهذا لا ينافى مع حسن العمل فقد يبلغ المؤمن بنيته ما لم يبلغه بعمله , ولكن جرت تلك العادة حتى أُنسي البعض تبييت النية الصالحة وخاصة في الأعمال الخيرية والتطوعية , ويظهر من مظاهر طول الأمل في بعض الأعمال الخيرية الوهن الشديد في أمور ,منها :
* ضعف التذكير بالنية , والإخلاص , والمعاني الإيمانية .
* الاعتماد شبه الكلي في التخطيط , والقيادة , والمتابعة على الأسباب المادية , والدوافع الدنيوية .
* كثرة الشكاوى من سوء الخلق , وانتشار أمراض القلوب من خلال العاملين .
5. نشوب كثير من النزاعات والخلافات بين أبناء الدم الواحد , وكذلك كثرة النزول في لحوم الغير , وإضاعة الحقوق وإهدارها بحجج واهية ( لاسيما إذا كان ذلك في حقوق الوالدين وأهل الرحم ) , وضعف الهمة في التواصل , ووأد القطيعة , وعدم التفاعل مع جهود المصلحين ووعظ الواعظين , وزيادة على ذلك تقديم الحظوظ العاجلة عند الإصلاح على ما يخلفه الله في الآخرة .
6. كثرة التنازلات عن مبادئ وثوابت جليلة مثل التساهل في إطالة الإزار , والأخذ من اللحية , والاستماع للملاهي والمعازف , وكذلك إدخال الفضائيات(الماجنة) في المنازل , وتتبع الرخص , وترك الحبل على الغارب في تربية الأبناء , والقيام على الأهل , والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "كلكم راع وكلم مسئول عن رعيته" , ومن المبادئ وجود سمة الدنيا على لسان وقلب ذلك المغرور , فلا تكاد تجد حتى ما يذكرك منه بالخير والعمل الصالح .
7. فناء نوافل الصالحات من برنامجه فلا تجد سنن رواتب , لا صيام نفل, و لا قيام وعلى الأقل ركعة واحدة , ولا حفاظ على تلاوة , ومن ثم نجد خواء القلب من الابتهال لله سبحانه , فالدعاء وحسن الظن بالله وزنه كالريشة في قلبه , وتجد أنه يستكثر الأعمال من الفرائض وصوم رمضان , والحج والعمرة (إن قام بذلك , و إلا فقد يؤخر ذلك لأجل غير مسمى) .
8. التودد الشديد لمن كان له معهم مصلحة وعمل , والتواصي في ذلك وترك الابتسامة وانشراح الصدر مع العامة ودهماء الناس , وقد يكون ذلك حتى مع أهل بيته وأبنائه , وربما كان فاحشاً غليظاً في القول غير متسامح لذرة من حقوقه الخاصة والشخصية .
9. امتلاء المحاكم وهيئات التحقيق والإدعاء العام بقضايا جزئية كانت ستحل بكظم غيظ , أو عفو وإحسان , أو بإنظار معسر ,ولكن تفنى كل تلك المبادئ مع اللهث خلف الدنيا وعدم التنازل لوجه الله سبحانه .
10. الفرح الشديد بحمد الناس , وإطلاعهم على محاسن عمله , وربما كان يُخفي العظام من الموبقات , وهو يحرص على إخفائها , كحرص المتقين على إخفاء حسناتهم , وهو بذلك يغالط المنهج الرباني الذي يدعو للإخلاص , وابتغاء الأجر من الله , قال الله تعالى :" وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء.". ( الآية 5: سورة البينة) , وقد يصل بهذا المبتلى أن يحاول سرقة جهود الآخرين , ومن ثم يصعد على أكتاف المجتهدين , وليفز هو بالحظوة الدنيا , والآخرة لا شك لم يحلو له النظر فيها في الوقت الحاظر , وهذا دال على ذلك أيما دلالة , قال الله –تعالى-:"لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " . قال السعدي-رحمه الله- في تفسير (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا): أي, بالخير الذي لم يفعلوه، والحق الذي لم يقولوه فجمعوا بين فعل الشر وقوله ، والفرح بذلك ومحبة أن يحمدوا على فعل الخير الذي ما فعلوه .
11. الفوضى في إدارة الوقت , وضعف ضبط الأولويات , وولوج كثير من المكروهات , والمباحات في حيز يومه , وهذا عائد لضعف التصور عن واقعه ومستقبله , ولاشك أن ذلك جزءً من كبر الأمل .قال عليه الصلاة والسلام :"نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس , الصحة والفراغ " , وهي أنعام لا يعرفها سوى من فقدها , والمتمعن في حديث(اغتنم خمساً قبل خمس)يعي ذلك كثيراً . عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه : "اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناءك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك".
إن غير ذلك كثير , وليس البغية كما ذكرت إلا التشخيص البسيط , وكلنا ذو خطأ , ولكن الموفق من وُعظ بغيره وجعل من الدنيا خير قنطرة لجنات عدن , وذاك يسير على من يسره الله عليه , ولنعلم أنا في خطر عظيم ففي عصرنا انفتحت علينا الدنيا من كل أبوابها حتى شُبه علينا ما يجب علينا , قال –عليه الصلاة والسلام-: "صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل ".رواه أحمد في الزهد والطبراني في الأوسط/صحيح الجامع:3845.
قال بعض الحكماء:"عجبت ممن يحزن على نقصان ماله ولا يحزن على نقصان عمره"، فلنجتهد في العبادة ولنبكِ على الخطيئة ، ولنفر من العقوبة . والموفق من صرف أمله إلى ما يبقى وقطعه عما يفنى ، وحري بنا أن نُعطي كل شيء حقه (حق الدنيا وحق الآخرة) . قيل لما حضرت محمد بن سيرين الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك فقال:( أبكي لتفريطي في الأيام الخالية ، وقلة عملي للجنة العالية ) , والله سبحانه وتعالى قد قال عن أصحاب الجنة:" كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيّامِ الْخالِيَةِ"
أقول لا نكن ممن بدأنا به الحديث , وقال الله عنهم : "ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ " .