( شـــفـــتــــــــــــــــــــاه )
الكاتب / إحســـان عــبد القـــــدوس
هل تريد أن تعرف قصتي معه ؟!؟!
لقد رأيته أول مرة على شاطىء البحر بالإسكندرية ….
كنت في السابعة عشرة من عمري ، وكان في الخامسة
والثلاثين من عمره كبيرا" , قويّا" , طويلا" , لفحته الشمس فبدا جسده كأنه مصنوع من النحاس … وزحفت فوقه بعيني حتى التقيت بوجهه
رزينا" عيناه حادتان وشفتاه مقوستان كأنهما قوس مشدود ليطلق ابتسامة
وتعلقت عيناي بهاتين الشفتين !
وفي اليوم التالي رأيته أيضا" وقضيت ساعات أمسح فوقه بعيني ثم استقر بهما فوق شفتيه!
وفي اليوم الثالث رأيته يحادث فتاة وشعرت بالغيرة وكنت أعلم أن ليس من حقي أن أغار عليه
إنه لا يعرفني إنه حتى لم يرني لم يلتفت إلي رغم أن ليس بيني وبينه سوى خطوات
وقمت أسير أمامه لعلّي أشغله عن الفتاة التي يحادثها ولكنه لم ينشغل عنها ولم يلتفت إليّ وعدت
إلى جلستي أنظر إلى شفتيه وهما تتحدثان إلى فتاة غيري!!
ومرت الأيام وليس لي نصيب منه إلاّ النظر وشفتاه تطاردانني في نهاري وليلي, في صحوي ونومي!
وتجرّأت
أصبحت أتعمد أن أمر أمامه وتصيبني رعشة فيخيل إلي أن جسدي كله يتأرجح فوق ركبتي وأنا أمشي
فأخجل من نفسي.
أصبحت أبتسم له ابتسامة صغيرة خجوله, هي كل ما استطاعت جرأتي أن تعينني عليه
ولكنه لم يلتفت إلي .
لم يرني
إنه أحيانا" مشغول في حديث مع أصدقائه وأحيانا" يلعب الراكت وأحيانا" يلعب الطاولة
وأحيانا" يحادث هذه الفتاة الأخرى
وعيناي متعلقتان بشفتيه
ولم أكن أستطيع أن أفعل شيئا" أكثر من ذلك إني خجولة وأنا محافظة وكنت أعلم أن البنات لهن طرق كثيرة في الوصول إلى الشبّان ولكني لم أكن أستطيع أن ألجأ إلى هذه الطرق إنها فوق طاقتيبل إني
لم أستطع حتى أن أحدث صديقتي عن إعجابي به, لعلها تعينني على الوصول إليه
إني فقط أنظر إليه من بعيد, وأمر أمامه أحيانا" لعله يلتفت إليّ ويساعدني ولكن لا شيء يحدث أكثر من النظر إليه والتعلق بشفتيه !
وبدأ شعور غريب ينتابني
إني أريد أن أقبل هاتين الشفتين
أريد أن أقبلهما
وخجلت من هذا الشعور أحسست بنفسي كأني أصبحت فتاة خاطئة ولكن الرغبة تزداد تملكا" مني
فأدفن شفتي بين طيات الوسادة وأقبله
وذهبت في الصباح إلى الشاطىء وبحثت عنه بعيني فلم أجده وانتظرته فلم يحضر
وأحسست وكأنه هجرني
أحسست كأن الشاطىْ كله فراغ ممل
ولم يحضر في اليوم التالي
لقد عاد إلى القاهرة
تركني وأنا لا أعرف إلا اسمه الأول الذي سمعت أصدقاءه ينادونه به عــادل
انقضى الصيف وأنا ساهمة وشفتاه مرسومتان فوق وسادتي ثم رجعت إلى القاهرة وفرحت برجوعي
كأني سألقاه ينتظرني على المحطة كأني علي موعد معه .
وأصبحت أسير في شوارع القاهرة وأنا أتلفت إلى كل سيارة تمر لعلّي أجده فيها وأنظر حولي كأن عيناي ستقعان عليه على شفتيه وأصبحت أفتح دفتر التليفون وأراجع كل الأسماء التي تبدأ باسم عادل
ثم أختار واحد منهم لعله هو وأهم أن أتصل به ثم أعدل رباط من العقل يشدّني
وشفتاه إني لا أستطيع أن أتخلص من شفتيه
و رأيته لمحته في شارع سليمان باشا يقود سيارته الصغيرة ووقفت مشدوهة, وقلبي يخفق
يخفق بشدة يكاد يفر من بين ضلوعي
وعدت إلى البيت ساهمة واجمة سعيدة كأني عدت من لقاء غرام
ودفنت شفتي في وسادتي
ثم عاد الصيف
وعدت إلى الشاطىء أنتظره
إنه لم يأت بعد
ومضت أيام طويلة ولم يأت ثم جاء وفرحت خفق قلبي وغمرتني سعادة ونشوة
وأخذت أمسح فوق جسده بعيني , وأزحف بهما حتى أصل إلى شفتيه لا تزال الابتسامة بينهما
ولكنه يبدو أكبر من العام الماضي شعرات بيض خفيفة في فوديه, وخطوط فوق جبينه
ولكني لازلت لا أستطيع أن أرفع عيني عنه
وقمت أسير أمامه ولكنه مشغول يحادث أصدقاءه أو يلعب الراكت أو الطاولة
أف لماذا لا ينظر إلي إني جميلة إني سأعجبه يجب أن ينظر, ويساعدني يساعدني في الوصول إليه
ولكنه مشغول
وبكيت وأخفيت دموعي وعدت أنظر إليه
وبقى يوم آخر على شاطىء البحر, ثم اختفى تركني وشفتاه لا تفارقان وسادتي ولكنه عاد
عاد يوم الخميس وعرفت أنه قرر ألاّ يقضي على الشاطىء أكثر من يومي الخميس والجمعة من كل أسبوع
وأصبحت أنتظر كل يوم خميس كأني على موعد معه كنت أذهب إلى الحلاّق في الصباح, وأرتدي أحب فساتيني, وأذهب إلى الشاطىء أقبّل شفتيه قبلات كثيرة أقبّـلهما بعيني وأهمس
وحشتني وحشتني موت ولا شيء أكثر
وانتهى الصيف, وكل ما أخذته منه هو اسمه الكامل عــادل رؤوف موظف بالسلك السياسي
وعدت إلى القاهرة, وأمل كبير يضج في صدري إني على الأقل أستطيع أن أحدثه في التليفون
ومضى أكثر من شهر وأنا أحاول أن أستجمع شجاعتي لأحدثه في التليفون
صدقني إني لست كبقية البنات
ثم أخيرا" حادثته
وسمعت صوته
لابد أن هذا هو صوته أن قلبي لا يخطىء
وقلت وصوتي يرتعش:
_ أنا واحدة
وقال وهو يضحك ضحكة كسولة :
_ صحيح !!
وضحكت معه خيل إليّ أنّي بين ذراعيه وأضحك
ووجدت نفسي أحادثه لم أظن أني أستطيع أن أقول كل هذا الكلام رغم أنّه لا يعرفني !
وقلت في حياء :
_ أقدر أكلمك في التليفون تاني
قال وأنا أرى شفتيه يطلقان ابتسامتهما :
_ تقدري بس لازم تكلميني في لندن
وشهقت :
_ إنت مسافر ؟!
قال في هدوء :
_ الطّيارة حتقوم بعد ساعتين
_ وراجع إمته
قال وهو يضحك ضحكة صغيرة كأنه يسخر من القدر :
_ بعد خمسن سنين
ووقعت سماعة التيفلون من يدي كأنما أغمى علي
هل نسيته
لا
إنه حبي الأول والوحيد, فكيف أنساه وشفتاه مرتسمتان فوق وسادتي وصوته يملأ أذني
وتزوجت وأنا في التاسعة عشرة
وذهبت لزوجي, وخيالي مع حبيبي حتى في حفلة زفافي وأنا جالسة في الكوشة, والعوالم يقرعن الدفوف
من حولي , كنت أرى حبيبي في خيالي
وأرى شفتيه وأغمض عيني لأقنع نفسي أني أزف إليه
وعندما قبلني زوجي لأول مرّة أغمضت عيني لأتخيّـل أنها قبلة حبيبي
لا إنها ليست قبلة حبيبي وأدفن رأسي في الوسادة أبحث عن شفتيه ثم إني لا أطيق أن يقبلني زوجي إلاّ إذا أطفأ النّـور
وأصبحت أعدّ الشهور والسنين مر عام والثاني والثالث والرّابع والخامس لابد أنه عاد
لقد قال إنه سيعود بعد خمس سنوات
هل أتصل به في التليفون
لا لا مستحيل إني إمرأة متزوجة ويكفيني أني أثمت بحق زوجي بخيالي , ولن آثم في حقه أكثر
وصدقني إني من هذا النوع من النساء النوع الذي يطلق خياله, وتقيده الحقيقة
وأصبحت أسير في شوارع القاهرة وأنا أنظر إلى السيارات لعلي أصطدم به
ثم أسافر إلى الإسكندرية وأجلس في نفس المكان من الشاطىء لعله يأتي
ولكنّه لم يأت
وهو في خيالي وشفتاه فوق وسادتي وصوته يملأ أذني
ومرّت إحدى عشرة سنة
ورأيته
رأيته في السينما كان يجلس في بنوار كبيرا" , قويّا" , طويلا" , وشفتاه مقوّستان
كأنهما قوس” مشدود ليطلق ابتسامة
إنه حبيبي
وحبيبي الآن في السادسة والأربعين من عمره شعره أبيض ولكنّه لا يزال حبيبي
وتعلّقت عيناي بشفتيه , وانطلقت مني ابتسامة تسعى إليه وهمست الحمد لله على السلامة
ثم وجدت نفسي أميل إلى زوجي, وأتعلق في ذراعه, كأنّي أحتمي به من خيالي
ثم عدت أزحف إليه بعيني
إنّ معه في البنوار سيدة وصديقا" هل هذه السيدة زوجته أم زوجة صديقه
واعتبرتها زوجته لا أدري لماذا وأحسست بالغيرة غيرة مرّة قاسية كأنّه خانني بزواجه
كأنّه خدعني كـــأنّــــه
إنّي مجنونة
ولكنّي أعيش في هذا الجنون وهو جنون لا يبدو على وجهي, ولا على تصرّفاتي
ولكنّي لا شك مجنونة مجنونة أن أحبّ هذا الحب
ولكنّي لا أستطيع أن أتخلّص من جنوني
لا أريد أن أتخلّص من جنوني
لا أريد أن أتخلّص منه
إنّي أعيش به
ومضت خمسة أعوام
ومات زوجي!
وبكيت عليه بكيت عليه كثيرا" ولكن خيالي كان لا يتخلى عني أثناء بكائي إنّي الآن حــرة
إنّي أستطيع أن أتّصل بحبيبي وكان خيالي هذا يراودني وأنا في ليالي المأتم, فأخجل من نفسي
واشتد في بكائي كأني أستسمح زوجي وانقضت أيام البكاء
ومضت شهور” طويلة وأنا أروح وأغدو أمام التليفون ثم تجرّأت ورفعت السماعة وطلبت رقم حبيبي
_ البيه موجود ؟!
ورد الخادم كأنّه يستنكر السّؤال:
_ البيه في باريس
وشهقت
ثم تردّدت وأنا أسأل في خجل :
_ والهانم؟
وقال الخادم وهو أشدّ عجبا" :
_ ما فيش هانم هنة البيه مالوش هانم !
وفرحت
أحسست أنه لا يزال مخلصا" لي
وعشت مخلصة له رفضت أن أتزوج
ومرّ عامان عامان ليس لي فيهما إلاّ خيالي وشفتاه فوق وسادتي, وصوته يملأ أذني, وشعره الأبيض
يطوف حولي كأجنحة الملائكة
وكنت في زيارة إحدى صديقاتي في مستشفى الدكتور الكاتب وسمعت من الحاضرات أن عادل رؤوف
يقيم في الغرفة المجاورة وأنه أجرى عملية جراحية
ولا أدري ماذا حدث لي
قمت فجأة واتّجهت إلى غرفة عادل ودخلت إليه
كان وحده راقدا" في سريره مغمض العينين ولم يحس بدخولي
وقفت بجانب فراشه مشدوهة أنظر إليه كأنّي أشرب من وجهه ثم تعلقت عيناي بشفتيه
ثم فجأة انحنيت وألقيت شفتي فوق شفتيه وقبّلتـــــه
بعد هذا العمر الطويل
ولا أريد أن أرفع شفتي عن شفتيه
وفتح عينيه في هدوء وإعياء , ونظر إليّ في تساؤل مريح, وشفتاه تطلقان على ابتسامته الحلوة
وامتلأت بالخجل , وأرخيت عينيّ عنه وقلت في سذاجة :
_ أنا فايزة ؟!
ولم يردد
ووقفت مرتبكة ثم استدرت لأنصرف ولكنه أمسك بيدي, وشدّني إليه وقال:
_ أنا حاسس إننا نعرف بعض
ثم اتّسعت عيناه, وشب بقامته في فراشه وقال في فرح:
_ مؤكد إننا نعرف بعض
وسقط جالسة على حفّة فراشه وأنا اتنهّد وقلبي يخفق يدق يكاد يفـرّ بين ضلوعي
لقد وصلت إليه
ورويت له قصتي في حديث لم ينته ولن ينتهي
لقــد تزوجنا
ولعلك الآن لا تلومني لأني تزوجت رجلا" عجوزا".
( aJJJtJJJjJJJJJJJJJJJJJJJJJJJJhi )