صناعة الفكر
في هذه الأيام التي لا نزال نتلمس فـيـهـا طـريق النهضة وطريق التغيير ، نحن بحاجة إلى مفكرين (فقهاء) وبالمعنى العام لكلمة (فقه) وهـي : الفهم العميق للإسلام ، كما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس »اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل«.
نحن بحاجة إلى فقهاء علماء يعرفون سنن التغـيـيـر وأمـراضـنـا الاجتماعية وواقعنا وواقع غيرنا تمام المعرفة ، وما هي الخطوات المرحلية التي يجب أن نبدأ بها ، وإذا كان الغرب يـنـتـقل إلى الهم الاقتصادي والثورة (التقنية) فإننا في بلاد المسلمين لازلـنـا بـحـاجـة إلـى التخـطـيـط الـفـكـــري ؛ فإن هذه البضاعة لا تزال عزيزة ، وإذا وجدت فإنها بضاعة غير رائجة ، فلا تزال المنزلة الأولى للخطيب والواعظ ، وصاحب الحديث الجذاب والبلاغة الأدبية، ولا تزال المجلة الفكرية،والمحاضرة الفكرية ثقيلتي الظل على السامع أو القارئ المسلم بشكل عام، وإذا حـدث ودعــي مـفـكـــر لندوة أو محاضرة فهي من باب (التملح) أو لكسر الروتين السائد، إن مشكلة (المسلم) لا تحل إلا بتحديدها تحديداً دقيقاً، والتفكير فيها، وهذا لا يؤتاه إلا (أولو الألباب) وعندمـــا ذكر القرآن الكريم أن عشرين من المؤمنين. يغلبون مائتين من الذين كفروا قال : ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)).
ولذلك قال عبد الله بن مسعود يـصـف بـعـض المظاهر في آخر الزمان : »يكثر الخطباء ويقل الفقهاء«.
عندما كان العلماء الفقهاء هم الموجـهــون أو هم الحكام كانت الأمور تسير سيراً صحيحاً ، وعندما انفصلت السياسة عن الفكر أصيبت بالانحراف ثم بالتدمير ، وفي دول الغرب الآن نجد أن السر في قوتها »هو تـكـامـل الفكر والسياسة ، واعتماد رجال التخطيط والتنفيذ في دوائر السياسة والإدارة على ما يقدمه رجال الفكر العاملون في مراكز البحوث والدراسات خـلال الـلـقــاءات الــدوريــــة التي تجمع بين الفريقين لمناقشة وتقويم القضايا الداخلية والخارجية ، ففي بلد كالولايات المتحدة هناك حوالي تسعة الآف مركز بحوث ودراسات متخصصة في بحث شؤون السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة والتربية.«(1).
لا شك إنهم في الغرب يـمـارسون هذه الصناعة ويشجعونها ، بل عندهم (بنوك) للأفكار ، فـالــذي يـقــدم فـكــرة جديدة، تخزن حتى تأخذ طريقها للتنفيذ، ونحن لم نمارس هذه الصناعة - إلا في القليل - ، وقد يكون من الأسباب الداعية لذلك ما تعودنا عليه من حب للسهولة ، فلا نريد أن نتعب أنفسنا بالتفكير العميق في مشكلة من المشاكل ، وكيف تحل، وإنما نكتفي بكلام عام وصحيح في نفس الوقت ، كالطبيب الذي يصف لكل مريض أقراص (الأسبرين) ، فلا هي تضره ولا هي تنفعه النفع المطلوب، فأنت تسمع من يقول لك : حل المشكلة في (الرجوع إلى الله) وهذا كلام صحيح ، ولكن كـيـف يكون الرجوع إلى الله؟ كيف تحل العقد الاجتماعية المتشابكة ، كيف نظهر علماء - فقهاء ، كيف نستفيد من الطاقات ونجمعها ونضعها في موضعها الصحيح؟! ، هذا لا جواب عليه!
وسبب آخر قد يكون عائقاً عن وجـــود (أولي الألباب) وصناع الفكر الذين يقدمون الحلول الصحيحة ، ألا وهو التأثر ببعض المنهج الظاهري بين صفوف طلبة العلم ، وأقول : بعض المنهج الظاهري؛ لأن لابن حزم جولات رائعة في فهم الإسلام، ولكن أخذ الجانب الأسهل عـنـده ، فـإن نفي الحكمة والـتـعـلـيل ، وبالتالي نفي القياس يُضعف الجانب الاستنباطي الاجتهادي.
إننا مطالبون بالتفكير كما جاء في القرآن الكريم: ((وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) [النحل:44].
إننا مطالبون بالتفكير في آيات الأنفس والآفاق ، في أسرار التشريع ، وفي سنن التغيير الذي يريده الله سبحانه وتعالى ، وفي منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في (فقه التغيير).
وهذا التفكير يأتي بالتأمل والتعمق في فهم الأمور ، يقول الـشـيـخ الأديب محـمـود محمد شاكر:
»فإن العقل هبة الله لكل حي ، ولكن أساليب تفكيره كسب يكتسبه من معالجة الـنـظـــر ، ومـن الـتـربـيـة ومن التعليم ، ومن الثقافة ، ومن الآف التجارب التي يحياها المرء في هذه الحياة(2).
وأخيراً فإننا نتمنى أن يزداد عدد الفقهاء الحكماء ليقودوا الأمة، فإنهم هم المؤهلون لهذا، وعند فقدهم يسود الأغرار ، وتسود لغة العاطفة التي لا تغني عن الحق شيئاً«.
الهوامش :
1 - ماجد عرسان الكيلاني / هكذا عادت القدس / 282.
2 - مقدمة لكتاب الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي / 9.
wkhum hgt;v