أنا ووحدتي
خرس الجرس ، وانقطعت الأرجل ، وكل شغلته مشاغله ، وبقيت وحدي تؤنسني وحدتي ، نصحو وننام معا ، نأكل طعاما دون طعم معا ، نقرأ معا ، نشاهد أخبار الطحن والقتل والظلم والجوع والألم معا ، ندعو الله معا ، ونبكي معا .حتى عندما أذهب إلى عملي نكون معا .
اتصلت بي أختي تدعوني للحضور ، فقد تعرفت على جارة سكنت جوارها مؤخرا وستقوم بزيارتها . اختلقتُ عذرا من هنا وعذرا من هنا أيضا - لأن هناك بعيدة لا طاقة لي للحصول عليها – لكنها أصرت وسترسل السائق ليأخذني .
قلت لها : بل أرسليه ليسحبني يا أختي ، فكيف لي أن أخرج للزيارات وأن أجبرني على الحديث والضحك والمجاملات .
أجابت : حرام عليك ما تفعلينه يا أختي ! الحياة لا تنتهي بموت أحد ، فهي مستمرة رغما عني وعنك !
قلت : لا أستطيع ، لقد ماتت أمي ، وقبلها بسنوات مات أبي ! هذا يعني أن الشمس ماتت والأقمار ! فأين الراحة بعدهما والقرار ؟ أين الليل والنهار ؟ وأين الربيع الذي تتحدثين عنه والاخضرار ؟ أين الحروف والكلمات ؟ أين المترادفات والمتعاكسات؟
لم يبق في حياتي يا أختي سوى وحدتي وعلامات تعجب واستفهام !
لبست ُمجبرة ، ورسمت خطا بالقلم الأسود داخل عيني ، ولونا زهريا لامعا على شفتي . تأملتـُني في المرآة فراق لي منظري العام !
كم أنا مسكينة ! بعض ألوان على وجهي غيرت مزاجي ؟ غريب ! هل هناك جمال في الحياة بعد وفاة أمي ؟
استقبلتني أختي بحرارة أحسست بدفئها .
قالت : أخيرا خرجت وهجرت وحدتك ؟
قلت : لا ، لم أهجرها فهي معي .
فظنت أني أمزح ، وقالت : لقد كدت أن أنسى شخصيتك المرحة وضحكتك البريئة وابتسامتك الدافئة .
قلت : الضحك سعادة ، وكل ما حولي مرٌّ وبشع .
قالت : إنك عنيدة ! لوعشت معي أو مع أخينا بعد وفاة أمنا ، أليس أفضل من بقائك وحدك ؟
حضرت الضيفتان ، جارة أختي ومعها أختها .
سلمتُ وجلست ، فإذا بالضيفتين تتهامسان وتنظران إليّ . ارتبكتُ لحظة ، وقبل أن أخوض في أفكار سوداء وأندم على المجيء
سألتني الجارة : ألست المعلمة إيناس ؟
قلت : نعم ، أنا هي .
صرختا معا : غير معقول !
تعجبت وأختي : وما هو غير المعقول ؟
قالت الجارة : ألا تذكريننا يا معلمتنا ؟ لقد درستـِنا في المرحلة الابتدائية ! أنا سارة وهذه أختي نهال !
تأملتهما لحظة ، ثم قلت : نعم نعم . لقد تذكرتكما جيدا وهل يـُنسى المتميز ؟
قالت نهال : وقد كنت ِالمعلمة الأروع ، ولم ننسكِ أبدا !
أشرقت روحي وجرت دماءٌ فـَرِحةٌ في عروقي وربما لمعت عيناي كما كانتا تفعلان عندما أفرح كثيرا .
طابت الجلسة ، وتحدثنا في ذكريات كثيرة ، ذكـّرتاني بالتمثيل والنشيد
والمسابقات . أخبرتاني أنني سبب في حب إحداهما للغة العربية فكانت دراستها في الجامعة ، والثانية لم تبتعد كثيرا فهي تدرس الإعلام .
عدت للبيت ، فوجدته مشرقا ، الأشياء فيه كلها تبتسم ، حتى الطفل الحزين في صورته على الجدار ابتسم !
آه ! أين وحدتي ؟ حتى أنت سعيدة ؟
عاد النبض لحياتي من جديد ، فرأيت الشمس والقمر ، رأيت الخير، رأيت الناس بل استطعت أن أرى داخلهم النقيّ !
ورأيتني أخيرا عروسا تجاوزت الثلاثين ولكنني جميلة ، أمسك بيد زوجي الطيب الوسيم ، وحولنا ابنتاه سارة ونهال ، والصالة ممتلئة بالأحباب ، والزغاريد تصدح من هنا وهناك – نعم ، من هناك أيضا – .
أما وحدتي ، فكنت أبحث عنها بين الحين والحين لتعينني على صلاة ودعاء وقراءة وفكرة .