الاحتقان الطائفي ونظرية التمدد
يعج العالم بأديان ومعتقدات كثيرة جداً وما زالت تتوالد معتقدات ومذاهب جديدة كل يوم. ومن الدين الواحد ولدت عشرات الطوائف والمذاهب، ومن المذهب الواحد تفرعت عشرات الأفكار والمدارس الفكرية حتى بات من الجائز القول أن كل إنسان على كوكب الأرض يمثل مدرسة فكرية مستقلة بذاتها.
كيف لا؟ والإنسان الواحد الذي ينتمي لطائفة بعينها يختلف بالتمام عن الآخر الذي ينتمي لنفس الطائفة. وهل يستطيع أحدهم أن يأتي بمتشابهين أثنين من بني البشر كلا لا يوجد ولن يوجد. وهل ينكر أحد أن الاختلافات بين البشر لا تعد ولا تحصى في الشكل، اللون، الوزن، الحجم، طريقة التفكير، المشاعر، قوى العقل وقامات الأيمان ومستويات إدراك الغيبيات، وغيرها
فهل ظاهرة التوالد الطائفي أو المذهبي ظاهرة طبيعية مثلها مثل أية ظاهرة طبيعية أخرى؟ إن كانت الإجابة نعم، فلماذا نجد إذن من دراسة التاريخ والواقع أن كل هذه الملل والنحل تتناحر عقائدياً وفقهياً فيما بينها، وغالباً ما تكون في حالة احتقان، وفي اغلب الأحيان في حالة قتال؟
في الحقيقة أن التوالد وإن شئت التمدد الطائفي هو ظاهرة طبيعية جداً بل وضرورية من أجل بقاء الإنسان على هذا الكوب في حالة توازن فكري ونمو عقلي صحي وسليم. ولذلك فمن الضروري أن نفكر في البقاء على الظاهرة في حالة طبيعية وفي الوقت نفسه نبحث عن سبل منع التناحر بين الأديان والطوائف المختلفة وأن نجعل هذه الاختلافات الطبيعية تصب في مصلحة الإنسان؟ كيف يمكن تحقيق ذلك؟ الإجابة نجدها في علم الفيزياء.
فيزيقياَ فإن معظم الأجسام تتمدد عندما تزداد درجة حرارتها وتنكمش عندما تقل. ولذلك تترك مسافات بين الوصلات الحديدية في المباني، والكباري، وقضبان السكك الحديدية، لتسمح بالتمدد والانكماش. وإذا لم يتم فعل ذلك يمكن أن يتصدع المبنى وتنهار الكباري، وتلتوي قضبان السكك الحديدية بفعل التغيرات الحرارية للمواد المصنوعة منها.
نفس الشيء ينطبق على الأديان والطوائف. فالطائفة يمكن أن تتأثر من الناحية العقائدية نتيجة بعض التفاعلات الفكرية الداخلية أو نتيجة لوقوعها تحت تأثير بعض المؤثرات الخارجية المتمثلة في سلطة الحاكم أو سلطة الشعب أو كلاهما. في هذه الحالة فالطائفة يمكن أن تتمدد وهو ما يمكن أن نسميه "الصحوة" أو تنكمش وهو ما يطلق عليه "الردة" طبقاَ لاتجاهات قوى التأثير. فإذا كان الاتجاه مع ثوابت المذهب حدث التمدد وإذا كان الاتجاه ضده حدثت الردة.
فإذا تمددت طائفتان ولم تكن بينهما مسافة مناسبة تسمح بتمددهما فإنهما حتماً سيدخلان في حالة تناحر وصراع لأن كل منهما في احتياج إلى مسافات ومساحات تسمح له بالتمدد الطبيعي. في هذه الحالة سيحدث اعتداء عقائدي من قبل طائفة على حدود الطائفة المجاورة.
كيف يمكن إذن للمجتمع الواحد متعدد الثقافات والأديان أن يصل إلى حالة التوازن والاتزان التي تضمن لكل أفراد الطوائف مجتمعة العيش في أمن وسعادة وسلام؟
الإجابة بسيطة وتتمثل في ضرورة الحفاظ على مساحات مشتركة بين الطوائف تسمح لها بالتمدد بدون الاعتداء على الحدود العقائدية للطوائف الأخرى. هذه المساحات الحقوقية لن توفرها إلا الدساتير المدنية العصرية غير الدينية. وبقدر ما كانت البلاد تتمتع بدساتير مدنية راقية تضمن حقوق الجميع في التمدد الطبيعي أو الانكماش الطبيعي بقدر ما تتلاشى مظاهر الاحتقان الطائفي من المجتمع ككل وبقدر ما تتوافر مساحات من الاحترام المتبادل تسمح بالتمتع بنفس الحقوق والحرية والمساواة بقدر ما يصل المجتمع إلى حالة الاستقرار الاجتماعي والسلم والرخاء.
إن عدم مراعاة شروط وقواعد نظرية التمدد الطبيعي من قبل طائفة ما يسبب ضرراً بالغا لها. إذ ستدخل عندئذٍ في حرب مع قوانين الطبيعة ذاتها الأمر الذي سوف يؤدي إلى حدوث تشوهات في الهيكل العقائدي لها ربما تفقد بسببها ملامحها الطبيعية الأصيلة وتتحول إلى كائن آخر قبيح مضغوط بلا ملامح وبلا خواص فيصير غريباً.
hghpjrhk hg'hztd ,k/vdm hgjl]]