إلى من يعنيه أمر الإسلام
المتابع لما يدور فى الغرب المسيحى المتعصب فى حق الإسلام والمسلمين لابد وأن يصاب بالفزع والإشمئزاز فى آن واحد الفزع من أن هؤلاء القوم : يخططون وينفّذون ، أى أنهم لا يتحدثون جذافاً ، وإنما يعنون ما يقولونه ، أياً كان الثمن وأياً كانت الوسيلة وبصرف النظر عن الوقت الذى تستغرقه عملية التنفيذ هذه ؛ والإشمئزاز يـأتى من كمّ المغالطات والأكاذيب التى يختلقونها من أجل تنفيذ مآربهم .
وما يدور فى كواليس السياسة وفى أروقتها لم يعد من الأسرار والطلاسم فى كثير من مجرياتها ، فقد باتوا يتناولون الأحداث والأهداف والمشاريع لا فى الوثائق السرية فحسب ، وإنما فى مختلف نوعيات الإعلام المتخصصة وغيرالمتخصصة ، بل إن التعليق عليها سواء من الموالين أو من الذين ينتقدون ويحذّرون بات أيضا فى متناول اليد لمن يود متابعة ما يدور سراً أو فى العلن من هذه الأحداث
فمنذ أواخر 2010 والملاحظ أن العالم الإسلامى ينتفض ، وفى 2011 وصل إلى مرحلة الغليان وعرف إنقلابات باغتت دبلوماسيات مختلف القارات ، أو على الأقل ، ذلك هو ما تم الإعلان عنه. وهزت هذه المظاهرات الجماهيرية البنيات المتوارثة منذ الحرب العالمية الثانية أو نهاية الإستعمار، الذى لم ينته إلا شكلا إذ تواصل بفضل الأنظمة التى غرسها قبل رحيله وارتفعت الأصوات مطالبة بالتغيير الجذرى ومحاربة الفساد ، والمطالبة بإقامة الديمقراطية ، والدولة المدنية أو المجتمع المدنى .
ولو تركنا هذه المطالب جانبا وحاولنا ربطها بالنظام العالمى الجديد ، الذى أصبح يحتل خلفية التحركات السياسية على الساحة الدولية ، والذى هو فى واقع الأمر ليس مجرد أيديولوجية سياسية وإنما هو عقيدة إيمانية ، ونظرنا إلى ما يتطلعون إليه لربما فهمنا حقائق أخرى غير تلك التى بهرتنا. فما يسعون إليه هو إختلاق تكتلات أوروبية وإفريقية وأمريكية ، فى الشمال وفى الجنوب . تكتلات متحدة سياسيا ، تديرها قوانين مشتركة ، ومجمل هذه التكتلات عليها تكوين البنية العامة لإدارة عالمية . أى أن تكون إدارة غير متنافرة ومتنقلة. وقد بدأ هذا الخط السياسى يتبلور مع إنشاء جمعية برلمانية عالمية فى قلب هيئة الأمم المتحدة برئاسة الألمانى أندرياس بومّل (َA. Bummel).
وعلى صعيد آخر، من الملاحظ أن البنك الدولى يقوم فعلا بالإعداد لعملة عالمية يديرها بنك مركزى عالمى. وذلك يعنى التخلى عن الدولار والقيام بإصلاح شامل للنظام المالى العالمى ومثل هذا الإجراء لا يمكن القيام به إلا بتنميط عقول مختلف الشعوب ، وجعلها تتقبل ما يحاك. ويقول بيير هيلار ، المؤرخ وأستاذ العلوم السياسية فى باريس والمتخصص فى الشؤون الأوروبية-العربية : "إن الإسلام لا يندرج فى هذا النظام الذى يتعارض معه أساساً لأنه يدمج الدين والدنيا فى نسيج واحد ، أما البلدان المسيحية فهى قائمة على فصل الدين عن الدنيا. إن الإسلام عبارة عن إيمان وقانون فى آن واحد ، لذلك لم يمكن إقامة المجتمع المدنى أبدا فى البلدان الإسلامية " وهو الذى كان قد قال أيضا فى مقال آخر : "إن الإسلام هو العقبة الوحيدة فى مواجهة النظام العالمى الجديد" !
ولو استعرضنا الأحداث على صعيد آخر، منذ سقوط حائط برلين وتكوين الإتحاد الأوروبى ، ثم الإتحاد الأوسطى ، لإحياء فكرة الإمبراطورية الرومانية القديمة وسيطرتها على بلدان البحر الأبيض المتوسط ، تنفيذا لبرنامج "السياسة الأوروبية للجوار" ، للفت نظرنا فقرة فى نصوص هذا البرنامج تقول : "إن المفهوم الأساسى للسياسة الأوروبية للجوار قائم على فكرة حلقة من البلدان ، تتقاسم القيم والأهداف الأساسية للإتحاد الأوروبى وتلتزم بعلاقة متزايدة التقارب ، بل هى أبعد بكثير من مجرد التعاون ، أنها علاقة تتضمن مستوى من الإندماج الإقتصادى والسياسى الهام " أى إن المطلوب من دول الجوار ، وأكثرها دول إسلامية ، أن تدخل فى علاقة إندماج إقتصادى وسياسى قائم على فصل الدين عن الدولة مثلما هو حادث فى الغرب .
وعملية تفتيت العالم الإسلامى من المغرب إلى أفغانستان ، والعمل على تفتيته حضارياً فى نفس الوقت ، لم يعد خافيا على أحد . والمتابع لأحداث اللقاءات الغربية ومنها اللقاء رقم 40 الذى تم فى ميونخ حول السياسة الأمنية برئاسة حلف الأطلنطى ، قد تم تقديم برنامج لتطبيقه على البلدان الإسلامية بالتعاون مع الولايات المتحدة يقوم على ضرورة إتباع إسترتيجية مشتركة أوروبية أمريكية فى نقطتين :
* الإعلان عن برنامج أوسطى مشترك بين حلف الأطلنطى والإتحاد الأوروبى ؛
* الإعلان عن بيان "من أجل مستقبل مشترك لكل بلدان الشرق الأوسط والأدنى بخلاف إقامة إصلاحات تمس المجال السياسى والإقتصادى والعسكرى على غرار بلدان الكتلة اليورو أطلسية " ، كما إقترح الوزير الألمانى : "إعادة تشكيل كامل للنظام القانونى والتعليمى والإجتماعى وإنشاء جمعيات غير حكومية وتطوير المجتمع المدنى وتدعيم حقوق الإنسان والمساواة التامة بين الرجل والمرأة خاصة فى كل العالم الإسلامى. وكل هذه الإجراءات ستسمح بسهولة إندماج إقتصادهم ، فالفكرة ككل قائمة على الإقناع بأن تحديث الشرق الأوسط الموسع ستكون حاسمة بالنسبة لأمْننا المشترك فى القرن الواحد والعشرين. ومن مصلحتنا الكبرى إشراك شعوب الشرق الأدنى والأوسط فى نظام العولمة "
وهذه الإجراءات الثورية الرامية إلى تذويب بلدان العالم الإسلامى فى مبادئ المشروع الأوروبى الأطلسى والعالمية المبتغاة تم إعتمادها عند توقيع إتفاقية "التحالف الألمانى-الأمريكى من أجل القرن الواحد والعشرين" يوم 27 فبراير 2004 ، فى واشنطن ، بين كل من الرئيس الألمانى شرودر والرئيس الأمريكى بوش . وقد تضمن الإتفاق فقرة تقول بوضوح : "علينا أن نبنى شراكة حقيقية تربط أوروبا وأمريكا ببلدان الشرق الأوسط والأدنى حتى نعمل معاً ، مع بلدان وشعوب هذه المنطقة ، فى إطار يسمح بالتوصل إلى الأهداف المحددة وأن نعيش بسلام جنبا إلى جنب"
أى إن تغيير وإعداد البلدان العربية والإسلامية للإندماج فى ترتيبات العولمة ، إعتمادا على التلاعب بالدين ، لم تعد سرية ، خاصة وإن تلك العبارات تتفق تماما ورؤية جورج بوش للشرق الأوسط الكبير الذى أصبح إسمه فى النصوص المتداولة "الشرق الأوسط الجديد" منذ 2006 ! وكأن التغيير أمر قد تم حسمه ويتم التنفيذ الفعلى منذ ذلك التاريخ
ويوضح بيير هيلار فى مقال حول "النظام العالمى الجديد والإسلام" أن مؤسسة بتلسمان "تتولى أمر هذا المشروع بإتباع سياسة بوجهين تجاه إسرائيل والعالم الإسلامى . فالجزء الأول يتم فى إطار الحوار الألمانى-اليهودى ، لإدخال إسرائيل فى البنية السياسية والإقتصادية والعسكرية الأورو-أطلسية . وبالتالى مطلوب من إسرائيل تكوين دعامة لليهودية تكون على صلة وطيدة بالدعامتين الصهيونيتين فى كل من أوروبا وأمريكا" . ويوضح هيلار أن المرحلة الثانية لا يمكن لهذه السياسة أن تتحقق إلا شريطة النجاح فى إعادة ترتيب العالم الإسلامى وفقا لهذا البناء الجغرافى-السياسى . وهو كل ما تدور حوله "حوارات كرونبرج" التى تسمح منذ سنة 1995 بمناقشات بين أوروبيين-وأمريكيين ونخب مسلمة ، من أجل إقناع هذه النخب بتبنى المبادئ السياسية-الفلسفية للأوروبيين الأطلسيين فى البنيات الداخلية لبلدان شمال إفريقيا والشرق الأدنى . وهو ما يؤكد "أن هذه المناقشات تتعثر دائما بسبب تداخل الدين والدنيا التى يتميّز بها الإسلام "
وفى يونيو 2006 تم نشر مقال بعنوان "حدودٌ من دم" ،فى مجلة القوات المسلحة الأمريكية ، بقلم رالف پيترز ، وقد عرض خريطة تعيد تشكيل الشرق الأدنى وفقا لمعايير عرقية ودينية . وهى خريطة يتم فيها تغيير كل حدود هذه البلدان . و التقسيمة قائمة على نظرية "صراع الحضارات" ، فالمقصود هو بَلقنة العالم الإسلامى . أى تطبيق ما حدث فى بلاد البلقان وتقسيمها إلى بلدان بترولية صغيرة يمكن السيطرة عليها بطريقة أكثر سهولة إضافة إلى الإستعانة بنظام فرّق لتسُد بطريقة أفضل ! ومما لا شك فيه ، بخلاف الإطار العام الخارجى السياسى-الإقتصادى للنظام العالمى الجديد ، فإن عقيدته الأساس تطعن فى صميم قلب العالم الإسلامى ، فى محاولة مستميتة لتفتيت الإسلام ، وإقتلاع كل ما لا يتمشى فيه مع منظومة ذلك النظام .
وهنا لا يسعنى إلا نقل فقرة من مقال رالف پيترز ، علّها تلهم القيادات الإسلامية التصرف السليم دفاعا عن الدين :
" إن السبب الأساسى للركود الواضح للعالم الإسلامى يكمن فى نظرته لكل من مكة والمدينة ، اللتان تعتبران ملكية إقطاعية بسبب عائلة آل سعود . إن الأماكن المقدسة للإسلام خاضعة لرقابة بوليس الدولة التابع لواحد من أقدم وأكثر الأنظمة القمعية فى العالم التى سمحت لآل سعود بنشر مذهبهم الوهابى غير المتسامح الخاضع للنظام (.) ، تصوروا كم سيشعر العالم الإسلامى بالسعادة لو كانت مكة والمدينة خاضعة للإدارة يقودها مجلس ممثل متناوب ، مختار من أهم المذاهب والحركات الإسلامية فى العالم داخل دولة مقدسة إسلامية ، نوع من السوپر فاتيكان إسلامى ، حيث يمكن مناقشة ذلك الدين بدلا من تثبيته بهذا الشكل العشوائى ".
وأيا كانت الأحاديث والمجالات أو حتى آراءهم فإن المطلوب هو تحريف الإسلام من أجل المصالح الغربية الإحتكارية . فالحديث عن إدماج العالم الإسلامى للمحور الأوروبى-الأطلسى ومبادئ النظام العالمى الجديد يعنى أن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا لو تم تغيير مرجعيات الإسلام الدينية وتغيير المرجعيات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والنفسية. لذلك يؤكد پيير هيلار على "أن عقيدة العولمة ترغب فى فرض بصمتها التى تسمح بإقامة دين عالمى : خلق دولة مقدسة للإسلام ، ومجلس ممثل متناوب ، بغية تعديل الدين نفسه من الداخل ، وهو ما يعنى إنشاء "فاتيكان 2" للإسلام "
ولمن لا يعرف ما الذى أحدثه "المجمع المسكونى الفاتيكان الثانى" (1962-1965) والذى يختصرونه فى عبارة "فاتيكان 2" بالكنيسة الكاثوليكية ، نوضّح : أنه فُرض عليها الخروج عن مبادئ دينها الذى ظلت تفرضه لمدة الفى عام تقريبا ، وفرض عليها تحديث الدين ليتمشى مع متطلبات السياسة الصهيو-أمريكية . ويتلخص الوضع فى عبارة "أدچورنامنتو" (aggiornamento) التى تعنى "التحديث". فهذه العبارة تم إستخدامها أثناء إنعقاد المؤتمر للتأكيد على رضوخ الكنيسة وتبنيها سياسة التأقلم مع التقدم والمتغيرات التاريخية والإجتماعية لكى تتأقلم مع متطلبات النظام العالمى الجديد. وما أصاب الكنيسة الكاثوليكية ، ويعتبرونها الكنيسة الأم من حيث المكانة والتعداد ، هو قبولها تغيير الدين والإنفتاح وقبول أفكار العصر الحديث التى تتسم بالليبرالية ، وتغيير نظام القداس ، وإلغاء اللغة اللاتينية ، ومنع قراءة العهد القديم ، وإتخاذ تدابير تسمح بالإنفتاح على العالم وحرية العقيدة ، كما ترمى هذه العبارة إلى تحديث المعلومات الواردة فى الأناجيل من وجهة النظر الدينية والفكرية والسياسية لتكون أكثر مواءمة مع تطورات العصر الحديث ، وعدم مركزية إدارة الفاتيكان . أى بعد أن كان البابا يعرف على أنه "مندوب الرب فى الأرض" تمت إحاطته بفريق من الأساقفة ليتشاوروا ويبرروا ما يقدمونه من تنازلات
وإن كانت بعض هذه المطالب لا تضير نصوص تمت صياغتها وتبديلها عبر المجامع على مر العصور ، فمثل هذا الموقف مرفوض تماما فى حق الإسلام والقرآن الكريم الذى أنزله المولى سبحانه وتعالى ووعد بحفظه إلى يوم الدين .
إن مبادئ الكنيسة الكاثوليكية كانت لا تتمشى مع مفهوم العولمة وكان لابد لهم من عمل تحديث جذرى متكامل خلال "فاتيكان 2 " ، ليسمح لهم بإخضاع العقيدة الكاثوليكية لمفهوم العولمة . وهو ما يقال بلغة السياسة أنه تم إختراق الفاتيكان قبل إنعقاد المجمع . فقد تم تأكيد ذلك بلا مواربة حين أعلن البابا يوحنا الثالث والعشرين ، موضحا فى خطابه الرسولى المعنون "السلام فى الأرض" (1963) ، أى أثناء إنعقاد المجمع ، مشيرا إلى ضرورة سلطة عليا أو عالمية ، لا تقام بالقوة لكنها تسمح باستتباب منظمة قانونية-سياسية للبشرية جمعاء"
ونفس هذا التأكيد تبناه البابا الحالى بنديكت 16 ، الذى لم يتردد فى "دعوة الإنسانية لتتضافر لإقامة نظام عالمى جديد" فى الرسالة التى وجهها فى عيد الميلاد سنة 2005 وقد جدد نداءه هذا فى خطابه الرسولى "الحقيقة فى المحبة" سنة 2009 ، مشيرا إلى : "ضرورة خلق سلطة سياسية عالمية مرتبطة بهيئة الأمم" . وهنا يوضح پيير هيلار ، فى مقاله المنشور يوم 28 مارس 2011 ، "وهذه هى نفس الخطوة التى تنتظر البلدان الإسلامية إذا نجح المشروع الرامى إلى تفتيت هذه المنطقة جغرافيا من المغرب إلى أفغانستان"
ولا ينكر هيلار أن سياسة فرّق تسد "عليها زيادة إشعال النزاع بين السُنة والشيعة ، وبين المسلمين والمسيحيين ، لتؤدى إلى مواجهة عنيفة مع الصهيونية. ومن خلال مثل هذا الصراع سيخرج "إسلام عصر التنوير" نظريا ، من الخراب الذى ولّدته عقيدة العولمة ، لكى تدمجها فى عقائد الإدارة العالمية وأخيراً ، فقد دوّت ساعة الحق لأصحاب هذه المأساة ذات العواقب السياسية والإقتصادية والبشرية التى لا يمكن حصرها" وساعة الحق هنا مقصود بها ساعة الإنتقام من الإسلام والمسلمين !
ترى هل هناك كلاماً أكثر وضوحاً لما نحن مساقون إليه ؟
إلى متى سنظل نخضع ونرضخ ولا نصدّ هجمات الغرب المسيحى المتعصب وندافع عن ديننا وكياننا ؟
ليت أمة محمد ، عليه الصلاة والسلام، تفيق من مواكبتها ومجاملتها لذلك الغرب الظالم ، الذى لا يهدف إلا إلى إقتلاع الإسلام، بأيدى بعض المسلمين المنساقون فى ركابه ، ليفرضوا علينا "سوپر فاتيكان إسلامى " !
Ygn lk dukdi Hlv hgYsghl