الحمد لله الذي أنعم علينا ببلوغ هذا الشهر الكريم، نحمده سبحانه وتعالى على آلائه العظيمة، ومننه الكبرى، وكرمه البيّن، سبحانه وتعالى ما أكرمه! وما أعظمه! لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
أيها المسلمون: هذه نعم الله تتجدد بمرور أيام رمضان، وهذه آلاؤه تتوالى علينا بتوالي ليالي هذا الشهر الفضيل، وما عشنا من يوم زيادة في هذا في رمضان فهو من الله، وما بلغنا زيادة في هذا الشهر فهو منّة من الله، فإن من عباد الله من أوقفه انتهاء أجله عن إكمال هذا الشهر الكريم، إن من الناس من أوقفته المنيّة عن الاستمرار في هذا الشهر المبارك، فلله الحمد على هذه النعمة.
أيها المسلمون: إن معرفة نعمة الله علينا في هذا الشهر هي التي يجدد النشاط في النفس، وتبعث العزيمة على الاستمرارية في العبادة والوفاء بعهد الله الذي عاهدنا عليه، عهد الله علينا أن نعبده لا شريك به شيئاً، وعهد الله علينا أن نعبده دائماً وأبداً، لا نتوقف عن عبادته في زمن ونعبده في زمن، وإنما مشوار الحياة كلها عبادة لله رب العالمين، (قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَـالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162-163].
أيها المسلمون: فيما يلي تنبيهات على أمور تتعلق بهذا الشهر الكريم، نحن الآن على مقربة من نهاية الثلث الأول، وقد أنهينا ثلث رمضان، فلا بد من حساب، كيف مضت أيام الشهر الماضية؟ وكيف انقضت لياليه، ذهب الثلُثُ، والثلث كثير! فماذا فعلنا وقدمنا فيما مضى؟ وهل من عملية تحسين ومضاعفة وازدياد في العبادة فيما سيأتي؟.
أيها الناس: إننا نشعر بنوع من نقص العبادة ونوع من التكاسل والفتور في وسط رمضان، هذا شيء ملاحظ، فإن الناس في العادة ينشطون في أيام رمضان الأولى لما يحسّون من التغيير، وما يجدون من لذة العبادة؛ نتيجة الشعور بالتجديد في أول الشهر، ثم ما يلبث هذا الشعور أن يبدأ في الاضمحلال، ويصبح الأمر نوعاً من الرتابة في العشر الأواسط، ونلحظ هدأة الرِّجْل على بعض الصلوات في المساجد خلافاً لما كان عليه في أول الشهر، ونلاحظ نوعاً من القلة في قراءة القران في وسط الشهر عما كان عليه في أوله.
ثم تأتي العشر الأواخر بعد ذلك، وما فيها من القيام وليلة القدر لتنبعث بعض الهمم والعزائم مرة أخرى، لكن فكروا معي: هل من الصحيح أن يحدث لدينا نوع من التكاسل ونوع من الفتور في وسط هذا الشهر؟ أم أنه ينبغي علينا استدراك ذلك، وأنْ لا نخسر شيئاً من أيام رمضان، ولا نركن إلى شيء من البرود في أواسط هذا الشهر؟.
ولعل من أسباب هذا أن بعض الناس يحسون بالعبادة في أول الشهر، فإذا مرت عليهم فترة فإن عبادتهم تتحول إلى عادة وشيء رتيب، فما هي السبل لمنع هذا التحول؟ كيف نمنع تحول عبادتنا -عبادة الصيام- إلى عادة؛ كيف نعيد اللذة والحيوية إلى هذه العبادة ونحن في أواسط رمضان؟.
أولاً: ينبغي أن نحقق التعبد في الصيام باستحضار النية أثناء القيام به، وأن العبد يصوم لرب العالمين، النية لابد أن تكون موجودة دائماً، الصيام لله رب العالمين، والهدف من هذا: الامتناع، أي: الامتناع عن الملذات؛ إرضاء رب العالمين، فـ "إنما الأعمال بالنيات".
ثانياً: مما يمنع تحول صيامنا إلى عادة أن نستمر في تذكُّر الأجر في هذا الصيام، وفضيلة العبادة في هذا الشهر الكريم، نتذكر دائماً ونعيد إلى الأذهان حديثه: "مَنْ صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، فما هو الشرط في هذه المغفرة؟ إنه الاحتساب في كل الشهر، ليس في أوّله فقط؛ وإنما الاحتساب شرط لحصول المغفرة، الاحتساب في جميع أيام الشهر، في أوله وفي وسطه وفي آخره، فالمحتسب على الله في الأجر يشعر بكل يوم، وبكل صوم، ويرجع دائماً إلى الله سبحانه وتعالى يطلب المغفرة.
ثالثاً: أن نتمعن في هذا الأجر العظيم الذي يكون بغير اعتبار عدد معين، "كل عمل ابن آدم له، كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".
الصيام سبب لتكفير جميع الذنوب، إلا الكبائر، "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر"؛ لا بد أن لا تغيب هذه الأحاديث عن أذهاننا، ونحن الآن أشرفنا على الثلث الثاني من شهر رمضان، الصيام يشفع لك يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي! منعته الطعام والشهوة، منعته الشهوات في النهار فشفِّعْني فيه. هكذا يقول الصيام يوم القيامة.
رابعاً: فضائل الصيام وأهله كثيرة متعددة، يفرح الصائم بفطره، وعند لقاء ربه، والباب المخصص الذي يدخله الصائمون إلى الجنة، باب الريان، والخلوف الذي هو أطيب عند الله من ريح المسك، وفتح أبواب الجنة، وتغليق أبواب الجحيم، وسَلسلة الشياطين، كل ذلك مما يمنع تحوّل الصيام إلى عادة.
مما يعيد الحيوية إلينا في وسط الشهر هذا أن نعرف حديثه: "إذا كان أول ليلة من رمضان صُفِّدَت الشياطين ومَرَدة الجن، وغلّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ كل ليلة -أول الشهر وأوسط الشهر وآخر الشهر، كل ليلة، في جميع رمضان-: "يا باغي الخير أقْبِلْ! ويا باغي الشر أقْصِرْ!".
ثم انتبهوا -أيها المسلمون- لهذه العبارة العظيمة في هذا الحديث، عبارة حساسة جداً تجعل الصوم عبادة لنا في جميع الشهر، عبارة تمنع من تحوُّلِ صيامنا إلى عادة، عبارة تمنعنا من التكاسل والفتور، قال: "ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة"، فقد تكون أنت عتيق الله من النار في أواسط هذا الشهر، فلماذا الكسل والتواني؟ لابد من الانبعاث وإعادة الهمة.
خامساً: ونتذكر كذلك أن بعض كتب الله العظيمة نزلت في أواسط رمضان، قال: "أُنزل الإنجيل لثلاثَ عشرةَ ليلةً مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمانيَ عشرة ليلة خلَت من رمضان"، فنزول الإنجيل والزبور كانا في الوسط، وسط هذا الشهر الكريم، كما كان نزول صحف إبراهيم -عليه السلام- والتوراة في أول الشهر، ونزول القرآن العظيم في آخر الشهر.
سادساً: من الأسباب التي تمنع تحول هذه العبادة إلى عادة، التأمل فيها، والوقوف على شيء من حكم الله: توحيد المسلمين، المواساة والإحسان، أثر الجوع والعطش، والأمر بضبط النفس. أمور كثيرة.
سابعاً: التفكر في حديثه: "رغِم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له"، مَن أدرك شهر رمضان ولم يغفر له فأدخله الله النار فأُدخل النار، فأبعده الله، قال جبريل لمحمد: قل: آمين. قال محمد: "آمين".
ثامناً: تنويع العبادة في أيام الشهر صيام، قيام، قرآن، إطعام، إنفاق، زكاة وصدقة، وصدقات. وهكذا تتنوع العبادة، فيتجدد النشاط، وتعود الحيوية، فعليكم -يا عبادَ الله- أن لا تفقدوا لَذَّةَ مُناجاتكم وعبادتكم لله في أيِّ جُزْءٍ من هذا الشهر.
وكذلك ينبغي التعبير عن الابتهاج والتذكير في مجامع الناس بعظمة هذا الشهر، وحلاوة أيامه، ولذة عباداته.
تاسعاً: ومن الوسائل، عدُّ كَمْ الذي ذَهَبَ مِنْ الشهر، يرجعك إلى الحقيقة ويبين لك ما بقي، فتشعر بالرغبة في مزيد من الاجتهاد، كم مضى من شهرنا؟ كم ذهب من شهرنا؟ كم ذهب؟ ذهَب الثلُثُ والثلُثُ كثير.
عاشراً: مقارنة الحال بما قبله وما بعده، قارِنْ حالك بما قبل الشهر وبما بعده لتعرف عظمة هذا الشهر، لتعرف قيمة هذا الشهر قبل أن يفوت الأوان، فلا تُفِدك المعرفة.
الحادي عشر: تذكَّرْ طول الوقت الذي سيمُرُّ حتى يأتي شهرُنا مرة أخرى، تذكَّرْ طول الوقت الذي سيمرّ حتى يأتي هذا الشهر مرة أخرى، أشهُرٌ طويلةٌ عديدة مديدة ستبقى حتى يأتي الشهر مرة أخرى، هذا التذكر يبعث إلى ازدياد النشاط، ومضاعفة العبادة، وترك الكسل، ونفض الغبار، والقيام لله رب العالمين.
الثاني عشر: ابتغاءُ وجهِ الله في هذا الصيام، قال: "مَن صام يوماً في سبيل الله -يعني: صابراً ومحتسباً، وقيل في الجهاد- باعَدَ اللهُ بذلك اليوم حَرَّ جهنم عن وجهه سبعين خريفاً"، وقال: "مَن صام يوماً في سبيل الله باعَدَ اللهُ وجهه من جهنم مسيرة مائة عام"، وقال: "مَن صام يوماً في سبيل الله جعَل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض"، وقال: "مَن صام يوماً في سبيل الله زحْزَحَ اللهُ وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفاً".
أيها المسلمون: إِنَّ الاجتماع لقيام الليل لم يُشْرع إلا في رمضان وصلاة التراويح، هذه عبادة جليلة ينبغي أن تعطى حقها، هذا القيام لابد أن يُقَام بحقه، التبكير إلى المساجد، وعدم تضييع صلاة العشاء في الجماعة الأولى، والفرض أهم من النفل.
ثانياً: أن لا تقصد مساجد معينة للصلاة فيها من أجْلِ جمال الصوت فقط وحسن النبرة، وإنما ينبغي أن يكون الالتذاذ بسماع كلام الله وفهمه أعظم من الالتذاذ بسماع صوت القارئ ولحنه، وهذه نقطة مفقودة عند كثير ممن يسعون ويجرون ويتنقلون في المساجد، ونريد من المسلمين أن يعقلوا كلام الله، ولا بأس بأن يقبلوا على صاحب الصوت الحسَن؛ فإن الصوت الحسَن يزيد القرآن حسنه.
ثالثاً: استحضار القلب عند الآيات: الرحمة، العذاب، الثواب، العقاب، القصص، الأمثال، أهوال القيامة، ذكر أسماء الرب وصفاته جل وعلا، فينبغي أن تكون الآذان حاضرة لإيصال هذا إلى القلوب الحاضرة الحية، لينبعث تذكر، ويحدث التفاعل مع سماع هذه الآيات.
ونظرة إلى بعض الناس الذين يخشعون في الدعاء ما لا يخشعون في التلاوة، ولا في سماع كلام الله، أمرٌ عجيب! يتعجب المسلم من حالهم! فينبغي أن يُعرَفَ قدر الكلام، وقدر الكلام بقدر المتكلم، كلام الله لا شيء أعلى منه، كلام الله لا شيء أحلى منه، و كلام الله لا شيء أجل منه، ولا أدعى على التقبل ولا التذكر ولا التأثر ولا الخشوع، لا شيء أدعى من كلام الله.
رابعاً: عدم رفع الصوت بالبكاء والنحيب و الصياح، كان يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء كما تغلي القدر، بهذا الصوت المكتوم كان يبكي في صلاته. فالإخلاص في كتم البكاء والصياح وعدم الزعيق ورفع الصوت، بكاء القلب أهم.
كان بكاء السلف في الصلاة نشيجاً ودموعاً تسيل، وربما يبكي أحدهم تسيل دموعه ولا يشعر من بجانبه، هذا هو الإخلاص، لا صياحاً ولا صراخاً، عليك بالتأثر الذي لا يشعر به الناس.
أيها المسلمون: السحور عبادة جليلة يغفل عنها الكثيرون، وينامون عنها وعن صلاة الفجر! ومع الأسف! نجد قلة عن المتوقع في صلاة الفجر في رمضان، والسبب عدم الاستيقاظ للسحور، السحور بركة، كما قال: "عليكم بهذا السحور؛ فإنه هو الغداء المبارك، هلم إلى الغداء المبارك" -يعني السحور- نعم السحور! هذه الأكلة بركة فلا تدَعوه، قال: "فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين"، "فصل ما بين صيامنا و صيام أهل الكتاب أكلة السَحَر".
فاعتنِ بالسحور. أولاً: لأن الله وملائكته يصلون على المتسحرين. ثانياً: لأن فيه بركة. ثالثاً: لأن فيه مخالفة لأهل الكتاب، ويجب أن نخالف اليهود والنصارى. رابعاً: أنه أعون على الصيام. خامساً: أنه أضمن لأداء صلاة الفجر. فعليك به -يا عبد الله-، ولا تُفَوِّته، كيف وهو بركة؟! فيه من البركة ما لا يوجد في غيره من الوجبات.
وعليكم كذلك بالحرص على تفطير الصائمين في الداخل والخارج، "من فطَّر صائماً فله مثل أجره من غير أن يُنقِص من أجر الصائم شيء". احرص على إطعامه، وإشباعه، وإيصال الطعام إليه بغير منَّة ولا أذى، وإنما تحمد ربك أن هيأ لك الفرصة لِأن يطعم الصائم من طعامك ويشرب من شرابك، فليست الولائم التي تقام لتفطير الصائمين مجالاً للبذخ، ولا للأشر والبطر، ولا للفخر والخُيَلاء، وإنما هي مجال لأن تتواضع لله وتشكره أن هيأ لك هذا العدد من الناس ليفطروا عندك ويأكلوا من طعامك.
وتذكر إخوانك المسلمين في أقاصي الأرض ممن لا يجدون طبقاً واحداً من الأطباق التي تزخر بها مائدتك، فاتق الله يا عبد الله!.
وكذلك من الوصايا تلاوة القرآن العظيم في هذا الشهر، وسيأتي له تفصيل إن شاء الله. ومن الوصايا: قوموا إلى نسائكم، قوموا إلى نسائكم. فيا أيها المسلمون، يا أيها الرجال، قوموا إلى نسائكم فعلموهن كيفية الصيام، وآداب الصيام.
قوموا إلى نسائكم اللاتي يأتين إلى المساجد فعلموهن أموراً ومنها:
صلاة المرأة في بيتها خير لها، قال: "وبيوتهن خير لهن"، قال لأم حميد زوجة أبي حميد الساعدي: "قد علمتُ أنك تحبين الصلاة معي"، ثم قال لها: "وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي"، بيَّن لها أن الصلاة في قعر بيتها خير لها من الصلاة في المسجد، وكلما كانت أعمق في البيت كلما كان أفضل، وصلاتها في مسجد قومها خير لها من الصلاة في المسجد النبوي!.
ولكن، إن أرادت المرأة أن تذهب إلى المسجد، فلا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وقد جاء الجمع بين الفقرتين في حديث واحد: "لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن". علموهن هذه المسألة.
ثانياً: قوموا إلى نسائكم فأْمروهن بالحجاب؛ الحجاب يا أيها الرجال المسلمون، يا أرباب الأسر، يا أيها الرعاة الذين يرعون شؤون العائلة، أنتم المسؤولون أمام الله، كل واحد توجد امرأته في الشارع حاسرة مقصرة في الحجاب سواء كان قصيراً، أو لا يستر الوجه، أو شفافاً، أو ضيقاً، فهو المسؤول عنها، وهو الذي يشاركها في الإثم قطعاً، وهو الساكت عن الحق، وهو الشيطان الأخرس، وهو الذي أقر الخبث في أهله، هو الذي أقر فيهم السوء، وهو الذي يراها تمشي ولا ينكر، وهو الذي يراها تسفِر ولا يغيّر. فتباً لمعاني الرجولة كيف اضمحلَّتْ في نفسه! وكيف نقص الإيمان! وكيف زال التأثر بقول الله: (قُواْ أَنْفُسِكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم:6]، وقودها الناس أنفسهم! والحجارة! هؤلاء هم وقودها!.
كيف ترضى أن تخرج امرأتك و لو إلى المسجد في حالة من قلة الحياء والحجاب والتقصير في اللباس الشرعي؟ لو ظهرت أظافرها وأنت ساكت وأنت تعلم فأنت مشارك في الإثم والعدوان.
كان النساء في عهد الرسول إذا خرجن من بيوتهن إلى الصلاة يخرجن متبذلات بعيدات كل البعد عن الزينة، متلفعات بالأكسية، لا يُعرفن من الغَلَس، لا يعرفن، كأنهن غِربان، أسْود في أسود، لا يرى منها شيء.
والآن، زوجاتنا، بناتنا، أخواتنا، وحتى أمهاتنا، كثير من المسلمين يعيشون حالة عجيبة من التقصير، ونندهش في هذا الشهر الذي هو فرصة للتوبة والتغيير، كيف لم يحدث فيه تغير في الحجاب؟ زينة ومكياج وبهرجة وتجمل ولبس أحسن الثياب، وتبخر وتطيب وخلوة بالسائق.
وهذا الزوج الذي يقر الخبث في أهله، هؤلاء الناس رجالاً ونساءً، ما موقفهم أمام الله؟ والسيئة تُضاعف في رمضان ما لا تضاعف في غيره؟ تضع حجابها في السيارة، فإذا نزلت إلى المسجد لبسته، كحال الرجل الذي يحمل معه المشلح، فإذا وصل إلى مكان الوليمة الرسمية نزل فترجّل فلبس المشلح ودخل! وهكذا يفعل هؤلاء! أو بعض هؤلاء! ورجالهم في غيهم سادرون، ورجالهم في سبل الشيطان ماشون منهمكون. "أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية!" تقول: ما علاقتنا؟ ما علاقتك؟ (قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَلْحِجَارَةُ) [التحريم:6].
لا لإهمال الأطفال في البيت، ولا لإحضار المزعجين إلى المساجد لإشغال المصلين والتلبيس على الإمام والتشويش على عباد الله، أوصوهن بعدم الانشغال بالقيل والقال وارتفاع الأصوات بعد الصلاة لدرجة يسمعها الإمام و الناس، أوصوهن بتراص الصفوف وسد الخلل وملأ الفُرَج، فصفوف النساء في المساجد مليئة بالمآسي.
انصحوا نساءكم أن لا يقضين رمضان في المطبخ، وليبقين من الأوقات للعبادة، فهي الأساس، وهي الهدف، وهي أعظم شيء في هذا الشهر؛ لا تكلفوهن بكثرة الطبخ، بل امنعوهن عن التمادي والتفنن وتضييع الأوقات فيه، هذا من وظيفتكم.
يا عباد الله: تجنبوا تحويل ليالي هذا الشهر الكريم إلى ليالي أنس مع الخلائق، ومجالس معاصي، ولعب ورقص، ومسلسلات وأغاني، وطبل وزمر، وولائم يُتفنن فيها في المأكولات، وترمى فيها الأطعمة في براميل القمامة. الأمر أعظم من ذلك!
قَدْ رشَّحُوكَ لأَمْرٍ لو فطِنْتَ لهُ *** فارْبَأْ بِنَفْسِكَ أنْ تَرْعَى مَعَ الهَمَلِ
إذا كنا نخفف من صلاة التراويح حتى لا يشرد المتذمرون، ولا يهرب المقصرون الكسالى، وحتى يدرك أصحاب الأعمال والوظائف أعمالهم، فهذا لا يعني أن تنقطع العبادة بعد صلاة التراويح، بل بقي لك من قراءة القرآن والصلاة -مثنى مثنى- إذا أردت، دون أن تعيد الوتر، بقي لك مُتَّسَع، والنوم مبكر، وإدراك الفجر وأكلة السَحَر.
مناقشة جمع الزكوات، وتوزيع الصدقات، ووصل الرحم، وبر الفقراء. قال الله تعالى (وَبِلأَسْحَـارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:18]، لم يقل: يطبلون ويزمرون! وهؤلاء الناس في الأسحار يطبلون ويزمرون وقت النزول الإلهي، في الثلث الأخير من الليل في شهر رمضان في الليالي المباركة يعصون الله سبحانه وتعالى، يقول الله: "هل من سائل فأعطيه؟" وأصحابنا في وادٍ آخر! "هل من تائب فأتوب عليه؟"، وهؤلاء القوم في لهوهم وشغلهم عن ربهم وعن العبادة.
أيها الشباب: تجنبوا قرناء السوء في هذا الشهر الفضيل، دعوا الأرصفة، وأَقْبِلُوا على الله، واتركوا العود، وهلم إلى التوبة وإلى هذا الموسم الفضيل.
اللهم اجعلنا ممن عمر هذا الشهر بالعبادة، اللهم أعنا فيه على ذكرك و شكرك وحسن عبادتك، وارزقنا توبة نصوحاً، وعملاً متقبلاً، وصياماً مبروراً، وقياماً مشكوراً. اللهم إنا نبرأ إليك من تقصيرنا، اللهم إنا نسألك أن تتجاوز عما أسرفنا فيه من حق أنفسنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، رب العرش العظيم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، سبحانه.
والله الذي لا إله إلا هو، إنه ينبغي علينا أن نحبه أكثر من أي شيء. اللهم اجعلنا ممن يحبونك، واجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد السراج المنير، الداعي إلى الله بإذنه، البشير النذير، الذي أدى رسالة ربه، وبلغ الدعوة، ووفى الأمانة، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، الذي حبه مقدم على حب البشر أجمعين. "لا يؤمن أحدكم حتى يكون رسول الله أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"، اللهم اجعل حب رسولك مما تعمر به قلوبنا.
أيها المسلمون: عمرة في رمضان تعدل حجة، أجر عظيم، وموسم فضيل، وثواب جزيل، ورب كريم؛ أبواب الخير مشرعة، والبقية عليك يا عبد الله لإكمال المشوار، "عمرة في رمضان تعدل حجة".
وفضيلة هذه العمرة في جميع أيام الشهر، هذه الحجة ليست قاصرة على العمرة في العشر الأواخر، فإذا رأى المسلم أن من مصلحة عبادته استباق الازدحام الشديد جداً الذي لا يطيقه ويعطله عن أعماله وعن شغله حتى في نفسه وطعامه وشرابه فعليه أن يبادر؛ وإذا رأى أن تشتيت ليالي العشر بالأسفار وفوات القيام سيتحقق فلا بأس عليه أن يعتمر في العشر الأُوَل أو الأواسط، أو كان ممن للمصلحة في بقائه في بلده في العشر الأواخر، أو يخشى عدم التمكن من حجز مكان للسفر فليبادر الآن بالذهاب، فالبيت قريب، والسبيل آمِن، والأجر عظيم؛ كم من الناس يتمنون أن يعتمروا وأن يؤمّوا البيت العتيق فلا يتمكنون ولا يستطيعون، من ظُلم ظالم، أو فقر فقير، لا يستطيعون أن يأتوا البيت العتيق، فأنت قريب، والسبيل آمِن ولله الحمد، فلماذا لا تبادر بالذهاب؟.
ونوصي إخواننا الذين سيذهبون في رمضان إلى مكة لقضاء العشر وغيرها بجوار بيت الله الحرام بما يلي:
أولاً: اغتنام الوقت في تحصيل أكبر قدر من الأجر، واجتناب الانشغال بسفاسف الأمور، كتضييع الوقت في الطبخ والبحث عن الأطعمة، فكلْ مما تيسر، وكذلك الانشغال في الصفق في الأسواق، أسواق مكة، وتضيع الواجبات الأساسية، والأهداف الأساسية من رحلة العمرة.
ثانياً: إطالة المكث في بيت الله الحرام ما أمكن، والاعتكاف؛ فإن فيه أجراً عظيماً، حتى لا يذهب الوقت في المساكن والشقق المستأجرة، فتعظم الخسارة، فَصَلِّ الصلاة بالصلاة، وطُفْ، وانتظر الصلاة بعد الصلاة في المسجد الحرام، فمَن جلَس ينتظر الصلاة فهو في صلاة.
ثالثاً: عدم إضاعة الوقت بالكلام في الحرم مع الأصحاب والأصدقاء أو استقبال الغادين والرائحين، واستيقاف الأصحاب، والفرجة على الناس والطائفين، وإنما دع الوقت الأكبر لعبادة ربك، والخلوة به.
رابعاً: ربط الحزام في مسألة النوم، وعدم الإكثار منه لأنك ستكون في حالة استنفار لأجل العبادة.
خامساً: عدم الاشتغال بالمفضول عن الفاضل، بأمور وأنشطة تعطل عن المقصود الأساسي لرحلة العمرة، فخذ من هذا وهذا، واجعل السهم الوافر للهدف الأساسي والأعظم أجراً.
سادساً: الاستعداد الدائم والتبكير للصلوات، لأن بعض الناس يضيعون تكبيرة الإحرام تقصيراً، ولا يعلم قدر ثواب إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام في الحرم إلا الله عز وجل؛ فهنيئاً لمن طابت سفرته، وعظمت عبادته، وأصاب بعمرته السنّة.
م/ن
ولقد راقت لي كثيرا
من خطب فضيلة الشيخ / محمد صالح المنجد
جامع عمر بن عبد العزيز بالخبر
pjn gh kwhf fhgtj,v td vlqhk