ــ لقد مضت ساعة يا دكتورة وأنا لست مريض الوحيد سآتي فيما بعد أيقنت أنه يهرب يهرب من شيء ما شيء لم يذكره ولا يريد ذكره لم أشأ الضغط عليه وإبقاءه رغما عنه فهذا يفشل خطة العلاج ويدمر العلاقة بين الطبيب والمريض، يجب أن يشعر بالحاجة لي من تلقاء نفسه يجب أن يعود دون أية ضغوط
هززت كتفي بلا مبالاة قائلة:
ــ حسناً هذا يكفي اليوم إذا شئت أن تعود مرة أخرى، فالرجاء أن تأخذ موعد لا حقاً
نظر إلي بدون تركيز وهو يهمس:
ــ سأعود حتماً سأعود
كان هذا هو اللقاء الأول لي معه مع الصورة المجسمة لحبيبي الراحل صورة خلتها عادت من لحم ودم كما كانت قبل أعوام زوجي وحبيبي حسن الهيئة نفسها والمنظر نفسه، وله ذات الوجه الأسمر المهيب والشارب الأسود الخفيف والشفتان ذاتهما الغاضبتان من العالم بأسره هو,, هو بشحمه ولحمه هو هذا المريض خالد ظهور سكب الملح على جرحي وأيقظ حنينا يسكن الضلوع ظهور أعاد لي ذكريات الماضي القريب غاية القرب إلى نفسي، لم يكن حبي له وليد المصادفة أو الظروف بل ولد معي وتنفسته مع هوائي وعايشته بأجوائي فهو ابن عمي وأقرب قريب لي أحببته منذ الطفولة وعايشته في صباي وتعاهدنا على الزواج ونحن على مشارفة المراهقة لم يخيب أبواي رجائي ولم تكتنف طريق حبنا عثرة من أي نوع كان كل شيء سهلاً ميسراً بصورة تبعث على الشك وكيف لي أن أرتاب في أن سعادتي ستغتال في أقرب فرصة وأنني سأعود عما قريب صفر اليدين وحيدة إلا من ذكرياتي أجتر أحزاناً هائلة يعجز عنها قلب بشر وجراحاً عميقة تمزق أعتى القلوب
زففت إلى حسن في ليلة حلوة بهيجة رقص فيها كل شيء حولي حتى أشياء حجرتي الصغيرة ارتديت الثوب الأبيض الذي أهداه حسن، والعقد الماسي الذي قال لي يوماً أنه يحاكي لون قلبي
بدوت جميلة كما لم أكن أبداً من قبل سعادتي الداخلية أضفت على مظهري رونقا لم أكن أعهده غدوت حديث الجميع في تلك الليلة حتى ابنة خالتي الغيورة همست بحقد اخترق أذني:
ــ إنها تبدو جميلة على غير العادة
لم أعر أحداً انتباهاً ومضيت بطريقي غير عابئة بأحد أستقبل سعادتي المنتظرة بكل شوق وحب ولهفة
تزوجته واتفقت معه ألا يفرقنا عن بعضنا إلا الموت وهيهات للموت أن يتغلغل في أفكارنا حينذاك، ونحن في قمة الفرح والسعادة كانت كلمة الموت بالنسبة لنا في ذلك الوقت كقصة اسطورية كظهور طبق طائر في الفضاء تثير سخريتنا أكثر مما تثير خوفنا
وتكلل حبنا بقدوم أول طفل لنا وقتها ظهرت أول مشكلة في حياتنا كانت تبدو لي حينها ضخمة مجسمة محيره وهى إكمال دراستي في كلية الطب، وقد اجتزت المستوى الثالث بنجاح مشرف اعترض حسن على ذلك وقال لي بأن رعاية الطفل أهم بينما أصررت على رأيي وخيرته بين إكمال دراستي وحياتنا معاً
تذكرت الدموع التي انسابت على وجهه حينذاك وهو يهمس:
ــ ألهذه الدرجة أبدو تافهاً بنظرك تفضلين دراستك علي؟
أسرعت إليه تسابق دموعي دموعه وأعلنت له بكل حرارة بأن حبي له وحياتي معه أثمن من أية شهادة في العالم ومضيت حياتنا في سعادة خالصة حتى أحسست بما اعترى زوجي وحبيبي من تغير لاحظت شحوبه ونحوله وشروده الدائم والصداع القاتل الذي يمزق رأسه طلبت منه مراراً أن يعرض نفسه على الطبيب
إجابته الدائمة كانت أن ما به لا يعدو صداعاً نصفياً ستقضي عليه المسكنات وأن هذا هو تشخيص كل طبيب زاره
إحساس خفي يؤكد لي بأنه يكذب، وأنه يحاول أن يجنبني عذاباً لا طاقة لي بتحمله قلبي يود تصديقه وينفي كل احتمال آخر بكذبه وكيف لي أن أكذبه وهو حياتي التي أعيشها وعمري الذي أحياه حتى سقط بين أقدامي ذات يوم فاقداً الوعي حاولت إسعافه بأدويته التي يتناولها عادة، ولكن بدون أية فائدة اتصلت بوالده الذي حضر على الفور وساعدني على إفاقته من الغيبوبة ودموعه لا تفارق خديه
هتفت جزعة:
ــ عمي ماذا حدث هل زوجي حسن مريض؟
هز رأسه دون أن يتكلم
صرخت دون وعي:
ــ ما به؟
ارتجفت شفتاه وهو يقول برهبة:
ــ ذلك المرض اللعين السرطان
أغمي علي وافقت على واقع بشع مخيف يخلو من حبيب العمر حسن انطفأت شمعة حياتي وغدا عالمي حالك الظلام حالك السواد
صرخت من أعماقي لماذا لم تخبرني من قبل؟ لم لم تدعني أشاركك مأساتك ومرضك وعذابك وقد تشاركنا من قبل في كل شيء في حلاوة الدنيا ومرارتها لم حاولت أن تجنبني العذاب لأصحو على عذاب أشد قسوة وأكثر مرارة لما حرمتني وداعك لأعطيك من أنفاسي حرارة تبعث الحياة في جسدك وأعطيك من حبي دفقة أمل تواجه بها المرض الكاسر وتهزمه وضاعت صرخاتي وسط صدى الأحزان ولكني لم أبك لم أذرف دمعة واحدة تحجرت دموعي لتدميني من الداخل ولتفجر أحزاناً تشقق من حملها الأضلاع
كل شيء يذكرني به كل كلمة أستشعرها بوجوده حتى وجه طفلي الحبيب أبيت النظر إليه ودموع الداخل تنساب دون حساب وعيناي جافتان بدون دموع فقط حين رأيت خالد بكيت!! فوجوده أعاد صورة حسن إلى ذهني بشبابه وصحته وحيويته حسن كما عرفته دائما وكما تمنيت دائما أن يكون ظهور خالد أعادني إلى واقع طالما حاولت الهروب منه إن حسن موجود بأعماقي لم يمت ولن يموت هو حبي الوحيد الذي يسري في دمائي، ولن أنساه ما حييت رغم انشغالي بدراستي في السنوات الماضية، وتخرجي من الجامعة حتى طفلي لم ينس والده، وما فتىء يذكره في صحوه ومنامه ويسألني عنه في كل شاردة وواردة وماذا كان يحب وماذا كان يكره رغم مرور سبع سنوات على رحيله
أيقضني صوت الممرضة من تأملاتي:
ــ دكتورة لقد حان موعد الانصراف هل ترغبين بشيء؟
مسحت دمعة فرت من عيني وأنا أجيبها باستسلام:
ــ شكراً يا هدى مع السلامة
-----------------------------------
وللحديث بقيه