( المقـدمة)
هل تعتقد يوماً أنك قد وصلت إلى مرحلة الكآبة؟
إن كنت واحداً من الذين أنعم الله عليهم بفقدان عقله فاحمد الله لأنك لن تصل إليها
أما إن كنت طالباً في كلية الطب فلا داعي لأن تقرأ الباقي لأنك نلت نصيباً وافراً
وقسطاً لا بأس به
وإن كنت على استعداد لأن تقرأ قصتي
فاقبل أولاً أن تصل إلى نهاية هذه القصة
بكآبة فريدة من نوعها
وأمنية خالصة من القلب أن يكون اللحد هو مرقدك القادم
وأن ترى السم شراباً منعشاً يروي شهوة الراحة الأبدية
وإن لازلت مكملاً واستهوتك تعابيري في الأعلى
فعليك أن لا تقرأ القصة إن لازلت تعتبر القصة طرفة أو نادرة تتسلى بها
بل أن تعي وتدرك كل كلمة في القصة بإحساسها الكامل
وإن كنت تقرأها كي تكون وجبة دسمة لنقد الإحساس
أو شعوراً لتحديٍ تظن أني أعرضه
أو حتى لتبرهن لنفسك أنها مبالغات لفظية
فارم القصة جانباً فأنت لا تستحق أن تقرأ قصة مماثلة
واعذرني على كلماتي إن كنت تراها وقحة
لكنها حقيقية
فهذه قصة لا يفهمها إلا أصحاب الإحساس
هم الذين يتألمون ويفرحون ويبكون
هم أناس لهم قلوب من لحم ودم
لا قلوباً من جلمود أسود
هم بني البشر
___
( الجــزء الأول )
مضت أربعة أيام على العزاء
لا زلت لا أصدق أن أمجد قد توفي
لقد كنت معه قبل أسبوع خرجنا فيها سوية كان يومها أمجد حانقاً وغاضباً
وهي مرات قليلة للغاية التي أراه فيها هكذا فالعامة الذين يعرفونه
لم يروا غضبه أو حنى وجومه وإن كان بذلك يحاول التظاهر
إلى الآن وأنا أكتب هذه الكلمات لا أصدق أنه مات
كنت مخدع أسراره التي لا يعرف الكثير عنها شيئاً
لم يكن يهنأ لي بال إلا إن علمت ما يشغل باله من أفكار مجنونة التي يضحك منها العوام
ويفكر فيها المتأملون
كان أفضل أصدقائي بلا منازع
بل إنه لي معلماً في كثير من أمور الحياة التي لا يفهمها الطغاة
تعلمت منه كيف أعيش إنساناً ذا روح وحس
تعلمت منه معنى أن تتعاطف مع أحزان الناس وهمومهم وأن أستمع إليهم
تعلمت منه كيف أتفاءل حين تتجهم الدنيا
تعلمت منه ما لن يعلمني إياه شخص آخر
عندما أخبرت الجامعة بأمر وفاته _ رحمه الله _ تفشى الخبر جلياً وسريعاً
وتناقلته أوساط الطلاب على نطاق كبير
لأن أمجد كان مشهوراً بابتسامته العريضة التي يقابل بها كل الناس
كان ببعض معروفاً ببعض ملخصاته التي استفادت منها شريحة جيدة من الطلاب
وفي اليومين الذين تليا الخبر تحدث عنه الدكاترة
كثير منهم من ذكره بعطر اللسان والبعض حقيقة لم يتذكره
لكنه حزن ولا أدري ما سبب الحزن إلا أن يكون بروتوكولاً اجتماعياً منافقاً
ومن ناحية أخرى ذكره البعض بكلام سخيف
من دكاترة وطلبة
أولائك الذين يرون في دعاباتهم الخرقاء الظهور بمظهر القوة
بل اتخذه البعض موضعاً للنكات الغبية
إلا أن هناك بعضاً منهم لم يصدق أنه مات ومنهم أنا
صاحبه : يزيد
لكن أتعلمون حقاً ما هو سبب وفاة أمجد
لقد قالها لي يوماً :
يزيد أنا إن مت فقد قبض الله روحي لكن صدق أن السبب الدنيوي سيكون الطب والدراسة
ولقد كان ما تنبأ به أمجد
مات أمجد وهو يقود سيارته متجهاً إلى الجامعة
بعد أن كان شبه نائم بعد أن أمضى ليلته فوق الكتاب
في اختبارات نصف السنة
جلس يذاكر لتلك المادة أسبوعاً كاملاً
رغم أنه ذاكرها قبل ذلك
وحتى إذا ما جاءت ليلة الاختبار جلس يراجع كل ما ذاكره في ذلك الأسبوع
لأن المعلومات وبلا شك قد طارت
وأنى لها أن تبقى
فقاد السيارة إلى اختباره وهو في حالة من الإرهاق
كان يسير بعين مفتوحة والأخرى مغلقة حتى انتهى به الأمر إلى حادث أودى بحياته
وإن توقفنا هنا فلا يغدو الأمر مشكلة
هذا أمر مألوف يحدث في كل السنوات لطلاب الطب
لكن المشكلة الحقيقة هي أن السبب في كل هذا الجهد من أمجد
السبب الذي جعله يرهق إلى هذا الحد
ببساطة لقد كان ذلك الدكتور الأخرق من قسم الطب الباطني بما يسمونه الــ medicine
ذلك الدكتور الذي قرر أن يرسب أمجد في السنة الماضية
ولقد كان السبب ببساطة أن أمجد
قد استنكر أن تكون الأسئلة في نهاية العام بلا مرجع
واستنكر التصحيح وطلب بمراجعة ورقته فلم يوافق الدكتور حتى دفع أمجد الآلاف الخمسة لتتغير النتيجة فينجح أمجد في الاختبار النظري ولكن
ليرسب بعدها في الاختبار العملي على يد هذا الإنسان الذي افترض أن يكون إنساناً
وأن يكون مربياً
ولم يكتفي الدكتور بذلك
بل دخل في نقاش مع أمجد أكثر من مرة ليقلل من قدره ووصل به الأمر بسب أمجد أمام الكل
فكيف لطالب غر صغير وجاهل أن يطالب بإعادة تصحيح الورقة؟!
كيف يطالب مجرد إنسان بحقوقه ؟!
كيف يجرد الدكتور من سلطته وهيبته ؟!
ذلك ما لم يقبله هذا الظالم المتعجرف صاحب شهادة مزخرفة أتى بها من الخارج
حين يستضعف طائفة من البشر لا حول لهم ولا قوة
وأعاد أمجد سنة كاملة من حياته بسبب حقد تربى في عقل طفل كبير
وظن أمجد أن الموضوع قد انتهى
لكن أمجد لما قابله على بداية السنة ارتسمت على شفتي الدكتور ابتسامة باردة فضحت معانيها سريعاً بالامتحانات المفاجئة للدكتور مع بداية العام الأمر الذي لم يحدث قبلاً
والوحيد الذي نال الدرجات الأقل هو أمجد
ولم تجدي المحاولات المضنية والوساطات المشفقة
لم تجدي حتى اعتذارته للظالم
فقط كان يريد هذا الأخرق أن يفرد عضلاته
حتى رئيس قسم الطب الباطني قال بأن هذه المادة هي أم الطب
ولا بأس أن يرسب الناس فيها ولا بأس أن يفصلوا من الطب
إن لم يستطيعوا أن يجتازوا اختبارها
الاختبار الذي تحصل فيه العجائب بنجاح الأوائل على الكلية بدرجات منخفضة
ونجاح الراسبين في بقية المواد بدرجات عالية بدون سبب
الاختبار الذي لن يكفي قسمي له بأنه أشبه بلعبة حظ قد تخسر فيها بدون سبب
إلا بسبب الحظ
ووصل أمجد إلى الساعة الثامنة صباحاً وقد أرهقه التعب
وبدأ الألم يستشري في جميع أركانه
لم يستطع تحمل الضغط النفسي والجسدي
ولكنه قاد سيارته وهو يحاول أن يخرج الرمق الأخير حتى يفعل كل ما يجب عليه أن يفعله ليجتاز هذه المادة
وفي النهاية
مات أمجد
مات صاحب لي بألف صاحب مات إنسان يحمل من معاني الإنسانية
ما لا يمكن أن تجده إلا قليلاً في غابة الوحوش التي نعيش بها
صدق أن أمجد قد قضى حياته بين الجامعة و بين كتبه والملخصات
وأنه استهلك حياته الخاصة كلها في الجامعة
ضيع حياته الشخصية كلها بسبب المذاكرة
لقد كان يتمنى أن يموت سريعاً تمنى لو يصاب على الأقل بغيبوبة تمنعه من المذاكرة
فهو ولسوء الحظ من ذوي الضمير الحي في المذاكرة
بل إنه يلوم نفسه على دقائق الراحة أيام الدراسة
وقد يقول البعض لم يحمل نفسه كل هذا العناء
والجواب بسيط
إنه يكره الطب يكرهه مذ عرفه
يكرهه من الصف الرابع الابتدائي مذ تعلم الدورة الدموية
وإنه لمن الصعب أن تحفظ وأن تذاكر وتفهم ما لا تحب
إذا لماذا دخل الطب
والجواب هنا يعرفه كل من تخرج من الثانوية العامة وكانت نسبته تؤهله لدخول كلية الطب
فإنه لن يتركك شخص إلا وأفتى لك بما لا يفقه
وقال ما قال مما قد سمعه من ذاك وذاك
لم يتركه شخص إلا ويقول : ادخل كلية الطب
بطريقة مباشرة أو غير مباشرة
كلية الطب مركز اجتماعي
كلية الطب جاه
كلية الطب مال
حتى يكون وقتها من حدد هدفاً غير الطب مغفلاً لا يدرك مصلحته
وحتى يكون الذي يحب أي شيء غير الطب غراً ساذجاً
ولعلك تقول في نفسك الشيء ذاته
ولم يصاحب أمجد الكثيرين
كان الفتى له أمنية أن يسافر إلى الخارج كي يتعلم
في مكان تستطيع أن تحتار بنفسك طريق حياتك
وأن تقرر بهدوء ما تريد لا ما يريد أن يحقق الناس من أهداف فيك
أرهقه كثيراً الظلم
لم يتمكن من أن يعيش في مكان يظل فيه مروراً متواضعاً لأحط الناس أخلاقاً
_ وإن كان أعلاهم علماً _
لم يستطع أن يتحمل أن يبقى في مكان لا ينفض عنه أحد آلامه ولا يضمد له جراحه
ويجبر له حقه المغتصب
مات أمجد وترك رسالة
وقال مازحاً :
هذه رسالة لكل من تسول له نفسه الدخول في كلية الطب
وإني هنا أحذرك إن كنت أحد طلاب كلية الطب
أو لا زلت طالباً في الثانوية العامة وكنت مقدماً على الانتساب في كلية الطب من أن تقرأها
وإني أعني فعلاً ما أقول بل أنصحك أن تقرأ الفصل الثاني مباشرة
وإني هنا أحذرك مرة أخرى وأنت الملام
وكانت هذه هي الرسالة والتي هي موجهة إلى ميادة
من هي ميادة ؟
هذا ما سأخبركم به لاحقاً
بإذن الله يوم الأربعاء المقبل
محبتكم :ديمـا القطبي