فراس مهما كلف الأمر ! لم تعد تطيق العيش معه تحت سماء واحدة بعدما فعله بها وبعد الجرح الذي سببه لها ، فكيف تعيش في نفس مدينته ؟ تقسم خالتها بأنها لن تدعها وحدها في الرياض مهما فعلت ومهما قالت ومهما تذرعت بمنزل أبيها والذكريات التي يعز عليها فراقها . لم يمض على انقطاعها عنه سوى أيام وهاهي تشعر منذ الآن بحاجة ماسة إليه . لم يكن مجرد شوق وحنين ، وإنما كان شعور المخنوق بعد انقطاع الهواء عنه . كان فراس الهواء الذي تتنفسه على مدى سنوات ، وكان الشخص الوحيد الذي تسرد له تفاصيلها اليومية بإسهاب مذنب يجلس على كرسي الاعتراف أمام كاهنه . كانت تحكي له عن كل شيء حتى يسخر منها بسبب أحاديثها التي لا تنتهي ، ويضحكان معاً وهو يذكرها بالأيام الخوالي في بداية علاقتهما ، عندما كان يجرجر فيها الكلمات من فمها بطلوع الروح !
(38)
الصبر مفتاح ال . زواج الرجل له مصباح هو الضمير ، والمرأة لها نجم هو الأمل ، فالمصباح يهدي ، والأمل ينجي . فيكتور هوجو حزن البعض على فراق سديم وفراس ، وفرح البعض لأن فراس اختار زوجة صالحة بدلاً من سديم التي لا تصلح لأن تكون أماً لأبنائه . قرأت ضمن الرسائل التي وصلتني عبارة تقول أن الحب الذي يأتي بعد الزواج هو الحب الذي يدوم ، وأن ما قبل الزواج من مشاعر ليس إلا عبث وضحك على الذقون ، فهل هذا صحيح برأيكم ؟
** لم تعتقد لميس أن خطتها أو (رسمها ) على نزار سوف يتطلب منها كل هذا الصبر وبرودة الأعصاب ! كانت في البداية تظن أن مهلة الأشهر الثلاث كافية لإيقاعه في شباكها ولكنها مع الوقت اكتشفت أن الأمر يتطلب منها الكثير من الحنكة والصبر ، وهذان في تناقض مستمر مع ازدياد إعجابها بنزار ! لم تتصل به أبداً وكانت تحاول جاهدة أن لا ترد على بعض اتصالاته الشحيحة . كانت تشعر بقواها الخارقة تضعف مع كل رنة من هاتفها الجوال ، تظل عيناها معلقتين برقمه الظاهر على شاشة الجوال حتى يكف الجهاز عن الرنين ويكف قلبها عن الخفقان على وزن رنة الجوال ! كانت النتيجة مُرضية في البداية ، فقد أرضى اهتمامه بها غرورها . حذرته بحزم منذ البداية من أن يتدخل في حياتها ، وأفهمته أن صداقتهما لا تعني أن من حقه أن يتطفل عليها ويسألها عن جدولها اليومي . كان يعتذر لها باستمرار مبرراً اهتمامه بحرصه على معرفة أوقات فراغها حتى لا يزعجها أثناء انشغالها ، ثم أنها لا ترد على الرسائل النصية التي يبعثها إليها ! أخبرته أنها لا تحب كتابة الرسائل النصية فهي تتطلب منها وقتاً ليست في غنى عنه (لو وقع هاتفها بين يديه لوجده مليئاً بالرسائل المرسلة والمستقبلة من صديقاتها وقريباته ) !. بدأ اهتمامه بها يخفت تدريجياً باعثاً في نفسها القلق والخوف ، فاتصالاته قلت بشكل ملحوظ وحديثه أصبح أكثر جدية ورسمية وكأنه بدأ يضع لعلاقتهما حدوداً لم يكن يضعها من قبل . اعتقدت لميس أن الوقت قد حان للاستغناء عن خطتها المتشددة لكنها خافت أن تندم بعد ذلك على استعجالها وفي التي تنتقد سذاجة صديقاتها وقلة صبرهن على الرجال . ظلت تواسي نفسها بكون نزار ليس من نوعية الشباب السهل ، وأن هذا على الأرجح أكثر ما يشدها إليه ، وما سيملؤها فخراً فيما بعد إن هي نجحت في الحصول عليه ! حاولت أن تحتفظ بإيجابيتها طوال الشهور الثلاثة التي حددتها للعلاقة . كانت تذكر نفسها بمدى إعجاب نزار بها وهي تنبش في ذاكرتها عن كل صغيرة تشير إلى ذلك . بدا الأمر سهلاً خلال الشهر الأول من عودتها إلى الرياض ، فالأحداث التي مرت بهما في جدة ما زالت طازجة بعد في عقلها . كان يحسن الاستماع إلى حديثها ، وكان يستمتع بما تقول وما تفعل حتى وإن كان ما تقوله أو تفعله غاية في الغباء أو التفاهة ، كنكتة سخيفة أو صنع فنجان من النسكافيه كل صباح حتى أحاديثهما الهاتفية خلال الشهر الأول من بداية الدراسة كانت تدل على إعجاب مبطن ، فرغم أنها كانت جافة معه في كثير من الأحيان وكانت تختلف معه في كثير من الأمور إلا أنه كان دوماً من يبادر بالاتصال والاعتذار إن استدعى الأمر . في الشهر الثاني كانت قد استهلكت جميع الذكريات الواضحة وتحولت إلى تلك الدقائق التي لم تلاحظها إلا بعد أن أجهدت ذهنها في التفكير ، مثل ذكرى آخر يوم لها في المستشفى بجدة ، عندما ذهبا لتناول الغداء في البوفيه ، فسحب لها الكرسي قبل أن تجلس على إحدى الطاولات وما كان قد فعل ذلك لها من قبل ، ثم جلس هو في الكرسي المجاور وليس المقابل كعادته ، وكأن الكرسي المقابل أبعد من اللازم في يوم الوداع ، ثم استدراجه إياها مرات عديدة لأن تنطق ببعض الكلمات التي يحب سماعها منها بسبب طريقة لفظها المميزة لها ، مثل كلمة Water اللي تنطق حرف ال T فيها كحرف D مثلما يفعل الأمريكان ، وكلمة Exactly التي يصر على تقليدها فيها بشكل مبالغ فيه ليبدو مضحكاً جداً Eg-zak-ly! ، وكلمة أربعين التي لم تكتشف أنها من ضمن ألاعيبه حتى سألها في ذلك اليوم : - أقول لك ، كم كان عمر المريضة اللي شفناها من شويّة ؟ - سبعة وأربعين سنة على ما أذكر . - بكم البيتزا الكبيرة ؟ - بخمسة وأربعين ، ليش تبغانا نطلب بيتزا بعد ما شربنا كل دا الأكل يا فجعان؟ - (وهو يغالب ضحكته) : لا لا طنشي . طيب عشرة زائد تلاتين يساوي كم ؟ - أربعين ! يوه ! إش بك يا نزار ؟! ترى إزا ما قلتاللي أيش الحكاية راح أزعل منك! ينفجر نزار ضاحكاً وهو يخبرها أنه يحب كثيراً طريقة لفظها لتلك الكلمة بالذات : أريعين ! في بداية الشهر الثالث كان قد مر على آخر اتصالاته أسبوعان كاملان ، تعبت خلالهما لميس من إيجابيتها وخططها التي لا تلتزم بها إلا من لا قلب لها ، لكنها ظلت خائفة من التراجع ، وقد قطعت في تنفيذ سياستها شوطاً لا بأس به ! أقنعت نفسها بأن نزار سيعود في يوم ما ولكن فقد في حال كونه مكتوباً في صفحة قدرها . لم يخيب القدر ظنها ، والخطة التي كانت تنوي إيقاف العمل بها إن لم يصرح نزار بحبه لها في غضون ثلاثة أشهر ، نجحت في دفعه إلى التقدم لخطبتها رسمياً من أهلها قبل نهاية المهلة المحددة بثلاثة أسابيع !
(39)
صفحات من الدفتر السماوي لا توقظوا المرأة التي تحب . دعوها في أحلامها حتى لا تبكي عندما تعود إلى الواقع المرّ . مارك توين صديقي بندر من الرياض حانق علي لأنني أحاول – وفق رأيه – أن أصور رجال المنطقة الغربية كملائكة منزهين عن الخطأ وكرجال غاية في الرقة والأدب وخفة الدم ، بينما أصور البدو ورجال المنطقتين الوسطى والشرقية كرجال متوحشين وهمجيين في تعاملهم مع المرأة ، وأرسم بنات