سبب الحديث عن الأخفياء
أولاً: الأسوة والاقتداء بالأخفياء
كان الحديث عن الأخفياء؛ لأنني ولربما لأنك أيضاً نظرت لحال أولئك الرجال الذين نسمع قصصهم بل ونرى آثارهم ومصنفاتهم، ونرى أنهم أحياء بذكرهم وبعلمهم وبنفعهم وإن كانوا في بطن الأرض أمواتاً بتلك الأجساد الطيبة الطاهرة فأسأل وتتساءل معي: ما هو السر في حياة أولئك الرجال؟! والسر هو توجه القلب كل القلب لله جل وعلا، توجهت قلوب أولئك الرجال فنالوا ما نالوا، ووصل سمعهم إلى عصرنا الحاضر، فكان القلب عمله وعلمه لله سبحانه وتعالى، وكان حبه وبغضه، وقوله وفعله وحركاته وسكناته ودقه وجله وسره وعلانيته لله. يوم أن كانت الآيات هي الشعارات التي تُرفع، والكلمات التي تتردد في القلب قبل اللسان وفي كل مكان، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] هكذا كانت الآيات ترفع فامتلأت بها القلوب أما اليوم؛ فتعال وانظر لحالنا -يا أخي الكريم- كأفراد، فقلوبنا شذر مذر، ونفوسنا عجب وكبر، وأفعالنا تزين وإظهار، وأقوالنا لربما كانت طلباً للاشتهار. همومنا في الملذات، وحديثنا في الشهوات، وصدق صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)، إلا من رحم الله منا. وانظر لحالنا كأمة ذل ومهانة وهوان واحتقار، ولا داعي إلى أن أواصل الكلام عن حال هذه الأمة في هذا العصر، ولكني أسوق لك دليلاً قريباً: في شهر رمضان؛ ثلاث مذابح للمسلمين، مذبحة السوق في سراييفو، ومذبحة الإبراهيمي في فلسطين ، ومذبحة في السودان! أكان يكون ذلك -يا أخي الحبيب- لو كانت القلوب متوجهة إلى الله بصدق؟! أقولها ثقة بالله سبحانه وتعالى: لا والله، لا يكون هذا الذل وهذا الاحتقار لهذه الأمة لو توجهت قلوب أصحابها وتوجهت قلوب المسلمين جميعا إلى الله جل وعلا:
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعـهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
إذاً فالسر في حياة أولئك هو: التوحيد لله. وليس التوحيد قولاً فكلنا يقول: لا إله إلا الله، ولكنه التوحيد القلبي ؛ يوم أن تكون الأفعال والأقوال وحركات القلب وسكناته كلها لله سبحانه وتعالى، عرف هذا السر أولئك الأخفياء، فكانت الدنيا لهم والآخرة دارهم.
أعلى الصفحة
ثانياً: لأهمية الإخلاص وخطر الرياء
ثم أيضاً سبب آخر ومهم جداً للحديث عن الأخفياء -فيا أخي الحبيب ويا أختي المسلمة-: إن فقدت الأعمال والأقوال -أياً كان نوعها- خلوص النية لله جل وعلا؛ انتقلت من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات والعياذ بالله. ألم تسمع! لذلك الحديث المفزع للقلوب؛ الذي كلما أراد أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن يرويه لأصحابه وقع مغشياً عليه، يفعل ذلك ثلاث مرات أو أربع لهول ذلك الحديث المفزع: (أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: قارئ القرآن، والمجاهد، والمتصدق بماله)! أفضل الطاعات، وأفضل القربات إلى الله جل وعلا، يوم صرفت لغير الله أصبحت أحط المخالفات، بل أصبحت هي التي تقود أصحابها إلى النار والعياذ بالله. وهذا الحديث لما سمعه معاوية رضي الله عنه وأرضاه قال: [قد فعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بعدهم، أو فكيف بمن بقي من الناس؟! ثم بكى معاوية رضي الله عنه وأرضاه بكاءً شديداً، يقول الراوي: حتى ظننا أنه هالك!] انظروا صحابة رسول الله يخشون على أنفسهم عندما يسمعون هذا الحديث، فماذا نقول نحن عن أنفسنا؟! يقول الراوي: حتى ظننا أنه هالك، ثم أفاق معاوية ومسح وجهه ودمعه بيده رضي الله تعالى عنه وقال: [صدق الله ورسوله، صدق الله ورسوله] مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]. لأنهم فعلوا ذلك ليقال: قارئ! وليقال: متصدق! وليقال: جريء! ولا شيء يحطم الأعمال مثل الرياء والتسميع، بأن يقول فلان: سمعت وعلمت وسألت وجئت وذهبت؛ مسمعاً للناس بأفعاله عياذاً بالله. فالتزم رعاك الله! التخلص من كل الشوائب التي تشوب هذه النية، كحب الظهور، أو التفوق على الأقران، أو الوصول لأغراض وأعراض من جاه أو مال أو سمعة، أو طلب لمحمدة وثناء الناس، فإن هذه وأمثالها قاصمة للظهر متى شابت النية. ولذلك كان النظر لحياة الأخفياء ولأحوالهم ومدارسة أمورهم من أعظم الأسباب للوصول إلى طريق المقسطين، جعلني الله وإياك منهم. لأهمية الإخلاص، ولخطر الرياء، ولرجوع الناس إلى الله جل وعلا، ولكثرة أعمال البر والخير والدعوة إلى الله من الرجال والنساء بحد سواء، ولإقبال الناس عموماً على العبادات، وحرصهم على الخيرات -والحمد لله- مما نراه من الناس في هذه الفترة المتأخرة، كان لا بد من طرح هذا الموضوع لئلا تذهب هذه الأعمال والعبادات عليهم سدى من حيث لا يشعرون، وكان لزاماً أن نتحدث في مثل هذا الموضوع. وقد كان أهل العلم يحبون أن يتخصص أناس للحديث عن النية وبيانها للناس، لذلك تكلمنا عن هذا الموضوع تذكيراً وتنبيهاً وتحذيراً لشدة الحاجة إليه.
أعلى الصفحة
الخفاء في الكتاب والسنة
الخفاء منهج شرعي، لذلك اسمع -أيها المحب- لقول الحق عز وجل في الصدقة: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] فهو خير لكم! فهذه الآية كما يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ظاهرة في تفضيل صدقة السر وإخفائها. ويقول سبحانه: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]. ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، قال: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه) انظر لدقة الخفاء في هذه الصدقة، فقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وقال أيضاً الحافظ ابن حجر : وهو من أقوى الأدلة على أفضلية إخفاء الصدقة. وفي الحديث نفسه صورة أخرى يذكرها صلى الله عليه وسلم: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). ثم حديث الرجل الذي تصدق ليلاً على سارق وعلى زانية وعلى غني وهو لا يعلم بحالهم، والحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ، ووجه الدلالة من هذا الحديث على أن الخفاء منهج شرعي، هو: أن الصدقة المذكورة وقعت بالليل، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فأصبحوا يتحدثون) بل وقع في لفظ صريح كما في مسلم بقوله صلى الله عليه وسلم على لسان الرجل: (لأتصدقن الليلة) فدل ذلك على أن صدقته كانت سراً في الليل، إذ لو كانت هذه الصدقة بالجهر نهاراً لما خفي عنه حال الغني، بخلاف حال الزانية والسارق، فالغني ظاهر حاله، فلذلك كانت الصدقة سراً في الليل. وأيضاً حديث صلاة النافلة في البيوت، فمن حديث زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه وإسناده صحيح. وروى الطبراني من حديث صهيب بن النعمان رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل الفريضة على التطوع). انظر الشاهد: (حيث يراه الناس)، إذاً فالاختفاء عن أعين الناس في صلاة النافلة لا شك أنه أفضل. ومن حديث جندب بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، كما أخرج البخاري ومسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به). ومن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سمع الناس بعمله سمع الله به مسامع خلقه وصغره وحقره) أخرجه أحمد في مسنده والطبراني والبيهقي وإسناده صحيح. -الخفاء عند السلف : وذكر الذهبي في السير في ترجمة عبد الله بن داود الخريـبي، أنه رضي الله تعالى عنه قال: كانوا يستحبون -أي: السلف الصالح - أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها!! وذكر الإمام وكيع بن الجراح في كتابه الزهد، والإمام هناد بن السري في كتاب الزهد أيضاً أن الزبير بن العوام قال: [من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل]. وسنذكر بمشيئة الله صوراً عديدةً لحياة كثير من السلف تدل على أن هذا الأمر كان منهجاً لهم،