الحقوق الزوجية للشيخ الشنقيطي
الحقوق الزوجية
الحقوق الزوجية من أهم الأمور التي تطرح فيما يخص أحوال الأسرة وقضاياها، إذ إن على كل من الزوجين واجبات تجاه الآخر، وله حقوق، وهذه الحقوق والواجبات قد بينها الشارع الحكيم، وجعل المحافظة عليها من شروط استمرار الحياة الزوجية. ويترتب على الإتيان بهذه الحقوق صلاح الأسرة في الدنيا، مع ما أعده الله لكل من الزوجين من الأجر في الآخرة.
أمانة الحقوق الزوجية ثقلها وفضل أدائها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف بإذن الله عز وجل عن العباد الغمة. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إخواني في الله: إن الفرائض والواجبات وحقوق الأزواج والزوجات أمانة وأي أمانة؛ برئت من حملها الأرض والسماوات، وفزعت من عبئها الجبال الشم الشامخات الراسيات برئت من حملها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا. حملتها على ظهرك، ووضعتها أمانة في عنقك، لكي ترهن بها بين يدي ربك. الحقوق والواجبات والأمانات والمسئوليات حقوق أودعها الله تبارك وتعالى في قلوب عباده، وأخذ عليهم العهد والميثاق أن يفوا بها، وأن يقوموا بها تقرباً إليه جل شأنه. إنها الحقوق التي وفى بها عباد لوجه الله، فعدلوا بين أزواجهم وأهليهم، وبناتهم وبنيهم، فأنزلهم الله منابر من نور في الجنة، يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن المقسطين على منابر من نور يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء) وفي حديث أحمد في مسنده : (على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن). إنهم أهل الوفاء الذين قاموا بأداء الحقوق بكل حب وصفاء. إنهم أهل الوفاء الذين تفطرت قلوبهم من خشية الله أن يحاسبهم على تلك الحقوق فتغل أعناقهم عند لقاء الله. إنها الحقوق التي قربت عباداً إلى الله، وأبعدت من أضاعها عن جوار الله. إنها الحقوق التي أضاعها رجال فخرجوا من القبور حفاة عراة قد شلّت أجسادهم. إنها الحقوق التي أضاعها نساء فخرجت الواحدة منهن من الدنيا والجنة عليها حرام. إنها الحقوق التي أمر الله تبارك وتعالى بها عباده، فكم نزل بها جبريل، وكم سطر بها في القرآن لله من قيل. إنها الحقوق التي طالما وقف النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فأدمع لها العيون، وسكب لها الجفون، وأخشع لها القلوب، حتى وقف النبي صلى الله عليه وسلم موقفاً ما وقف قبله ولا بعده، وكان آخر عهده بأمته في ذلك الموقف. وقف يوم حجة الوداع أمام مائة ألف نفس من أمته صلوات الله وسلامه عليه، ففتح الله له القلوب والأسماع، فأحل الحلال وحرم الحرام، وأبان الشريعة وفصل الأحكام. وقف صلوات الله وسلامه عليه فخشعت القلوب من كلامه، وأذعنت لربها من جلال ذلك الموقف العظيم، وكان من خطبته المشهورة وكلماته المأثورة: (فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله). اتقوا الله في النساء؛ وصية من النبي صلى الله عليه وسلم لكل مؤمن يؤمن بلقاء الله تعالى، وأبان حقوق الزوج على زوجته، وأبان حقوق الزوجة على زوجها، وأشهد الله على البلاغ، فشهد العباد وشهدت الأرض أنه بلغ لله حجته، وأدى لله أمانته ورسالته. إنها الحقوق التي رغب فيها ورهب: رغب في أدائها تقرباً إلى الله وتحببا، ورهب من إضاعتها حتى لا يغل العبد بها بين يدي الله في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
نماذج من سير الصحابة في الوفاء مع زوجاتهم وأزواجهم
ولقد سمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خطبته، ورقت قلوبهم إذ سمعوا موعظته، فكانوا رضوان الله عليهم أبلغ ما يكونون وفاء، وأصدق ما يكونون حباً للأهل وصفاء، كان الواحد منهم يخاف من زوجتيه أن تغل عنقه إذا لم يعدل بينهما. هذا معاذ بن جبل صاحب الفقه والعمل، القارئ الثابت، العابد القانت، كانت له زوجتان، أثر عنه رضي الله عنه وأرضاه: [أنه إذا كانت الليلة لواحدة منهما وأصبح، لم يشرب في بيت الأخرى] كل ذلك يخاف أن يكون ظالماً، يخاف من كأس من الماء أن يقوده إلى النار، ويوجب عليه سخط الجبار ونقمة القهار. إنها القلوب التي عرفت الله حتى شاء الله تبارك وتعالى أن تموت كلتا زوجتيه في يوم واحد، فغسلتا وكفنتا، وصلى الناس عليهما، وكان الناس في ذلك اليوم في شغل، فما حضر الجنازة إلا القليل، فلما دنا من قبره وأراد أن يقبر الزوجتين احتار رضي الله عنه أيتهما يقدم! خاف -من الله- أن يقدم إحداهما فيحاسبه الله بعد وفاتهما على ظلمهما، حتى إنه رضي الله عنه أقرع بين المرأتين، فلما أقرع بينهما خرجت القرعة على واحدة منهما، فقدمها في القبر. فرضي الله عنك وأرضاك، وجعل أعالي الفردوس مثواك، إذ وفيت وصية رسول الله في أهلك وزوجك، رضي الله عنك وأرضاك إذ خفت من ربك، وخشيت من لقاء إلهك. إنها القلوب التي تعرف الله، وتخشى لقاء الله. إنها الحقوق التي ما أنزلها الله في القرآن عبثا، ولا وقف النبي صلى الله عليه وسلم يرهب منها ويدعو إليها عبثا، إنها الحقوق التي تسطر من أجلها الأقوال والأفعال، فتقاد إلى الله حسيراً كسيراً أسيراً بما قاله اللسان، وبما انطوى عليه الجنان، وبما اقترفته اليدان. أين هذه النماذج الكريمة؟ أين هذه الأمة العظيمة الرحيمة من نماذج اليوم؟