السويش, حسان, حُفرت, وثبة
أدهشتني قراءة سيرة حياة والي مصر "محمد سعيد" بدرجة غير مسبوقة
فأول انطباع خرجت به وأنا أقرأ تاريخه أنه مصاب بانفصام في الشخصية من النوع الذي لا تجده إلا في رواية "دكتور جيكل ومستر هايد"!
فدائماً ما تشعر أن هناك في التاريخ شخصيتين تحملان اسم "سعيد" باشا
"سعيد" باشا الحاكم الوطني ذو العقلية القيادية العسكرية الذي يحلم بإعادة مجد مصر العسكري، والذي له رؤية واضحة لمستقبل وطنه والنمو بشعبه ومعاملته (كشعب) حقيقي له حقوق وعليه واجبات، وليس مجرد (رعية) يقودها الحاكم وفق إرادته كما يقود الراعي خرافه
و"سعيد" باشا المتردد ضعيف الإرادة ذو الرؤية القاصرة –وقد لا نبالغ إذا قلنا عدو الشعب- الذي ينقاد بمنتهى الغباء وراء أساطير وخرافات الأوروبيين، والذي دق أول مسمار في نعش احتلال مصر وضياع استقلالها لأكثر من 70 سنة
والغريب أن كل هذه الصفات المتناقضة تجدها في كتابات جميع المؤرخين، أي أن تناقضاته ليست بسبب تجني المؤرخين عليه، ولكن لأنه شخصية متناقضة فعلاً هذا بالطبع باستثناء المؤرخين الفرنسيين الذين يرون فيه أعظم من حكم مصر، ولم لا وقد قدم لهم قناة السويس –بلا أي مقابل كما سنرى- وكهدية لا ترد من صديق لصديق؟!
وما أميل إليه أنا شخصياً أن مفتاح شخصية "سعيد" باشا كلها هي أنه طيب القلب لدرجة الحماقة!
أن تبكي من أجل السودان ولا تفعل شيئا!
فـ"سعيد" باشا الذي أخذ يبكي عندما سافر إلى السودان حين رأى آثار التدمير الوحشي التي قام بها قادة "محمد علي" خلال فتحهم للسودان، لدرجة أنه فكر جدياً أن ينسحب من السودان ويتركه لأهله، لولا أن أعيان السودان توسلوا إليه ألا يفعل خوفاً من انتشار الفوضى والعنف إذا خرجت الإدارة المصرية من السودان، لم يسعفه عقله بأن يضع نظاماً ثابتاً للحكم المصري في السودان، واكتفى بأن غيّر النظام القائم، ثم عاد فغيره مرة أخرى بعد ذلك، نعم لقد استمع "سعيد" إلى شكاوى أهالي السودان وخفف عنهم الضرائب وألغى السخرة وأمر رجال الإدارة المصرية بأن يحسنوا معاملتهم، ولكن كل هذه التصرفات في أساسها كانت نابعة من رجل طيب القلب، وليس من حاكم بعيد النظر، فقد حل "سعيد" مشاكل أهل السودان، ولكنه لم يضع نظاماً أو قانوناً يضمن لهم ألا يظلموا من جديد بعد ذلك
إنها الرحمة وطيبة القلب عندما يهبهما الله لشخص معدوم الذكاء!
وهكذا تسبب نظام التوريث البغيض من جديد في أن يصل الحكم لمن لا يستحقه
وقد تفسر لنا شخصية "سعيد" باشا هذه كل ما حدث في عصره من أحداث، وعلى رأسها بالطبع منح امتياز حفر قناة السويس لـ"فرديناند ديليسبس"
قناة السويس.
والحقيقة أن فكرة وصل البحرين الأحمر والأبيض فكرة قديمة جداً، ولكن أول دراسة علمية مستفيضة لحفر قناة السويس كانت للمهندس "لوبير" أحد كبار علماء الحملة الفرنسية، وقد نشرت هذه الدراسة في كتاب وصف مصر الذي ضم جميع أبحاث وملاحظات علماء الحملة الفرنسية عن مصر
جاء المسيو "فرديناند ديليسبس" إلى مصر لأول مرّة سنة 1831م في عهد "محمد علي" متولياً منصب مساعد القنصل الفرنسي، وعامله "محمد علي" بلطف كبير لما كان بينه وبين والده "ماتيو ديليسبس" من صداقة قديمة، وكان "ماتيو ديليسبس" يشغل منصب قنصل فرنسا العام في مصر سنة 1803م، وعهد "محمد علي" لـ"فرديناند" بأن يقوم بتعليم ابنه "محمد سعيد" ركوب الخيل وبعض الرياضات الأخرى، وهكذا توثقت العلاقة بين "فرديناند" و"سعيد" باشا
وحدث أن وقع في يد "فرديناند ديليسبس" بحث المسيو "لوبير" عن وصل البحرين الأحمر والأبيض، فأعجب بالفكرة للغاية، ومع أنه ترك مصر وتنقل بين عدد من البلاد مع بعثته الدبلوماسية، إلا أن فكرة المشروع لم تغب عن باله أبداً
الحصان هو السبب!
وحاول "فرديناند ديليسبس" أن يقنع "محمد علي" بمشروع حفر القناة، ولكن الباشا العجوز كان أذكى من أن يجعل من مصر بؤرة تتصارع على احتلالها كل دول العالم، فرفض عرض "ديليسبس"، وكذلك فعل "عباس"، ولما تولى "سعيد" حكم مصر، استبشر "ديليسبس" خيراً، وأرسل إلى صديقه القديم يهنئه بارتقائه العرش، ويبلغه بعزمه على الحضور إلى مصر ليقدم له التهاني، وعندما وصل إلى مصر قابله الباشا بحفاوة كبيرة، ثم اصطحبه في رحلة من رحلاته العسكرية التي كان يخرج فيها على رأس جنده، وسار معه من الإسكندرية إلى القاهرة عن طريق الصحراء الغربية، وكان "سعيد" يقود في هذه الرحلة جيشاً مكوناً من 10 آلاف مقاتل
فاغتنم "ديليسبس" هذه الفرصة لمفاتحة الباشا في أمر المشروع، وكان لمهارته في ركوب الخيل أثر كبير في التأثير على رأي الباشا!! فقد حدث أن امتطى "ديليسبس" جواداً أهداه له الباشا، فوثب به فوق حاجز عال من الأحجار على مرأى من حاشية "سعيد"، فأعجبوا به وبمهارته وفروسيته، وفي اليوم التالي فاتح "ديليسبس" "سعيد" في أمر المشروع، وذكر له أنه إذا وافق خلّد العالم ذكره إلى الأبد!!
وعلى الرغم من أن "سعيد" كان يصرح دائماً بأنه لا يخالف وصايا أبيه في الإعراض عن حفر القناة، إلا أنه ضعف أمام إغراء "ديليسبس"، وقبل المشروع، ووعد "ديليسبس" بمساعدته في تنفيذه، وعندما استدعى "سعيد" قادة الجيش ليعرض عليهم الأمر، سارعوا إلى استحسان المشروع دون أن يبحثوه فقد كانوا لا يزالون معجبين بفروسية "فرديناند ديليسبس"!!
ديليسبس يتكلم!
يقول "ديليسبس" ساخراً من هذا الموقف: "جمع سعيد باشا قواد جنده، وشاورهم في الأمر، ولما كانوا على استعداد لتقدير من يجيد ركوب الخيل ويقفز بجواده على الحواجز والخنادق أكثر من تقديرهم للرجل العالم المثقف، فقد انحازوا إلى جانبي، ولما عرض عليهم الباشا تقريري عن المشروع، بادروا إلى القول بأنه لا يصح أن يرفض طلب (صديقه)، وكانت النتيجة أن منحني الباشا ذلك الامتياز العظيم"
وذكر "ديليسبس" عن "سعيد" نفسه أنه قال له بعد أن منحه الامتياز: "أعترف لك أنني لم أفكر كثيراً في الموضوع، وإنما هي مسألة شعور"!!
إذن فبهذه الطريقة الفريدة من نوعها حصل "فرديناند ديليسبس" على موافقة صديقه "سعيد" على منحه امتياز حفر قناة السويس
طريقة غريبة حقاً للموافقة على قرار مصيري كهذا، ولكنها ليست أغرب من محتوى عقد الامتياز نفسه كما سنرى في الحلقة القادمة بإذن الله
وكم ذا في مصر من المضحكات المبكيات!
هل تعتقد أن مستقبل مصر كان سيتغير لو لم يتم حفر قناة السويس؟!
rkhm hgs,ds hgjd pEtvj lk H[g ,efm pwhk!