][][§¤°^°¤§][][ أحـــــــــــول الإنسان في هذه الدنيا][][§¤°^°¤§][][المقدمة:
أن الحمد لله,نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلامضل له ومن يضلل فلاهادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنكم ما خُلقتم عبثا، ولم تتركوا سُدى، خلقكم الله لعبادته، وأمركم بتوحيده وطاعته، وأوجدكم في هذه الدار، وأعطاكم الأعمار، وسخر لكم الليل والنهار، وأمدكم بنعمه، وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه؛ لتستعينوا بذلك على طاعة الله، وأرسل إليكم رسوله، وأنزل عليكم كتابه؛ ليبين لكم ما يجب وما يحرم، وما ينفع وما يضر، وما أنتم قادمون عليه من الأخطار والأهوال لتأخذوا حذركم وتستعدوا لما أمامكم. جعل هذه الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء، وحذركم من الاغترار بهذه الدنيا والانشغال بها عن الآخرة؛ لأن الدنيا ممر والآخرة هي المقر، وإذا لم تسر ـ أيها العبد ـ إلى الله بالأعمال الصالحة وتطلب الوصول إلى جنته فإنه يسار بك وأنت لا تدري، وعما قريب تصل إلى نهايتك من هذه الدنيا وتقول: رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 10-11].
ابن آدم، إنك في هذه الدنيا تتقلب بين أحوال ثلاثة:
الحال الأول: نِعَم تتوالى من الله عليك تحتاج إلى شكر، والشكر مبني على أركان ثلاثة: الاعتراف بنعم الله باطنا، والتحدث بها ظاهرا، وتصريفها في طاعة موليها ومعطيها. فلا يتم الشكر إلا بهذه الأركان، ولا تستقر النعم إلا بالشكران.
الحال الثاني: ما يجري على العبد في هذه الدنيا من محن وابتلاءات من الله يبتليه بها، فيحتاج إلى الصبر، والصبر ثلاثة أنواع: حبس النفس عن التسخط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى إلى الخلق، وحبس الأعضاء عن أفعال الجزع كلطم الخدود وشق الجيوب ونتف الشعر وأفعال الجاهلية. ومدار الصبر على هذه الأنواع الثلاثة، فمن وفاها فله أجر الصابرين، وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10].
والله سبحانه لا يبتلي العبد المؤمن ليهلكه، وإنما يبتليه ليمتحن صبره وعبوديته لله، فإذا صبر صارت المحنة منحة، واستحالت البلية في حقه عطية، وصار من عباد الله المخلصين الذين ليس لعدوهم سلطان عليهم، كما قال تعالى لإبليس: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الإسراء: 65]، وقال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 99-100].
الحال الثالث: ابتلاؤه بالهوى والنفس والشيطان، فالشيطان العدو الأكبر، وهو ذئب الإنسان وعدوه، وإنما يغتاله ويظفر به إذا غفل عن ذكر الله وطاعته واتبع هواه وشهوته، ولكن الله سبحانه فتح لعبده باب التوبة والرجوع إليه، فإذا تاب إلى الله توبة صحيحة تاب الله عليه وأخلصه من عدوه ورد كيده عنه، وإذا أراد الله بعبده خيرا فتح له باب التوبة والندم والانكسار والاستعانة بالله ودعائه والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات، وأراه عيوب نفسه وسعة فضل الله عليه وإحسانه إليه ورحمته به. فرؤية عيوب النفس توجب الحياء من الله والذل بين يديه والخوف منه، ورؤية فضل الله توجب محبته والطمع بما عنده، فيكون بين الخوف والرجاء، ويكون من الذين يدعون ربهم خوفا وطمعا.
عباد الله، إن الإنسان إذا طالع عيوب نفسه عرف قدرها واحتقرها، فلا يدخله عجب ولا كبر، وإذا نظر في فضل ربه عليه أحبه وعظمه. وأول مراتب تعظيم الله سبحانه تعظيم أوامره ونواهيه، وذلك بفعل ما أمر الله به من الطاعات وترك ما نهى عنه من المعاصي والسيئات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "تعظيم الأمر والنهي لا يعارضا بترخص جاف، ولا بتشدد غالٍ، ولا يُحملا على علة توهن الانقياد".
وقد وضح ابن القيم كلام شيخه هذا فقال: ومعنى كلامه أن أول مراتب تعظيم الله عز وجل تعظيم أمره ونهيه، وذلك لأن المؤمن يعرف ربه عز وجل برسالته التي أرسل بها رسوله إلى كافة الناس، ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه، وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عز وجل واتباعه وتعظيم نهيه واجتنابه، فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالا على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق وصحة العقيدة والبراءة من النفاق الأكبر.
فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود التي رتبها الشارع على المناهي، فليس فعله وتركه صادرا عن تعظيم الأمر والنهي ولا تعظيم الآمر والناهي.
فعلامة التعظيم للأوامر رعاية أوقاتها وحدودها والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها والحرص على فعلها في أوقاتها والمسارعة إليها عند وجوبها والحزن والكآبة والأسف عند فوت حقّ من حقوقها كمن يحزن على فوت صلاة الجماعة ويعلم أنه لو تقبلت صلاته منفردا فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضعفا، ولو أن رجلا يعاني البيع والشراء يفوته سبعة وعشرون دينارا لأكل يديه ندما وأسفا، فكيف وكل ضِعف مما تضاعف به صلاة الجماعة خير من ألف وألف ألف وما شاء الله تعالى؟! فإذا فوت العبد عليه هذا الربح وهو بارد القلب فارغ من هذه المصيبة غير مرتاع لها فهذا من عدم تعظيم أمر الله تعالى في قلبه، وكذلك إذا فاته أول الوقت الذي هو رضوان الله تعالى، أو فاته الصف الأول الذي يصلي الله وملائكته على ميامنه، ولو يعلم العبد فضيلته لجاهد عليه ولكانت قرعة. وكذلك الجمع الكثير الذي تضاعف الصلاة بكثرته وقلَّته، وكلما كثر الجمع كان أحب إلى الله عز وجل، وكلما بعدت الخطى إلى المسجد كانت خطوة تحطّ خطيئة وأخرى ترفع درجة.
وكذلك فوت الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى الذي هو روحها ولبها، فصلاة بلا خشوع ولا حضور قلب كبدن ميت لا روح فيه، أفلا يستحي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبدًا ميتا أو جارية ميتة؟! فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو أمير أو غيره؟! فهكذا سواء الصلاة الخالية من الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها، فهي بمنزلة هذا العبد أو الأمة الميتين اللّذَيْن يراد إهداء أحدهما إلى بعض الملوك، ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا، فإنه ليس لعبد من صلاته إلا ما عقل منها، كما في السنن والمسند وغيره عن النبي أنه قال: ((إن العبد ليصلي الصلاة وما كتب له إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها إلا خمسها)) حتى بلغ عشرها.
ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه، فالرياء وإن دقّ محبط للعمل، وكون العمل غير مقيّد باتباع السنة محبط له أيضا لقوله : ((من عمل عملا ليس عليها أمرنا فهو رد)) أي: مردود على صاحبه غير مقبول عند الله تعالى، والمنّ بالعمل على الله مفسد له، قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17]. والمن بالصدقة والمعروف والبر والإحسان مفسد لها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264].
وقد تحبط أعمال الإنسان وهو لا يشعر، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2]. وحذر المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله كما يجهر بعضهم لبعض وهم لا يشعرون بذلك، وليس ذلك بِرِدَّةٍ، بل معصية تحبط العمل وصاحبها لا يشعر بها.
وقد يتساهل الإنسان بالشيء من المعاصي وهو خطير وإثمه كبير، كما قال تعالى: وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15]، وفي الحديث: ((إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإن لها عند الله طالبًا))، وقال بعض الصحابة: (إنكم لتعملون أعمالا هي في أعينكم أدق من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله من الموبقات).
عباد الله، ومن علامات تعظيم حرمات الله ومناهيه أن يكره المؤمن ما نهى الله عنه من المعاصي والمحرمات، وأن يكره العصاة، ويبتعد عنهم، ويبتعد عن الأسباب التي توقع في المعاصي، فيغض بصره عما حرم الله، ويصون سمعه عما لا يجوز الاستماع إليه من المعازف والمزامير والأغاني والغيبة والنميمة والكذب وقول الزور، ويصون لسانه عن ذلك، وأن يغضب إذا انتهكت محارم الله، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقوم بالنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وأن لا يتبع الرخص والتساهل في الدين، ولا يتشدد فيه إلى حد يخرجه عن الاعتدال والاستقامة؛ لأن من تتبع الرخص من غير حاجة إليها كان متساهلا، ومن تشدد في أمور الدين كان جافيا، ودين الله بين الغالي والجافي. وما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو، فإن الشيطان يأتي إلى العبد، فإن وجد فيه فتورا وتوانيا وترخصا ثبطه وأقعده وضربه بالكسل والتواني والفتور وفتح له باب التأويلات، حتى ربما يترك هذا العبد أوامر الله جملة، وإن وجد عنده رغبة في الخير وحبا في العمل وحرصا على الطاعة وخوفا من المعاصي أمره بالاجتهاد الزائد حتى يزهده في الاقتصار على الحد المشروع، فيحمله على الغلو والمجاوزة وتعدي الصراط المستقيم، كما يحمل الأول على القصور دون هذا الصراط ويحول بينه وبين الدخول فيه.
فاتقوا الله عباد الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 5-6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
يتبع