دار الأبرار ودار الفُجَّار
قال الله تعالى: {ونُفِخَ في الصُّورِ فصَعِقَ من في السَّمواتِ ومن في الأرضِ إلاَّ من شاءَ الله ثمَّ نُفِخَ فيه أُخرى فإذا هم قيامٌ يَنظُرون(68) وأشرقتِ الأرضُ بنورِ ربِّها ووُضِعَ الكتابُ وجيءَ بالنَّبيِّينَ والشُّهداءِ وقُضيَ بينهم بالحقِّ وهم لا يُظْلَمون(69) ووفِّـيَّتْ كلُّ نفْس ما عملتْ وهو أعلمُ بما يفعلون(70) وسيقَ الَّذين كفروا إلى جهنَّم زُمَراً حتَّى إذا جاؤوها فُتِحتْ أبوابُها وقال لهم خزنتُها ألم يأتِكم رسلٌ منكم يتلونَ عليكم آياتِ ربِّكم ويُنذِرونَكم لقاءَ يومِكم هذا قالوا بلى ولكن حقَّتْ كلمةُ العذابِ على الكافرين(71) قيل ادخلوا أبوابَ جهنَّم خالدين فيها فبئسَ مثوى المتكبِّرين(72) وسيقَ الَّذين اتَّقوا ربَّهم إلى الجنَّة زُمَراً حتَّى إذا جاؤوها وفُتِحتْ أبوابُها وقال لهم خزنَتُها سلامٌ عليكم طِبْتم فادخلوها خالدين(73) وقالوا الحمدُ لله الَّذي صَدَقَنا وعْدَهُ وأورثنا الأرضَ نَتَبَوَّأُ من الجنَّة حيث نشاءُ فَنِعْمَ أجرُ العاملين وترى الملائِكةَ حافِّينَ من حولِ العرشِ يسبِّحونَ بحمدِ ربِّهم وقُضِيَ بينهم بالحقِّ وقيل الحمدُ لله ربِّ العالمين(75)}سورة الزمر(39)
ومضات:
ـ يعرض الله تعالى مشاهد من يوم القيامة بصورة تنبض بالحياة، حتَّى لكأنها تجري أمام ناظرَي القارئ أو السامع للقرآن الكريم، لعلَّه يدرسها ويأخذ العبر منها.
ـ يبدأ العرض الإلهي بتصوير مشهد من مشاهد فناء الأكوان كلِّها، بحيث لا يبقى بعد النفخة الأولى غير الله الواحد القهَّار، ومن شاء له تعالى أن يبقى. ومن ثمَّ يأذن الله تعالى فيُنْفَخُ في الصور النفخة الثانية، فتعود الحياة من جديد إلى جميع الخلائق، ولكنَّها لا ترى سوى نورٍ وحيدٍ شاملٍ وغامرٍ مصدره ربُّ العالمين.
ـ تقام المحاكمة الإلهية للنَّاس بحضور الأنبياء والشهداء، حيث لا يُظلم أحد شيئاً، ويُوفَّى كلٌّ منهم نتائج عمله.
ـ تُصوِّر الآيات مشاهد الرحيل الجماعي، حيث تساق جماعات الفجَّار إلى جهنَّم مذمومة مدحورة، وتُشرَّف جماعات الأبرار بدخول الجنَّة معزَّزة مكرَّمة.
ـ يجري في أحد مشاهد يوم القيامة حوار بين ملائكة العذاب وبين الكفرة، حيث تُؤنِّبُ الملائكةُ الكفرةَ فيسألونهم سؤالاً استنكارياً: {ألم يَأْتِكم رسلٌ منكم} ويجيبون مع كلِّ الخزي والخُسران: بلى ولكن ما الفائدة؟ لقد جاء الإقرار بعد فوات الأوان.
ـ عند أبواب الجنان تستقبل الملائكة وفود المؤمنين، وترحِّب بهم وتشرف على محافل تكريمهم: {سلامٌ عليكم طِبْتُم فادخلوها خالدين}.
ـ لا يملك المؤمنون عند رؤية ما أعدَّ الله لهم من حسن الثواب، إلا المبادرة إلى حمده تعالى وشكره على تحقيق وعده، وإنزالهم حيث يشاؤون، متنعِّمين في جنان ورياحين.
ـ تُكْشَفُ الحجب بالنسبة لأهل الجنَّة بعد دخولها، فيرون عرش ربِّهم تعالت قدرته وعَظُمت هيبته، والملائكة تطوف من حوله مسبِّحة ممجِّدة مُقِرَّةً بوصول كلِّ ذي حقٍّ إلى حقِّه، ويردِّدُ الجميع هتاف الشكر والثناء ويقولون: الحمد لله ربِّ العالمين.
في رحاب الآيات
:
مشهد حيٌّ حافل بالصور الحيوية والأفعال والظلال، يطوي في تضاعيفه قصَّة البعث والنشور، تتسارع الأحداث فيه وتتعاقب، ولكن حين تتملاَّها العين، ويعيَها القلب، تنبعث القشعريرة في أعماقه، وكلَّما كان وعي الإنسان أكبر، وتفتُّحه أعظم، كلَّما كانت الهزة الَّتي تعتريه أقوى وأعمق. ولو أن الإنسان آمن بمضمون هذه الآيات ساعة من نهار لانقلبت موازين حياته، ولحرَّم على نفسه الظلم والاعتداء، والشرور والآثام، ولآثر الباقي على الفاني، ولغدا نظيفاً طاهراً مؤهَّلاً لدخول مملكة الله: {يومَ لا ينفَعُ مالٌ ولا بنون * إلاَّ من أتى الله بقلبٍ سليم} (26 الشعراء آية 88ـ89).
والآيات تبدأ بفعلين متتاليين: (نُفِخَ، صَعِقَ) أمَّا النافخ فهو إسرافيل عليه السَّلام بأمر ربِّه، وأمَّا المصعوق فهو كلُّ من خلقه الله في السموات والأرض حيث يخرُّ ميتاً إلا من شاء الله بقاءه. ثمَّ ينفخ في الصور نفخة أخرى، وهي نفخة الإحياء، فإذا جميع الخلائق يقومون من القبور ينظرون ماذا يُؤمرون في هذا اليوم، يوم الحساب، حيث لا شمس ولا قمر ولا نجوم ولا كواكب، فكلها اندثرت وزالت، ولكنَّ نور الله باق وهو الَّذي يضيء أرض المحشر، حين يتجلَّى الباري جلَّ وعلا لفصل القضاء بين العباد.
ووُضع الكتاب الحافظ لأعمال العباد، وجيء بالنبيِّين ليشهدوا على أممهم، وأُحضر الشهداء وهم الحفظة من الملائكة، الَّذين يسجِّلون أعمال العباد خيرها وشرِّها. في هذا اليوم يُجازى كلُّ إنسان بما عمل من خير أو شرٍّ، والله تعالى عالم بعمل الجميع ولا حاجة به إلى كتاب ولا إلى شاهد، ومع ذلك تشهد الكتب إلزاماً للحُجَّة على عباده.
ويُطوى مشهد الحساب ليُنشر مشهد آخر، هو فرز النَّاس إلى فريقين: أهل النَّار وأهل الجنَّة. أمَّا أهل النَّار فيُساقون أفواجاً أفواجاً إلى جهنَّم، سوق المجرمين إلى القصاص، لا يملكون سبيلاً للاعتراض ولا يستطيعون التلكُّؤ أو الفرار، وهم يساقون كما يُساق الأشقياء إلى السجون مع الإهانة والتحقير على ضروبٍ شتَّى.
وما إن يصل هؤلاء إلى أبواب جهنَّم حتَّى تُفتح لهم سريعاً ليدخلوها، فإذا دخلوها أُغلقت عليهم، ودار حوار بين خزنتها من الملائكة، وبين المجرمين الَّذين كفروا بالله وأشركوا به، وطغَوا واستعلَوا في الأرض، إنه حوار ينطوي على التأنيب والتقريع: أَلَمْ يأتكم رسل من البشر يتلون عليكم الكتب المنزَّلة من السماء؟ ويخوِّفونكم من شرِّ هذا اليوم العصيب؟ فيقولون: بلى، قد جاؤونا وأنذرونا، وأقاموا علينا الحجج وقدَّموا البراهين، ولكنَّنا كذَّبناهم وخالفناهم، فحقَّ علينا عذاب ربِّنا، فتقول لهم الملائكة: ادخلوا جهنَّم لتَصْلَوْا سعيرها ماكثيـن فيها أبـداً، بلا زوال ولا انتقال، فبئس المقام والمأوى للمتكبِّرين عن الإيمان بالله وتصديق رسله.
وأمَّا الَّذين اتَّقَوا ربَّهم فيساقون إلى الجنَّة جماعات جماعات، وهم الشهداء والعلماء والأتقياء وغيرهم ممن عمل بطاعة الله تعالى. والآية الكريمة عبَّرت عن دخول الفريقين إلى الجنَّة أو النَّار بلفظ واحد مشترك وهو قوله تعالى: {وَسِيْقَ}، إلا أن كيفية السَّوْق لكلِّ فريق تختلف عن الأخرى، وتتناسب مع حالهم وأعمالهم الَّتي قَدِموا بها على ربِّهم، فسوق أهل النَّار هو طردهم وَدَعُّهم إليها بالخزي والهوان دعّاً، وسَوْقُ أهل الجنَّة هو سَوْقُ مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان، لأنهم يَذهبون إليها راكبين كما يُفعل بمن يُشرَّف ويُكرَّم من الوافدين، فالفرق بين السَّوقين كالفرق بين المصيرين.
فإذا وصل المؤمنون الجنَّة وجدوا أبوابها مفتَّحةً لهم مستعدَّة لاستقبالهم، وهذا لعظيم كرامتهم عند الله تعالى، وهم يساقون إلى الجنَّة بحسب مراتبهم، المقرَّبون فالأبرار ثمَّ الَّذين يلونهم، كلُّ طائفة منهم مع من يشاكلهم، الأنبياء مع الأنبياء، والصدِّيقون مع الصدِّيقين، والشهداء مع أمثالهم، والعلماء مع أقرانهم وهكذا.
وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {يومَ نحشُرُ المتقينَ إلى الرحـمنِ وَفْـداً} (19 مريم آية 85) وقوله تعـالى: {ونَسـوقُ المجْرِمين إلى جهنَّم وِرْداً} (19 مريم آية 86).
ومما يجدر ذكره أن للجنَّة أبواباً ثمانية، روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما منكم من أحد يتوضأ فيُسبِغ الوضوء، ثمَّ يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنَّة الثمانية يدخل من أيِّها شاء» (رواه مسلم وغيره)، وأخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنَّة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريَّان لا يدخله إلا الصائمون».
فإذا وصل أهل الجنَّة إلى جنانهم استقبلتهم الملائكة استقبالاً طيِّباً بالسَّلام والتحيَّة، والثناء المستحبِّ، مع بيان السبب، لقد طبتم وتطهرتم بطاعة الله والعمل الصالح، وجئتم طيِّبين، فما يكون في الجنَّة إلا الطيِّب، وما يدخلها إلا الطيِّبون، ولكم الخلود في هذا النعيم.
هنا تتعالى أصوات أصحاب الجنَّة بالتسبيح والتحميد، لأن الله صَدَقَهم وعده الَّذي وعدهم به على ألسنة رسله الكرام فيقولون: الحمد لله الَّذي أَنْزَلَنا هذه الدار، نتصرَّف في أرض الجنَّة تصرُّف الوارث فيما يرث، فنتَّخذ منها مسكناً حيث شئنا، فنِعْمَ الأجر أجرنا على عملنا، ونِعْمَ الثواب الَّذي أعطيتنا!! وترى الملائكة محيطين بجوانب العرش، قائمين بجميع ما يُطلب منهم، يسبِّحون الله ويمجِّدونه تلذُّذاً وتعبُّداً، ثمَّ يُختم المشهد وألسنة الخلق تلهج بالشكر والحمد لله ربِّ العالمين، الَّذي قضى بين عباده بالحقِّ والعدل، وهو أحكم الحاكمين.