الملاحظات
صفحة 2 من 6 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 58

الموضوع: رواية تناديني سيدي

  1. #11  
    المشاركات
    3,260




    وتلاقت عيونهما تحت نور الشمس , فتابعت :
    " أن أمريتو الذي يعمل عنده وجدني في البحر وجاء بي الى الجزيرة , وقال المركيز أن عليّ البقاء في القلعة الى أن يتم الأستفسار عن مخدمتي ومعرفة ما أذا كانت بين الذين تم أنقاذهم , وقد نجت وسلمت ولكنها تركتني شريدة وليس لي من أحد إلا دون جوان , أنه يعطف عليّ بطريقته الخاصة".
    " ألم تفكري بأن له أسما مشهورا يا آنسة؟".
    " ألم تقل بأن له أسما مشهورا يا آنسة؟".
    " كان دون جوان الآخر يحطم القلوب وظل قلبه سليما".
    " أتظن أن قلبي في خطر؟".
    " أن المركيز شخصية مرموقة".
    " وأنا لم أكن قبل أسبوعين غير خادمة يا سيد كورتيز".
    " ألا تتكرمين وتنادينني بأسم ريك".
    " أتصر على أن نكون أصدقاء؟".
    " أكثر من قبل , وأذا لم تقولي لي أسمك , فسأدعوك سوليداد".
    " أسم حزين!".
    " معناه فتاة الوحدة , وهي حالة أرى أن أغيّرها".
    " أنت واثق من نفسك؟".
    " ألا تريدين الخروج من صدفتك؟".
    " يبدو أنها عملية مؤلمة".
    " أعدك بأنها لن تكون مؤلمة أطلاقا. ". وأخذ بيده الزهرة التي وضعتها في شعرها وقال:
    " الحياة كهذه الزهرة , مزيج من الحلاوة والمرارة , الى اللقاء يا سوليداد".
    ذهب مثلما جاء بهدوء وسط الأشجار , ولكن بعد لحظات سمعت أيفين صوت محرك سيارة سريعة , وتخيلت السيارة تشق طريقها في الريح , والشال الأحمر الذي يلف عنق الشاب يتطاير في الهواء حتى غابت السيارة عن الأبصار.
    وضعت أيفين الطفل في قماشته وأتجهت به الى الكوخ , كانت ماري بويز قد عادت حاملة معها شماما كبيرا ذهبيا , تناولت معها فنجان قهوة , ولما حان موعد عودتها الى القلعة أصرت ماري لويز على أعطائها شمامة , كانت كبيرة ناضجة حتى أن أيفين لم تمانع في أخذها , لهذا وصلت القلعة وهي حاملة الشمامة على ذراعها والأبتسامة على شفتيها.
    دخلت من حاجز حديد مشغول في الباحة , وأنتابها الذعر على الفور أذ وجدت دون جوان مشغولا وفي رفقة حسناء جميلة ذات ثوب من الشيفون الأرجواني وعلى رأسها قبعة عريضة تكشف عن وجه أبيض وعينين واسعتين سوداوين.

    وقفت أيفين عند الحاجز حاملة الشمامة وتمنت لو أنها من الضخامة بحيث تخفي ساقيها المتسختين برمال الشاطىء ووجهها الملوح بالشمس , بعيدا عن الجالسين تحت الشجرة المزهرة بلون ثوب الحسناء.
    وببطء رفع دون جوان رأسه ,وفي لحظة لا نهائية بدت عيناه كأنما تركز على أيفين بكل شبابها وعدم أناقتها , كان يرتدي بدلة بيضاء زاد من نصوعها شعره الغزير الذي يلمع كجناح غراب.
    في تأديب جم متعال , وقف مستعينا بعصاه الأبنوسية وحيّا أيفين وقال :
    " الرجاء المجيء والتعرف على دونا راكيل فونسكا , كنت أحدثها عن تتلمذك على يد أبيها".
    تقدّمت أأيفين بكل طاعة , وهي لا تزال تحمل الشمامة , وشعرت بعينين فاتنتين تفحصانها هي وثوبها القطني , فقالت راكيل بصوت دافىء مغناج وبلهجة حلوة:
    " كم يسرني التعرف عليك يا آنسة بلغريم ".
    ثم ضحكت مبهورة وحولت نظرها الى المركيز.
    " جوان , أنك لم تقل لي أن الفتاة التي تشملها بوصايتك هكذا أبنة للطبيعة! ما أروعها بالشمامة وكل شيء الآن أفهم لماذا ترغب في وضعها تحت جناحك الرحيم".
    هزّ دون جوان رأسه كما لو كان موافقا على كل كلمة خرجت من بين شفتيها الحريريتين الورديتين , كلمات تحط من أيفين بسخرية مبطنة , الشمامة وكل شيء ! كانت أيفين تريد أن تلقي بالشمامة بين الشجرة ولكنها عندما تذكرت ماري لويز وسرورها في أهدائها أياها , خجلت من نفسها بما قالته تلك الفتاة التي في غنى عنها وعن شمامتها , قالت أيفين:
    " أتطلع الى مقابلة السيد فونسكا , عرفت من السيد المركيز أن أباك رجل علم وثقافة قدير".
    كانت محاولة متعمدة من أيفين للعودة , وقد شعرت الى جانبها بصلابة دون جوان وصفائه , وهو يقول لها:
    " دونا راكيل باقية للغداء معنا في القلعة , لديك نصف ساعة يا أيفين كي تستعدي لمشاركتنا".
    " أترغب في مشاركتي لكما؟".
    قالت أيفين ذلك وكانت تأمل أن تعفى من عذاب الجلوس الى المائدة مع الفتاة الأسبانية ذات الثوب الأنيق والماكياج الكامل , والشعر الذي لم يحركه هواء البحر المالح في الشاطىء.
    أجاب دون جوان:
    " هذه رغبتي".
    ولمحت أيفين أبتسامة تنفرج على شفتي دونا راكيل.
    وعلّقت راكيل:
    " رغبتك أمر مطاع ما دمت الوصي , أليس كذلك يا جوان ؟ ونطقت أسمه بعذوبة كأنما تعانقه.
    " سأذهب وأستعد , أرجو أن تأذنا لي".
    وكادت أيفين أن تركض بعيدا عن وصيّها وضيفته , وكانت أظافرها تخدش الشمامة التي ألقت بها على الفراش عندما وصلت الى غرفتها .











    رد مع اقتباس  

  2. #12  
    المشاركات
    3,260



    وتطلعت الى صورتها في مرآة خزانة الثياب فأذا بها تبدو كمتشردة صغيرة تعيش على الأحسان , فهل من الغرابة أن تتخذها راكيل فونسكا هدفا للتسلية وبعض العبارات المبطنة؟
    فتحت الخزانة وأخرجت التنورة الخضراء والبلوزة ذات الكشكشة , وبينما كانت تغتسل وترتدي ثيابها تساءلت متى تصل ثيابها الجديدة من مدريد , كانت في البداية تتمنع في الموافقة على طلبها , أما الآن فهي مسرورة لأنه تم طلبها , وبما أن دون جوان وصي عليها فستضطر الى مقابلة أصدقائه وهو لا يرغب أن يحرج بسببها , ولا هي تريد أن تهينها فتيات لم يعرفن أبدا ما معنى أن تكون الفتاة يتيمة ثم خادمة تعمل من الفجر الى أن تأوي الى فراشها.
    كان غداء بهيجا بالنسبة الى راكيل التي كانت خبيرة بكل الأساليب التي تفتن الأسباني , فيها دلال وغنج وتظاهر بالرزانة , وخيل لأيفين أن وصيها المترفع مسحور براكيل , كان يصغي اليها والأبتسامة على شفتيه , كما ضحك عندما وصفت الحفل الذي حضرته على ظهر يخت يملكه ميتادور مشهور.
    " كانت أزرار قميصه ماسية , يا جوان , وقال أنه في المرة القادمة التي يزور فيها أشبيلية علي أن أراه وهو يصارع الثيران في الحلبة وقال سيقدم أليّ أذن الثور".
    " يا للفظاعة!".
    نطقت أيفين بالعبارة قبل أن تتمكن من حبسها , ثم تابعت:
    " أقصد بالنسبة الى الثور , لا الأزرار الماسية".
    نظرت اليها راكيل ببرود , وتركت شوكتها فوق طبقها المملوء بالحلوى , وقالت:
    " من السخرية أن تظن البريطانية أننا قساة بسبب مصارعة الثيران , أليس صحيحا أن مواطنيك يذهبون للصيد بستراتهم الحمراء , وأعتقد أنهم يطاردون الثعلب أو الأيل؟".
    " أنا أكره الصيد كذلك".
    قالت أيفين ذلك وقد شحب وجهها , لأنها تذكرت صوت الأبواق في صباح ضبابي , وتذكرت موت أبيها في أصطبلات بيت ساندل الريفي , وتابعت:
    " الذين يعتقدون أن الرياضة هي مهاجمة الطرائد وتمزيقها لا يشعرون بأي شيء سوى الأثارة من وراء قسوتهم , وأتمنى أن تحظر بلادي الصيد".
    وتحدث دون جوان بهدوء مع شيء من الصرامة في صوته:
    " أن مصارعة الثيران شيء مزر , لقد كنت أكره دائما حجب عيون أحصنة البيكادور ( الفارس الذي يهيّج الثور ويغرز الرماح في عنقه)".
    " أنت تقول ذلك يا جوان لأن الحصان ".
    وحسم جوان الموضوع قائلا:
    " لن نناقش المسألة يا راكيل".
    ولاحظت أيفين أنه أبتسم ولكن عينيه كانتا ساكنتين كالبحيرات التي قد تخفي أعماقها أشياء كثيرة غامضة , ثم غيّر الموضوع قائلا:
    " ستكون هناك حفلة موسيقية في نادي هيدالغو , وأظن أن أيفين قد تستمتع بها".
    ونظرت راكيل عبر المائدة الى أيفين وهي بثوبها الريفي وشعرها المضفر ورقبتها النحيلة العارية من الحلي , وأبرزت الفتاة الأسبانية حليها وقالت برزانة:
    " أمتأكد يا جوان أن موسيقانا ستعجب الآنسة بلغريم؟ أنها تختلف عن موسيقى الغيتار الشعبية التي تسمعها في بلادها"
    ونظر الى أيفين وسألها:
    " هل أنت من عشاق الموسيقى الشعبية؟".
    " في الواقع يا سيدي لم يكن لدي الوقت لأعرف , بين حين وآخر كانت هناك حفلات رقص في البيت وكان يتم أستئجار فرقة موسيقية للمناسبة , غير أن أصدقاء مخدومي لم يكونوا من أفراد المجتمعات الدولية".
    وأبتسم , وفي لحظة محيرة بدا كما لو أنها نفدت الى عينيه السوداوين ووجدت فيهما وعدا بالعطف والملاطفة.
    " أعتقد أننا نستطيع الأطمئنان يا راكيل أن أيفين لم تفقد بعد قيمها البريئة , وموسيقى عازف الغيتار مانريك كورتيز لن تشيع سدى".
    وبدا وكأن قلب أيفين تخطى أحدى دقاته , أنها ستكون برفقة دون جوان عندما ترى ثانية الشاب الذي سمّاها فتاة الواحدة ( سوليداد ) , هذه الحفلة المتوعة ستكون مثيرة!











    رد مع اقتباس  

  3. #13  
    المشاركات
    3,260



    4- ليلتك سعيدة يا صغيرة



    كان بيت الزهور أشبه بكهف ظليل كله شذى , وخيوط الشمس الذهبية تبرز الزهور المتعددة الألوان وبعض ثمار الزينة الصغيرة فوق شجر اللوتس , أنه الملجأ الذي تلوذ به أيفين لتطالع كتابا أو لتستمتع بالكسل , وهي تنتظر على أحر من الجمر اللحظة التي يأخذها فيها المركيز الى السيد فونسكا , أنها تتطلع الى التلمذة وتتوق لتعلم الفن وتاريخه وكل الأشياء التي ستوفر لها حياة العمل لأن العمل هو خبز الحياة كما يقولون.
    كانت تحدّث نفسها قائلة أنها أشبه بتمثال الأنثى غالاتيا الذي نحته بغماليون , أو مثل أليزا دولتيل بطلة رواية ( سيدتي الجميلة) التي صقل لهجتها السوقية وهذبها أستاذ مثابر عنيد.
    غير أن فكرة الشخصية الأخيرة جعلتها تبتسم , وذلك لأن دون جوان ليس بالأستاذ العنيد , أنه أسباني نبيل شملها بوصايته لأن في ذلك تسلية له.
    أعتادت التنزه بمحاذاة الصخور عند ميناء الصيد الصغير , وكانت أذا أنحسر الماء تجد على الشاطىء قناديل البحر وغيرها من الأصداف والأسماك القشرية , تلك القرية الصغيرة تسمى سان كاليز وفيها تراقب أيفين الصيادين وهم يسحبون شباكهم , أو تتجول في الشوارع الضيقة المسقوفة بالقناطر , ثم تخرج منها الى حيث نور الشمس.

    هناك دخان الأخشاب المشتعلة الذي ينتشر في الهواء , وطاحونة هواء لري المزروعات تزيد في سحر الجزيرة , وأطلال دير قديم كان معزولا عن العالم , وكان رهبانه فيما مضى من الزمان يدافعون عن سكان الجزيرة بأطلاق النار من مدفع قديم على مراكب القراصنة الشراعية.
    كل هذا فتن أيفين , فهي لم تكن أبدا فتاة مدينة , لهذا فهي تمرح في الرمال وتركض بمحاذاتها , وشعرها يتطاير من ورائها , كانت تحملق كالحالمة الى القلعة الرابضة على الضخور , بجدرانها المقوسة وبأبراج زواياها المتوهجة , وبرجها البحري بنوافذه الضيقة وهي تلمع تحت أشعة الشمس الذهبية.
    كان دون جوان هناك في القلعة , سيد قلعتها التي لاذت اليها , رجل مهذب ومترفع يجب أن يعطي الأنطباع بأنه غير عاطفي , وتساءلت أيفين عما أذا كان قد تعرّض للأذى عندما كان في ليما وتذكرت أنها يوم تحدثت عن الجياد غيّر الموضوع , لقد تعرّض لأصابته عندما كان يمتطي صهوة جواده . أهذا هو سبب خلو أصطبلات القلعة من الجياد؟
    عندما عادت أيفين عصر ذلك اليوم الى القلعة , وجدت أن علب الثياب الجديدة قد وصلت في غيابها , وقد صفت في غرفتها فوق السرير وعلى الكراسي , وسرعان ما فضّت أغلفتها وفتحتها بشوق لترى محتوياتها .
    ضاعت يداها في ثياب رقيقة بيضاء وتفاحية , وأخرى داخلية في علبة فضية , وأحتكت أصابعها بثياب من الجيرسيه والشيفون المتعدد الثنيات وثياب مسائية من المخمل اللامع , وأخرى للشاطىء أو نهارية بسيطة منها ما بلون الشمس ومنها ما هو أخضر أو برونزي يتناسب مع لون شعرها , وكانت هناك أحذية لكل المناسبات وشيء في علبة طويلة تجرأت ولمسته.
    مرت أصابعها المترددة على الفراء العسلي اللون. لا بد أن هناك خطأ , أن دون جوان لم يتحدث عن قطعة من الفراء , ومع ذلك جاءتها هذه القطعة , وهي ذات زر كبير من الفراء أيضا يجمعها على الكتفين ولها شرائط حريرية تحت الفراء لأدخال الذراعين فيهما.
    وضعتها على كتفيها وكأنها في حلم ونظرت الى المرآة وحملقت في صورتها , أيفين ترتدي فراء! أيفين الخادمة في ثياب الأميرات!

    عبق وجها كله بحمرة الخجل , أنها لم تفهم دون جوان عندما قال أنها ستكون تحت وصايته , لقد قال عازف الغيتار مانريك كورتيز أن الناس كانوا يتحدثون عنها , أتراها ببراءتها جعلت المركيز يفترض أنها في مقابل الثياب الجميلة ستنصاع لطلبات تتجاوز وصايته عليها؟
    مزقت غلاف العلبة , وألقت به على الفراش وخرجت مسرعة من الغرفة , ولم تتوقف عن الجري الى أن وصلت غرفة مكتبه في أعلى البرج البحري , وطرقت الباب قبل أن تفقد أعصابها , كانت ستبلغه أن الثياب شيء غال جدا بالنسبة اليها , وأنها أنما كانت تريد أشياء بسيطة للغاية , عليها أن توضح له الأمور أنها فتاة رزينة , وليست واحدة يمكن شراؤها بفراء.
    دعاها صوت عميق بالأسبانية للدخول , فأخذت نفسا عميقا قبل أن تدير قبضة الباب وتدخل , أنها غرفة دائرية , وللوهلة الأولى تذكرت الشخص النحيل الجالس وراء مكتب خشبي فخم , كان يرتدي قميصا حريريا مفتوح الرقبة , وشعره يبدو غير ممشط لكثرة ما عبث فيه بأصابعه , وسحابة دخان سيكاره تحيط به.
    " أخيرا عرفت الطريق الى برج المراقبة".
    ونهض على قدميه وأومأ اليها بالجلوس على مقعد قريب مكسو بالمخمل الأسود , وقد أطلق على غرفة مكتبه برج المراقبة لأنها كانت تستعمل قريبا لمراقبة سفن القراصنة الشراعية , وكان أحد أفراد أسرة ليون قرصانا بحريا معروفا.
    كشفت أبتسامته عن أسنانه البيضاء في لمحة وقال:
    " أن تاريخ أسرتي كثيرا ما فتنني وأنا الآن أقوم بكتابته".
    أشار الى مجموعة المخطوطات والمفكرات والمذكرات المفتوحة على مكتبه , وأضاف:
    " أنها عملية شائقة , فقد كان في العائلة عسكريون ومكتشفون وقراصنة وشعراء".
    نظرت أيفين الى وجهه الأسمر الوسيم , يبدو رجلا شديد الجاذبية في قميصه الحريري الأبيض وشعره المنفوش, وخفق قلبها . أنه رجل يحمل في عروقه دم سلفه القرصان ! ودفعها الخجل الى تحويل عينيها عنه والنظر الى غرفة مكتبه , كانت خالية من الزينة بأستثناء الخزائن الجدرانية الحافلة بالتذكرات وبعض البنادق والتماثيل الخزفية الصغيرة لرجل كان وافر النشاط فيما مضى , وهناك أقنعة وأشياء من أماكن غريبة , وكتلة من الفضة , لعلها أول قطعة أستخرجها.
    أعاد النظر اليها من خلال دخان سيكاره , فقالت:
    " جاءت الثياب من مدريد".
    " آمل أن تعجبك".
    " دون جوان".
    " نعم يا أيفين".
    كان ترديده لأسمها , ونبرة صوته المخملية , والطريقة التي نظر بها اليها مما جعلها تشعر بالذعر فقالت:
    " لقد أرسلوا قطعة فراء للكتفين يا سيدي , هل أمرت بذلك؟".
    " طبعا فعلت".
    كان في أعماق عينيه شيء غامض , وتابع:
    " شال الفراء يناسب من هي في مثل عمرك ألم يعجبك يا آنسة؟".
    " أنه جميل , ولكنني لا أستطيع قبوله !".
    " لم لا؟".
    " أنه غال جدا".
    " أذا أصبح الفراء على كتفيك فلن أسأل عن ثمنه".
    " ولكنني أنا سأسأل يا سيدي!".
    " أنت يا آنسة؟".
    " وسحب نفسا من سيكاره ثم قال:
    " وهل تتوقعين دفع قيمة الثياب كذلك؟".
    أجابت: " الفراء عادة يدفع ثمنه مرتين".
    ودق قلبها بجنون , لأن وجهه كان ساكنا , ولكن النار كانت تتأجج في عينيه , وأمسكت بحافة المقعد وكانت على وشك الخروج.
    فقال ممازحا:
    " أذن لقد خطرت لك نيتي الخبيثة , وأنت فتاة لا تشترى بالفراء , يا لخيبة أمل سيد القلعة , ماذا تراه سيفعل الآن لأغراء الفتاة البريئة. هل سيتغلب على وساوسها في الحلقة الثانية من الرواية ؟".
    تطلعت اليه أيفين وحمرة الخجل تسري في وجهها , نفض رماد سيكاره في منفضة برونزية وقال :
    " أي روايات غريبة كانت السيدة ساندل تأمرك بقراءتها لك , يا صغيرتي , لقد أعطيتك الثياب الجديدة لأنك في حاجة اليها ,ولأن الفتيات الصغيرات ينبغي أن يتوفر لهن أشياء جميلة , أظن أن أحدا لم يعطك هدية منذ وقت طويل , ولهذا فأنت في شك من الهدايا , لا حاجة لذلك , الفراء ضروري الى ذهبنا الى المسرح أو للعشاء مع أصدقائي , وبما أنك تحت وصايتي فأنا أريد أن تكوني أنيقة".
    أبتلعت أنتقاده لظنونها وقالت:
    " آسفة لغباوتي يا سيدي".
    " أنا لا ألومك , فقد أشتغلت لدى أمرأة غبية زرعت في رأسك أن الحب بين الكبار سلعة , شيء يباع ويشترى , وأنا شخصيا أعرف أن هناك أناسا تشرّبوا هذه الفكرة , أن أسرة أبي لم تستطع أبدا فهم أبي الذي آثر الحب على الأقتران بفتاة باردة غنية , ولم يغفروا له ذلك الى يوم مماته".
    أستقرت عيناه طويلا على قطعة الفضة التي أستخرجها من البراري الموحشة في شبابه.
    " كانوا يسمونني أبن الساحرة , وكانوا يقولون أن أمي قد نفخت في أبنهم روح الفجر ولاموها عندما وافته المنية , كان أهلها من المحازبين , وقد حاربت أمي وأبي في تلال أسبانيا مع المحازبين الى أن قتل أبي".
    تعلّقت عينا أبن روزاليتا بعيني أيفين وأسرتهما , ثم نهض المركيز واقفا وبمعاونة عصاه مشى يعرج الى نافذة من نوافذ برجه البحري.











    رد مع اقتباس  

  4. #14  
    المشاركات
    3,260

    قال وهو يفتح النافذة وهواء المساء يندفع منها:
    " تعالي وتأملي غروب الشمس في البحر".
    تقدمت أيفين وهي خجلى , لكي تنظر الى الغروب , لهيب عظيم يحترق ويشق طريقه في المياه البعيدة ويضيء بألوانه الأمواج الحريرية .
    وتنفست قائلة:
    " في منتهى الروعة والقسوة ". ثم تابعت : " أن قلعتك مصانة وهي لا بد قديمة جدا".
    " نحو مئة سنة يا آنسة".
    ولمعت عيناه عندما وجد أنه شيء مسل أن تظن مرتهقة جميلة الساقين أنه واقع في غرامها , وأضاف:
    " كانت القلعة الأصلية بناء غير منتظم , ولكنني أرى أن المبنى الحالي متناسق وأكثر جاذبية , ما رأيك؟".
    " أنا أحبها".
    قفزت العبارة دافئة من بين شفتيها , وزادت:
    " ما كان يدور بخلدي أبدا أن أعيش في قلعة , ما أشبه ذلك بحكاية خرافية".
    " وأنا الغول؟".
    " كلا".
    " لا داعي للمجاملة , لماذا لا تجدني فتاة صغيرة شخصا منحوسا بساقه العرجاء وأجتراره للماضي".
    أبتعد عنها بدون أن ينتظر جوابا وعرج عائدا الى مكتبه , وقال :
    " غدا مساء سنتناول العشاء في النادي مع السيد فونسكا وأبنته , وأحب أن ترتدي شيئا من الثياب الجديدة".
    " حسنا يا سيدي".
    سمعت أمر الأنصراف في صوته ومشت نحو باب برجه , ثم توقفت وعادت تنظر اليه:
    " شكرا للثياب الجميلة يا دون جوان , أنا ممتنة حقا".
    " أنها ضرورية لحياتك الجديدة ". قال ذلك بوضوح وهو يدرس ورقة مخطوطة , وأضاف:
    " سأشتغل معظم هذا المساء , في رعاية الله".
    رافقتها العبارة الأخيرة بالأسبانية الى أن وصلت غرفتها , حيث مضت تملأ خزانة الملابس بثيابها الجديدة وممتلكاتها الرائعة , وتأملت ثوبا مخمليا نصفه السفلي على شكل جرس ثم ألتفتت بأهتمام الى ثوب من الشيفون ذي تكسيرات من كتفيه الى ذيله , لم يسبق لها في حياتها أن عانت من مشكلة أختيار ثوب للذهاب الى العشاء مع رجل في ناد ليلي فخم , كان أشبه بحلم , ولكن عندما قرصت جسمها أحست بألم فعلي.
    الثياب حقيقية والقلعة حقيقية وفي الصباح لن تستيقظ على صوت جرس أيدا ساندل , ذلك كله كان صفحة ماضية . وهذا كله صفحة جديدة من حياتها الآتية.
    وبعد أن تناولت العشاء وحدها , جلست عند نافذة غرفة نومها وأخذت تراقب النجوم اللامعة المطلة على البحر , وتنشقت رائحة نعنع الماء وتساءلت ماذا سيقول عنها مانريك كورتيز مساء الغد وهي في ثيابها الرائعة.
    خفق قلبها بهدوء من الأثارة , أن مانريك رآها جذابة , وعندما لمست شعرها , تذكرت كيف كان الشبان على سطح الباخرة يتجاهلونها فلا يعيرونها نظرة ثانية , لقد كان يؤذيها أن تكون زهرة حائط , وذلك جعلها تشعر بالوحدة وأنه غير مرغوب فيها , وهي تراقب الفتيات الأخريات يرقصن مع الشباب , وأحيانا كانت تبكي في سكون الليل , وتاقت لشخص يقول لها أشياء لطيفة.
    وجاء مانريك وحدثها بما تاقت اليه , ولعلله عندما سيراها سيطلب مراقصتها.






    رد مع اقتباس  

  5. #15  
    المشاركات
    3,260




    أقبل المساء التالي وأختارت ثوبا مخمليا أحبت لون قماشه الذهبي اللامع , وخاصة السترة القصيرة المطرزة , وموّجت شعرها الذي غسلته في الصباح , وشدته في أعلاه , ووضعت على وجهها القليل من البودرة , وأحمر الشفاه وظلا خفيفا للعين , وكان محل الأزياء قد أرسل لها مع الثياب الجديدة مجموعة من مواد التجميل , وراعتها فتنة نضوجها , وظهر بريق عينيها الذي كانت تحجبه النظارات فيما مضى , وبضحكة سعيدة أنحنت لخيالها في المرآة , سرّها أنها ستبدو جميلة. أمام مانريك والآن عليها أن تهبط الدرج وتقدم نفسها للوصي عليها.
    كانت أصايعها تمسك محفظة يدها المخملية بشيء من الأضطراب وهي في طريقها الى القاعة , وقبل أن تصل الى أسفل الدرج الحلزوني لمحت قامة وصيها السمراء عند فتحة القاعة المؤدية للخارج , وكان يعلوها مصباح يلقي عليه بضوئه ذي المظلة كما لو كان على تمثال . ولم يتحرك ولم يتكلم إلا بعد أن ألتقت عينا أيفين به.
    وتوقفت أيفين عند الدرج وقربت محفظة يدها الى قلبها .
    " أوه , مساء الخي يا سيدي".
    مد يده اليها , فأقبلت صوبه بلا تردد , وقال:
    " أصبحت ناضجة جدا".
    وعندما أمسك بيدها ظنت أنه سيرفعها ويقبلها , ولكنه لم يفعل , بل جذبها ناحية الضوء وتفحص وجهها , ثم قال:
    " أحمر الشفاه زائد , تعالي!".
    وأخذها بيده الى الصالون.
    وتأمل مرآة على الحائط , وقال آمرا:
    " أمسحي الأحمر ".
    وأطاعته , ولكنها كانت ترتعد في دخيلة نفسها , هل كانت تظن أن هذا الرجل سيعجب بالثوب الذي أشتراه؟ يا له من أمل كاذب ! أن كل ما يطلبه هو أن تشرفه أمام أصدقائه.
    " أهكذا أفضل يا سيدي؟".
    وأستدارت لتواجهه , فأثار فيها كل أرتباك الشباب عندما نظر اليها نظرة شاملة , ل تحظ منه بقدر من أبتسامة وقد أنحنى على عصاه وأخذ يتفحصها وكأنها لوحة على حائط لا فتاة حية ينبض قلبها بسرعة.
    أستقرت عيناه على عنقها الصغير العاري , وقال:
    " تزيين الصغيرات باللاليء أشبه بتهذيب الزنبق , ولكنك أعتقد أنك ربما تحبين هذه".
    وأخرج من جيبه عبة حلي وأعطاها أياها , فتحت غطاءها بأصابع مرتعشة وألتقطت أنفاسها بعدما رأت قلادة ذهبية مجدولة تزدان هنا وهناك بوريقات ناعمة من أحجار كريمة خضراء وقالت:
    " أنها نادرة وقد أموت من الخوف أذا فقدتها".
    كانت على وشك أن تغلق العلبة عندما مد يده وأخرج القلادة ثم قال:
    " تعالي هنا".
    ولم تجرؤ على عدم طاعته , وأحست بأنفاسه بعدما أصبحت القلادة حول رقبتها وأصابعه تربط مشبكها.
    " أستديري يا أيفين".
    أستدارت ثم ضحكت ضحكة عصبية مفاجئة وقالت:
    " آه لو رأتني الآن السيدة ساندل!".
    " ماذا يمكن أن تقول؟".
    " لا بد أن المفاجأة قد تعقد لسانها".
    " حقا يا أيفين".
    " من قبل , لم يكن عندي أي ثوب جميل . وكنت دائما أبدو شنيعة في لون البيج , وكانت ترغمني على وضع نظارة".
    أخذ وجهها بيده وكأنه زهرة وقال:
    " أن بصرك لا يبدو ضعيفا , ماذا حدث للنظارة؟".
    " ضاعت في البحر".
    " عليك أن تتركي الذكريات الحزينة تضيع أيضا يا آنسة , أعدك بأنك لن تلبسي اللون البيج أثناء وجودك في القلعة".
    " أنا ممتنة لعطفك يا سيدي".
    " لا أريد شكرا , وأنا لست عطوفا بوجه خاص".
    وكانت أسيرة لعينيه لحظة , ثم ترك وجهها وقال:
    " هيا , أمامنا ستة أميال للوصول الى بورتو دي ليون , ولا أريد أن نتأخر على راكيل وأبيها".
    تقدمته أيفين وهما يخرجان من الغرفة ثم من القلعة , وفتح السائق باب السيارة فدخلت أيفين وكأنما تسمع همس ثوبها المخملي , وتبعها دون جوان بأرتباك بسبب عرجه , ووقعت عصاه على أرض السيارة , وأستعادتها أيفين بسرعة , وجفلت عندما قبضت أصابعه على أصابعها وعصاه, وشكرها بأحترام , وبدا وجهه جامدا كقناع قاس عندما سقط عليه ضوء مصباح سقف السيارة.
    أنكمشت أيفين في ركن السيارة يعد الخروج من بوابة القلعة , وبدت فتية القوام في ثوبها وقلادتها.
    شعرت وكأنها لن تفهم هذا الرجل أبدا , فهو حينا يبدو طيبا يفيض بالأنسانية , وحينا مترفعا لا سبيل للدنو منه , أنه أعطاها المسكن والمأكل والملبس , ولكنه يمنعها من أن تقدم له أي شيء في المقابل . حتى التعاطف والمحبة.
    وتأملت ملامحه الجانبية لها فبدت جامدة كأنما هو رجل من حجر .
    لم تكن أيفين تدري أن نادي هيدالغو ن بمثل هذه العظمة ! كانت هناك عدة سيارات متوقفة أمامه , وعدة نوافذ طويلة تشعشع بضوء الشمعدانات البلورية , وهواء النادي يعبق بعطور النساء وموسيقى الأوركسترا.
    أستقبل المركيز دي ليون والفتاة التي في صحبته بالترحاب ونظر الناس اليهما الى أن أوصلهما الخدم الى مائدتهما التي كان يشغلها رجل ذو شعر فضي وذقن وقور , ومعه راكيل فونسكا الجميلة.
    " شكرا لمجيئك".
    ووقف السيد فونسكا , ولمحت أيفين عينيه الورديتين فزال أضطرابها فورا , وأنحنى على يدها عندما قدّمها المركيز وكان يبدو ألطف من أبنته التي كانت تتفحص ثوب أيفين المخملي وقلادتها الذهبية بعينين ثاقبتين.
    وقالت راكيل بصوتها الدافىء:
    " جوان , من الصعب أن أتبين فتاتك التي شملتها بوصايتك كما كانت آخر مرة رأيتها , تصور يا أبي أنها كانت مسلية للغاية , عندما جاءت من الشاطىء , تحمل شمامة ضخمة وحسيتها تلميذة مدرسة , الليلة تبدو أنيقة للغاية ما أروع ما تفعله ثياب محلات غران فيا للمرأة".











    رد مع اقتباس  

  6. #16  
    المشاركات
    3,260




    إبتسمت بعذوبة بعدما أستقر الجميع في مقاعدهم , وتحدث دون جوان قائلا:
    " الليلة سنطيل السهرة قليلا".
    تطلعت راكيل عبر المائدة الى أيفين وقالت:
    " ن هذا ممتعا , ولكن لماذا هذه الليلة بالذات , أهو عيد ميلادك يا عزيزتي؟".
    أجابت أيفين:
    " كلا".
    وأشتدت قبضة يدها في حجرها ونظرت الى السيد فونسكا كأنما تسأله العون , ووجدته طيبا سمحا مما جعلها تشعر بالأطمئنان , وتابعت:
    " على الأقل أشعر كأنما ولدت من جديد , فكل هذا جديد بالنسبة الي".
    وهزت راكيل بيدها مروحتها التي كان رسم ورودها يتناسب مع لون ثوبها , وقال:
    " أظن أنك كنت مرافقة , أليس كذلك؟".
    وصححت أيفين قول راكيل وهي تدرك أنها على علم بأمرها ولكنها تجبرها على الجهر بذلك , فقالت:
    " مرافقة وخادنة".
    أبتسم السيد فونسكا وقال:
    " لا عجب أذا كان هذا كله يبدو لك أشبه بمولد جديد , أن جوان يرغب أن أعلمك الأسبانية وأشياء أخرى وأظن أنه سيسرني أن أكون مدرسا لفتاة جذابة مثلك".
    تمنت لو أستطاعت أن تحتضنه في هذه اللحظة , وقالت:
    " أنا تواقة للتعلم على يديك يا سيدي , وأحذرك بأنني سأكون تلميذة متعطشة للعلم".
    ضحكت راكيل وغازلت عيناها من فوق مروحتها دون جوان وقالت:
    " أصبح عندك في العائلة يا صديقي عاشقة علم , وسحب أبي شحنها بالمعرفة , ولكنني أرى أن الأفضل أن تستمتع بالحياة وأن تجمع حولها المحبين".
    وضحك السيد فونسكا وقال:
    " ترى ماذا يحدث يا جوان عندما يسمح الأسباني لأبنته بأن تتحرر ؟ أنها تتجه فورا الى الطراز الأسباني وتفكر فقط في الغرام".
    وقالت راكيل في دلال:
    " وأي شيء ألطف من التفكير في الغرام ؟ بالطبع أذا كانت الفتاة عادية , فمن الأفضل لها أن تكون ماهرة , وأنا لم أكن ماهرة جدا".
    رأت أيفين , من التلميحات فقط , أنها بالنسبة الى الفتاة الأسبانية تبدو ساذجة ومرتبكة , وغير معتادة على الظهور بمظهر المرتدية ثوبا غاليا من محلات غوان فيا , حدّثت نفسها قائلة أن الأكليل الذين تزيّن به رأسها يبدو غريبا ,وشفتيها باهتتين , أيعتقد دون جوان أن شفتي راكيل ورديتان بطبيعتهما؟
    كان قدوم الخادم بالمقبلات قد ساعد على فتح مجالات أخرى لحديث خفيف بهيج , وتوالت الأطباق الشهية بعد ذلك مما جعل وقت العشاء سارا وممتعا , وأيفين تستمع لما يدور من كلمة هنا وأخرى هناك , وعزفت الأوركسترا وأمتلأت حبة الرقص , وكانت تعرف أن مانريك كورتيز لا بد أن يظهر ويسحر الجو بصوته وغيتاره.
    هذا التفكير أضاء عينيها , وفي لحظة أدركت أن دون جوان كان ينظر اليها مباشرة , سألها:
    " أيسرك عزف الأوركسترا؟".
    تجرأت وإبتسمت له قائلة:
    " أنها تجعل المرء يشعر بالأرتياح والسرور".
    وأتجه أهتمامها بعد ذلك الى حلبة الرقص على مقربة من الأوركسترا حيث ظهر وسط عاصفة من التصفيق شاب يرتدي سروالا ضيقا قاتم اللون وقميصا فيه كشكشات , أنحنى , ونظر حواليه , وشعرت أيفين بأثارة شديدة عندما ألتقت عيناه بعينيها , أبتسم وشعرت كأن كل فرد قد عرف أنه أبتسم لها وحدها.
    " سيداتي سادتي , سأغني أغنية قديمة من أغاني أشبيلية".
    وأستند الى أحد الأعمدة وأحتضن غيتاره , وبدأت الأضواء تخفت , ثم قال:
    " تخيّلوا شرفة وفتاة , وتحتها في الليل عاشق يعرف أن هناك رجلا آخر يحول بينه وبين رغبته".
    أخذ مانريك يعزف على غيتاره , وبدا كأن الغيتار قد دبت فيه الحياة بين يديه , وشمل المكان سكون مطبق فلا قرقعة سكاكين أو ملاعق أو همسات زبائن , من قبل أحست أيفين عند الشاطىء بسحر صوته وموسيقاه , والليلة أختلطت موسيقاه بسهرة عشاء لم تتعود على مثلها , وأحست كأنها هي فتاة الشرفة في الأغنية , فتاة مرغوبة وممزقة بين عاطفتين.
    ووسط التصفيق الذي أعقب الأغنية , لاحظت راكيل أنه كان جذابا للغاية , وكانت أيفين تحس بنظراتها , فجفلت كأن الفتاة الأخرى لديها القوة على أفساد حلمها.
    مال السيد فونسكا يحاول تقديم شعلة لجليسه وقال:
    " أنه موسيقي بارع يا جوان , ولكن لا شك أن الشلبتين هنا تهتمان بشخصيته الجذابة".
    أحاط الدخان بعيني دون جوان , وشعرت أيفين بأنه يتطلع اليها , بينما أخذ مانريك يعزف بعض الموسيقى الأسبانية , وكانت قطعة موسيقية مرحة مليئة بالهيام الأسباني , وأبتعد عن العمود الذي كان يستند اليه وراح ينتقل بين الموائد , وقفز قلب أيفين الى حلقها عندما توقف عند مائدتهم وغنى شطرا من الأغنية خصيصا لها. ثم أبتعد.
    قالت راكيل وهي تهز مروحتها كجناح طير عنيف:
    " أن أيفين كانت تنظر اليه منذ اللحظة التي بدأ يغني فيها".
    وظلت أيفين لحظة صامتة , ثم نظرت الى راكيل وشعرت بدافع بدائي لشدّها من شعرها , وقالت :
    " الواقع أنني أعرفه , لقد ألتقيت به عند الشاطىء في اليوم السابق , وأصبحنا صديقين".
    أضيئت الشمعدانات في هذه اللحظة وكتم التصفيق للمغني كل كلام لعدة دقائق , ولكن نظرة راكيل كانت واضحة المعاني ,











    رد مع اقتباس  

  7. #17  
    المشاركات
    3,260



    وأدركت أيفين بتحد أن عيني المركيز قد ضاقتا.
    وبعد أن هدأت عاصفة التصفيق قال دون جوان:
    " لماذا لم تدعي السيد كورتيز الى القلعة؟ العادة لدى الأسبان أن يقدم الشاب نفسه رسميا الى والد الفتاة أو وصيها".
    أجابت:
    " أنني بريطانية , ومثل هذه العادات الفكتورية قد بطلت في بلادي ".
    وفي الحال وكأنما شعلة تلتهب في عمق عينيه قال:
    " عليك أتباع عاداتنا أثناء وجودك ضيفة في بيتي , في المرة التالية التي يقترب فيها شاب منك.".
    وتوقف في هذه اللحظة , أذ عندما بدأت الأوركسترا تعزف موسيقى راقصة , أقترب مانريك كورتيز من مائدتهم مرة أخرى , كان يرتدي جاكيت للسهرة وعلت وجهه مسحة مهذبة وأنحنى أمام المركيز وضيوفه , وسأل:
    " هل يسمح لي السيد المركيز بأن أطلب الآنسة الأنكليزية للرقص؟ لقد ألتقينا , ولكنني أنتهز الفرصة لأقدم نفسي رسميا لوصيها".
    وبدت المسألة بالنسبة الى أيفين كأنها تشاهد مشهدا في مسرحية من مسافة , وأنها واحدة من الجمهور لا واحدة من النجوم , رأت دون جوان ينفض رماد سيكاره , ومروحة راكيل تتوقف كأنما هي جناح مكسور , وقال دون جوان:
    " لا بد أن أهنئك يا سيد كورتيز على مهارتك كعازف , لقد أستمتعنا كثيرا بعزفك , ولو علمت من قبل أنك تعرف ضيفتي لدعوتك لمشاركتنا العشاء , ولعله يمكنك الآن؟".
    ونظر مانريك الى أيفين وأبتسم في عينيها وقال :
    " السيد المركيز كريم للغاية , ويكفيني جدا أن تسمح لي بالرقص مع الآنسة".
    وأتجه دون جوان بنظره مباشرة الى أيفين وسألها:
    " أترغبين في الرقص؟".
    وقالت مرتبكة:
    " أود حقا , ولكنني لا أجيد ذلك تماما".
    " دعيني أعلمك يا آنسة ". وساعدها على النهوض من مقعدها وتقدم بها الى حلبة الرقص , وهناك أحاطها بذراعيه وهمس : " مرحبا سوليداد , يا ألهي , كنت أشبه بمن يتقدم الى عرين الأسد لآخذك من الوصي العنيد!".
    " أعرف ماذا تعني".
    ثم ضحكت في خجل وأندمجت مع أيقاع الموسيقى ووجدت مانريك رفيقا ممتازا , أنه يحيطها بذراعين قويتين , وكتفه عند الأرتفاع المناسب تحميها من نظرات الوصي عليها ونظرات راكيل فونسكا , وقال يغيظها مداعبا:
    " قلت أنك لا تحسنين الرقص , أظن أنك فتاة غامضة , أخبريني مع من رقصت من قبل؟".
    " مع كبير الخدم , في سهرة العيد يوم كنت خادمة , وكان ذلك شرفا لأنه فضّلني على غيري".
    أستمرت ترقص مع مانريك نحو ساعة لم يغادرا فيها الحلبة , وعندما غادراها وجدت نفسها في الشرفة معه , النجوم تلمع في السماء , ورأسها وقلبها في دوامة , ضحكت بنعومة وقالت:
    " لم أسعد أبدا بوقت ممتع كهذا ! هل أنتصف الليل؟ وهل عليّ أن أبتعد سريعا قبل أن تزول أناقتي؟".
    أمسكها مانريك من ذقنها كأنما يتأمل عينيها , وفي الحال وجدت نفسها تتركه وتهبط درج الشرفة الى الحديقة , وتبعها وسرعان مت أختفيا وسط شجر اللوز وأحواض الزهور , هنا حيث الظلال والورود تقوم كحاجز بينها وبين دون جوان وسلطانه عليها , وأمسك بها مانريك عند شجرة وقال:
    " أنت رقيقة للغاية , أليس كذلك ؟ ولكنني معجب بك كما أنت بغير تصنّع".
    ومع أن قلبها كان يدق بسرعة من كثرة الرقص , ألا أنها لم تكن مضطربة مع مانريك مثلما هي الحال عندما تكون مع دون جوان , سألته:
    " أليست صداقتنا جديدة للتحدث عن الأعجاب؟".
    " كلا , أن الشباب الأسبان يرددون دائما أحاديث الأعجاب والهوى".
    " أنا لست أسبانية يا سيدي".
    " تعنين أنك لم تسمعي مثل هذا الكلام من الشباب؟".
    وهزت رأسها مبتسمة , فهي حتى الليلة لم ترقص مع شاب , ولم تعرف أثارة الخلوة مع شاب جذاب جريء , أن سهم الحب لم يعرف الطريق اليها بعد.
    " لقد كنت محاطة بحماية كبيرة ".
    " كنت معزولة , هذه الكلمة أفضل".
    قالت ذلك وداعبت بأصابعها ثوبها المخملي , وتابعت:
    " من الغرابة أن أجد نفسي في ثياب كهذه , كأنني متنكرة في ثياب فتاة أخرى".
    تطلّع مانريك اليها في الحديقة شبه المعتمة , وقال:
    " لكنك لست .زز المركيز غني وقد جعل نفسه وصيا عليك , هذه القلادة مطعمة بالماس والزمرد".
    لمست أصابعه القلادة وأرتعشت لسبب غريب , وقالت:
    " أنا ممتنة لك , ولكنني أشعر كأنني مملوكة له ".
    كانت يداه تمسكان بها عندما سألها:
    " ماذا تعنين ؟ أنه يعاملك مثل أبنته , أليس كذلك؟".
    " أجل.".
    " أذن لماذ تتحدثين عن الأمتلاك , أننا نستخدم الكلمة عندما نعني شيئا آخر معناه أنا أريدك كأمرأة وليس كإبنة !".
    تملصت من بين يديه وقالت:
    " لا تقل هذا ! لم أقصد شيئا كهذا , دون جوان وصي عليّ , وهو يحمل المسألة محمل الجد على نحو كبير , لقد طلب لي من أسبانيا مشرفة ترعاني , وقبل أن أعقد صداقة مع من أريد على أن أقدمه له للموافقة!".
    ضحك مانريك وقال :
    " الآن فهمت! هذا هو الحال مع الأب أو الوصي , وعليك أن تتوقعي من المركيز أن يعاملك على هذا النحو , أصبحت الآن مؤهلة تماما".
    أنتابتها الحيرة فسألته:
    " ماذا تعني , التحدث عن شخص أنه مؤهل يتضمن الزواج والمهر , أؤكد لك.".
    لمس مانريك خدها كأنه يهدىء من روعها وقال:
    " لقد تكررت الآن , يا عزيزتي , ما دمت تحت وصاية المركيز فأنك تحصلين منه على مساعدتك كثيرة , أنت تعرفين هذا بالتأكيد , كما أن الأسباني يتحمل مسؤولياته بصورة جادة".
    " كل ما أريده هو التعلم!".
    " يا لك من لطيفة وبريئة ! كل ما تريدينه هو تعلّم أحتياجات الفؤاد , دعيني أكون معلمك".
    ثم حاول أن يقربها منه أبتعدت وقالت:
    " كلا يا مانريك !".











    رد مع اقتباس  

  8. #18  
    المشاركات
    3,260




    ثم جمدت وصمتت أذ سمعت وقع خطوات على الممشى الممتد بين الشجر وقالت:
    " أنه هو".
    " أيفين , أين أنت؟".
    لم تستطع الرد عليه , ولم يحرك مانريك ساكنا أيضا , كانا يقفان على مقربة من بعضهما في ظلام الحديقة.
    وراح دون جوان يفرّق أغصان الشجر بعصاه وهو يتقدم منهما قائلا:
    " نحن على وشك العودة الى البيت".
    كان صوته مثل وجهه بلا تعبير , ولكنه أضاف موجها الكلام الى العازف:
    " أرجو أن تترك ضيفتي يا سيد , ويكفيها كل هذه الأثارة في ليلة واحدة".
    بدت أيفين شاحبة ومذنبة , وتنحى دون جوان جانبا حتى تتقدمه , وسمعته يقول لمانريك:
    " في المستقبل عليك أن تتذكر أنني وصي على أيفين , ومثل هذه الخلوات في الظلام تضطرني لمنعها من رؤياك".
    أستدارت كي تحتج ولكنه لوّح لها بالسير في الممشى , ولم تتجرأ على عدم أطاعته , أنه طويل وأسمر وجاد , وجمعت ذيل ثوبها وجرت متقدمة عنه , شعرت كأنها طفل ضبط متلبسا بسلوك سيء , وحاولت وهما في السيارة في الطريق الى البيت أن تدافع عن براءتها , فقالت وقد ركزت عينيها على الزجاج الذي يفصل بينها وبين سائق السيارة.
    " لم يحدث بيننا أي عناق".
    " أنا متأكد أن ذلك كان حتما سيحدث أذا تأخرت عن المجيء".
    " مثل عم من الزمن الفكتوري !"
    " أهذا هو شعورك؟".
    وعمقت أبتسامة صغيرة خطوط السخرية المحيطة بفمه , وأضاف:
    " البراءة تغمرك يا أيفين , ولكنني أعرف الشبان الأسبان وخبرتهم في المغازلة , ولا أريدك أن تخلطي بين الحديث الصريح لموسيقي شاب وسيم والأحاسيس العميقة الصامتة , أود أن تزداد معرفتك بالأسبان وبعاداتهم , وبعد ذلن لن تحتاجي لحماية عم من الزمن الفكتوري".
    وعضّت أيفين شفتها وقالت:
    " آسفة أن أكون قد أتعبتك وأصبحت عبئا عليك يا سيدي".
    " أنت تضيفين كلمات لم أستعملها يا آنسة , تقصدين تصرفي , عندما وجدتك مع هذا الشاب في ظلام الحديقة".
    " لقد كنت معه في حلبة الرقص. وهل هناك فرق كبير؟".
    " يا صغيرتي العزيزة , أذا كنت لا تعرفين الفرق , فهناك أذن نواحي أخرى من التعلم ينبغي أخذها بعين الأعتبار".
    نظرت اليه بسرعة ولمحت في عينيه السوداوين هذا البريق من الدعابة غير المتناغمة , وهذا ما جعلها تجفل أذ أن وجهه لم يكن ينم عن شيء , بل كان أشبه بنور الشمس المتجمعة في قاع بركة , كان ذلك البريق علامة للشيطنة وتذكيرا بأن جوان دي ليون لم يكن دائما رجلا أعرج.
    " أنت تمثل الطاغية الحديدي لكي تغيظني".
    ضم يديه على قمة عصاه الفضية وقال:
    ليس تماما , لقد عنيت ما قلته لمانريك كورتيز , يمكنه أن يكون صديقا لك لأنك في حاجة الى شاب تتحدثين اليه وترقصين معه . ولكنني لن أسمح بعلاقة غرام , هل فهمت؟".
    نظرت الى ملامحه الجانبية وشعره الدخاني عند السوالف , كان مزيج القوة والنضوج مزعجا , وكانت تود أن يكون مختلفا , كانت تود أن يكون هذا الرجل بمثاب الأب لها , ولهذا قالت:
    " نعم , فهمت يا سيدي , سأحاول فعل ما تشير به عليّ, ولكن ماذا عن شعوري؟".
    نظر اليها عن عمد وقال:
    " شعورك!".
    " لا يمكنك منعي من أن أحب".
    " أذا كنت تتحدثين عن غرام المراهقة السريع الزوال , فهذا شيء علينا جميعا أن نعاني منه الى أن يكتمل نمونا ونضجنا".
    قالت بهدوء:
    " قالت بهدوء:
    " لقد أكتمل نموي منذ بلغت الخامسة عشرة وفي حالتي , لا أظن أن مانريك يود أن يظل صديقا لي بعد الذي قلته له".
    نظر اليها دون جوان وقال:
    " الأسبان ليسوا بمثل هذه الحساسية , وهم أكثر أصرارا عندما يتطلعون الى هدف".
    وأبتسمت نصف أبتسامة وقالت:
    " مثل دون كيشوت مثلا؟".
    وتلاقت عيونهم:
    " بالضبط , هل قرأت مغامراته؟".
    " ضمن نطاق مطالعاتي قصص الحب للسيدة ساندل".
    أبتسم وقال:
    " مكتبتي في البرج البحري تزخر بكتب أنكليزية كثيرة , وهي لك للمطالعة والمتعة".
    شكرته وفكرت كيف تحول بلباقة من التحدث عن الرومانسية الى التعلم , يمكنها أن تظل صديقة لمانريك , ولكن المركيز لا يرى أنها ناضجة بما فيه الكفاية للحب.
    أخذت تحلم قليلا أحلام الفتيات ثم أستولى عليها النوم , ولما وصلت السيارة فناء القلعة كانت يد تلمس شعرها وسمعت صوتا يهمس بأسمها:
    " وصلنا البيت يا أيفين".
    قالت والنعاس ملء عينيها:
    " البيت؟".
    وعندما فتحت عينيها كان رأسها يستند على كتف مضيفها ووجهه قريبا منها , وفي أقل من ثانية أسرعت بالأبتعاد عن وجهه.
    " لقد غلبك النوم بعد كل هذا الرقص مع مانريك الوسيم , هيا ا , وتذكري أن غدا بداية دروسك مع السيد فونسكا".
    وبعدما خرجت من السيارة شبه نائمة , تبعت دون جوان على الدرج المؤدي الى باب القلعة الواسع , وبعدما دخلا القلعة أنحنى لها المركيز مودعا:
    " ليلتك سعيدة يا تلميذة".











    رد مع اقتباس  

  9. #19  
    المشاركات
    3,260



    عيون لا تنام

    كانت فيللا فونسكا تطل على مياه الميناء الزرقاء الحريرية , حيث مراكب الصيد راسية الى جانب الجدران التي يبللها البحر والتي شيدت من فوقها البيوت البيضاء , ركب دون جوان السيارة مع أيفين الى بيت فونسكا , ولكنها علمت عند وصولهما أن ركوبه معها لم يكن رغبة منه للأطمئنان على سلامة وصولها الى مدرّسها , بل لأن دونا راكيل في أنتظاره , تبدو كزهرة جميلة ندية , في ثوب من الدانتيل الأبيض , وقبعة عريضة ذات وردة تحت حافتها , كانت هي ودون جوان ذاهبين من الجزيرة الى الأرض الأم ( أسبانيا ) لقضاء اليوم , راكيل من أجل التبضّع والمركيز لأجراء بعض الأعمال.
    وقبل ذهابهما تناول الجميع الشاي بالليمون المبرد في باحة الفيللا , وكانت الباحة مكانا به زوايا رومانسية وأشجار زيتون قديمة ملتوية , وهناك مقعد يحيط بأحدى الأشجار , جلست فوقه راكيل بقبعتها العريضة , راضية لأن الرجل الأسمر النحيل ذا البدلة البيضاء الأنيقة ن لها وحدها طوال يوم كامل , قال لها:
    " أنت أشبه بلوحة للرسام الفرنسي رينوار".
    أبتسمت وأستقرت عيناها لحظة على أيفين في ثوبها الأصفر البسيط ذي الياقة الفراشية البيضاء , ثوب قصير بلا أكمام يكشف عن ذراعيها وساقيها , وشعرها الداكن ينساب فوق أحد كتفيها , وقد ربطته بشريطة خضراء.
    وسألته راكيل وهي ترف بأهدابها ناظرة اليه , كأنما تبعث اليه بلغة أهدابها أحدى الرسائل السرية المتبادلة بين المحبين:
    " جوان , وأي رسام قد يكون رسم ضيفتك؟".
    مال ببدلته البيضاء عند شجرة قاتمة , بينما كان السيد فونسكا يجلس مرتاحا فوق كرسي من الأغصان المجدولة يدخن سيكارة بفم من العظم الملون , وأجاب فونسكا على السؤال نيابة ع دون جوان الذي لا رأي له على ما يبدو بخصوص ضيفته فقال:
    " الرسام الفرنسي ديفاس , فهو وحده قادر على أن يصور هذه الأذرع والسيقان الرشيقة والعيون الواسعة , كان للبنات في لوحاته دائما سحر خفيف أشبه بسحابة صيف تسبح في الفضاء.
    ونهضت راكيل وهي تضحك وقالت:
    " أذن أنت يا عزيزتي لست مثلنا في أرض الواقع , أبي , أعط الحالمة الصغيرة قطعة أخرى من كعكة اللوز لئلا تصبح كالريشة في الهواء ".
    وضحك السيد فونسكا وقال:
    " هل أنت ذاهبة للتبضع ! جوان , خذ أبنتي هذه المدللة ودعني مع هذه الصغيرة التي لم يزدحم عقلها بصرعات الثياب والحفلات والملذات!".
    أبتسم جوان , وأمسك بعصاه ووقف قبالة أيفين , على النحو الذي عرفته جيدا , أنحنى نصف أنحناءة ثم نظر اليها وقال:
    " كوني طالبة مجدة يا صغيرتي , سأوجه لك أسئلة عندما نلتقي ثانية".
    تلاقت عيناه بعينيها ووجدت أنه أصبح مرة أخرى الوصي الجاد , أن الكتف الذي أستندت اليها كانت بعيدة غير حنونة , واليد التي تمسك بالعصا الأبنوسية يد لا رقة فيها إلا في الأحلام , تحدثت الى دون جوان قائلة:
    " آمل أن تستمتع بيومك يا سيدي".
    وأبتسمت لمدرسها , لأن الوصي عليها لا يريد على ما يبدو أبتسامات من أحد غير راكيل , أنها وحدها التي تحمل على ما يبدو مفتاح شخصيته المحيرة.
    وسألها دون جوان فجأة وفي أدب:
    " ماذا أحضر لك؟".
    أتسعت عيناها حتى لم تعد ترى وجها آخر غير وجهه الأسمر المميز , ولاحظت نظرة راكيل اللاهية ويدها التي تعبث بمقبض حقيبة يدها , وأجابت المركيز:
    " لا شيء , دون جوان".
    وعاد يسأل وفي عينيه أبتسامة:
    " ولا حتى علبة حلوى؟".
    فأجابته بأبتسامة مترددة:
    " حسنا , حلوى".
    ثم أستدار نحو السيد فونسكا وقال:
    " سنعود في ساعة متأخرة يا صديقي , ولكنني أعدك بأنني لن أترك أبنتك الجميلة تشرد بعيدا عني".
    وضحكت راكيل ضحكة دافئة وتأبطت ذراعه بعد أن قالت:
    " جوان , لا تبدأ في معاملتي بلهجة الوصي . لست في حاجة لذلك , فأنا لست مراهقة كما تعرف".
    أبتسم وقال:
    " أعرف يا راكيل , والآن علينا أن نرحل أذا كان علينا اللحاق بالباخرة".
    أنحنى دون جوان للسيد فونسكا , ونظر لحظة الى أيفين ثم رحل هو وراكيل من الباحة , وسرعان ما أختفى صوت عصاه وصوت كعب حذاء راكيل العالي عبر القاعة وأعقب ذلك أغلاق الباب.
    بعد دقيقة أو نحوها أستعادت أيفين كما أستعاد مدرسها الأحساس بالسكينة التي غمرت الباحة من جديد , كأنما كانت هناك عواطف متضاربة تتقاتل في نور الشمس , ولم يعد هناك الآن غير زقزقة الطيور الطبيعية ونفثات النافورة الموجودة على الحائط , كانت الفيللا مبنية على الطراز الباروكي وجدرانها صفراء , وهناك شجرة دقلى حمراء تفوح منها رائحة ذكية , قال فونسكا:
    " أنت أذن تواقة للتعلم , أكانت الفكرة فكرتك أم هي فكرة دون جوان ؟ أنه صاحب أرادة قوية , وهو شيء غير عادي أن تقدم فتاة جذابة على دراسة فلسفة الفن وتاريخه , أذ أن معظم الفتيات الصغيرات غارقات في الرومانسية".
    أبتسمت في حياء وأجابت:
    " أنا لم أحصل على تعليم حقيقي يا سيدي , ومما يشبه المعجزة أن يأتي بي دون جوان اليك لتتولى تعليمي , أنا أريد أن أتعلم وأتشرّب العلم وأنمو بفضله فالمرء بدون المعرفة يظل غير ناضج".











    رد مع اقتباس  

  10. #20  
    المشاركات
    3,260




    قال فونسكا:
    " لعله من غير العادي أن يتولى شخص أعزب رعاية فتاة , ولكن الحقيقة هي أنك غير عادية , وليس جوان بالرجل العاطفي , وأنني متأكد أنك لو كنت غير ذكية لأعادك الى وطنك مع شيء من المال وأنحناءة مهذبة , لقد قال لي أنه ليس لك عائلة".
    " لا أحد الآن".
    " هذا محزن بالنسبة اليك , كل شخص لا بد له من شخص آخر , لعلك تعتبرين دون جوان في منزلة العم؟".
    " كلا ". وأبتسمت أبتسامة تحولت الى ضحكة : " الواقع أنني لا أتصور نفسي أدعوه بالعم جوان , أنه مترفع جدا وله مكانته أنه أسد هذه الجزيرة".
    " وأنت تعتبرين نفسك نزوة من نزواته؟".
    " أجل".
    " أتعرفين يا صغيرتي أن الرجل الأسباني فيه قسوة وتفرّد ؟".
    " أعرف هذا الآن".
    مال فونسكا الى الأمام وعيناه تنصبان على وجهها وقال:
    " هل أعطاك جوان بالفعل الدليل على ذلك ؟ وفي أي ناحية؟".
    " أنه يعارض قليلا صداقتي مع مانريك كورتيز , أظن أنه يعتبرني غير ناضجة الى الحد الذي أستطيع فيه التعامل مع شخص منفتح مثل مانريك".
    " أنت تسرّين برفقة هذا الشاب؟".
    " من دواعي السرور دائما يا سيدي أن أجد صديقا لأنه ليس لي أصدقاء كثيرون , ومانريك مرح وحسن المظهر و.".
    أبتسم فونسكا وقال:
    "صداقته تشعرك بالرضا , وهذا شسء طبيعي , عندي أبنة وأعرف ماذا يعني للفتاة أن تحظى بالأعجاب".
    " أن دونا راكيل جميلة ". قالت أيفين ذلك بأخلاص وأن تكن الشكوك تساورها بالنسبة الى طبيعة ذلك الجمال , ثم قالت: " لا بد أنها دائما محط الأنظار".
    وصرّح الأب بدون أي أعتزاز في عينيه:
    " منذ طفولتها , أنها تشبه أمها , ولكن آنا كانت لطيفة وطيبة وكانت سنواتنا القليلة معا سنوات سعيدة جدا , وأبنتي راكيل فيها القليل من أمها , وأنا أشفق على الرجل الذي ستتزوجه".
    كانت أيفين تقطع لاهية أوراق أحدى الزهور , وأخذت تتخيل صورة راكيل وهي اليوم تضع يدها ذات الحلي في ذراع دون جوان , وأدركت أن راكيل قد وجدت أن من صالحها ومن المثير أيضا أن تصبح عروسا للمركيز , وتساءلت ماذا يمكن أن يحدث لها كضيفة لدى دون جوان.
    " فيم تفكرين يا صغيرتي وقد أكتست عيناك بالغموض؟".
    تطلّعت أيفين الى مدرّسها وجادت عليه بأبتسامة وقالت:
    " الحياة شيء محير للغاية , هل صحيح أن طريقنا مكتوب حتى قبل أن نولد".
    بدا على فونسكا التفكير ثم قال:
    " القدر , أنني أميل الى الأعتقاد أن أمام كل منا مفترق طرق في حياته , آه , أنت تفتحين عينيك العسليتين , هل قلت لك شيئا مهما يا آنسة؟".
    " نعم أنه لأمر غريب".
    ثم سقطت البراعم الصغيرة من يدها بينما أخذت تتفحص كفها التي رأت فيه أحدى الغجريات خطوط مفترق الطرق , وأخبرت مدرّسها بما قالت الغجرية عن كفها , وأنتظرت منه أن يبتسم ولكنه لم يفعل , قال:
    " لدى الغجريات , الرومانيات موهبة الأستبصار , والدة دون جوان كانت غجرية أسبانية , وأنني أتساءل أحيانا أذا كانت قد عرفت سلفا أن زواجها من والد جوان سينتهي بمأساة , أن المركيز الكبير ما كان ليقبل الفتاة الغجرية , وعندما وقعت المأساة وأصبحت أرملة , هربت مع أبنها الطفل جوان الى أميركا الجنوبية , وهناك ترعرع جوان وأصبح رجلا , وبفضل أرادته القوية وطموحه نجح في عمله بدون مساعدة أسرة والده , وكان ذلك في ليما.".
    وتوقف فونسكا وتفحص وجه أيفين ثم قال:
    " أن لك القدرة على الأصغاء بهدوء للرجل ألم يكشف لك جوان أبدا عن القليل من ألمه؟".
    وكررت كلمة ( ألمه ) وتذكرت اللحظات التي كان يبدو فيها تائها في بحر أكتئاب مظلم , والأوقات التي كان عبوسه يرعبها ويضطرها الى الأبتعاد عن طريقه.
    قال فونسكا:
    " أن ساقه لا تزال تتعبه , في البداية أراد الأطباء فيليما بتر الساق , ولكنه لم يقبل وسافر الى أنكلترا رغم بعدها , حيث أستعان بجراح عظام ماهر شرع في ترميم ساقه بواسطة سلسلة جراحات مضنية , مر بعدة أنتكاسات وعذابات , وكانت أعجوبة أن أحتفظ بساقه بعد تهشّم عظامها على أثر سقوطه بسبب أنكسار عظمة حافر الجواد الذي كان يركبه , كان جوان يحب القفز بالحصان وهو مسرع , ويوم وقع الحادث كان يصعد بالجواد فوق أحدى التلال , فأذا بالحصان يقذف به وتتهشم ساقه ثم يقع عليه الجواد ويتدحرجان معا".
    وألتقطت أيفين أنفاسها وتخيّلت بسرعة فظاعة الحادث , سقوطه من فوق صهوة الجواد , والتدحرج , والساق المهشمة , ثم قالت بصوت متألم:
    " لا بد أنه كان بمفرده في تلك البراري".
    " ظل كذلك بضع ساعات حتى مر به بعض الرعاة ووجدوه يعاني من الألم تحت الشمس المحرقة , والحصان ميت الى جانبه من الرصاصة التي أفرغها فيه كي يريحه من شدة الآلآم التي تعذبه , قال لي ذات مرة أن وجود المسدس في جرابه حفظه من الجنون ساعات الأنتظار , كان يعلم أن في أمكانه أذا عجز عن التحمل أن ينهي عذابه كما أنهى عذاب الحصان ".
    وهمست أيفين:
    " ليس لأحد غير صاحب أرادة حديدية أن يتحمّل ما تحمّله , الألم والشمس المحرقة وكونه بمفرده في مثل تلك الحالة".
    " يا صغيرتي أن دون جوان أسباني وغجري معا , من نوع الغجر الذين قاموا قديما بغزو عوالم جديدة وعانوا المشاق وسببوا لغيرهم المتاعب أيضا , وبفضل هذه القوة الكامنة فيه , والسيطرة على العواطف والأعصاب , تغلّب على الحادث بتحمله التعرضللشمس , وتحمل شهورا طويلة من العلاج البطيء , ثم عاد الى أسبانيا ليقيم وحيدا في قلعة حزينة , حزينة بسبب التعاسة التي عاشتها أنه بين جدرانها".
    قالت أيفين بنعومة:
    " لقد رأيت صورتها , من الصعب عليه أن يغفر لمن ألحقوا بها الأذى , كيف يظهرون لها الكراهية وهي أشبه بزهرة سمراء حلوة".
    أستفزت نظرات فونسكا بحزن على الورود النامية قرب حائط الباحة , وقال:
    " نعم , روزاليتا , لقد قابلتها في زيارة خاطفة للجزيرة , في تلك الأيام كنت أدرس للشهادة العليا بجامعة مدريد , ولم أكن قد أقمت بعد مسكني في الجزيرة , قابلت روزاليتا ووالد جوان قبل فترة قصيرة من مغادرتهما الجزيرة , وكأنما كتب عليهما ألا بعودا اليها بعد ذلك , كان تألقها قويا يشبه السحر , والمركيزة , جدة جوان أمرأة قوية السلطان لا تلين , أختارت لأبنها عروسا غنية ولكنه آثر أن يجعل من راقصة غجرية زوجة له , وأن تكون المركيزة في المستقبل ولهذا لم تغفر له أسرته ذلك".
    وتعجبت أيفين قائلة:
    " يا له من تكبّر وحرص على الجاه والمركز دون الحب!".











    رد مع اقتباس  

صفحة 2 من 6 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. رواية مجزرة الحولة من الطفل المذبوح رقم خمسين رواية 2013
    بواسطة иooḟ Ăł.кααьỉ في المنتدى خواطر - نثر - عذب الكلام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-Dec-2012, 02:08 AM
  2. تناديني وأجي ملهوف sms
    بواسطة لؤلؤة البحر في المنتدى مسجات و رسائل وسائط SMS & MMS
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 26-Mar-2011, 12:27 AM
  3. أنشودة تناديني
    بواسطة الريحــــانة في المنتدى تحميل و استماع اناشيد و صوتيات الاسلامية
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 10-Mar-2009, 12:07 PM
المفضلات
المفضلات
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •