[frame="7 80"]الحلقة السابعة والأربعون
حينما صلينا الظهر ذلك اليوم اقتربت من شيخنا وكان حوله حشد من الناس
فلما أبصرني نظر إلي نظرة أنكرتها !!
فسلمت عليه فقال لي هامسا في أذني: هل أخذت شيئا من شعر لحيتك
فقلت : أبدا والله !! لماذا
فقال : كأني ألاحظ أنك خففت منها!! ثم أكمل كلامه وقال:
ولتعلم أني قربتك مني لعلمي أنك صاحب دين ،وتتعلم لتعمل بعلمك!!
كانت تلك كما يقولون ضربة معلم ، وتوجيها لا أنساه أبدا ،ولا يفوتني القصد والغاية منه !!
والمعروف أن شيخنا يفتي بتحريم اخذ شيء من اللحية كما هو قول جمع من الفقهاء
ابتدأنا في أداء المناسك من الطواف وكان الزحام شديدا والجو خانقا، مع أننا في موسم الشتاء!!
انتهينا من أداء العمرة ثم توجهنا لمكان استراحتنا وهي شقة تابعة لأحد الإخوة واسمه محمد الغامدي وهو كابتن متقاعد ورجل فاضل من سكان جده
كنت أنا والأخ علي السهلي مكلفين بتنظيم برنامج الشيخ وتسجيله على أوراق
طوال فترة بقاءه في مكة
والبرنامج اليومي تقريبا سار بوتيرة واحدة ولا يختلف طوال بقاءنا إلا ما ندر
وبالجملة هو كالتالي : الصلاة فجرا في الحرم قريبا من كرسي الدرس في الطابق الثاني من الحرم ، ثم إلقاء الدرس والإجابة على الفتاوى المقرؤة حتى شروق الشمس ، ثم التوجه للسكن للنوم حتى قريبا من الظهر
ثم نتوجه للحرم لصلاة الظهر .
ثم يعود الشيخ لغرفته في الحرم ليستقبل الفتاوى من الهاتف لساعة وبعدها
يقيل حتى قريبا من أذان العصر بعد العصر تفتح بوابة الغرفة للزوار
والطلاب والمحتاجين وذلك حتى أذان المغرب ويفطر الشيخ مع الناس على
تمرات وقهوة وماء زمزم ، وشيئا من العصيرات إن أمكن إدخالها !!
ثم بعد الصلاة يتوجه الشيخ لمن حدد في البرنامج ويشترط فيهم شرطان:
أن لا يكون بعيدا عن الحرم وثانيا أن يوافق عليه شيخنا
وغالب من يدعو الشيخ هم من المشائخ والعلماء وكذلك عدد من الأمراء وأصحاب
الشيخ وأقاربه
ثم يتوجه الشيخ للحرم لصلاة العشاء والتراويح وذلك في الطابق العلوي
( السطوح ) قريبا من كرسي الدرس
ثم بعد الصلاة يتوجه الشيخ لكرسي الدرس ويلقي الدروس ويجيب على
الفتاوى حتى ينادى على صلاة القيام
فيصلي مع المسلمين حتى يختم بالقنوت
ثم يتوجه لطعام السحور وذلك حسب البرنامج المحدد والمكتوب
وهكذا طوال أيام العشر الأواخر حتى عودته للقصيم
الإنسان حينما يروي ويحدث الناس عن ذكرياته ومواقف حياته مثله مثل
الراكب على قطار سريع يسير في درب محدد ولوجهة مقصوده
والراوي يتلفت يمنة ويسرة ثم يحكي للناس ما استطاع بصره أن يعيه ويتلقفه !!
ولا يظنن ظان انه سيقدر على الإحاطة بكل ما رآه ويشاهد فهذا مما تفنى
الأعمار القصيرة ولا يفنى والله ييسر ويعين على ما تبقى
في ذاكرتي عن تلك الأيام صور شتى مبعثرة وغير مرتبة أنزعها من أطراف
الذاكرة وأطارد تلك ، فأمسكها وألقيها في دفتري بعد نظمه ،وتفوتني أخرى
فلا يمكنني اللحاق بها فهي طريدة صعبة المراس !!
ويحتاج الوصول إليها لجهد لعل الله مع الأيام يمكننا منها!!
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في مقدمة ذكرياته ( فهذه ذكرياتي .
حملتها طول حياتي ، وكنت أعدها أغلى مقتنياتي لأجد فيها يوما نفسي ،
وأسترجع أمسي ، كما يحمل قربة الماء سالك المفازة لترد عنه الموت عطشا ولكن
طال الطريق ، وانثقبت القربة . فكلما خطوت خطوة قطرت منها قطرة
حتى إذا قارب ماؤها النفاد وثقل علي الحمل وكل مني الساعد جاء من يرتق
خرقها ويحمل عني ثقلها الخ كلامه النفيس رحمه الله
ومع أنني والحمد لله ما زلت في عز شبابي ولم ابلغ ما بلغه الشيخ علي رحمه
الله في سنه إلا أنه وللأسف لم يبق في ذاكرتي مما يفيد وينفع الناس سوى
القليل النادر
كما سبق وذكرت كان البرنامج طوال الأيام العشر يسير بنمط واحد
وحيث أن الأخ علي قد سبق له أن رافق الشيخ فقد تولى تسجيل من
يدعونا، في دفتر أو ورقة يحملها معه فكان الشيخ يقول له
سجل عندك غدا السبت عند الشيخ عبد الرحمن السد يس والسحور عند
الشيخ عبد العزيز الحميدي وغدا عند فلان وهكذا
مما أذكره في تلك الأيام عدد من المواقف
كما لا حظتم لا ينام شيخنا طوال الليل إلا أن يغفو قريبا من النصف ساعة إن
وجد لها متسعا من الوقت قبل السحور
ذات يوم لم أتمكن أنا و شيخنا من النوم نهارا بسبب شغل ما ، فأثقل ذلك
علينا جدا فكنت أذهب للمسجد للصلاة أو لقراءة القرءان أو لاستماع الدروس
فتغلبني عيني فأنام ولا استطيع القراءة أو الإصغاء
غير أن المشقة الأكبر هي على شيخنا رحمه الله فهو لا يجد فرصة ليستريح
لكثرة الناس والمحتاجين
فتحنا الأبواب للناس كما هو العادة في عصر ذلك اليوم وجلس الشيخ للناس
والمحتاجين وللفتاوى عبر الهاتف
ولا تسل عن حال شيخنا المسكين فقد كان يرفع سماعة الهاتف ويستمع لسؤال
السائل فينام وتسقط سماعة الهاتف من يده فيرفعها ويقول : أعد سؤالك فينام
ويكاد يسقط على وجهه دون أن يشعر
وكان السائل يجلس بين يدي الشيخ فيكلمه والشيخ ينصت له ولكن النوم يغلبه
فينام ويبقى السائل حائرا ولا يدري ما يفعل حتى أغمز شيخنا فيستيقظ فيقول
: أين كنا
واستمر شيخنا في برنامجه حتى اليوم التالي وصمد للناس حتى بلغ به الإعياء
حدا لا يوصف
وكانت القاصمة فجر اليوم التالي حيث أن الشيخ رحمه الله نام وهو يستمع
لقراءة الأسئلة وحوله الجمع الهائل من المستمعين والمقدر بالآلاف وكل يشهد
هذا الموقف وقد يذكره بعضكم !!
ولقد كان يتوقف أحيانا في الدرس فيغفو لثوان معدودة ثم يكمل حديثه في
موضوع مختلف حتى ظن بعض الجهال أن الشيخ خرف!!
أما أنا فاستمعت لبعض درسه فلم اقدر على التحمل فبحثت
عن زاوية في الحرم وتوسدت كتابي ونمت نوما عميقا
وظننت أني سأستيقظ قبل فراغ الشيخ من درسه
وهذا مالم يحصل
الذي حدث أن شيخنا حينما وصل للسيارة التي تنتظره عند الحرم ويقودها الأخ
علي التفت الشيخ حوله فلم يراني
وكان بإمكانه أن يذهب وسوف ألحقه فالدرب ليس ببعيد غير أن شيخنا لم
يفعل ذلك وليته فعل !!
قال لعلي : وين صاحبنا
قال : والله ما رأيته
فرجع الشيخ من فوره لمكان درسه وهو بعيد عن موقف السيارة ،رجع
ليبحث عني والناس حوله ولا يعلمون مالذي يفعله الشيخ
بقي الشيخ يبحث عني لساعة من الزمن
حين ذلك استيقظت من نومي فتلفت حولي فوجدت المسجد شبه فارغ
فقمت وسرت في الأسياب على غير هدى كأنني مخمور من شدة التعب
فالتقيت بالشيخ في منتصف الطريق وحوله عدد من الطلبة فقال لي:
أين كنت أنا ابحث عنك من ساعة !!
فخجلت والله خجلا لا يعلمه إلا الله ولم استطع أن أجيبه من الحياء
لكن شيخنا بسماحة نفسه
تجاهل الموضوع لعلمه بسبب ذلك وقال لي: النوم سلطان جائر!!
أنا شاب في قوتي نشاطي ومقتبل عمري وشيخنا رجل سبعيني ومع ذلك
يتحمل شيخنا مالم أطقه أنا أو غيري من الشباب
أذكر مرة في حج إحدى السنوات أن شيخنا لم يكن ينام خلال
أربع وعشرين ساعة سوى أربع ساعات تقريبا
ولقد كان يبلغ منه الجهد فينعس وينام وسماعة الهاتف في يده
فأقوم أنا أو أحد مرافقيه بغلق السماعة وفصل خط التلفون وترك الشيخ وحيدا ليستريح ، فيستيقظ ويقول أين الهاتف
فنقول له : أجهدت نفسك ياشيخي نم قليلا
فيقول : الناس محتاجة لمن يفتيها وأنا أنام
هات التلفون فيرغمنا على إحضاره ونحن نشفق عليه من التعب
من المواقف التي حصلت لنا تلك الأيام
من عادة شيخنا أن يتصدق على فقراء الحرم من الأفارقة وغيرهم
وهذا ما يفعله كل عام وعرف الناس عنه ذلك
فطلب مني أنا والأخ علي أن نستقبل الطلبات وندون الأسماء ونجردها
وحينما جاء يوم التوزيع وهو قبل العيد بيوم تقريبا
تجمهر عدد هائل من الأفارقة وغالبهم من المفتولين وأصحاب الأجسام الضخمة
وقوية البنية وكان لهم جلبة وضجيج فكنا ننادي على الأسماء فيدخل
الشخص لداخل الغرفة ويستلم ما ييسره الله له
غير أن الأمر خرج عن السيطرة ولم نقدر على ترتيبهم وتنظيمهم
وتدافع الناس واختلط الحابل بالنابل وخفنا على الشيخ وهو لوحده في الغرفة
ولم يشعر بما يحصل في الخارج
فجهدنا أنا وعلي أن ندخل الغرفة وبالكاد دخلنا
وأردنا أن نغلق الباب حتى يقل عدد الناس ويسهل تنظيمهم
ولكن المشاغبين لم يرقهم هذا التصرف فدفعوا على الباب حتى كادوا أن يخلعوه
حينها جاء شيخنا ورأى بنفسه الحال
فقال: خلاص أوقفوا التوزيع !!
لا يمكن أن نعطي الناس بهذا الشكل
ولكن كيف سنغلق الباب فنحن اثنين نقف أمام مئات
فحاولنا جاهد ين أن نغلق الأبواب فلم نقدر بل تدافع الناس ودخل عدد منهم في داخل الغرفة
حينها استشط شيخنا غضبا وتقدم بنفسه ووقف أمام رجل أفريقي ضخم الجثة عظيم الرأس مفتول العضلات فوقف شيخنا أمامه ولا يكاد يصل بطوله لنصف جسده !!
وهو النحيل ضعيف البنية فأمره بالخروج !!
فكأن الإفريقي لم يفهم ولا يتكلم اللغة العربية
فقال له الشيخ : أخرج يارجل
فما تحرك من مكانه وصار يرطن بكلام لا نعيه
فحاول الشيخ دفعه وفحص في الأرض بقدميه والرجل ثابت كالجبل الراسي
فأشفقت على شيخنا منه فتقدمت إليه ولاطفته بالعبارة ومسحت على ظهره حتى خرج وكفانا الله شره .[/frame]
يتبع