نصراني يسأل عن اعراب بعض الآيات القرآنية .
الآية الاولى : جاء في سورة الانعام قوله : (( وقالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا )) لماذا جاءت لفظة خالصة مؤنثة، ومحرم مذكرة ؟
الجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : الهاء في ( خالصة ) للمبالغة لا للتأنيث ، كقولك : علامة ونسابة .
الثاني : خالصة مصدر كالعافية والعاقبة .
الثالث : قيل إن الهاء للتأنيث ، ولما كان ( ما في بطون هذه الأنعام ) هو الأجنة أنث الخبر على المعنى ، وذكر ( محرم ) على اللفظ . [ الكشاف _ الروض الريان ]
وجاء في تفسير أضواء البيان للإمام الشنقيطي رحمه الله :
وقد دلت الآيات المذكورة على أن الأنعام يصح تذكيرها وتأنيثها. لأنه ذكرها هنا في قوله: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهِ} وأنثها «في سورة {قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ}» في قوله: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَـٰفِعُ كَثِيرَةٌ} ومعلوم في العربية: أن أسماء الأجناس يجوز فيها التذكير نظراً إلى اللفظ، والتأنيث نظراً إلى معنى الجماعة الداخلة تحت اسم الجنس. وقد جاء في القرآن تذكير الأنعام وتأنيثها كما ذكرناه آنفاً. وجاء فيه تذكير النخل وتأنيثها. فالتذكير في قوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ}. والتأنيث في قوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}، ونحو ذلك. وجاء في القرآن تذكير السماء وتأنيثها. فالتذكير في قوله: {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ}. والتأنيث في قوله: {وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَـٰهَا بِأَيْدٍ}، ونحو ذلك من الآيات. وهذا معروف في العربية، ومن شواهده قول قيس بن الحصين الحارثي الأسدي وهو صغير في تذكير النعم : في كل عام نعم تحوونه يلقحه قوم وتنتجونه
وقرأ هذا الحرف نافع وابن عامر وشعبة عن عاصم «نسقيكم» بفتح النون. والباقون بضمها، كما تقدم بشواهده «في سورة الحجر».
الآية الثانية : جاء في سورة المائدة 5: 69 إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ . وكان يجب أن ينصب المعطوف على اسم إن فيقول والصابئين كما فعل هذا في سورة البقرة 2: 62 والحج 22: 17.
الجواب :
ان قوله تبارك وتعالى : ( والصابئون ) مرفوع على العطف على موضع ( إن ) وما عملت فيه ، وخبر ( إن ) منوي قبل الصابئين ، فلذلك جاز العطف على الموضع ، والخبر هو : (( من ءامن )) ’ينوى به التقديم ، فحق ( والصابئون والنصارى ) أن يقع بعد ( يحزنون ) ، وإنما احتيج إلى هذا التقدير ، لأن العطف في ( إن ) على الموضع لا يجوز إلا بعد تمام الكلام ، وانقضاء اسم ( إن ) وخبرها ، فتعطف ( الصابئين ) على موضع الجملة . [ مشكل اعراب القرآن للإمام القيسي ]
وقيل : إنما رفع المعطوف لأنه جاء على لغة بلحارث [ بن كعب ] الذين يقولون : رأيت الزيدان ، بالألف . وقيل : إن خبر ( إن ) مضمر محذوف دل عليه الثاني ، فالعطف بالصابئين إنما أتى بعد تمام الكلام وانقضاء اسم ( إن ) وخبرها ، وإليه ذهب الأخفش والمبرد .
الآية الثالثة : جاء في سورة طه قوله : (( إن هذان لساحران )) وكان يجب أن ينصب بالياء والنون لأنه مثنى، فيكون التركيب الصحيح : "إن هذين"، ولكننا نجده مرفوعا بالألف والنون [إن هذان .]
الجواب من وجهين :
الأول : ان قوله تبارك وتعالى : (( إن هذان لساحران )) هي لغة لبعض القبائل العربية كبني الحارث بن كعب، وخثعم، وكنانة، وعذرة، وزبيد، وغيرهم. يقولون : مررت برجلان ، وقبضت منه درهمان ، وجلست بين يداه ، وركبت علاه . و أنشد هوبر الحارثي :
تزود منا بين أذناه ضربةً *** دعته إلى هابي التراب عقيم [ قائلة هو هوبر الحارثي، كما في اللسان مادة صرع ، و هبا ]
وقول الشاعر : [ الطويل ] :
فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى مساغاً لناباه الشجاع لصمما [ نسبه الحريري ص 107 للمتلمس. وهو في مختارات ابن الشجري ص 32، وهو ايضاً في شواهد الأشموني 1 / 79 .
وأنشدوا :
أي قلوص راكب تراها *** طاروا علاهن فطر علاها
والشواهد كثيرة ، ولغة إلزام المثنى الألف لغة مشهورة ، وقد جاء القرآن على أحرف عدة ولغات شتى، فلا غرابة أن يكون في القرآن وجه ورد على لغة لبعض قبائل العرب المشهورة .
قال النحاس : هو (( من أحسن ما حملت عليه الآية )) اعراب القرآن 3 / 46
الوجه الثاني : قوله تبارك وتعالى : (( إن هذان لساحران )) هذه (إن) المسكنة وليست مشددة كما يظن هؤلاء وإنما هي مخففة من إن المشددة. واسمها دائما ضمير محذوف يسمى ضمير الشأن. وخبرها جملة. هي هنا جملة (هذان ساحران) وتأتي اللام المؤكدة في خبرها فتميزها عن «ان» النافية، ولا تحذف إلا لقرينة لفظية أو معنوية ومن ذلك ما جاء في الحديث النبوي (قد علمنا إن كنت لمؤمنا). ومن ذلك قول الشاعر:
أنا ابن أباة الضيم من آل مالك *** وإن مالك كانت كرام المعادن
الآية الرابعة : جاء في سورة البقرة قوله : (( قال لا ينالُ عهدي الظالمين )) وكان يجب أن تكون "الظالمون" فهي جمع مذكر سالم مرفوع بالواو والنون لأنه فاعل الفعل "ينال". فكيف جاءت منصوبة بالياء والنون؟
الجواب :
لا ينال فاعل كما في قوله تعالى ( أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ) (الأعراف49). والمعنى أن الظالمين من ذريتك لا ينالهم استخلافي. والعرب تقول: هذا ناله خير وذاك ناله ظلم.
وهذا تحكم منهم أن يقولوا إن الآية تعني أن الظالمين فاعل. والعهد مفعول. فإن عهد الله هو شرطه. ولا يتضمن شرطه الظالمين. وهذا الاستغلال منهم سببه امتناع ظهور علامة الرفع وهي الضمة فوق الياء (عهدي) فجعلوا (الظالمين) فاعلا مؤخرا و(عهدي) مفعولا مقدما؟ أنى لهم هذا التحكم والأصل تقديم الفاعل على المفعول لا سيما إذا كان السياق متضمنا للبس. كعدم ظهور التشكيل. فلو قلنا (ضرب موسى عيسى) لا يجوز تأخير الفاعل منعا من وقوع اللبس إذ لا بد حينئذ من تقديم الفاعل وتأخير المفعول. أما إذا لم يكن هناك لبسا فيجوز التقديم والتأخير مثل جاء في أول هذه الآية (إبتلى إبراهيمَ ربُه)
الآية الخامسة : جاء في سورة النساء قوله : (( لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا )) وكان يجب أن يرفع المعطوف على المرفوع : والمرفوع في الآية: المؤمنون، والمؤتون الزكاة، والمؤمنون بالله. فلماذا يستثني "المقيمين الصلاة" في منتصف الجملة، إذ كان يجب أن يقول: "والمقيمون الصلاة"
الجواب :
هذه الآية وردت فى سياق الحديث عن اليهود تنصف من استحق الإنصاف منهم ، بعد أن ذم الله تعالى من عاند منهم ، وحاد عن الحق ، فى الآيات التى سبقت هذه الآية.
ومجىء " المقيمين " بالياء خلافاً لنسق ما قبله وما بعده لفت أنظار النحاة والمفسرين والقراء ، فأكثروا القول فى توجيهه ـ مع إجماعهم على صحته.
وقد اختلفت أراؤهم فيه وها نحن نقتصر على ذكر ما قل ودل منها فى الرد على هؤلاء الكارهين لما أنزل الله على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم ولن نذكر كل ما قيل توخياً للإيجاز المفهم.
وأشهر الآراء فيها أن " المقيمين " منصوب على الاختصاص المراد منه المدح فى هذا الموضع بدلالة المقام ؛ لأن المؤدين للصلاة بكامل ما يجب لها من طهارة ومبادرة وخشوع وتمكن ، جديرون بأن يُمدحوا من الله والناس.
يقول الإمام الزمخشرى:
" و " المقيمين " نُصِبَ على المدح ، لبيان فضل الصلاة وهو باب واسع ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً فى خط المصحف ، وربما التفت إليه من لم ينظر فى الكتاب ، ولم يعرف مذاهب العرب ، وما لهم فى النصب على الاختصاص من الافتنان " (2).
الزمخشرى أوجز كلامه فى الوجه الذى نُصب عليه " المقيمين " وهو الاختصاص مع إرادة المدح (2).
الاختصاص هو مخالفة إعراب كلمة لإعراب ما قبلها بقصد المدح كما فى هذه الآية ، أو الذم. ويسمى الاختصاص والقطع.
ومع إيجازه فى عبارته كان حكيماً فيها ، ومن الطريف فى كلامه إشارته إلى خطأ من يقول إن نصب " المقيمين " لحن فى خط المصحف ـ لا سمح الله ـ ثم وصفه بالجهل بمذاهب العرب فى البيان ، والتفنن فى الأساليب ، وكأنه ـ رحمه الله ـ يتصدى للرد على هؤلاء الطاعنين فى القرآن ، الذين نرد عليهم فى هذه الرسالة.
والرأى الذى اقتصر عليه الإمام الزمخشرى هو المشهور عند النحاة والمفسرين والقراء.
وقد سبق الزمخشرى فى هذا التوجيه شيخ النحاة سيبويه وأبو البقاء العكبرى (4).
وهذا الاختصاص أو القطع بيان لفضل الصلاة التى جعلها الله على الناس كتاباً موقوتاً ، وأمر عباده بإقامتها والمحافظة عليها فى كثير من آيات الكتاب العزيز ومثَّلها رسوله صلى الله عليه وسلم ـ كما فى صحيحى البخارى ومسلم ـ بالنهر ، الذى يستحم فيه المكلف فى اليوم خمس مرات ، فيزيل كل ما علق بجسمه من الأدران والأوساخ ، وكذلك الصلوات الخمس فإنها تمحو الخطايا ، وتزيل المعاصى كما يزيل الماء أدران الأجسام.
أما الآراء الأخرى فكثيرة ، ولكنها لا تبلغ من القوة والشيوع ما بلغه هذا الرأى ، وهو النصب على الاختصاص أو القطع.
وقد أوردوا عليه شواهد عدة من الشعر العربى المحتج به لغوياً ونحوياً. ومن ذلك ما أورده سيبويه:
ويـأوى إلى نسـوة عُطَّلٍ
وشُعْثاً مراضيع مثل الثعالى
ومنها قول الخرنق بنت هفان:
لا يبعدنْ قومى الذين همو
سًمُّ العـداة وآفـة الجزْر
النازلين بكل معتــركٍ
والطيبون معاقد الأُزْر (5)
والشاهد فى هذه الأبيات ، نصب " شُعثا " فى البيتين الأوليين وهو معطوف على مجرور " عُطَّلٍ ".
والشاهد فى البيتين الآخرين نصب " النازلين " وهو معطوف على مرفوع ، وهو " سمُّ العداة ".
هذا ، وقد قلنا من قبل إن القرآن غير مفتقر إلى شواهد من خارجه على صحة أساليبه ، ومع هذا فإن ورود هذه الشواهد نرحب به ولا نقلل من شأنه ، ومنهم من جعل " المقيمين " مجروراً لا منصوباً ، وقال إن جره لأنه معطوف على الضمير المجرور محلاً فى " منهم " والمعنى على هذا:
لكن الراسخون منهم والمقيمين الصلاة.
وبعضهم قال إنه مجرور بالعطف على الكاف فى " أنزل إليك " وبعضهم قال إنه مجرور بالعطف على " ما " فى " بما أنزل إليك ".
أو هو مجرور بالعطف على " الكاف " فى " قبلك " (6).
والخلاصة:
إن الذى ينبغى الركون إليه ـ لقوته ـ هو الرأى الأول ، المنسوب إلى سيبويه وأبى البقاء العكبرى والزمخشرى وابن عطية ، أما ما عداه من آراء فلا تخلو من التكلف أو الضعف.
أما النصب على الاختصاص فلا مناص من قبوله ؛ لأنه أسلوب شائع فى الاستعمال اللغوى العربى ، وفيه من البلاغة أمر زائد على مجرد التوجيه النحوى ، الذى لا يتجاوز بيان عامل النصب أو الجر.
___________________________________
القرآن والنحو وحقائق غائبة
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى ثم أما بعد
يعترض النصرانى على القرآن ، ببعض آياته التى أتت على غير الشائع نحوياً ، يظن واهماً أن ذلك ينقص من شأن الكتاب العزيز .
فكيف يكون رد المسلم على ذلك ؟
عادة ما يلجأ المسلم إلى أقوال علماء النحو واللغة ، وفيها تخريجات نحوية للإشكال المتوهم فى الآية ، وغالباً ما يشير ـ العالم ـ إلى أن الإشكال المتوهم هو لغة جائزة عند العرب .
كل هذا جميل ورائع ، لكن هناك أمراً قبله علينا أن نعيه أولاً ، ثم نعلمه للنصارى ثانياً .
إن النصارى يحاكمون القرآن العظيم إلى منهج القواعد النحوية للصف الثالث الإعدادى !
يظنون أن القواعد النحوية حاكمة على القرآن !
وهذا جهل فاضح بنشأة علم النحو .
إن علم النحو ليس علماً عقلياً ، بمعنى أن سيبويه ـ مثلاً ـ لم يعتمد على التفنن العقلى فى تقرير قواعد النحو .
إن علم النحو مبنى على الاستقراء .
فسيبويه ـ مثلاً ـ أخذ يحلل كل النصوص الواردة عن العرب ، من شعر وخطابة ونثر وغير ذلك ، فوجد أنهم ـ العرب ـ دائماً يرفعون الفاعل فى كلامهم ، فاستنبط من ذلك قاعدة " الفاعل مرفوع " وهكذا نتجت لدينا " قاعدة نحوية " تسطر فى كتب النحو ، ليتعلمها الأعاجم فيستقيم لسانهم بالعربية إذا جرت عليه .
أفلو كان سيبويه وجد العرب ينصبون الفاعل ، أكنا سنجد كتاب القواعد النحوية فى الصف الثالث الإعدادى ، يخبرنا بأنه يجب علينا نصب الفاعل كلما وجدناه ؟
بلى قارئى الكريم !
إن علم النحو مبنى على الاستقراء " القواعد النحوية " مستنبطة من " استقراء " صنيع العرب فى كلامهم .
إذا فهمت هذه النقطة قارئى الكريم ، سيسهل عليك ـ إن شاء الله ـ فهم ما بعدها .
وهو أن العرب لم تكن كلها لهجة واحدة ، ولم تكن كلها تسير على نفس القواعد النحوية ذاتها ، ولم تكن تلتزم كل قبيلة منها بنفس المعاملات النحوية .
إن قبائل العرب لم تكن تسير فى كلامها على منهج النحو للصف الثالث الإعدادى !
وليس معنى ذلك أنه كان لكل قبيلة " نحوها " الخاص بها كلا وإنما اشتركت كل قبائل العرب فى " معظم " القواعد النحوية المشهورة الآن لكنها ـ أبداً ـ لم تجتمع على " كل " تلك القواعد بعينها .
لعلك أدركت الآن ـ قارئى الكريم ـ أن دائرة الخلاف فى التعاملات النحوية بين القبائل العربية كانت صغيرة ، لكنها واقعة لا سبيل إلى إنكارها .
لكن لا تنتظر أن يخبرك واضعو المناهج النحوية فى المدارس بكل الاختلافات النحوية فى كل مسألة ، إنما هم يخبرونك فقط بـ " الشائع " و " الأعم " و " الأغلب " ثم يتوسع من شاء فى دراسته الجامعية ، لأنها أكثر تخصصاً .
وكل طالب مبتدئ فى قسم للغة العربية فى أى جامعة يدرك جيداً ما قلته سابقاً .
هنالك ـ فى المرحلة الجامعية ـ يدرس " الاختلافات " النحوية ، ويعرف ما هو الفرق بين " المذاهب " النحوية ، وبم تتميز " مدرسة الكوفة " عن " مدرسة البصرة " إلى آخر هذه الأمور .
إذن وضع العلماء القواعد النحوية بناء على استقراء كلام العرب ، وما وجدوه من اختلافات أثبتوه .
هل بقى ما يقال ؟
بالطبع بقى .
بقى أن تعلم أن " أهم " مصادر العلماء التى اعتمدوا عليها فى الاستقراء هو القرآن العظيم نفسه !
لأن القرآن أصدق صورة لعصره ، ليس فقط عند المسلم ، ولكن عند الجميع مسلمين وغير مسلمين ، فحتى أولئك الذين لا يؤمنون بمصدره الإلهى ، يؤمنون بأن القرآن أصدق تمثيل لعصره فى الأحداث التاريخية والعادات الجارية واللغة وقواعدها .
إن علماء النحو يستدلون على صحة قاعدة نحوية ما بورودها فى القرآن ، ليس فى قراءة حفص عن عاصم فقط ، بل يكفى ورودها فى أى قراءة متواترة أخرى .
أى أن القرآن ـ عند النحاة ـ هو الحاكم على صحة القاعدة النحوية ، وهى التى تسعى لتجد شاهداً على صحتها فى أى من قراءاته المتواترة .
القرآن هو الحاكم على النحو وليس العكس .
علينا أن نعى هذه الحقيقة جيداً ، وعلينا أن نعلم النصارى ما جهلوه منها .
إن النصرانى المعترض ، عندما يقرأ ما أتى به المسلم من تخريجات نحوية للعلماء ، يظن أن أقوال العلماء هى مجرد محاولات للهروب وإخفاء الحقيقة ! والحقيقة الثابتة ـ عنده ـ أن القرآن به أخطاء نحوية الحقيقة الثابتة عنده أن محمداً ـ صلوات ربى وسلامه عليه ـ لم يستذكر دروس كتاب النحو فى الصف الثالث الإعدادى جيداً !
هذا الخبل النصرانى ناتج عن الجهل الجهل بنشأة علم النحو ، وبكيفية تدوين العلماء للقواعد النحوية .
الطريف فى الأمر ، أن النصارى يعترضون على المخالفات النحوية فى الآيات ، ولا يدرون من رصد هذه المخالفات !
لا تظن قارئى الكريم أن بعض النصارى العرب قد تأملوا القرآن ، فاكتشفوا هذه الأخطاء المتوهمة ، بعدما حاكموه لما تعلموه فى الابتدائية من قواعد نحوية كلا لا تظن ذلك أبداً .
إنما كل ما يكتب عند النصارى حول ما يسمونه " أخطاء نحوية فى القرآن " ليس من كلامهم ، ولا من لباب أذهانهم ، ولا من بنات أفكارهم .
لقد نقلوا كل هذه " الأخطاء !" عن كتب المستشرقين الأعاجم ! من أمثال " نولدكه " وغيره .
لن أتوقف بك ـ قارئى الكريم ـ كثيراً فى محطة هؤلاء المستشرقين أعجميى القلب واللسان لن أخبرك شيئاً عن بعض كتاباتهم التى توضح مدى جهلهم الفاضح باللغة العربية ، مع أنك ساعتها ستدرك أنك لست أجهل أهل الأرض باللغة العربية ! ولن أخبرك شيئاً عن حقدهم الدفين ـ والظاهر ! ـ على دين الحق وكتابه ونبيه بل وأهله لن أخبرك شيئاً عن ذلك ، ولن أقف بك فى هذه المحطة أبداً .
لكن تعال نتعدى هذه المرحلة لنتساءل من أين أتى هؤلاء المتعالمين من المستشرقين بما أسموه " أخطاء نحوية " ، لينقلها نصارى العرب منهم بعد ذلك جهلاً بغير علم ؟
مرة أخرى أحذرك قارئى الكريم ! لا تتخيل أو تظن أو تتوهم أن هذا المستشرق الألكن ، ذا اللسان الأعجم ، قد تأمل القرآن " فتنبه " إلى تلك " الأخطاء " !
هم أحقر من ذلك قارئى الكريم ، وإن أوهموك بغير ذلك !
كان ما فعله هؤلاء المستشرقون كالتالى قرأوا كتب النحو التى ألفها علماء العربية ، وكذلك كتب التفسير ، وأخذوا يتتبعون ما رصده " علماء المسلمين " أنفسهم ، من ورود آيات قرآنية موافقة لقواعد نحوية لم تنل حظاً من الشهرة مثل غيرها .
لقد وجد المستشرقون بغيتهم !
فليجمعوا إذن كل تلك الإشارات والمواضع وليحذفوا تعقيبات العلماء منها ! وليطلقوا على ما جمعوه " أخطاء نحوية " ! وليسموا ما فعلوه " بحثاً علمياً " ! وليكن موصوفاً بالنزاهة والتجرد الموضوعى !
هذه هى قصتنا قارئى الكريم !
إن ما يتهوك به النصارى من أخطاء نحوية فى القرآن ، ليست من نتاج ذكائهم ، وإنما نقلوها ـ جهلاً بغير علم ـ عن المستشرقين والمستشرقون ـ أعجميو القلب واللسان ـ لم يأتوا بها من لباب أذهانهم ، وإنما نقلوها ـ عدواً بغير علم ـ مما خطته أيدى عباقرة المسلمين الأفذاذ ، الذين كانوا يجرون على منهج علمى محكم سديد ، يستقرأون ما نقل عن العرب ، وينزلون إلى البادية ، ويعيشون بين الأعراب الذين لم يختلطوا ، فينقلون عنهم كلامهم وأشعارهم ونثرهم ، ويحللون كل ذلك تحليلاً مرهقاً للكلمة والحرف ، ثم يستنبطون ما جرى من قواعد على لسان العرب ، ويحددون الأغلب من غيره ، والشائع مما هو دونه فى الشيوع .
بعد أن سطر عباقرة المسلمين علومهم اللغوية والنحوية فى كتبهم ، راصدين كل الظواهر بأمانة ونقد ، يأتى المستشرقون ليقتطعوا من كلامهم ما ظنوه يخدمهم ساعدهم فى ذلك جهلهم الفاحش باللغة العربية ، وساعدهم علمهم بسذاجة وجهل من دونهم من شعوب النصرانية .
أرجو أن أكون قد أوضحت بعض الحقائق الغائبة فى موضوعنا .
اللهم ارزقنا حبك ، وحب من يحبك ، وحب كل قول وعمل يقربنا إلى حبك .
كتبه الأخ / متعلم
------------------------
( 1 ) النساء: 162
( 2 ) الكشاف
( 3 ) الكتاب [ 248 / 1 ]
( 4 ) املاء ما من به الرحمن [ 202 / 1 ]
( 5 ) انظر في هذه الشواهد الدر المصون [ 154 / 4 ]
( 6 ) انظر الدر المصون [ 154 / 4 ]