الحرب العقيدية وإطلاق التهديدات
جوبهت دعوة الرسول(صلى الله عليه وسلم) بمعارضة شديدة من قومه، وفتح باب الصراع على مصراعيه، واتخذت الحرب أشكالاً متعددة تمثلت في بداية الحرب العقيدية، حيث دعاهم الرسول(صلى الله عليه وسلم) إلى عبادة إله واحد، ونبذ عبادة الأصنام والأوثان، ما أثار حفيظة قريش، فشكته إلى عمه أبي طالب الذي وقف يدافع عنه ويمنع قريش من النيل منه، وهو يعلم ما سوف يجره هذا الموقف من متاعب عليه وعلى أسرته، فرأى زعماؤها أن يبعثوا إليه وفداً من أشرافهم علّهم يقنعونه بوقف ابن أخيه عن المضي في دعوته، أو على الأقلّ بالتخلي عن حمايته، ولما التقوا به قالوا له: "يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا وضلّل آباءنا، فإما أن تكفّه عنّا، وإمّا أن تخلي بيننا وبينه"، فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً، وردّهم رداً جميلاً فانصرفوا عنه.
لم تثن هذه التهديدات النبي(صلى الله عليه وسلم) عن تبليغ رسالته، بل مضى يدعو إلى الله، ما زاد من غضب قريش وحقدها على النبي، فكان أن اتفقوا للقاء أبي طالب ثانية، وقد صعّدوا من أسلوب الوعد والتهديد عما قبل، علّهم بذلك يصلون إلى مرماهم، فقالوا له: "يا أبا طالب، إن لك سناً وشرفاً ومنـزلة فينا، وإنّا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنّا، وإنّا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيّب آلهتنا حتى تكفه عنّا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين"، فبعث أبو طالب إلى ابن أخيه وقال: "يا ابن أخي، إن قومك قد جاؤوا فقالوا لي كذا وكذا، فأبقِ عليّ وعلى نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق".
وأصرَّ النبي(صلى الله عليه وسلم) على المضيّ قدماً في دعوته، قائلاً لعمه: "يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك فيه"، وتجسد هنا أيضاً إصرار عمه في حمايته ومساندته عندما قال: "اذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً".
أسلوب المقايضة
أدركت قريش أن لا سبيل إلى تراجع محمد (صلى الله عليه وسلم) عن دعوته عن طريق التهديد والوعيد، وانكشف لها إصرار أبي طالب على حمايته، فما كان منها إلاّ أن لجأت إلى أسلوب جديد اتخذ هذه المرة سمة المقايضة للتخلص منه، فعرضوا على أبي طالب أن يأخذ عمارة بن المغيرة مقابل أن يسلّمهم محمد ليقتلوه ويتخلصوا منه، فقالوا له عندما اجتمعوا به: "يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه واتخذه ولداً، فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرّق جماعة قومك وسفّه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل"، متخذين مبرراً لقتله أنه قد فرق جماعة القوم وسفّه أحلامهم، ولكن أبا طالب رفض هذا العرض بشدة، وأجاب: "والله لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبداً".
الحرب النفسية
أدركت قريش عقم المحاولات الرامية لاستمالة أبي طالب، ووقف حمايته للرسول(صلى الله عليه وسلم) من جديد، فأعلنت الحرب على أتباع الدين الجديد والمنتمين إليه، فدفعت كل قبيلة منها إلى الانقضاض على المسلمين من أبنائها، وتعذيبهم وفتنتهم عن دينهم، وأغرت سفهاءها بالرسول(صلى الله عليه وسلم)، فكذّبوه وآذوه، واتهموه بالسحر والشعر والكهانة والجنون، والاعتداء عليه، وحاولوا منعه من الصلاة، كما فعل أبو جهل وغيره، حيث واجهه الرسول(صلى الله عليه وسلم) عندما قال له أبو جهل: ألم أنهك يا محمد عن الصلاة؟ فانتهره رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قائلاً: "أتنتهرني وتتهددني وأنا أعز أهل البطحاء". وكانت حملة قل نظيرها، اعتمدت مبدأ التشكيك في صدقيته، كوسيلة من وسائل الحرب النفسية، لإرضاخ المسلمين والنيل من مكانة النبي(صلى الله عليه وسلم)، ولكن هذه المحاولات لاقت الفشل كسابقاتها.
وفي هذا المجال، نلفت إلى أن ابن سعد يورد رواية لا نجدها في المصادر الأخرى، تشير إلى محاولة مبكرة من زعماء قريش لاغتيال الرسول(صلى الله عليه وسلم)، بعد أن فشلوا في إغراء أبي طالب وثنيه عن حماية الرسول(صلى الله عليه وسلم)، فقالوا:"ما خير من أن نغتال محمداً". وقد جاء في الرواية، أنه لمّا كان مساء تلك الليلة ، فقد الرسول(صلى الله عليه وسلم)، فبحث عنه أبو طالب فلم يجده، فظن أنه قد أصيب بمكروه، فجمع فتياناً من بني هاشم وبني المطّلب، وأمر كلاّ منهم أن يحمل حديدة صارمة لقتال زعماء القوم إذا ثبت قتلهم لمحمد(صلى الله عليه وسلم)، إلاّ أنّ أبا طالب سرعان ما أبلغ أن محمداً يجلس الآن في داره بالصفا بمنأى عن الشر، وفي اليوم التالي، صحب أبو طالب ابن أخيه إلى أندية قريش ومعه فتيان بني هاشم والمطلب، وراح يقول لهم: "يا معشر قريش، هل تدرون ما هممت به"؟ قالوا: لا، فأخبرهم الخبر، وقال للفتيان:"اكشفوا عمّا في أيديكم"، فكشفوا، فإذا كل رجل منهم معه حديدة صارمة، فقال: "والله لو قتلتموه ما بقيت منكم أحداً حتى نتفانى نحن وأنتم، فانكسر القوم، وكان أبو جهل أشدهم انكساراً ".
وعندما اقترب موسم الحج، خاف زعماء قريش أن يفيد الرسول(صلى الله عليه وسلم) من فرصة قدوم الناس إلى مكة، فيتصل بوفود العرب وقبائلها، ويعرض عليهم الإسلام، فدعا أحد كبارهم، وهو الوليد بن المغيرة، قومه إلى أن يجتمعوا إليه للتداول في أمر محمد(صلى الله عليه وسلم)، لكيلا تتضارب أقوالهم بشأن محمد(صلى الله عليه وسلم)، فقال قوم نتهمه بالكهانة، وقال آخرون نقول بأنه مجنون، وقالت فئة ثالثة نقول عنه بأنه شاعر، وقالت طائفة، نقول ساحر، فكان الوليد يردُّ على ذلك وينفي عنه هذه الصفات، حتى قال:" والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلاّ عرف أنه باطل، وإنّ أقرب القول فيه أن تقولوا ساحر جاء بقول هو السحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته". وتفرق القوم على هذا الرأي، وانتشروا في مداخل مكة ومسالكها، حيث تمر الوفود لأداء مناسك الحج، فكلما مرّ بهم وفد حذّروه دعوة الرسول(صلى الله عليه وسلم) واتهموه بالسحر.
وجاءت محاولتهم هذه بعكس النتائج التي توقعوها، ذلك أن العرب سمعوا بأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم)، فبدأوا يلهجون باسمه، فانتشر في بلاد العرب كلها، فكأنّ قريشاً سعت ـ عن غير قصد ـ إلى نشر الدعوة الناشئة في الآفاق.
اتهامات بارتكاب القبائح .
ومضت قريش تلاحق المسلمين وتعذبهم وتفتن من استطاعت فتنته منهم، ولكن الدعوة بقيت تشق طريقها، وإن بصعوبة في مكة بين قبائل قريش رجالاً ونساءً، خاصة بعد إسلام الحمزة بن عبد المطلب الذي غضب لابن أخيه من أبي جهل، وهنا رأت قريش أن تغيِّر من أسلوبها المعتمد في التعاطي مع التطورات الجديدة، فلم تذهب إلى أبي طالب، وإنما رأت أن تفاوض النبي(صلى الله عليه وسلم) مباشرة، فاجتمع أشرافها من كل قبيلة، عتبة وشيبة ابنا ربيعة، أبو سفيان بن حرب، النضر بن الحارث، أبو البختري بن هشام، الأسود بن عبد المطلب، زمعة بن الأسود، الوليد بن المغيرة، أبو جهل بن هشام، عبد الله بن أبي أمية، العاص بن وائل، نبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف، واجتمعوا قريباً من الكعبة، وبعثوا إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ليكلموه بالأمر، فاستجاب لهم مسرعاً، فبادروه بالقول: "يا محمد، إنّا قد بعثنا إليك لنكلّمك، وإنّا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفّهت الأحلام، وفرّقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلاّ قد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنمّا جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنمّا تطلب به الشرف فينا فنحن نسوّدك علينا، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك".
وهنا دلالة واضحة على أنّ فكرة الوحي عندهم كانت غير واضحة المعالم، ويتبين هذا من خلال الربط بين ما جاء به النبي والطروحات التي تقدموا بها من الشرف والملك والمال والمرض، فضلاً عمّا ألقوه عليه من تبعات الفرقة بين العرب، وما يلحق بهم من إيذاء، من شتم الآباء، وتسفيه الأحلام، وما إلى ذلك.
دحض مزاعم قريش.
ولكن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أوضح لهم الهدف من بعثته والوحي الذي يتلقاه ودحض مزاعمهم، بحيث هو بشير ونذير جاء ليبلّغهم رسالة ربه، فأجابهم بقوله: "ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا فيئكم، ولا الملك عليكم، ولكنّ الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتابا،ً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم".
إزاء هذا الجواب، طلب المجتمعون من الرسول(صلى الله عليه وسلم) أن يأتيهم بمعجزة ما؛ كأن يوسع وادي مكة، أو يفجّر فيه الأنهار، أو يبعث أحد آبائهم حيّاً كي يخبرهم عن صدق نبوته، أو يجعل لهم جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة، أو يسقط السماء عليهم كسفاً، أو يسأل ربّه أن يبعث معه ملكاً يصدّقه بما يقول، "فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنـزلتك من ربك إن كنت رسولاً في ما تزعم، فإنّا لا نؤمن لك إلاّ أن تفعل".
وهنا أجاب الرسول(صلى الله عليه وسلم) بأنه لم يبعث لكي يقوم بمعجزات من هذا القبيل، ولا هي في الأساس من مهمته، وإنما دوره يقتصر على الإبلاغ والإنذار والتبشير، فقال(ص): "وما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم".
نماذج من تعذيب أصحاب النبي(صلى الله عليه وسلم)
في هذا الوقت، كانت قريش تسير وفق الخطة المرسومة في تعذيب أصحاب النبي(صلى الله عليه وسلم) واضطهادهم، فكانت كل قبيلة تثب على من فيها من المسلمين، أحراراً وعبيداً، بالحبس، والتعذيب، والضرب، والعطش، والجوع، والرمي برمضاء مكة إذا اشتد الحر، ففتن بعضهم عن دينه، وتمكن آخرون من المجالدة والصمود، وهنا نقدم بعض النماذج لما كان يعانيه هؤلاء من أمثال:
بلال بن رباح، كان سيده أمية بن خلف الجمحي يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد، أحد، فيضع أمية في عنقه حبلاً، ويأمر الصبيان فيجرونه، وظل بلال على هذه الحال إلى أن أعتق.
وكانت زنيرة قد عذبت حتى عميت، فقال لها أبو جهل: إن اللات والعزى فعلتا بك ما ترين، فقالت وهي لا تبصره، وما تدري اللات والعزى من يعبدهما ممن لا يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء. وظلت تعاني التعذيب حتى أعتقت، وكذلك النهدية، وهي أمة لامرأة من عبد الدار، وأم عنيس وهي أمة لبني زهرة ومعذبها الأسود بن عبد يغوث.
أما عمّار بن ياسر فكان بنو مخزوم يخرجون به وبأبيه وأمه إذا حميت الظهيرة، فيعذبونهم في رمضاء مكة، وكان الرسول(صلى الله عليه وسلم) يمر بهم ويقول: "صبراً آل ياسر، موعدكم الجنة"، وقتلت أمه تحت وطأة التعذيب، فكانت أول شهيدة في الإسلام، أما عمّار، فكان يعذب حتى لا يدري ما يقول، ومن الذين عذبوا أيضاً خباب بن الأرث، وصهيب بن سنان الرومي.
أما الأغنياء وممن كان لهم شرف ومنعة، فكان أبو جهل يؤنب من يسمع بإسلامه، ويقول له: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك ولنقبحن رأيك ولنضعن شرفك، وإن كان تاجراً قال له: والله لنكدسن تجارتك ولنهلكن مالك، وإن كان ضعيفاً أغرى به.
وهنا يلاحظ أن طريقة مواجهة قريش لكلّ من يعلن إسلامه، إنما كانت بحسب ما تجده يؤثر على وضعه، ويظهر أن بعض المسلمين قد تضعضعوا أمام المحنة ولم يستطيعوا الصمود أمام حملات قريش وأذاها، وهذا ما أشارت له الآيات القرآنية { . ومن الناس من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين* يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه* ذلك هو الضلال البعيد} (الحج:11ـ12).
وكان العذاب الذي لحق بالمسلمين قد بلغ درجة كبيرة لا يستطيع أحد من تحملها، وقد ورد ذلك على لسان عبد الله بن عباس عندما سأله سعيد بن جبير عن المستوى الذي بلغ فيه عذاب قريش لأصحاب الرسول(صلى الله عليه وسلم)، فقال: "والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضرب الذي نزل به".
وإزاء ما كان يتعرض له المسلمون في مكة، أمرهم الله بالكفِّ عن القتال في هذه المرحلة، باعتبار أن وقت المجابهة لم يحن بعد، وإن كان بعض المسلمين ممّن لديهم منعة وقوة، أو ممن كانوا ينتمون لعصبية معينة في وقت كانت فيه العصبيات الناظم المهم لعلاقات الناس، لم يسكتوا على تحرشات الكفار وفجارهم، وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الوقائع في هذه الآيات {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين* وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين* واصبر وما صبرك إلاّ بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} (النحل:125ـ127).