الملاحظات
صفحة 3 من 4 الأولىالأولى 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 30 من 39

الموضوع: أكبر مكتبة تضم خطب الجمعة لكبار أئمة الحرم المكي والنبوي

  1. #21 رد: أكبر مكتبة تضم خطب الجمعة لكبار أئمة الحرم المكي والنبوي 
    ضي الأمل غير متواجد حالياً T৵હ.¸ اللهم إغفر لها وتغمدها برحمتك "¸.હ৵
    المشاركات
    16,625
    الخطبة 21

    حقيقة التوكل وأهميته للسديس

    إن المؤمن الذي حقق التوكل بتفويض الأمور إلى الله وصدق الاعتماد عليه مع بذل الأسباب يعيش قرير العين مطمئن النفس، عالي الهمة، لا يستسلم للشبهات والأوهام، ولا يرضخ لمقولات أهل الزيغ والإجرام، وإن من مظاهر الانحراف عند كثير من الناس في التوكل هو التشاؤم والتطير بالأيام والشهور، والذهاب عند السحرة والعرافين والكهنة والمشعوذين، وكل هذا يخدش في العقيدة والتوحيد.

    أثر التوكل في حياة المسلم




    الحمد لله، خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأجرى الأمور على ما يشاء سبحانه حكمة منه وتدبيراً، أحمده تعالى وأشكره، لم يزل بعباده لطيفاً خبيراً، وأستعينه وأستغفره وأتوكل عليه، وكفى به عليماً بصيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ به المعتصم وإليه الملتجأ، وعليه التوكل، وكان الله على كل شيء قديراً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله؛ بعثه بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، ومن بهداه اهتدى، وسار على نهجه واقتفى، وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعــد:

    فيا أيها المسلمون! اتقوا الله تبارك وتعالى، وحققوا إيمانكم لربكم بصدق الاعتماد والتوكل عليه، وتفويض الأمور كلها إليه، يحقق لكم ما وعدكم من خيري الدنيا والآخرة.

    إخوة الإسلام: يعيش المؤمن في هذه الحياة رغم ابتلاءاتها ومغرياتها؛ قرير العين هادئ البال، مطمئن النفس سليم القلب، مرتاح الضمير عالي الهمة، نقي السيرة صافي السريرة، لا يعرف الوهن إلى نفسه سبيلاً، ولا يجد الهلع عليه مدخلاً وطريقاً، يواجه أعباء الحياة بقوة إيمان، وثبات جنان ومضاء عزيمة، ورباطة جأش، ومعنوية عالية، لا يخاف من المجهول ولا يهتم مما يخبئه المستقبل؛ لأنه متوكل على ربه ومولاه، مؤمن بقضاء الله وقدره، يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، شعاره قول الحق تبارك وتعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51].

    حياته حياة الواثق بنصر الله، المطمئن لوعد الله، المستقيم على منهج الله، الراضي بقضاء الله، لا يستسلم للشبهات والأوهام، ولا يرضخ لمقولات أهل الزيغ والإجرام، يعتقد يقيناً أن المتصرف في الكون إله واحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، هو سبحانه الذي بيده أزمّة الأمور يخفض ويرفع، ويصل ويقطع، ويفرق ويجمع، يغني ويقني، يضحك ويبكي، يميت ويحيي، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، لا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، لا إله غيره ولا رب سواه، بهذه العقيدة يجب أن يواجه المسلم جميع المخالفات والمنكرات، ويثبت أمام سيل التجاوزات والضلالات.

    روى الترمذي وغيره في وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم لأمته ممثلة في ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قوله عليه الصلاة والسلام: {واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف } فيا لها من وصايا عظيمة، وقواعد كلية من أهم أمور الدين وأجلها!

    قال الإمام ابن الجوزي عليه رحمة الله: تدبرت هذا الحديث فأجهشني وكدت أطيش، إلى أن قال: فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث وقلة الفهم لمعناه. ونحن نقول في زماننا هذا: فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث وقلت الفهم لمعناه والله المستعان!



    التوكل حصن حصين من الفتن



    معاشر المسلمين: إنه عند حلول الفتن، ووقوع المحن يظهر توجه المتوكلين، وتضييع المتواكلين، وما ذاك -أيها المؤمنون- إلا لأنها معايير دقيقة، ومقاييس منضبطة لسبر أغوار الناس، وإظهارهم على حقائقهم، وامتحان عقائدهم، وصدق توكلهم، والموفق الملهم من كان مع الله في كل أحواله، وعرف ربه في سرائه وضرائه، وسار في كل أموره متوكلاً على الله، معتصماً به وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].

    إخوة الإيمان: التوكل على الله مقام عظيم جليل القدر، كبير الأثر، أمر الله به عباده وحثهم عليه، وندبهم إليه في مواضع كثيرة من كتابه، فقال سبحانه: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122] وأمر به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58] وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ [الشعراء:217] وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً [النساء:81] وقال عن رسله عليهم الصلاة والسلام: وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا [إبراهيم:12] وجعله سبحانه من مقتضيات الإيمان، فقال تعالى وتقدس: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23].

    كما جعله سبحانه سبباً لنيل محبته ورضاه، فقال جلَّ وعلا: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159] فيا له من مقام عظيم! يحضى صاحبه بمحبة الرحمن، ويتحقق به كمال الإيمان.

    معاشر الأحبة في الله: قد جعل الله التوكل عليه شعاراً لأهل الإيمان، يتميزون به عمن سواهم، فقال في صفاتهم: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] وضمن سبحانه وتعالى لمن توكل عليه كفايته ما أهمه، والقيام بأمره وإصلاح شأنه، فقال سبحانه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] أي: كافيه ما أهمه من أمور الدنيا والآخرة، قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية على أبي ذر رضي الله عنه وقال له: {لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم } رواه الإمام أحمد وغيره.

    وقال ابن القيم رحمه الله: التوكل نصف الإيمان والنصف الثاني الإنابة، وقد وعد الله المتوكلين عليه الأجر العظيم والثواب الجزيل، ففي الصحيحين في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب { وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتكلون } وفي الترمذي بسند صحيح عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لو أنكم توكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً }.



    أعلى الصفحة



    حقيقة التوكل وارتباطه بالأسباب



    يقول ابن رجب رحمه الله: وحقيقة التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح، ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها، أي: أن تكل الأمور كلها إليه سبحانه وتعالى وتحقق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا ينفع سواه، قال سعيد بن جبير : التوكل جماع الإيمان، وقال وهب : الغاية القصوى التوكل، وقال الحسن رحمه الله: التوكل لا ينافي السعي في الأسباب، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71] وقال سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60].

    والواجب على العبد أن يبذل الأسباب دون الاتكال عليها في تحقيق مراده، بل يتوكل على الله وحده مالك الأمر كله، وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو إمام المتوكلين، يحث على بذل السبب والسعي في الرزق، وهكذا كان أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.



    أعلى الصفحة



    مظاهر انعدام التوكل وضعفه



    أمة العقيدة: لقد ربى الإسلام أتباعه على سلامة التوحيد، وصحة العقيدة، وقوة اليقين، والتوكل على الله وحده، وابتعد بهم عن الأوهام والظنون والخيالات التي تعبث بعقولهم، وتجعلهم يتصورون الأمور على خلاف حقائقها، ونهى عن كل ما يخدش سلامة التوحيد وصحة العقيدة؛ من التشاؤم والتطير بالأيام والشهور، والحيوانات والطيور، وأصحاب العاهات ونحوهم، وحارب الذهاب إلى الدجالين والمشعوذين، والسحرة والمنجمين، وتصديق الكهنة والعرافين، وأدعياء علم الغيب والرمالين، ونحوهم من الدجاجلة الكذابين؛ لخطرهم على الدين والعقيدة، والأخلاق والسلوك، وأمن المجتمع، ولتلاعبهم بعقول الناس، وابتزازهم أموالهم، وأبطل كل مسالك الجاهلية واعتقاداتها الباطلة، وترك الناس على دين الطهر والصفاء، والخير والنقاء.

    أمة الإسلام: إن التوكل على الله وحده، وتفويض الأمور إليه دون غيره، واعتقاد أنه وحده مالك النفع والضر دون سواه، والبعد عن التطير والتشاؤم؛ أمور يجب على المسلم أن يعتقدها ديناً لله الواحد القهار؛ لا يشركه فيها أحد من الخلق قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعراف:188] وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:107] قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65].

    إخوة العقيدة: لقد أعز الله هذه الأمة بهذا الدين؛ عقيدة وشريعة، وجعلها متميزة بثوابتها ومبادئها، وألغى جميع مسالك الجاهلية، وما تتعلق به من أوهام وضلالات، وإنه لما فرط بعض المسلمين هداهم الله في عقيدتهم، وضعف عندهم جانب التوكل؛ أصبحت تلمس كثيراً من المظاهر المخالفة للعقيدة الصحيحة، حتى نسي بعضهم خالقه وبارئه، وتعلقوا بأضراب من الأوهام الباطلة، فهذا يتعلق بالمطالع ويرتب عليها نصيبه وحظه، ويسمي هذا طالع سعد وهذا طالع نحس، وذاك مترقب للأبراج يعلق عليها نجاحه وفوزه، وآخر بالشهور والأيام، ورابع بالأعداد والألوان وهلم جرا.

    حتى إنه قد لا يسافر ولا يتزوج وقد يعطل بعض أعماله تطيراً وتشاؤماً، فسبحان الله!

    عباد الله! جلَّ الله وتعالى الله عما يشرك به المشركون علواً كبيراً.

    أبعد هذا -أيها الإخوة في الله- يبقى مستمسك لأولئك الجهلة ومتعلق للمتخبطين في فهم العقيدة! أي دين بل أي عقل عند من يحادَّ الله في علمه وقدرته وتصرفه، بل أي إيمان وفهم ومسكة عقل عند من يذهب إلى الأفاكين ويصدق المضللين؟! أين الدين والعقيدة؟! أين العقول والأفكار؟!

    لقد كان أهل الجاهلية يكفون عن القتال في الأشهر الحرم، فإذا حل شهر صفر كثر القتال وانتهكت الحرمات، فيتشاءمون من هذا الشهر، ويعدونه شهر المآتم والأحزان، وهذا وإن كان ليس غريباً على عُبَّاد الأوثان، فإن الغرابة كل الغرابة أن يوجد هذا الأمر عند أدعياء الإيمان بعد أن أبطله الإسلام.

    عجيبٌ -يا أمة العقيدة! وغريب يا أهل الشريعة! ويا أرباب الحجى والعقول والأفهام- أن تعبث الخيالات والأوهام ببعض أبناء الإسلام، فماذا تغني الشهور والأيام من يوم الثلاثاء وشهر صفر وعدد ثلاثة عشر، وما ذنب الحيوانات والطيور من الغراب والبوم وماذا تملك الزهرة وزحل؟!

    ولكنها أوهام الجاهلين وألاعيب الشياطين، فأفيقوا -أيها المسلمون- من الغفلة عن هذه القضايا المهمة وقووا يقينكم بالله عز وجل، وحققوا التوكل عليه سبحانه، واحذوا التطير والتشاؤم؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: {لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر }.

    أمة الإسلام: إنه حينما يذكر بهذا لأمور -يا رعاكم الله- فإن ذلك يأتي من منطلق الحرص على صفاء العقيدة، والنصح لله ولعبادة، وما لهذه الأشياء من انتشار ورواج في بعض المجتمعات، ويخشى أن ينخدع بها بعض ضعاف الإيمان، ومع أننا في عصر تفتق العقل البشري، ونمو الفهم المادي، والتفجر المعلوماتي، إلا أنه لا تزال مثل هذه الأوهام موجودة في بعض الأوساط والمجتمعات، مما يعقد المسئولية على حملة الشريعة وعلماء الأمة في انتشال الغارقين في لجج هذه الأوهام الباطلة إلى ساحة الإيمان، وبر الأمان وشاطئ الخير والعقيدة والسلام.

    قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، وثبتنا وإياكم على الصراط المستقيم، وأجارنا بمنه وكرمه ورحمته من العذاب الأليم، هذا وبعد قولي سلفاً أستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان حليماً غفوراً.



    أعلى الصفحة


    العقيدة أعز ما لدى الأمة




    الحمد لله، من توكل عليه كفاه، ومن لاذ بحماه حفظه ووقاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، ومن سار على نهجه واهتدى بهداه.

    أما بعــد:

    عباد الله: اتقوا الله واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.

    عباد الله: إن أشد ما ابتليت به هذه الأمة -لا سيما في أعقاب الزمن- دخول النقص عليها في أعز ما لديها؛ في عقيدتها وثوابتها، ومن ذلك ما يعتقده بعض العامة في شهر صفر وغيره من التشاؤم والتطير مما هو مخالف للإسلام، وقد أخرج الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: الكلمة الطيبة } ولـأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر مرفوعاً، قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {أحسنها الفأل ولا تردُّ مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنة إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك } وعن ابن مسعود مرفوعاً : {الطيرة شرك، وما منَّا إلا قد وقع في قلبه شيء من ذلك، ولكن الله يذهبه بالتوكل } رواه أبو داود والترمذي وصححه، وروى الإمام أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال: {من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك، قالوا: وما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: أن يقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك }.

    عباد الله فاتقوا الله واعرفوا منة الله عليكم بهذا الدين، وحققوه قولاً وعملاً واعتقاداً.

    ثم صلوا وسلموا -رحمكم الله- على من حمى جناب التوحيد، وسد ذرائع الشرك وطرقه، النبي المصطفى والرسول المجتبى، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال جل من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً }.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأدم الأمن والاستقرار في ربوعنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم انصر به دينك وأعل به كلمتك، وارفع به كلمة الحق والعدل يا حي يا قيوم! اللهم ارزقه البطانة الصالحة، التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم اجعلهم ناصرين لأوليائك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة لرعاياهم يا ذا الجلال والإكرام.

    اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك والمضطهدين في دينهم في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وألف بين قلوبهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن.

    اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن يا ذا الجلال والإكرام! رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا ارحم الراحمين.

    عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.





    رد مع اقتباس  

  2. #22 رد: أكبر مكتبة تضم خطب الجمعة لكبار أئمة الحرم المكي والنبوي 
    ضي الأمل غير متواجد حالياً T৵હ.¸ اللهم إغفر لها وتغمدها برحمتك "¸.હ৵
    المشاركات
    16,625
    الخطبة 22

    حفظ الله للعبد للسديس

    إن العبد إذا حفظ الله عز وجل في أوامره ونواهيه، حفظه الله عز وجل في كل أموره وشئونه وحياته، وقد تعرض الشيخ في هذه الرسالة إلى شرح حديث ابن عباس في حفظ العبد لله، وحفظ الله عز وجل.

    معنى "احفظ الله"




    الحمد لله نحمده ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه ونثني عليه الخير كله، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدِ، ومن يضلل فلن تجد له أولياء من دونه.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله وأمينه على وحيه، نبي شرح الله صدره، ووضع وزره، وأعلى قدره، ورفع ذكره، وجعل الذلة والعار على من خالف سنته وعصى أمره، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه ودعا بدعوته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، وتقوى الله جماع خيرَي الدنيا والآخرة، وحياض من شر العاجلة والآجلة، واعلموا عباد الله! أن الله تعالى أمركم بحفظ أوامره واجتناب نواهيه، والوقوف عند حدوده، ومَن حفظ الله في الدنيا حفظه الله في الدنيا والآخرة. أخرج الإمام أحمد و الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: {كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك } الحديث. وحِفظ الله يا إخوة الإسلام! يعني: حفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه، ويكون ذلك بالوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده، فلا يتجاوز ولا يتعدى ما أمر به إلى ما نهى عنه، ودخل في ذلك فعل الواجبات جميعاً، وترك المحرمات كلها، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله، الذين مدحهم الله في كتابه الكريم بقوله ضمن صفات المؤمنين: وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112] وقال سبحانه: وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:31-33] وفُسِّر الحفيظ: بالحافظ لأوامر الله وحدوده.



    المحافظة على الصلوات



    ومن أعظم ما يجب على العباد حفظه من المأمورات بعد سلامة التوحيد وصحة العقيدة: الصلوات الخمس، قال تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] وقال جل وعلا: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون:9] يحافظون على أدائها في أوقاتها وأماكنها بطهارتها وخشوعها وأركانها وواجباتها وسننها.



    أعلى الصفحة



    حفظ الضروريات الخمس



    ومما يؤمر بحفظه ما تميزت به هذه الشريعة من أنها جاءت بالمحافظة على الضروريات الخمس: الدين، والنفس، والنسب، والعقل، والمال.

    فالمحافظة على الدين: بفعل أوامره واجتناب نواهيه مطلقاً.

    وحفظ النفس: بعدم الاعتداء عليها بقتل أو أذى.

    وحفظ النسب والعرض: بالنكاح الشرعي والبُعد عما حرم الله من الزنا واللواط والقذف، ومجانبة أسبابها.

    وحفظ العقل: بصيانته عما يخله من المسكِرات والمخدِّرات والمفتِّرات بأنواعها وصنوفها.

    وحفظ المال: باتباع الطرق الشرعية في جلبه والبُعد عن الطرق المحرمة والمشتبهة، وإحاطته وغيره بالعقوبات التي تمنع الاعتداء عليه، وذلك بإقامة الحدود الشرعية.



    أعلى الصفحة



    حفظ الجوارح



    ومِّما يتعيَّن حفظه على المسلمين: الجوارح؛ فيُحفظ الفرج عما حرم الله، قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المعارج:29].

    والبطن؛ فلا يدخله إلا الحلال الطيب.

    واللسان؛ فلا يتكلم إلا بخير وصدق ويجتنب الكذب والغيبة والنميمة واللمز وقول الزور، قال صلى الله عليه وسلم: {وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم } أخرجه الترمذي وغيره عن معاذ رضي الله عنه .

    ومن ذلك: حفظ البصر والسمع عما حرم الله، قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] إلى قوله سبحانه: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [النور:31] وقال عز وجل: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].



    أعلى الصفحة


    حفظ الأمة الإسلامية لله




    يوم أن كانت الأمة الإسلامية محافظة على أوامر الله، قائمة بحدود الله، محكِّمة لكتاب الله نالت السيادة والريادة والنصر والعزة والكرامة، ويوم أن تخلت عوقبت بالذل والهوان والضعف والاختلاف وتقوية الأعداء.

    فيتعين على أرباب الولاية في أرض الله أن يحفظوا شريعة الله بالحكم بها في كل صغير وكبير، وأن يكون سورُها واقٍ على نهج من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونبذ كل ما يخالفهما من أحكام الجاهلية.

    وعلى علماء الأمة وأهل الرأي فيها أن يحفظوا العهد والميثاق فينشروا العلم النافع في صفوف المسلمين ويجاهدوا في سبيل الله، ونفع عباد الله، ويؤدوا رسالتهم العظيمة لئلا يقعوا تحت طائلة الكتمان المحرم.

    وعلى شباب المسلمين أن يحفظوا شبابَهم ووقتهم ويبتعدوا عن الشر والرذائل لينفعوا دينهم وأمتهم وبلادهم.

    وعلى نساء المسلمين أن يحفظن حدود الله ويَسِرْن على هدي من كتاب الله وسنة رسوله، فيلزمن الحجاب والعفاف والحياء ويبتعدن عن كل ما يكون سبباً في الشر والفتنة.

    نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الحافظين لحدوده، القائمين بأوامره، المبتعدين عن نواهيه.

    اللهم احفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.


    حفظ الله لعباده




    الحمد لله الملك العلام، القدوس السلام، أحمده تعالى وأشكره وأتوب إليه وأستغفره.

    وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.

    أما بعد:

    اتقوا الله عباد الله! واحفظوا حدوده تنالوا الحفظ منه، قال العلامة ابن رجب في شرحه لحديث: { احفظ الله يحفظك } وحفظ الله لعباده يدخل فيه نوعان:

    أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، ومن حفظ الله في صباه وقوته؛ حفظه الله في كبره وضعف قوته ومتَّعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله، وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته في ذريته ومتى كان العبد مشتغلاً بطاعة الله؛ فإن الله يحفظه في تلك الحال، قال بعض السلف: من اتقى الله فقد حفظ نفسه ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه، والله غني عنه.

    النوع الثاني من الحفظ، وهو أشرف النوعين: حفظ الله لعبده في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة والبدع المذلة، والشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان.

    فاتقوا الله يا عباد الله! واحفظوا حدود الله يحفظكم في الدنيا والآخرة.

    ألا وصلوا على من بعثه الله رحمة للعالمين، نبينا محمد بن عبد الله كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وأخرج الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً } اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارضَ عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحمِ حوزة الدين، يا رب العالمين!

    اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!

    اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان يا أرحم الراحمين!

    اللهم وفق المسلمين للعودة السابقة إلى دينك القويم، اللهم أصلح قادتهم وعلماءهم وشبابهم ونساءهم.

    اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.

    اللهم أيد بالحق إمامنا، اللهم أيده بالحق المبين يا أرحم الراحمين! واجعل عمله في رضاك، اللهم وفقه لما تحب وترضى، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، اللهم اجعله قرة عين للإسلام والمسلمين، اللهم اجعله هادياً مهدياً يا أرحم الراحمين!

    رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ.

    رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

    وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.





    رد مع اقتباس  

  3. #23 رد: أكبر مكتبة تضم خطب الجمعة لكبار أئمة الحرم المكي والنبوي 
    ضي الأمل غير متواجد حالياً T৵હ.¸ اللهم إغفر لها وتغمدها برحمتك "¸.હ৵
    المشاركات
    16,625
    الخطبة 23
    بدع شهر رجب للسديس

    إننا مطالبون باتباع شرع الله وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك جماع الصلاح والهداية، وضده الشقاوة والضلالة، وذلك لأن الأعمال لا تقبل إلا بشرطين: الإخلاص، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثير الأمر بلزوم سنته، شديد التحذير من البدع والمحدثات.

    وأقوال السلف في ذلك كثيرة مشهورة.

    وإن من هذه البدع: بدعة تخصيص ليلة السابع والعشرين من شهر رجب بالعبادة والطاعات والأفراح؛ وغيرها من البدع.

    الاتباع لا الابتداع




    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، أمرنا باتباع رسوله وسلوك سبيله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، حثنا على اتباع هديه وسنته، وحذرنا من كل ما يخالف هديه وطريقته، فلا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، تركها على المحجة البيضاء، لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا يحيد عنها إلا ضال، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تمسك بسنته ولزم هديه إلى يوم الدين.

    أما بعــد:

    أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واعلموا أنكم مطالبون باتباع شرع ربكم، وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ فإن في ذلك الصلاح والهداية، وفي ضده الشقاوة والضلالة.



    شروط قبول العمل



    إخوة الإسلام في كل مكان: لقد جاءت شريعة الإسلام كاملةً شاملة لا تحتمل الزيادة والنقصان، قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] وشرط الشارع الحكيم لقبول الأعمال شرطين عظيمين، إذا اختل أحدهما فسد العمل، وأصبح هباءً منثوراً.

    أولهما: أن يكون العمل خالصاً لوجه الله، خالياً من كل رياء وسمعة.

    ثانيهما: أن يكون صواباً موافقاً لشرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا زيادة ولا بدعة، لأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين، ولم يبقِ من أصول الدين وفروعه شيئاً إلا بينه، صلوات الله وسلامه عليه، فالحق ما جاء به، والثواب ما كان على وفق سنته، والباطل والضلال ما كان مخالفاً لهديه، مما أحدثه الناس واتبعوه، واتبعوا فيه أهواءهم قال الله: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [القصص:50].



    أعلى الصفحة



    أقوال السلف في إنكار البدع



    قال الإمام مالك رحمه الله: [[من ابتدع في الإسلام بدعة ًورأها حسنة، فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، فما لم يكن يومئذٍ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً ]] وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم -وهو بأمته الرءوفٌ الرحيم، ولها الناصح الأمين- كثير الأمر بلزوم السنة واتباعها، وشديد التحذير من المخالفة والبدعة، بل كان يؤكد ذلك دائماً في خطبه، كما أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه.

    إن من الناس من كذبوا وابتعدوا عن آثار النبوة، وفتحت عليهم الدنيا، وآثروها على الأخرى؛ فانتشرت بينهم المحرمات، وكثرت البدع والضلالات، حتى اشتبه الأمر على كثيرٍ من المسلمين، فوجب التنبيه على تلك البدع في حينها؛ حتى يكون المسلم الحريص على اتباع السنة على بصيرةٍ في أمر دينه، وحتى تقوم الحجة وتتبين لكل من أراد السير على ما كان عليه محمد بن عبد الله، صلى الله وسلم عليه وعلى صحابته من بعده، والتابعين لهم في القرون الخيّرة.

    أمة الإسلام وأتباع سيد الأنام صلى الله عليه وسلم! إن من البدع المحدثة في الإسلام، ما يعتقده بعض الناس في شهر رجب من أن له خاصية على غيره من الشهور، فيفعلون فيه أموراً محدثة، ويعتقدون فيه اعتقاداتٍ جاهلية، ويخصونه بأنواعٍ من العبادات، كالعمرة والصوم والأذكار والصلوات، ويسمونها باسم هذه الشهر، كالصلاة الرجبية، والعمرة الرجبية، والأذكار الرجبية ونحوها، وتخصيص شهر رجب، أو بعض أيامه ولياليه بصيامٍ أو قيامٍ أو نحوهما، أمرٌ محدث ليس له أصلٌ في شريعة الإسلام فيما نعلم.



    أعلى الصفحة



    أقوال أهل العلم في بدع رجب



    قال الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله: "لم يرد في فضل شهر رجب ولا صيامه ولا في صيام شيءٌ منه معين، ولا في قيام ليلةٍ مخصوصة، حديثٌ صحيحٌ يصلح للحجة". وله رحمه الله رسالةٌ قيمةٌ في ذلك، ونحو قوله هذا قال علماء الإسلام، كشيخ الإسلام ابن تيمية ، والعلامة ابن القيم ، والحافظ ابن رجب ، والإمام النووي ، وغيرهم رحمهم الله جميعاً. وبأي دليلٍ بعد ذلك يحتج من يفعل هذه المحدثات، لم يبق إلا الاعتماد على الأحاديث الموضوعة المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآثار الواهية التي لا تقوم بها حجة، وفوق ذلك كله، داءان خطيران، منتشران بين صفوف المسلمين، هما داء الجهل بدين الله، وداء التعصب للهوى، وكم جر ذلك على المسلمين من شرورٍ وفتن، لا خلاص منها إلا باتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    فاتقوا الله -أيها المسلمون- وتمسكوا بدينكم واتبعوا هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، واحذروا الوقوع في كل ما يخالف سنته وسنة خلفائه الراشدين مما أحدثه المتأخرون في دين الله بغير سلطان أتاهم:

    فخير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائع


    نسأل الله تعالى أن يهدي المسلمين إلى الصراط المستقيم، وأن يمنحهم الفقه في الدين، ويجنبهم طرق المبتدعين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



    أعلى الصفحة


    حكم إفراد ليلة الإسراء والمعراج بالعبادة




    الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، ومنّ علينا باتباع سيد المرسلين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    أما بعــد:

    فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلاله.

    عباد الله: ومما أحدثه الناس في شهر رجب تخصيصهم بعض الليالي لإقامة الأفراح والحفلات، وليلة سبع وعشرين التي يزعمون أنها ليلة الإسراء والمعراج، ويخصصونها بأذكارٍ معينة وصلاة وأذكار محددة، ونحن مع إيماننا بالإسراء والمعراج واعتقادنا بوقوعه وأنه من آيات الله العظيمة، إلا أننا نقول: الاحتفال بذكراه خطأٌ فادحٌ لوجوه، أهمها:

    أن الإسراء لم يثبت دليلٌ صحيحٌ على تعيين ليلته التي وقع فيها، وعلى الشهر الذي وقع فيه، فالعلماء مختلفون في زمانه، فتخصيص ليلةٍ من الليالي للإسراء تخصيص لا دليل عليه. ولو ثبت تعيين الليلة، فلا يجوز لنا أن نخصصها بشيءٍ لم يشرعه الله ولا رسوله، ولم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه وصحابته من بعده والتابعين لهم بإحسان أنهم خصصوها بشيء من العبادات، أو احتفلوا بذكراها، فلا يجوز لأحدٍ بعدهم أن يحدث في الإسلام شيئاً لم يفعلوه.

    إضافةً إلى ذلك أن كثيراً من الناس قد تفننوا فيما يأتوا من البدع في هذه الليالي، وزاد كثيرٌ منهم عليها بروفاً من المنكرات والمحرمات، فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله!

    ونحن نناشد المسلمين في كل مكان، أن يتقوا الله تعالى، ويتمسكوا بهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويحذروا كل الحذر من الوقوع في هذه الأمور المبتدعة، ففي ذلك والله عزهم وصلاحهم وسعادتهم.

    ألا وصلوا على نبي الرحمة والهدى، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

    اللهم صلِّ وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين يا رب العالمين!

    اللهم أعزنا بالإسلام وانصرنا بالإسلام، اللهم وفقنا للتمسك به، اللهم وفقنا للعض على سنة نبيك صلى الله عليه وسلم بالنواجذ، اللهم وفق المسلمين عامةً إلى ما تحبه وترضاه يا رب العالمين! اللهم وفق المسلمين إلى العودة إلى دينك القويم، وإلى اتباع سنة نبيك الأمين، يا رب العالمين!

    اللهم وفق المسلمين قاطبة قادةً وشعوباً، علماء وعامة، رجالاً ونساءً، لما تحبه وترضاه، يا ذا الجلال والإكرام! اللهم وفق إمام المسلمين بتوفيقك، وأيده بتأييدك، وأعلِ به دينك، يا رب العالمين! اللهم ارزقه البطانة الصالحة، يا أرحم الراحمين!

    اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، اللهم وفقهم وانصرهم في كل مكان، يا رب العالمين!

    رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

    عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.





    رد مع اقتباس  

  4. #24 رد: أكبر مكتبة تضم خطب الجمعة لكبار أئمة الحرم المكي والنبوي 
    ضي الأمل غير متواجد حالياً T৵હ.¸ اللهم إغفر لها وتغمدها برحمتك "¸.હ৵
    المشاركات
    16,625
    الخطبة 24

    القول على الله بغير علم للسديس

    إن مصدر تلقي المسلم؛ عقيدة وعباده، سلوكاً ومعاملة، تحليلاً وتحريماً مرجعه للكتاب والسنة، فكما أن الله تعالى منفرد بالخلق والتدبير فكذلك له الأمر والنهي والتحليل والتحريم.

    وعليه؛ فيحرم على المسلم أن ينصب نفسه في مقام الفتيا والتوقيع عن رب العالمين مالم يكن عنده علم بما يفتي فيه، ولقد كان السلف رحمهم الله يتدافعون الفتيا تورعاً مع علمهم الجم.

    الكتاب والسنة مصدر التلقي




    الحمد لله فالق الإصباح، وفارق أهل الغي من أهل الصلاح، المنزه في عظيم عليائه عن مشابهة الأرواح، ومشاكلة الأشباح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة زاكية الأرباح، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله والحرمات تستباح، وحزب الكفر قد عم الفجاج والبطاح، فلم يزل صلى الله عليه وسلم يرشد إلى الحق بالحجاج الوضاح، وسمهرية الرماح، حتى ظهر دين الله وسرى في الآفاق سريان الرياح، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه ومحبيه، ما أزال الظلم الحادث ضوءُ الصباح، صلاة نحوز بها أعلى مراتب الفلاح، وأسمى درجات النجاح، ونتبوأ بها قمم الخير والصلاح، ونتخلص بها من دركات الإثم والجناح، وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    فيا عباد الله: اتقوا الله ربكم وأطيعوه، وراقبوه ولا تعصوه، اتقوه جلَّ وعلا حقَّ التقوى، فليس لكم بغير التقوى أمل يبقى، ولا حبل يقوى، والعاقبة للتقوى.

    أيها المسلمون: من أعظم مقاصد شريعتنا الغراء حفظها لدين المكلفين، وذلك من جهتين؛ كما يقول أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: جهة وجودية تكفل إيجاده وتكوينه، وجهة عدمية تكفل حفظه وبقاءه وصيانته.

    ومن المسلم لدى أهل الإيمان الحق أن مصدر تلقي المسلم لدينه، عقيدةً وعبادةً،ومعاملةً وسلوكاً،تحليلاً وتحريماً، تحاكماً وتحكيماً، إنما هو الكتاب والسنة، فكما أن لله وحده الخلق والتدبير، فله جل وعلا الأمر كله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].

    وقد حذَّر سبحانه من التلقي عن غير هذا المصدر الثر فقال تعالى وتقدس: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].


    حرمة القول على الله بغير علم




    إخوة الإسلام: كم ترتعد الفرائص، وتوجل القلوب وترى قسمات الاستنكار إذا حُذِّر المسلمون من الشرك والقتل والربا والزنا ونحوها من كبائر الذنوب! لكنها معان تتهلل لها سبحات الوجوه إذ هي ذنوب توعد الله عليها وعيداً شديداً في الدنيا والآخرة، لما لها من الآثار الخطيرة في تقويض حياة الأمة، وإيرادها موارد العطب والهلاك، ولا غرو فالمعاصي وسائل هدم وتدمير لكنها أنواع ودركات.

    إذا كان الأمر كذلك -يا عباد الله- فهل تعلمون ما هو أخطر من ذلك كله؟ بل ما هو أصل للشرك والكفران، وأساس للبدع والعصيان، وما هو أغلظ وأنكى منها، ومن جميع الفواحش والآثام، والجرائم والبغي والعدوان؟ إنه أصل الجرائم على الإطلاق، وأساسها باتفاق، ذلكم هو: القول على الله بغير علم.

    يقول سبحانه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] انظروا -يا رعاكم الله- كيف قرن الله سبحانه القول عليه بلا علم بالشرك به، والبغي والإثم والفواحش.

    بل لقد جاءت هذه المحرمات الأربع في كل الشرائع مرتبة على حسب مراتب الشدة فيها، على سبيل الترقي، فأهونها أولها، وأخطرها آخرها، ولا عجب فما الشرك بالله إلا ضرب من القول على الله بغير علم.

    قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند هذه الآية: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] أي من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولداً ونحو ذلك مما لا علم لكم به.



    التحليل والتحريم حق لله



    إخوة الإيمان: إن التحليل والتحريم حق لله وحده، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، ولقد أنكر سبحانه على أقوام جعلوا مصدر التحليل والتحريم من قبل أهوائهم، فقال عز من قائل: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:117] وقال تبارك وتعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [يونس:58-60].

    وإن من أكبر الجنايات -يا عباد الله- أن يتصدر المرء للخوض في دين الله تحريماً وتحليلاً، من غير علم ولا بصيرة، وهذا مع كونه جناية عظمى ففيه سوء أدب مع الله تبارك وتعالى، حيث يتقدم بين يديه فيقول في دينه وشريعته ما لا يعلم، وتلك والله أمارة ضعف الإيمان وقلة الديانة، بل ونقص العقل والمروءة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات:1].



    أعلى الصفحة



    تورع السلف في الفتوى



    إخوة العقيدة! لقد رسم السلف الصالح رحمهم الله المسلك الوضَّاء في هذه القضية، ديانةً وتثبتاً وورعاً، فهذا أعلم الأمة وسيدها وإمامها صلى الله عليه وسلم، يسأل عما لم ينزل عليه فيه وحي، فينتظر حتى ينزل عليه الوحي، وآيات يسألونك في الكتاب العزيز غير قليلة، وهكذا كان الأجلاء من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا أبو بكر رضي الله عنه وقد سأل عن معنى آيه من كتاب الله يقول: [[أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ ]] وهذا عمر رضي الله عنه تنزل به الحادثة فيجمع لها أكابر الصحابة ويستشيرهم فيها.

    قال ابن سيرين رحمه الله: لم يكن أحد أهيب لما لا يعلم من أبي بكر ، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب لما لا يعلم من عمر .

    وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [[إن استطعت أن تكون أنت المُحَدَّثَ فافعل ]] وقال رضي الله عنه: [[إن الذي يفتي الناس في كل ما يسألونه لمجنون ]].

    وقال أيضاً: [[من سئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم ]].

    ورحم الله الإمام الشعبي حينما سئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقال له أصحابه: إنا نستحي لك من كثرة ما تسأل فتقول: لا أدري، فقال رحمه الله: لكن ملائكة الرحمن لم يستحيوا إذ سئلوا عما لا علم لهم به فقالوا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32].

    وكان عطاء بن أبي رباح يقول: لا أدري نصف العلم. وقال بعضهم: إذا نسي العالم كلمة لا أدري فقد أصيبت مقاتله. وكان أبو عبيدة إذا سئل يتمثل قول الشاعر:

    يا رب لا أدري وأنت الداري كل امرئ منك على مقدار


    وفي تدافع الفتوى وذم المسارعة إليها أورد ابن عبد البر رحمه الله قول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفتٍ إلا ود أن أخاه كفاه الفتوى.

    وهذا إمام دار الهجرة رحمه الله يقدم عليه رجل من مسافة بعيدة، فيعرض عليه أربعين مسألة، فيجيب عن أربع منها ويقول في ست وثلاثين مسألة منها: الله أعلم.

    فيقول له الرجل: أنت مالك بن أنس ، إليك تضرب أكباد الإبل، وإليك الرحلة من كل بلد، وقد جئتك من مسافة بعيدة وتقول: الله أعلم! ماذا أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟! قال: تقول لهم: إن مالكاً يقول: الله أعلم.

    وكان الإمام أحمد رحمه الله كثيراً ما يسأل فيتوقف، أو يقول: لا أدري، أو نحو ذلك.

    وقال سحلول بن سعيد : أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علماً، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه.

    وكان إذا سئل رحمه الله يقول: إنما يفتي الناس مفت أو أحمق، وأنا لست بمفت ولا أريد أن أكون الآخر.

    وقال بشر الحافي : من أحب أن يسأل فليس بأهلٍ أن يسأل.

    وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: كل من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها، إلا قل توفيقه واضطرب في أمره، وإن كان كارهاً لذلك غير مختار له وما وجد ممدوحة عنه، وقدر أن يحيل بالأمر فيه إلى غيره، كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في فتاويه وجوابه أغلب.



    أعلى الصفحة



    فضل علم السلف على الخلف



    معاشر المسلمين: إذا كان هؤلاء الأئمة مع جلالة قدرهم وعظيم مكانتهم، يسلكون مسالك التورع والتثبت فكيف هي الحال الآن؟ وكيف بنا معاشر المسلمين؟ الله المستعان!

    أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها


    لقد وصف الحكيم الترمذي عموم الخلق في زمانه فقال: ضعف ظاهر، ودعوى عريضة. وعن مالك قال: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة فوجده يبكي فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: لا. ولكن استفتي من لا علم عنده.

    وظهر في الإسلام أمر عظيم قال ربيعة : ولبعض من يفتي هاهنا أحق بالحبس من السراق. قال بعض العلماء: فكيف لو رأى ربيعة زماننا؟ قلت: فكيف لو رأى هذا العالم زماننا هذا؟



    أعلى الصفحة


    قبض العلم بقبض العلماء




    في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا } وكم رأى الغيور نُزَّالاً في حلائب العلم ومتطفلين في ساحات المعرفة، وهم ليسوا منها في قليل ولا كثير، ديدنهم الجرأة على الفتوى، ودأبهم التجاسر على التحليل والتحريم، متشبعين بما لم يعطوا، يتكلمون بما يعلمون وما لا يعلمون، ويجملون ويفصلون، ويهرفون ويسفسطون، وهم من أجهل الناس في أحكام الشريعة.

    وقل لمن يدعي في العلم فلسفةً علمت شيئاً وغابت عنك أشياء


    إذا سمعت أحدهم يتكلم، فكأنما يتنزل عليه وحي؛ من جَزْمه وجرأته في قوله، وعدم تورعه في كلامه، ولربما نسب ما يراه إلى الإسلام، ترى أحدهم يجيب في عظيم المسائل مما لو عرض على عمر لجمع له أهل بدر ، وكم يتملكك العجب، وأنت تسمع عبارات التعظيم لذواتهم، والتعالي في نفوسهم! شعارهم: العلماء رجال ونحن رجال. وقاموسهم: رأينا كذا، ترجيحنا، اختيارنا، والذي نراه، ونحن نرى، والراجح عندنا .

    يقولون هذا عندنا غير راجح ومن أنتم حتى يكون لكم عند




    ثوابت الدين لا تقبل التبديل



    فليس كل من لبس عباءة، أو كور عمامةً، أو نال شهادةً، أو أمّ مسجداً أو ألف مؤلفاً، أو عمل مدرساً، أو أبلغ في موعظة؛ يُعد شيخ الإسلام ومفتي الأنام، يحكم في العقائد والرقاب والأموال والأعراض، وكأن الأمر شربة ماء! أما علم هؤلاء أن الجرأة على الفتوى جرأة على النار، وأن التجاسر عليها اقتحام لجراثيم جهنم، عياذاً بالله عياذاً، بل لقد وصل الحال ببعض العامة إلى أن يفتي بعضهم بعضاً، والله عز وجل يقول: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

    والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: {هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال } لقد أصبح الحديث في علوم الشريعة بضاعة كل متعالم مأهول، حتى ساموا باعة البقول عدداً، وتكلم كثير من الرويبضة، واستطالوا على منازل العلماء ومقامات العظماء والفقهاء، وعمد بعضهم إلى أمور من الثوابت والمبادئ، وجعلوها عرضة للتغيير والتبديل، بحجة التنوير والتطوير، ولربما تحذلقوا بتغير الفتوى بتغير الزمان.

    ووجد من يتنصل عن الفتوى بأمور جاء تحريمها، مما علم من الدين بالضرورة، وكثر التحايل على أمور الشريعة، فاستحلت كثير من المحرمات بأدنى الحيل، وطالب بعض مثقفي العصر من أفراخ التغريب وتلامذة الإفرنج، بالترخص بل بالتفلت من الأحكام الشرعية، فطالب بعضهم بإعادة النظر في حرمة الربا أو بعض صوره، وآخرون بالتعجل المذموم والتجاسر المحموم على حجاب المرأة المسلمة وقضاياها، وهكذا في سيل من التلاعب المرذول بأمور الشريعة، وتجرأ بعض حملة الأقلام، بل وبعض وسائل الإعلام وقنواته؛ المسموعة والمقروءة والمرئية، إلى إثارة قضايا كلية من الدين، مع بعض المتعالمين ممن:

    يمدون للإفتاء باعاً قصيرةً وأكثرهم عند الفتاوى يفذلك


    باحثين عن الإثارة، زاعمين استقطاب القراء والمشاهدين، فالويل كل الويل لكل من ارتقى هذا المرتقى الصعب على حساب الدين وتعاليمه، فأضل فئاماً من الأمة ممن سيحملون أوزارهم وأوزاراً مع أوزارهم لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:25].



    أعلى الصفحة



    وجوب الدفاع عن الشريعة



    أمة الإسلام: إن الواجب حماية لبيضة الدين، ودفاعاً عن أحكامه وتشريعاته، أن يحجر على كل متكلم في الشريعة، تحليلاً أو تحريماً وهو لا يحسن، فالحجر لاستصلاح الأديان، أولى من الحجر لاستصلاح الأموال والأبدان، والغيرة على الشريعة من المكارم، وهي أولى من الغيرة على المحارم، والله إنه ليحرم على من لا يهتدي لدلالة القرآن، ولا يعرف السنة والآثار والبرهان أن يتسلم جانب العلم، ويتصدر في مجال الإفتاء ونحوه، فيضل ويُضل؛ فتغرق سفينة الأمة، وقد قيل لـسفيان الثوري رحمه الله في ذلك فقال: إذا كثر الملاحون غرقت السفينة.

    ألا فليعلم هؤلاء أنهم بكلامهم في الشريعة إنما يوقعون عن رب العالمين سبحانه، وأن الفتاوى نار تضطرم، وكم سمعنا ونسمع من فتاوى فجة لا زمام لها ولا خطام، تبنى على التجري لا على التحري، لا تقوم على قدم الحق فتعنت الخلق، وتُشجي الحَلْق، وحق على هؤلاء أن تسلم الأمة من لأوائهم وتحذر من غلوائهم.

    وإن رغمت أنوف من أناس فقل يا رب لا ترغم سواها


    روى ابن سيرين أن عمر قال لـابن مسعود رضي الله عنهما: [[نبئت أنك تفتي الناس ولست بأمير، فول حارها من تولى قارها ]].

    قال الإمام الذهبي في السير : وهذا يدل على أن للإمام أن يمنع من يفتي بلا إذنه.

    وذكر الخطيب البغدادي بسنده عن حماد بن زيد رحمه الله أنه سمع منادياً ينادي في أسواق المدينة أن لا يفتي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى مالك .

    ولذا فإن الواجب أن يقوم بهذا العمل الأصلاء دون الدُخلاء، والمتأهلون لا المتطفلون والمتعالمون؛ حفظاً لدين الأمة، وتوحيداً لكلمتها، وضبطاً لمسالكها ومناهجها؛ لتكون مبنية على الكتاب والسنة، بفهم سلف الأمة ، وبذلك تسلم الأمة من غوائل المحن وبواعث الفتن، وتوجد العواصم بإذن الله من قواصم الجريمة الشنعاء، ألا وهي القول على الله بغير علم، والله المسئول أن يعصمنا من الزلل، ويحفظنا من الشرور والخطل، وأن يرزقنا نافع العلم وصالح العمل، فهذا هو عظيم الرجاء وكبير الأمل.

    بارك الله لي ولكم في القرآن ، ونفعني وإياكم بما فيه من الهدى والبيان، وثبتنا وإياكم على الحق والإيمان، ورزقنا اتباع سنة المصطفى من ولد عدنان.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفوراً.



    أعلى الصفحة


    أسباب القول على الله بغير علم وعلاجه




    الحمد لله العلي الكبير، العليم القدير، المتفرد بالخلق والأمر والتدبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله البشير النذير والسراج المنير، هو للأنبياء لبنة زمانهم، وللرسل مسك ختامهم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الشرفاء وصحبه النجباء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.

    أما بعد:

    فاتقوا الله عباد الله! وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.

    عباد الله: إذا التمست أسباب هذه القضية، فإن أهمها ضعف الوازع، وقلة الرادع، والتقصير في التقوى والإيمان ومخافة الواحد الديان، وعدم المنهج الصحيح في التلقي والتحصيل، إضافة إلى قاصم الظهور داء الشهرة وحب الظهور، واستشراء التعالم المذموم، وغلبة الهوى، وقعود الأكفاء والمؤهلين عن البلاغ والبيان، ولا يدفعنَّ بعض المؤهلين ورع كاذب، وتثبت بارد في تبليغ ما يعلموا من دين الله عز وجل، فلا تنافي بين التثبت مما لا يعلم، وتبليغ ما يعلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: {بلغوا عني ولو آية } وعلاج هذا الداء بتقوية الإيمان والخوف من الله في النفوس، والسير على المنهج الصحيح في التعلم والأخذ من أهل العلم والرد إليهم للعلم والإيضاح وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83] لا سيما في المعضلات التي تحتاج إلى مرجعية علمية موثوقة، وما عم فيه التنازع والاختلاف: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59].

    ومن العلاج: القراءة في سير الأسلاف، والتحلي بأدب الخلاف، والتواضع الجم، والورع الصادق، وقبل ذلك وبعده إخلاص النية لله عز وجل، وسؤاله التوفيق والتسديد.

    فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن القول على الله بلا علم ضرب من الكذب عليه سبحانه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:144] ومن ذلك الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترويج الأحاديث الموضوعة عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان : {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار } ويدخل في ذلك الكذب على علماء الإسلام المعتبرين، وتلفيق الأكاذيب عليهم، أو الأخذ بالشواذ والإغراب في المسائل، أو ما يعمد إليه بعض السفهاء من تتبع رخص الفقهاء، وقد قيل: من طلب غريب المسائل ضل، ومن تتبع الرخص تزندق.

    أو التعصب لأحد من الأئمة، وادعاء العصمة له، وحكر الحق فيما يراه، أو نحو ذلك مما يصد عن المنهج الصحيح بالتلقي.

    فاتقوا الله أيها المتصدون لهذا كله! واتقوا الله -أيها المستفتون- ولا تسألوا إلا من يوثق بدينه وعلمه؛ لتكونوا على بصيرة في أمور دينكم، ونجاة في أمور دنياكم وآخرتكم.

    هذا واعلموا -رحمكم الله- أن من أفضل أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وأحقها بشفاعة نبيكم صلى الله عليه وسلم، كثرة صلاتكم وسلامكم عليه كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا فقال تعالى قولاً كريماً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

    اللهم صل وسلم وبارك على النبي المصطفى والرسول المجتبى، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، واللواء المعقود، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، والأئمة الحنفاء، يا خير من تجاوز وعفا، وارض اللهم عنا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الملة والدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا إلى ما تحبه وترضاه، اللهم خذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم انصر به دينك وأعلِ به كلمتك، وأعز به أوليائك واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين، اللهم أصلح له البطانة والسريرة يا ذا الجلال والإكرام.

    اللهم وفق جميع ولاة المسلمين للحكم بشريعتك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم ارزقنا العلم النافع والعمل الصالح، والتوفيق لما تحب وترضى يا رب العالمين.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ>

    رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.

    عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.





    رد مع اقتباس  

  5. #25 رد: أكبر مكتبة تضم خطب الجمعة لكبار أئمة الحرم المكي والنبوي 
    ضي الأمل غير متواجد حالياً T৵હ.¸ اللهم إغفر لها وتغمدها برحمتك "¸.હ৵
    المشاركات
    16,625
    الخطبة 25\
    \
    الترغيب في طلب العلم للسديس

    إن العلم هو النور الذي لا تلحقه ظلمة، والفضيلة التي لا تتبعها رذيلة، فالعلم عليه المعول في بناء الأمم، به تبني الأمة مجدها، وتبلغ غاياتها، وترهب أعداءها.

    ولقد حث الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم على طلب العلم، بل عظم مكانته وشرف منزلته، وفضَّل العلماء، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وما ذاك إلا لفضل العلم، والعمل به.

    ولنا في سلفنا الصالح أسوة حسنة في كيفية طلب العلم والمداومة عليه.

    بيان أهمية العلم وفضله




    الحمد لله الذي جعل العلم النافع طريقاً موصلاً لرضاه، وصراطاً يتبعه من أراد هداه، ويحيد عنه من ضل واتبع هواه، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدىً من الله، وأشهد أن لا إله إلا الله رفع شأن العلم وأهله حتى وصلوا من المجد منتهاه، ومن العز أعلى ذراه، فمن سلك طريقاً يبتغي فيه علماً؛ سهل الله له به طريقاً إلى جنته وعلاه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الهداة التقاة، ومن سار على نهجه إلى يوم لقاه.

    أما بعــد:

    أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق تقواه، واعلموا أن دين الإسلام فرض على الأمة التي تعتنقه أن تكون أمة علم وعمل، فبالعلم النافع والعمل الصالح تبني الأمم أمجادها، وتبلغ غاياتها، وتشيد حضاراتها، وترهب أعداءها، وقد أخبر رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: أن الله إذا أراد بالعبد خيراً وفقه للفقه في الدين، وقد أخرج البخاري و مسلم عن معاوية رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خير يفقه في الدين } ودل الحديث بمفهومه على أن من أعرض عن العلوم النافعة فإن الله لم يرد به خيراًً؛ لحرمانه الأسباب التي تنال به الخيرات وتكتسب بها السعادة.

    إخوة الإسلام: إن أول ما نزل من كتاب الله، قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5] حيث تعتبر هذه الآيات أول صيحة تسموا بقدر العلم، وتنوه بقيمته، وتعلن الحرب على الأمية الغافلة، لما تجره على الإنسانية من شر وفتنة وبلاء، وتجعل اللبنة الأولى في بناء كل فرد، وكيان كل أمة، أن تتعلم أمور دينها ودنياها، وتأخذ بالوسائل الشرعية المفيدة في هذا المجال.

    وسما الله عز وجل بدرجات العلماء حتى قرنهم بنفسه وملائكته في الشهادة بوحدانيته، والإقرار بعدالته، قال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] وقال سبحانه: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11] وقال عز وجل: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] وجعل سبحانه العلماء أهل خشيته وتقواه، فقال عز من قائل: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] ولا غرو فأنىّ للعقول الكليلة والمعارف الضيقة والذوات الجاهلة أن تدرك جلال الكبير المتعال، وتعرف الحق من الباطل، والحلال من الحرام، والهدى من الضلال، والصواب من ضده، والسنة من البدعة، وأنَّى لمن يحيا حياة الأنعام ويعيش عيش الطغام، أن يعبد ربه كما شرع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يسير على الصراط المستقيم في أمور العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، وكل ما جاء به الإسلام.

    لذلك أعز الله العلماء وآثارهم بكرامته وفضله، وجاءت السنة المشرفة والآثار الصحيحة بترغيب الناس فيه وحثهم عليه، يقول صلى الله عليه وسلم: {من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة } أخرجه مسلم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه -أيضاً- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له } رواه مسلم .



    من أقوال السلف في طلب العلم



    وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: [[تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة ]].

    وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: [[كن عالماً، أو متعلماً، أو محباً، أو مستمعاً، ولا تكن الخامسة فتهلك ]].

    أمة الإسلام: ما أصيب المسلمون اليوم بمصيبة أعظم من الجهل بدين الله، وما ابتلوا ببلية أكبر من الإعراض عن العلم الشرعي رواية ودراية ورعاية، فما الذي سبب انتشار العقائد الفاسدة، والطرق المنحرفة، والبدع المنكرة؛ إلا قلة البصيرة في دين الله، وما الذي جعل المنكرات والمحرمات تظهر في مجتمعات المسلمين؛ إلا الإعراض عن دين الله عز وجل.



    أعلى الصفحة


    أول واجب يتعلمه المسلم




    إن أول أمر يجب على المسلم أن يعلمه ويتعلمه هو توحيد الله، ومعرفة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة، كما أن المسلمين اليوم مطالبون بمعرفة كل ما يفيدهم في أمور دينهم ودنياهم؛ ليستطيعوا قهر أعداء الله وإيقاع الهزيمة بهم.

    ولن ينكشف وينجلي ما حل بالمسلمين اليوم في عقائدهم، ومعاملاتهم، وأخلاقهم، وبلادهم، إلا بإحياء علوم الدين الإسلامي الحنيف، وجعلها ركيزة وأصلاً يبنى عليها غيرها من العلوم الأخرى، ولعل أبناء المسلمين الذين يحصدون هذه الأيام زرع عام دراسي كامل، ويجنون ثماره، يتنبهون لهذه الأمور والحقائق، فيخرجون متسلحين بالعلوم النافعة؛ لينصروا دينهم وينفعوا أمتهم، ولن يتم ذلك إلا بمعرفة قيمة الوقت، والاجتهاد في الطلب على الدوام، والإخلاص لله فيه، وابتغاء ثوابه، وصيانة العلم عن الأطماع الدنيوية، والمقاصد الدنية التي فشت في أهل الطلب اليوم، والله المستعان!

    اللهم ارزقنا العلم النافع والعمل الصالح، اللهم امنحنا الفقه في الدين يا رب العالمين!

    اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، وعين لا تدمع، ودعاء لا يسمع، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً يا أرحم الراحمين.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


    الحث على العمل بالعلم




    الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.

    أما بعـد:

    أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وتعلموا أحكام شريعته لطلب العلم النافع؛ فإن العلم نور وهدىً وحياة، والجهل ظلمة وضلال وموت، واعلموا أنكم في زمان تكاثفت فيه غيوم الجهل والفتن، وكادت سحب العلم الصحيح تنقشع، وفي عصر قل فيه أهل العلم المحققون العاملون، وكثر فيه أضدادهم ومخالفوهم ولا حول ولا قوة إلا بالله!

    وتذكروا أن أعداء الإسلام لا يفتئون يطعنون المسلمين بحراب التجهيل لهم، وإلقاء الشبهات، وبذر الشكوك بينهم، وإيقاد نار الحيرة والقلق في صفوفهم، ليتمكنوا من إبعادهم عن العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واعلموا أن ثمرة العلم العمل به، فلا خير في علم ينقصه عمل، بل هو حجة ووبال على صاحبه والعياذ بالله.

    ألا وصلوا على معلم الناس الخير محمد بن عبد الله كما أمركم الله بالصلاة عليه، فقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، اللهم وارض عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدا الدين يا رب العالمين.

    اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق المسلمين لما تحب وترضى، اللهم وفقهم قادة وشعوباً، علماء وعامة، رجالاً ونساءً شباباً وشيباً، اللهم ارزق الجميع التمسك الصحيح بكتابك وسنة نبيك يا رب العالمين.

    اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما يرضيك، وجنبه جميع سخطك يا رب العالمين! اللهم انصر به دينك يا أرحم الراحمين! اللهم أيده بالحق المبين، وثبته على الصراط المستقيم يا أرحم الراحمين! اللهم ارزقه البطانة الصالحة يا رب العالمين.

    اللهم اغفر لجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، اللهم أهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

    اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويخذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف يا سميع الدعاء، اللهم بارك لنا في جميع الشهور والأيام، وبلغنا برحمتك شهر رمضان يا رب العالمين.

    رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

    عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.





    رد مع اقتباس  

  6. #26 رد: أكبر مكتبة تضم خطب الجمعة لكبار أئمة الحرم المكي والنبوي 
    ضي الأمل غير متواجد حالياً T৵હ.¸ اللهم إغفر لها وتغمدها برحمتك "¸.હ৵
    المشاركات
    16,625
    المحاضرة 26
    الاستجابة لله ولرسوله للسديس

    إن الحياة الحقيقية الطيبة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، وهي متباينة في الدرجات والمراتب، كل ذلك بحسب تمسك العبد وقربه من الله تعالى، فكلما ازداد تمسك العبد وخضوعه للكتاب والسنة تحكيماً وإذعاناً، وقبولاً وتسليماً؛ ارتقى في درجات الحياة الطيبة وذاق طعمها، فليحذر الإنسان من مخالفة شرع الله والإعراض عنه؛ فإنها الخسارة في الدنيا والآخرة.

    الحياة الحقيقية في الاستجابة لله والرسول




    إن الحمد لله، نحمد الله ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن نزغات الشيطان واتباع الهوى، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، من يطع الله ورسوله؛ فقد رشد، ومن يعصي الله ورسوله؛ فقد غوى وضل ضلالاً مبيناً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، ومجتباه من خلقه، ومصطفاه من رسله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه والتزم سنته ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعــد:

    أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى، فإن من اتقى الله عز وجل بفعل أوامره وترك زواجره؛ وفق لمعرفة الحق من الباطل، والهدى من الضلال، فكان ذلك سبب نصرته ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا، وسعادته يوم القيامة، يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29].

    وإن من لوازم تقوى الله أن يستجيب المسلم لأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ كما أمر الله بذلك في محكم كتابه بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24].

    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فتضمنت هذه الآية أموراً منها: أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، ومن لم تحصل له هذه الاستجابة، فلا حياة له، وإن كانت له حياةٌ بهيميةٌ مشتركةٌ بينه وبين أرذل الحيوانات، فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهراً وباطناً، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابةً لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كل ما دع إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزءٌ منه، فاته جزءٌ من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول.

    الله أكبر! إنه لا حياة حقيقية؛ إلا لمن استجاب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تحصل الاستجابة إلا بطاعة الله ورسوله، والوقوف عند حدود الله، ولزوم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاحتكام إليها، والرضا بها، والتسليم المطلق بها فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].



    عاقبة الإعراض عن الله ورسوله



    عن أبي سعد بن المعلى رضي الله عنه، قال: {كنت أصلي فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاني، فلم آته حتى صليت، ثم أتيته، فقال: ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24] } فإذا كانت إجابة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم واجبةً في حياته، فإن الاستجابة لسنته بعد وفاته واجبة، وتحرم مخالفتها، وتقديم شيء عليها، وقد رتب الله الوعيد الشديد، والانتقام الأكيد على المخالفين لها بقوله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

    قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: أي: فليحذر وليخش من مخالفة شريعة الرسول باطناً وظاهراً، (أن تصيبهم فتنة) أي: في قلوبهم من كفر، أو نفاق، أو بدعة، (أو يصيبهم عذاب أليم) في الدنيا بقتل، أو حد، أو حبس، أو نحو ذلك.

    وقال الإمام أحمد رحمه الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إن رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.

    والفرق ما بين المؤمنين والمنافقين سرعة الاستجابة لله ورسوله، والمبادرة إلى امتثال أوامر الله ورسوله، والسمع والطاعة، والانقياد للحق إذا ظهر، يقول تعالى مبيناً صفات الفريقين في ذلك: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:47-52].

    أمة الإسلام: إذا كان تأخر الصحابي الجليل أبي سعد بن المعلى لحظات عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم حين دعاه، وهو يصلي يعبد الله؛ سبَّب إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، لعدم مبادرته واستجابته لأمره، فكيف بحال كثير من الناس اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله! وقد آل الأمر بكثير من الناس إلى نبذ أوامر الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره والعياذ بالله! ومن تأمل ما يعيشه فئام من البشر، وجد أن أقوالهم وأعمالهم وتصرفاتهم واعتقاداتهم تترجم ذلك وتفصح عنه جيداً.

    فاتقوا الله يا إخوة الإسلام! اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى:47-48].



    أعلى الصفحة



    فضل الاستجابة لله والرسول



    أمة الاستجابة لله ولرسوله: اعلموا أن من استجاب لله؛ استجاب الله له، يقول تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [آل عمران:195] وقال عز وجل مبيناً نتيجة الفريقين: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [الرعد:18].

    وما أشد ضرورة المسلمين في هذا الزمن إلى استجابة الله لهم! ولكن لما حصل الخلل في استجابتهم لله ورسوله، منعوا من إجابة الله لهم، ووكلوا إلى أنفسهم، ومن وكله الله إلى نفسه؛ وكله إلى ضعف وعجز وعورة، ولن تنكشف الغمة، وتصلح حال الأمة إلا بقيامها لله مثنى وفرادى، جماعات ودول، واستجابتها لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمايتها والغيرة عليها، والثأر لها، ونصرة المستمسكين بها: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].

    اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وارزقنا السير على سنة المصطفى الأمين، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجرنا من العذاب الأليم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، وتوبوا إليه يتب عليكم إنه هو التواب الرحيم.



    أعلى الصفحة


    علامة التوفيق اتباع الشرع




    الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.

    أما بعــد:

    فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي مجمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة.

    أيها المسلمون! إن من علامة توفيق الله لعبده في هذه الحياة، أن يسير على وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ في أقواله وأفعاله وتصرفاته، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [الأنفال:20-22].

    فاحذروا -رحمكم الله- التولي عن طاعة الله ورسوله، (وأنتم تسمعون)، أي: بعدما علمتم مادعاكم إليه، فإن هذا الصنف من الناس شر الخليقة عند الله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ [الأنفال:22] أي: عن سماع الحق، (البكم): عن فهمه، (الذين لا يعقلون): عن الله ورسوله أمره ونهيه.

    وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

    اللهم صلِّ وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين!

    اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولاية المسلمين فيمن يخافك ويتقيك، ويتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لاتباع كتابك، وللاستجابة لك ولرسولك صلى الله عليه وسلم.

    اللهم وفقهم في كل مكان إلى ما تحب وترضى، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، اللهم أنزل عليهم نصرك المؤزر يا أرحم الراحمين!

    اللهم وفق المسلمين قاطبةً حكاماً ومحكومين، علماءً وعامةً، شباباً وشيباًَ، رجالاً ونساءً إلى التمسك بدينك يا رب العالمين!

    اللهم وفق إمام المسلمين بتوفيقك وأيده بتأييدك، وأعل به دينك، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، اللهم ارزقه البطانة الصالحة يا رب العالمين!

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.

    عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.





    رد مع اقتباس  

  7. #27 رد: أكبر مكتبة تضم خطب الجمعة لكبار أئمة الحرم المكي والنبوي 
    ضي الأمل غير متواجد حالياً T৵હ.¸ اللهم إغفر لها وتغمدها برحمتك "¸.હ৵
    المشاركات
    16,625
    المحاضرة 27

    الإخلاص لله السديس

    الإخلاص شرط من شروط قبول الأعمال عند الله، وبه ينال الإنسان النجاة في الدنيا والآخرة. فهذا نداء لإعمار القلوب بالإخلاص وتجريد العمل لله سبحانه وتعالى.

    أهمية الإخلاص في حياة المسلم




    الحمد لله أمر ألا نعبد إلا إياه، فله العبادة الخالصة، والقدرة النافذة، والحكمة البالغة، أحمده تعالى وأشكره على نعمه السابغة، وأشهد أن لا إله إلا الله مخلصاً له الدين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أخشى الأمة لله وأتقاها وأخلصها له، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، ورضي الله عن صحابته الكرام، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان.

    أما بعد:

    أيها المسلمون: اتقوا الله عز وجل، وأخلصوا له في الأقوال والأفعال، فإن الإخلاص لله أهم شرط في قبول العمل، فالعمل لا يقبل إلا إذا كان خالصاً لوجه الله سبحانه، صواباً على وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود:7] قال: أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً.

    وقد دل على ذلك نصوص الكتاب والسنة، قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5] وقال جل وعلا: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2-3].



    مدار الأعمال كلها على نية صاحبها



    أخرج البخاري و مسلم عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. الحديث } فهذا الحديث العظيم قاعدة من قواعد الدين، وأصل من أصوله التي يدور الدين كله عليه، ومدار الأعمال كلها على نية صاحبها، والأمور بمقاصدها، وقد جاء هذا الحديث لتصحيح اتجاهات القلب، وضمان تجرده من الأهواء ولو كانت يسيرة، والنية هي: قصد العمل تقرباً إلى الله وطلباً لرضائه وثوابه، فيدخل في هذا نية العمل، ونية المعمول له، أما نية العمل من العبادات والمعاملات والعقود وغيرها، فإن النية داخلة فيها تميزها عن غيرها، وتميز بعضها عن بعض، وتحدد قصد صاحبها ومراده، فيجازى على حسب نيته، والله يعلم المفسد من المصلح قال تعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران:29].

    وأما نية المعمول له، فهو الإخلاص لله في كل ما يأتي العبد ويذر، وفي كل ما يقول ويفعل، فيكون قصده في جميع أعماله رضا الله وطلب ثوابه من غير التفاف للخلق وتلمس رضاهم ورجاء نفعهم ومحمدتهم، بل يكون حريصاً على تحقيق الإخلاص وتكميله، ودفع كل ما يضاده من الرياء والسمعة وقصد المحمدة عند الناس ورجاء ثنائهم ومدحهم.



    أعلى الصفحة



    أقوال السلف في الإخلاص



    إخوة الإسلام: إن الإخلاص لله دأب الصالحين، وسنة الأنبياء والمرسلين، فهذا أشرف الأمة وأفضلها وقدوتها عليه الصلاة والسلام يأمره ربه بقوله: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر:11] إلى قوله سبحانه: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي [الزمر:14]

    وقال بعض السلف: ملاك هذه الأعمال النيات، فإن الرجل يبلغ بنيته ما لا يبلغ بعمله.

    وقال آخر: لا يزال العبد بخير إذا قال، قال لله، وإذا عمل، عمل لله.

    وعاتب بعضهم نفسه بقوله: يا نفس! أخلصي تتخلصي.

    وقال بضعهم: طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا وجه الله تعالى.

    الله أكبر! ما أعظم شأن الإخلاص، وما أعز أهله! لا سيما في أزمنة طغت فيها الماديات، وغلب على أهلها المطامع والشهوات، ونظر فيها إلى السائرين في برد الإخلاص نظرة استهانة وازدراء.



    أعلى الصفحة



    النصر والرفعة من ثمرات الإخلاص



    أمة الإسلام: إن الأمم لا تبني أمجادها إلا على أكتاف المخلصين الذين لا يعرفون إلا الجد والنصح والمثابرة، ولا تشيد حضاراتها إلا بسواعد أهل النزاهة الصادقين الذين لا يعرفون دروب المرائين، ولا يسلكون مسالك المنافقين الذين يتفننون بذلاقة اللسان، والله أعلم بقلوبهم ومقاصدهم، ولا يصدع بنيان الأمة، ويقِّوم أركانها إلا الذين فقدوا الإخلاص لله، والتفاني في نهضة الأمة وتقدمها، وهيهات أن يخلص للأمة، أو يقدم لها نفعاً من لم يخلص لربها ودينها.

    إخوة الإسلام: إن الإسلام يرقب بعناية تامة ما يقارن أعمال الناس من نيات، وما يلابسها من مقاصد وإرادات.

    وقيمة العمل في الإسلام ترجع إلى نية صاحبه وقصده الذي تمخضت عنه، وإن صلاح النية، وسلامة السريرة، وإخلاص الفؤاد لله رب العالمين يرتفع بمنزلة العمل الدنيوي، فيجعله عبادة متقبلة، وإن فساد النية، وخبث الطوية يهبط بالأعمال الصالحة، فيجعلها معاصٍ خطيرة لا ينال المرء منها بعد التعب والنصب إلا الرد والخسارة.

    ألا فليعلم ذلك من أقفرت قلوبهم من الإخلاص، وفسدت ضمائرهم، وباعوا آخرتهم بدنياهم، وفتك الرياء بأعمالهم، وفتكت العلل القاتلة بأجسادهم الناحلة، وتتبعوا محامد الخلق ومنافعهم، وتلمسوا رضاهم وثناءهم؛ ليأكلوا من ورائهم، فصلاتهم وصدقاتهم، وتعلمهم ونفقاتهم، وسائر أعمالهم شابتها شوائب الرياء والسمعة، وسفت عليها سوافل المقاصد الدنيئة، وغلب عليها حزب الظهور والشرف والشهرة؛ وقد سبب ذلك الشقاء والرجوع بالأمة إلى الوراء، ولو كان الإخلاص رائد جميع العاملين، من علماء ومتعلمين، والنصح في الأعمال ديدن كل من ولي أمراً من أمور المسلمين، لما حصل تقصيرٌ في الأعمال، وتضييعٌ في الحقوق، ومماطلةٌ في أداء الواجبات، واتكاليةٌ في القيام بالمعاملات.

    فاتقوا الله عباد الله! والزموا الإخلاص لوجه الله تنالوا ثمراته المباركة من النصر والنجاة، والرفعة والهدى، والخير في الآخرة والأولى، وتنجو من الهزيمة والعذاب، والضلال والشقاء، والفضيحة في الدنيا والآخرة.

    اللهم ارزقنا الإخلاص لوجهك الكريم، اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأفعالنا، وجميع تصرفاتنا، وأعذنا من النفاق والرياء المحبط للأعمال يا حي يا قيوم.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



    أعلى الصفحة


    القلوب والأعمال موضع نظر الله




    الحمد لله يعلم السر وأخفى، وأشهد أن لا إله إلا الله له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.

    أما بعد:

    فيا عباد الله: اتقوا الله وأطيعوه، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، ووطنوا أنفسكم على الإخلاص في كل شيء، وعودوها إرادة وجه الله، والاحتساب فيما تأتون وتذرون، وفيما تسرون وتعلنون، واعمروا قلوبكم بالإخلاص لله، وتجريد العمل له.

    روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم }.

    فاتقوا الله عباد الله! وأخلصوا جميع أعمالكم لوجه الله، وصلوا وسلموا على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

    اللهم صلِّ وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين يا رب العالمين.

    اللهم أصلح حال الأمة، اللهم أبرم لها أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.

    اللهم وفق المسلمين قاطبةً إلى تحكيم كتابك واتباع سنة نبيك يا رب العالمين.

    اللهم أصلح ولاة أمر المسلمين، اللهم وفق إمام المسلمين بتوفيقك، وأيده بتأييدك، وأعلِ به دينك، وارزقهم البطانة الصالحة يا أرحم الراحمين.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.

    عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.





    رد مع اقتباس  

  8. #28 رد: أكبر مكتبة تضم خطب الجمعة لكبار أئمة الحرم المكي والنبوي 
    ضي الأمل غير متواجد حالياً T৵હ.¸ اللهم إغفر لها وتغمدها برحمتك "¸.હ৵
    المشاركات
    16,625
    المحاضرة 28
    احذروا الاختلاط
    للسديس
    لم يزل الصراع بين الحق والباطل مستمراً، وإن معيار رقي الأمم والحضارات هو عقيدة تزكي النفوس، وإيمان يقوِّم الأخلاق ودين يهدي إلى الفضائل ويعصم من الوقوع في الرذائل، وإن من أهم ما جاء الإسلام بتحريمه تكريماً للمرأة وحفاظاً على مكانتها التبرج والاختلاط، وإن الدعوة إلى التبرج والاختلاط دعوة آثمة يريد دعاتها تدمير أخلاق الأمة وقيمها.

    معيار رقي الأمم




    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلائق فأتقن ما صنع، وشرع الشرائع فأحكم ما شرع، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، أقام صرح الفضيلة ورفع، ودفع أسباب الرذيلة ووضع، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل التقى والحياء والزهد والورع، ومن سار على نهجهم واتبع، وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى حق التقوى.

    عباد الله: مقياس صلاح الأفراد والمجتمعات، ومعيار رقي الأمم والحضارات، عقيدةٌ تزكي النفوس، وإيمانٌ يقوِّم الأخلاق، ودينٌ يهدي إلى الفضائل، ويعصم من الوقوع في الرذائل، وعنوان نقاء المعدن، وزكاء العنصر، وحياة الضمير، وازع يمنعه من اقتراف الآثام وارتكاب الدنايا.

    وأرق الناس طبعاً، وأقواهم ديناً، وأنبلهم سيرةً، وأصلحهم سريرة من عاطفته حيةٌ متوقدةٌُ، وضميره يقظ مُرهف، يترفع به أبداً عن مقارفة الخطايا، ويستشعر الغضاضة من سفاسف الأمور، والاشمئزاز من كل المنكرات والشرور.

    وقليل المروءة وبليد الشعور من لا يبالي بفضيلة، ولا يتورع عن فعل رذيلة، ينفلت من الأخلاق بلا مبالاة، ويتحرر من القيم بلا اكتراث، ويتحول وحشاً كاسراً ينطلق وراء شهواته، وينساق خلف ملذاته، ويدوس في سبيلها أزكى العواطف، وأنبل المشاعر والقيم، فلا وازع يردعه، ولا حياء يمنعه، بل ولا فطرة نقية وعقلية سوية.

    هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم


    أليس من الواجب المستحتم حياء العباد من المنعم


    الصراع الدائم بين الحق والباطل



    أيها الإخوة والأخوات: ولم يزل الصراع بين الحق والباطل، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة مستمراً، وقد بلغ أوج خطوته في عصر الانفتاح والانفلات، والانسياق وراء الشهوات، والاسترسال خلف الملذات، والتلاعب بالألفاظ والمصطلحات، ولقد كان التساهل بقضايا المرأة من الأسباب الرئيسة في حصول واقع منحرف، ومجتمع منجرف، وجيل عن تحصيل الخير منصرف، وإن الثالوث الخطير -الذي يمثل أخطر معاول الهدم والتدمير في المجتمع الإسلامي- كله يركز على المرأة، تبرجاً وسفوراً واختلاطاً، وذلك كله لم يأت مصادفةً، ولا اعتباطاً، وإنما نتيجة تخطيط دقيق، ومؤامرة شرسة ضد دين الأمة ومثلها وقيمها، حتى خدع كثير من المسلمين والمسلمات بشعارات براقة، ودعايات مضللة، تعد الالتزام بنهج الله وشرعه جموداً ورجعيةً، والانفلات والإباحية حريةً وتقدميةً، والانسياق وراء الشهوات رقياً وتحضراً ومدنيةً، والتبرج والسفور والاختلاط موضة، والخلاعة والفجور والانحلال فناً، والعلاقات المحرمة حباً، مما يتطلب يقظة الأجيال والمسئولين عنهم من النساء والرجال، أداءً لحق القوامة والرعاية، وامتثالاً لقول الحق تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].



    أعلى الصفحة



    تحريم التبرج تكريم للمرأة




    أيها الأحبة في الله: وما حرم الإسلام التبرج والسفور والاختلاط، وشرع الحجاب إلا تكريماً للمرأة، وحفاظاً على مكانتها، وحرصاً على إقامة المجتمع النظيف، والجيل العفيف الذي لا تهيجه الشهوات، وتستثيره المغريات، وسداً لذريعة الفساد، وحثاً على اتخاذ التدابير الواقية من الوقوع في الشر والانحراف، وذلك هو هدي الإسلام في صيانة المجتمع من المزالق، وهو أهدى سبيل لسعادة البشرية جمعاء بكل عزة وإباء في عيش خير، وحياة هنيئة يظللها الإيمان، ويرفرف على جنباتها الحياء؛ إذ بدونه يفسد العيش وتظلم الحياة.

    فلا والله ما في العيش خيرٌ ولا الدنيا إذا ذهب الحياء


    أمة الإسلام: إن تبرج المرأة وزينتها وتعطرها واختلاطها بالرجال في الأماكن العامة تزاحمهم وتستهوي نفوسهم وتفتن قلوبهم، لهو دليل على ضعف الوازع الديني في نفسها، أو عدمه، وأمارة على موت الغيرة وبلادة العفة وقلة الحياء.

    وإذا الحياء تهتكت أستاره فعلى الحياة من الحياء عفاء


    إن المرأة المتبرجة المختلطة الخرّاجة الولاجة إن سلمت في نفسها، فإن الناس لا يسلمون من فتنتها، والافتتان بها، فكم فيهم من عزب لا يجد نكاحاً، وكم فيهم من شاب محترق بشهوته ولا زوجة له يسكن إليها، بل وكم فيهم من ذئب محترف، ولص متفنن بسرقة الأعراض، بارع في أساليبها واقتناصها، وقد يكون فيهم عبدٌ صالح عفيف، ورجل تقي شريف أغواه الشيطان، فذل بعد العز، وتندس بعد العفة بفعل هذه الفاتنة المفتونة، وقد قال الأول:

    قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسكٍ متعبد


    قد كان شمر للصلاة ثيابه حتى عرضت له بباب المسجد


    ردي عليه صلاته وصيامه لا تفتنيه بحق دين محمد


    ما يجلبه الاختلاط من فساد



    معاشر المسلمين والمسلمات: اختلاط الرجال بالنساء أصل كل فساد وبلاء، ما سرى في مجتمع، ولا فشا في أمة إلا وأوردها موارد الهلاك، لما يسببه الاختلاط بين الجنسين من فتن وفظائع، ودمار يحور الديار براقع، إنه يحرك في النفوس كوامن الغريزة، ويشعل نار الشهوة الجامحة، ويؤجج عواطف الغرام، ويغري كلاً من الجنسين بالآخر، فيرخي العنان للشهوات التي لا حدود لها، يقترن بذلك مجون فاحش، في صور عارية وشبه عارية، وقصص غرامية، ومسلسلات هابطة، وما يزعم بأنه أدب مكشوف مليء بقلة الأدب، ومناظر مثيرة، ولوسائل الإعلام في ذلك نصيب وافر، فينشأ الناشئة، ويتخرج الأجيال في هذا الجو المحموم، وهذا الوضع المسموم، الذي تغلي مراجله بصور الإغراء والإثارة، التي تغتال تربيتهم، وتطفئ فيهم القوى الإيمانية والفكرية، وتقضي على صفاتهم الرجولية والأخلاقية والسلوكية، ولا يكادون يشبون عن الطوق ويبلغون الحلم حتى تغتالهم الشهوات البهيمية، لأن البضاعة معروضة، والمظاهر مغرية، والنفس أمارة غرارة، والشيطان عدو يتربص، والشهوة هائجة مائجة، والرقيب يغفل ويتشاغل، بل ويتكاسل ويتساهل، فيتحول المجتمع إلى لهو وعبث ومجون يعج بالفوضى الجنسية والعشوائية الغريزية والفسق والإباحية، فتنذره بالويل والثبور، وتجره إلى الهلاك والعطب وعظائم الأمور.



    أعلى الصفحة



    أدلة تحريم الاختلاط والسفور



    حرم الإسلام إطلاق العنان للنظر، وأمر بغض البصر، فقال سبحانه وتعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ . الآية [النور:30-31].

    إن الرجال الناظرين إلى النسا مثل الكلاب تطوف باللحمان


    إن لم تصن تلك اللحوم أسودها أخذت بلا عوضٍ ولا أثمان


    كما نهى الإسلام عن الدخول على النساء، فقد روى البخاري و مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو يا رسول الله؟ قال: الحمو الموت } والحمو: قريب الرجل كأخيه، وابن أخيه، وعمه وابن عمه وخاله وابن خاله.

    والمعنى: أن خلوة الحمو أشد خطراً من خلوة الغريب، لأن دخوله لا يثير ريبة، ولا يلفت الأنظار، والناس كثيراً ما يتسامحون فيه، فشبهه بالموت في المفسدة، فالله المستعان، كيف استباح بعض الناس ذلك حتى لكأنه عاديٌ مألوفٌ! بل بعض الناس لا يتورع أن يسمح لزوجته، أو مُوليَتِه، أو يلزمها بمجالسة أصدقائه واستقبالهم، بل وتبادل الضحكات والنظرات معهم، فهل هذه أخلاق الإسلام؟!

    كما حرم الإسلام الخلوة بالمرأة الأجنبية، فقد روى البخاري و مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يخلونَّ رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر إلا مع ذي محرم } وعند أحمد و الترمذي و النسائي و الحاكم بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما } ولا يخفى على كل أحد ما عمت به البلوى من تساهل كثير من الناس في ذلك، لا سيما من ابتلوا باتخاذ الخدم والسائقين، الذين نراهم يروحون ويغدون وينفردون بالأسر بدون محارم، ويدخلون قعر البيوت وكأن الأمر طبيعي صائغ لا شيء فيه، ومثله الخادمات اللاتي يخالطن رب الأسرة وأبناءه من الشباب، وفي ذلك من الخطر العظيم ما لا يخفى على كل ذي غيرة، ومن التساهل الملاحظ: مصافحة المرأة الأجنبية، وهو يحصل عند كثير من الناس بسبب الاختلاط، وهذا لا يجوز حتى لو كان المصافح ابن عم، أو ابن خال، تقول عائشة رضي الله عنها: [[لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط ]] رواه البخاري في صحيحه .

    وقالت أميمة بنت رقيقة وصاحباتها رضي الله عنهنَّ عند البيعة: ابسط يدك -يا رسول الله- نبايعك، قال لهنَّ: {إني لا أصافح النساء } وعند البيهقي و الطبراني ورجاله ثقات {لَأَن يطعن في رأس أحدكم بمخيطٍ من حديد خيرٌ له من أن يمس امرأة لا تحل له }.



    أعلى الصفحة



    المرأة ودعاة التحرير



    أختي المسلمة: يا فتاة الإسلام! يا سلالة الأكرمين! ويا حفيدة أمهات المؤمنين! إن بيتكِ لكِ حصن حصين، وملجأ أمين، وظل وارف، هو قوقعة الجوهرة، وصدفة اللؤلؤة، ومكنون الدرة، تزداد فيه نضارةً وبهاءً، وحسناً وضياءً، وحين تخرج منه، يخبو نورها، ويتضاءل ضياؤها، ويذهب جلاؤها، اسمعي إلى قول الحق تبارك وتعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33]، وإن الدعوة إلى اختلاط الجنسين، دعوة آثمة، يريد أصحابها تدمير أخلاق الأمة وقيمها، تصوروا وضع مجتمع مختلط، هائج مائج، نساؤه ورجاله في الشوارع والأزقة، والمدارس والدوائر والمؤسسات، والشواطئ والمنتزهات، تصوروا المرأة الضعيفة وهي تعمل آلة في مصنع، أو في ميدان حرب، أو تحمل الأمتعة، وتعقب في الدوائر، تصوروهن وقد أنهكهن العمل، وبرزت مفاتنهن، أوليس هذا الوضع محزناً ومؤلماً لامرأة صانها الإسلام، وكرمها وضمن لها الحقوق؟!

    هاهي المرأة الغربية، أما يكفي ذلك زاجراً، ورادعاً وضع المرأة الغربية؟! هاهي تصيح وتنادي، ألا ما أحسن للمرأة من بيتها وزوجها وأولادها، تربي وتبني وتنشئ الأجيال، بعدما عمت الإحصاءات وبلغت من الجرائم أرقاها وأعظمها، أرقاماً مذهلة من جراء الاختلاط والتبرج، ولكننا نعجب كل العجب حينما تطالعنا دعوات آثمة بأقلام مأجورة؛ لأناس يعيشون بين ظهور المسلمين، ومن بني جلدتهم، ويتكلمون بلغتهم، يطالبون بالاختلاط بين الجنسين في مراحل التعليم، وتوظيف المرأة جنباً إلى جنب مع الرجل، فماذا يريد هؤلاء؟ وأي هدف يقصدون؟ ولربما اغتر بعضهم بثقافات وافدة، وأعجب بمؤهل يحمله، وشهادة زور يتصدر بها.

    ولكن ولله الحمد والمنة أن هذه الدعوات الآثمة لم تعد تلقى القبول إلا من قلة قليلة لا اعتبار لها.

    فيا أيها المرأة المسلمة: عودي إلى الله، والتزمي شرع الله، ولا تغتري ببريق الشعارات، وزائف الدعايات.

    ويا أيها الرجال: أين القوامة والرعاية , والله عز وجل يقول: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]؟ أين القيام بالأمانة والمسئولية؟ ولا نبالغ حينما نقول: إن الاختلاط والتبرج الذي حل بالمجتمعات سببه موت غيرة بعض الرجال، وبلادة إحساسهم، وسُبات ضمائرهم! وإلا فهل يرضى صاحب العفة والغيرة، والشرف والمروءة أن تكون موليته لقمة سائغة، ومائدة مكشوفة تلاحقها نظرات الناس، تلتفت لكل هامس، ولا ترد يد لامس؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: {صنفان من أهل النار لم أرهما: قومٌ معهم سياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساءٌ كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا } رواه مسلم في صحيحه .

    ألا فاتقوا الله عباد الله! وخذوا على أيدي سفهائكم، ولا تتساهلوا بما أوجب الله عليكم، فكلكم راعٍ، وكلكم مسئولٌ عن رعيته.

    أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يهدي ضال المسلمين إلى الحق، وأن يحفظ مجتمعات المسلمين من أسباب الشر والفساد، بمنه وكرمه إنه جوادٌ كريم.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



    أعلى الصفحة



    شبهات دعاة السفور والاختلاط




    الحمد لله العظيم شانه، العزيز سلطانه، الدائم بره وإحسانه، نحمده تعالى ونشكره، وشكره دليل الصدق وعنوانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فاتقوا الله عباد الله! وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة.

    عباد الله: يتمسك بعض المفتونين بالاختلاط، بشبهٍ هي أوهى من بيت العنكبوت، لكن قد يغتر بها بعض الجهال، ومن ذلك قولهم: إن الاختلاط موجود في عصر النبوة، فكان الرجال والنساء يختلطون في المساجد ونحوها، والحق أن ليس في ذلك مستمسك لهم، فقد كان النساء يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن بكامل حجابهنَّ وحشمتهنَّ وحيائهنَّ، ثم قد كان صلى الله عليه وسلم يحث النساء في الصلاة في آخر الصفوف، يقول صلى الله عليه وسلم: {خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها } رواه مسلم وأهل السنن، كما {حث صلى الله عليه وسلم الرجال على المكث في المصلى حتى تخرج النساء، حتى لا يختلطن بالرجال } رواه البخاري وغيره، وعند أبي داود {أنه صلى الله عليه وسلم أمر النساء بلزوم حافات الطريق حتى لا يختلطن بالرجال }.

    هذا هو الذي ينبغي للنساء، حتى لا يفتنَّ، أو يُفتن.

    ومما ينبغي التنبيه عليه أن المرأة إذا صلت في الحرم، أو غيره من المساجد، فعليها أن تلتزم الأدب الإسلامي، وأن ترعى حرمة هذه البقاع الطاهرة، حتى ترجع بالأجر والمثوبة، أما إذا تساهلت بحجابها، ونبذت الحياء والحشمة، ووقعت في التبرج والزينة، فيخشى أن تأكون مأزورة غير مأجورة.

    ومما ينبغي ملاحظته، ضرورة تربية البنات منذ الصغر، على البعد عن الاختلاط بالرجال، حتى يتربين على العفة والفضيلة.



    استغلال الإجازات بالطاعات والابتعاد عن الاختلاط



    أيها الإخوة: ولما كان الناس يعيشون هذه الأيام فرصة إجازة نصف العام الدراسي، فإنه مما ينبغي التنبيه عليه حفظ الأوقات، وشغلها بطاعة الله، والبعد عن المعاصي، وأن يلتزم الرجال والنساء، والبنات والأبناء، شرع الله في سفرهم وإقامتهم، وأن يحذروا من الأماكن الموبوءة، والبقاع المختلطة، ولقد سرنا وسر كل مسلم أن كثيراً من الناس يتوجهون إلى الحرمين الشريفين في هذه الإجازة في عمرةٍ وزيارةٍ، وذلك من نعم الله عز وجل، وهو أمرٌ طيبٌ يشجعون عليه، لكن كم نود لو التزم الناس أكثر -لا سيما النساء- بآداب هذه البقعة المباركة، فإذا أتت المرأة إلى الحرم، تأتي تفلة متبذلة، لا متعطرة ولا متبرجة، وإذا طافت لزمت الاتجاه الأيمن بعيداً عن الاختلاط بالرجال، وإذا صَلَّت، ففي آخر الصفوف، ولا تزاحم عند الأبواب، ولا غيرها، ويتأكد على أوليائهنَّ أمْرهنَّ بذلك، وإلا فبيوتهنَّ خيرٌ لهنَّ.

    ومن نعم الله على هذه البقاع المباركة، أن تميزت بمنهجها الإسلامي، فلا يسمح الاختلاط في مدارسها، وجامعاتها ومؤسساتها، وهذه نعمةٌ، نسأل الله أن يوزعنا شكرها، وأن يثبتنا عليها، وأن يزيد هذه البلاد وبلاد المسلمين من الهدى والتوفيق بمنِّه وكرمه.

    ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الحبيب المصطفى، والنبي المجتبي، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

    اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر و عمر و عثمان و علي ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر الملاحدة وسائر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.

    اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لما تحب وترضى، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، اللهم هيئ له في كل أموره رأياً سديداً، وعملاً رشيداً يا حي يا قيوم، اللهم اجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا ذا الجلال والإكرام.

    اللهم وفق جميع ولاة المسلمين للحكم بشريعتك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، ووفق علماءهم للدعوة إلى الله، وبيان الحق يا أرحم الراحمين! ووفق ولاة أمورهم للتعاون مع علمائهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفق المسلمين إلى ما تحبه وترضاه، اللهم اهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن.

    اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، والتبرج والسفور، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم وفق نساء المسلمين للالتزام بالحجاب والعفاف والحشمة، وقهنَّ شر التبرج والسفور يا ذا الجلال والإكرام! اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم إنَّا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين.

    اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين على اليهود الغاصبين، وانصرهم في البوسنة والهرسك على الصرب الظالمين، وفي بلاد الشيشان على الملاحدة الشيوعيين، وفي كشمير على الظلمة الوثنيين، وفي كل مكان يا ذا الجلال والإكرام.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

    عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.



    أعلى الصفحة





    رد مع اقتباس  

  9. #29 رد: أكبر مكتبة تضم خطب الجمعة لكبار أئمة الحرم المكي والنبوي 
    ضي الأمل غير متواجد حالياً T৵હ.¸ اللهم إغفر لها وتغمدها برحمتك "¸.હ৵
    المشاركات
    16,625
    محاضرة 29

    أخلاقيات الحوار بن حميد

    لاشك أن الحوار وسيلة من وسائل نقل الأفكار، والحاجة إلى إتقانه أكثر إلحاحاً في عصرنا الراهن.

    والحوار الناجح تعاون بين المتحاورين من أجل معرفة الحقيقة والتوصل إليها.

    وينبغي لنجاح الحوار البدء بمواطن الاتفاق، وسلوك الطرق العلمية، والسلامة من التناقض، وقصد الحق والبعد عن التعصب، والالتزام بالقول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام، وحسن الاستماع والإنصات.

    أهمية الحوار في عصرنا الراهن




    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله.

    أشكره ولا أكفره، وأسأله المزيد من فضله وكرمه.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة الحق واليقين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، جعلنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فبتحية الإسلام أحييكم، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    سعادة مدير التعليم بمنطقة الرياض ، سعادة مدير ثانوية السفارات الأستاذ/ عبد العزيز الثنيان ، الإخوة أعضاء هيئة التدريس في المدرسة، أيها الإخوة الحضور، رغبت إدارة المدرسة مشكورةً في أن أشارك في أنشطتها المتميزة حسب ما رأيت وما اطلعت، سواء في المجلة الدورية التي يصدرونها، أو معرض الكتاب الذي يقرب للمنتسب لهذه المدرسة المعرفة والثقافة، ثم ما أتحفوني به لأقوم بهذا الجزء من النشاط، وهو هذا اللقاء الطيب المبارك الذي يجمعني بكم، كما أنهم في دعوتهم مشكورين خيروني أن أختار أحد موضوعين فاخترت أحدهما وكان بعنوان" أخلاقيات الحوار"

    وكما تفضل فضيلة الشيخ/ أحمد آل الشيخ في تقديمه حين ذكر أهمية الحوار، فقال: إنه مهمٌ أولاً من حيث أن ديننا جاء به، وأسلوب الدعوة قائم على الحكمة والموعظة الحسنة، كما يقول الله عز وجل آمراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].

    ولا شك أن الحوار مطلوبٌ في كل زمان وفي كل مكان، ولكنه يبدو في وقتنا الحاضر أن الحاجة إليه أكثر إلحاحاً.

    أولاً: لما أبرزه فضيلة الشيخ المقدم الشيخ/ أحمد ، وهي نقاط جوهرية وأساسية جداً في إبراز أهمية الموضوع.

    وثانياً: ما يتميز به هذا العصر من ميزات: ومنها اتصال العالم بعضه ببعض، حتى أصبح كبلدة واحدة؛ لا يكاد يقع شيء في الشرق؛ إلا وتسمعه بأسرع من الصدى في الغرب، وكذلك ما حصل في الغرب تراه في الشرق، ثم تلاقح المعارف والثقافات ووسائل الإعلام التي غزت لا أقول كل قطر، ولا كل بيت بل -ولا أبالغ إذا قلت- كل ركن من أركان البيت! ويرى فيها من يرى، ويسمع فيها من يسمع ألواناً وأشكالاً من الطروحات، وأنواع الغزو، وقنوات الثقافة والتأثير، مما يستدعي مراجعة، وأقولها بكل قوة: لابد أن نراجع أوضاعنا ومثقفينا وأحوالنا، وبخاصة أننا في هذا الصرح العلمي المتميز من بلادنا بمبناه ومعناه إن شاء الله، وهو مدرسة ثانوية، والثانوية كما تعلمون تحوي الطلاب في مقتبل الحياة وبدء النضوج الحقيقي.

    وهذه الفترة كما يقول المربون وكما يقول علماء النفس: هي من أحرج المراحل، ولا أكون مبالغاً إذا قلت: إن من أولى ما ينبغي أن يهتم به في هذه المرحلة قضية الحوار، وإن لم يكن حواراً فكرياً على المستوى العالي، لكنه الحوار بين الأستاذ وبين الطالب في هذه المرحلة، وبين الطالب وبين أبيه في هذا السن، القضية دقيقة جداً، وتحتاج فعلاً إلى نوع من النظر الدقيق، وإلى نوع من التفكير في هذا الباب، هذا جانب.

    والجانب الآخر -كما أسلفت قبل قليل-: الطرح الذي يطرح، فمع الأسف أن كثيراً من أسباب الإعلام ووسائله هي بأيدي غيرنا، يطرحونها ولا نكاد نرى شيئاً متميزاً، من هنا يجب أن نكون جادين وصادقين إذا كنا نريد أن نبني أنفسنا حتى نكون أصحاب مبادرات، وأصحاب طروحات، وأصحاب استقلال في فكرنا، وفي كل ما نطرح.

    من أهم ما يجب أن ننظر فيه في قضية الحوار ما يلي:

    كيف نتحاور؟

    ما هي أسباب الحوار؟

    ما هي وسائله؟

    ما هي أصوله؟

    ما هي أخلاقياته؟

    الكلام في هذا كثير وطويل، ولا تكفيه المحاضرة ولا المحاضر، وإنما ينبغي أن نهيئ أولادنا وأنفسنا في تقبل الرأي الآخر بكل قوة، ولا يعني تقبله أن نستسلم له، إنما كيف نسمع، وكيف نستمع، وسوف نرى إن شاء الله على حسب ما يسمح به الوقت أشياء من هذا، وسوف تكون عناصر هذا اللقاء كالتالي:

    تعريف الحوار.

    غايته.

    التمهيد في وقوع الخلاف، وهذا غالباً سأتجاوزه، لأن الوقت لا يسمح.

    بيان لمجمل أصول الحوار.

    أخلاقيات الحوار وآدابه.

    طبعاً لا بد أن أذكر التعريف، وهو لا يخرج عما أشار إليه الأستاذ/ أحمد في الغاية من الحوار؛ لأن التعريف لا بد أن يشمل الغاية، ثم أشير إشارة سريعة إلى أصول الحوار، ثم نبسط الكلام حسب ما يسمح الوقت حول ما يتعلق بأخلاقيات الحوار.


    تعريف الحوار




    الحوار والجدال بمعنى واحد، والله عز وجل يقول في كتابه: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:1] فالآية جمعت اللفظين، والحوار: (تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) فالحوار والجدال يدل أحدهما على الآخر.

    والحوار في اللغة هو: مجرد مراجعة الكلام، فيقول: تحاور الرجلان، أو تحاور المتحدثان بمعنى: كل واحد تبادل الحديث، فمراجعة بعضنا لبعض في الكلام يسمى حواراً، وأحياناً قد تكون لفظة الجدال بمعنى الخصام، فهي أحياناً تعني الوصول إلى الحق، وأحياناً لا، والمجادل هو مجرد المخاصم، ولكن ليس هذا هو مقصودنا هنا، أما تعريف الحوار فهو: مناقشة بين طرفين، أو أطراف يقصد بها إما تصحيح، أو إظهار حجة، أو إثبات حق، أو دفع شبهة، أو رد باطل، هذا هو مقصود الحوار، وهذا هو غايته، فهو يراد به: إما أن نصحح خطأً، وإما أن نظهر حجةً، وإما أن نثبت حقاً؛ لأنه ليس بالضرورة في الحوار أن يكون غايته في الحق دائماً، وسوف نرى كيف أن الحوار قد يكون مجرد ممهد، وليس بالضرورة في كل لقاء أن نصل إلى الحق فيه، فإن من مقاصد الحوار التهيئة والتمهيد والتوطئة، وقد يكون تصحيحاً أو إظهار حجة أو دفع شبهة أو رد باطل من القول أو من الرأي.

    فمن هنا نعرف غاية الحوار، فغايته إقامة الحجة، أو دفع الشبهة، أو هذا مجمل غايته في الحقيقة، لكنه في واقعه تصحيح.

    فالحوار الناجح الصحيح تعاونٌ بين المتحاورين من أجل معرفة الحقيقة والتوصل إليها، هذه هي الغاية الأصلية؛ لكن هناك غايات تمهيدية منها مثلاً: إيجاد حل وسط يرضي الأطراف.

    أنتم تلاحظون الخلافات بين الناس -حتى بين الزوجين- أحياناً قد ترى من المصلحة أنك لا تحسم القضية، لكنك تزيل بعض ما في الصدور فقط، حتى تجمع بين المختلفين على الأقل ليخف شيء من الشحناء.

    فقد تكون غاية الحوار ليست بالضرورة أن تصل إلى ما تريد في هذه المرحلة، إنما تكون الغاية إيجاد حل وسط يرضي الأطراف.

    وأحياناً يكون مقصود المحاور التعرف على وجهات نظر الأطراف الأخرى، وهذا هدفٌ تمهيدي قد يكون إحدى غايات الحوار، كذلك قد يكون من غايات الحوار -وهي ليس الغاية القصوى- البحث والتنقيب من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرؤى والتصورات المتاحة، وذلك من أجل الوصول إلى نتائج أفضل وأمكن، ولو في حوارات تالية، وهذا مهمٌ جداً فالغايات التمهيدية مهم أن نفقهها، وبخاصة ونحن في صرح تربوي، ونعاني حقيقة في بعض الأحيان من مشكلات تربوية يعرفها المربون؛ كالمرشد الطلابي، والموجه، ومدير المدرسة، أحياناً قد تكون المشكلات مع الطلاب لم تصل بالضرورة إلى الغاية القصوى، أحياناً قد تكون تمهيدية، فكيف تعالج القضية التي وقع فيها؟

    والحوار من أمثل الطرق التي تؤدي إلى حل لهذه المشاكل.

    أما وقوع الخلاف بين الناس فلا أريد أن أتحدث عنه، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى أشار إلى أن الخلاف موجود، كما أن الله جعل الناس مختلفين في صورهم ومختلفين في أشكالهم؛ قال سبحانه وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم:22].

    هذا الاختلاف الخلقي جزماً يترتب عليه اختلاف في الرؤى، واختلاف في التصورات، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في مقام آخر: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119] فالخلاف موجود، ولا يمكن أن تنفك الدنيا عن الخلاف، وعندي فيه كلام طويل، لكن أرجئ الكلام فيه إلى مناسبة أخرى، أو إن بقي عندنا وقت، أو أن يكون ثمة أسئلة مثارة؛ لأن الوقت يعاجلنا.


    البدء بمواطن الاتفاق




    أهم شيء قبل أن يبدأ الحوار أن ينظر المتحاوران في مواطن الاتفاق.

    ما معنى ذلك؟

    أي: ينبغي حينما تتحاور مع أحد أن تبدأ بمواطن الاتفاق؛ لأن مواطن الاتفاق تطمئن النفس وتريحها، حينما تحس أنت وجليسك، الذي تريد أن تتناظر معه أنكما متفقان، عندها يطمئن هو ويرتاح؛ حينما تأتي له بالمسلمات والأشياء المتفقة بينكما، ترتاح النفس.

    احرص قدر ما تستطيع ألا تقول: لا؛ لأن (لا) تنفر، وسوف نبسط هذا.

    فمن الحكمة أن الإنسان يبدأ بمواطن الاتفاق، ولهذا نقول: إن بدء الحديث والحوار بمواطن الاتفاق طريقٌ إلى كسب الثقة وفشو روح التفاهم، ويصير به الحوار هادئاً وهادفاً.

    فالحديث عن نقاط الاتفاق وتقريرها يفتح آفاقاً من التلاقي والقبول والإقبال مما يقلل الجفوة، ويردم الهوة، ويجعل فرص الفوز والنجاح أفضل وأقرب، كما يجعل احتمالات التنازع أقل وأبعد.

    ولهذا بعض المتمرسين يقول: دع صاحبك المناظر لك يوافق ويجيب بـ(نعم) وحُلْ ما استطعت بينه وبين (لا)؛ قدر ما تستطيع حاول أن تأتي بأشياء يقول فيها: نعم، لماذا؟

    قال: لأن كلمة (لا) عقبة كئود يصعب اقتحامها وتجاوزها، فمتى قال صاحبك: لا، أوجبت عليه كبرياؤه أن يظل مناصراً لنفسه، لماذا؟

    قال: لأن التلفظ بـ(لا) ليس تفوهاً مجرداً بهذين الحرفين، الواقع أن الذي يقول: لا، قد تحفز كيانه، وانتفخت أعصابه وأوداجه وعضلاته وغدده، عندما يقول الإنسان: لا، يكون عنده شيء من الانفعال الداخلي كل واحد منا يحس به، فهو اندفاع بقوة نحو الرفض، أما إذا استطعت بخطواتك المرتبة أن تجر صاحبك إلى أن يقول: نعم، نعم، فإنها -أي: نعم- هادئة وسهلة ورقيقة ورفيقة، لا تكلف أي نشاط جسماني وأي إفرازات.

    فالحرص على مواطن الاتفاق وإظهارها وإبرازها يجعل النفوس تتقبل الحق، فالحوار له فنه، ونحتاج أن نتمرس فيه كثيراً جداً، ومع الأسف لو تقرءون النقاش الذي يأتي في الصحف، أو الردود فسترون أن كثيراً منها متشنج، وترى فيها بعض العبارات وإن غلفت متشنجاً جداً، ولو كانت من مثقفين، ولو كانت ممن يحملون مؤهلات عالية، لا يكاد يكتب أحدهم مقالة أو مقالتين إلا وخرج إلى تجريح الشخص.

    فنحن لم نوطن أنفسنا، ولم نعلم أجيالنا وناشئتنا كيف تتقبل الرأي الآخر، وقبولها لا يعني أن تسلم به، إنما قبوله كيف تسمع، فنحن نناقش في أطروحاتنا في وسائل الإعلام -في الصحافة، في التلفزيون، في الراديو- بعيدين عن الأصول، نطرح طروحات متشنجة أو مثاليات غير معقولة، إذا كنت وحدك خلف الشاشة ما عندك أحد فإنك تطرح مثاليات، فليس الحوار أن أطرح ما عندي بقوة، وأنت مستعد أن تسمع بروح هادئة وأعصاب هادئة، فالقضية دقيقة، والقضية تحتاج إلى تربية قبل أن نسمع مجرد كلمات.

    ولهذا أحياناً حينما يدور نقاش في التلفزيون أو في الراديو، وأنت تسمع تجد نفسك تتنرفز ولو كنت هناك لأمسكت بتلابيب هذا المتحدث، هذا يدل على أنك ليس عندك قاعدة في الحوار، ولا عندك استعداد أن تسمع، فالقضية دقيقة يا إخواني، فمن هنا احرص على ألا يقول صاحبك: لا.


    أصول الحوار








    سلوك الطرق العلمية



    لو افترضنا أن أمامنا متحاورين، فما هي الخطوات التي ينبغي أن يلتزما بها في سبيل أن يتوصلا إلى الحقيقة؟

    أولاً: أن تُسلك المسالك العلمية، أي: أن المتحاورين يلتزمان الطرق العلمية.

    ما هي الطرق العلمية؟

    ليست خطابة، وليست كلمات متشنجة، وليست مجردة دغدغة عواطف، فدغدغة العواطف هذه تنفع للجماهير، ولكن في حوار بيني وبينه، وأحس أنه ندٌ لي وأنا ندٌ له ينبغي أن نلتزم قواعد:

    القاعدة الأولى: أن تكون طرق الحوار علمية، ما معنى ذلك؟

    فإذا كانت القضية دعوى، فلا بد أن آتي بأدلة، إما أدلة عقلية، أو أدلة نصوص إذا كانت شرعية، فإذا كانت عقلية، تكون مسلمات عقلية ومنطقاً عقلياً معروفاً، وإذا كانت أخباراً فلا بد أن أنقل خبراً صحيحاً، لا أبني حواري على أن أقول: قالوا وقلنا، لا أدخل إلا وأنا متأكد من أدواتي، فأولاً لا بد أن نقدم أدلة صحيحة مثبتة ترجح حقيقتي.

    والأمر الثاني: صحة النقل فيما أدعيه، ولهذا علماؤنا -علماء الحديث وغيرهم- يقولون: إن كنت ناقلاً فالصحة، وإن كنت مدعياً فالدليل، فهذا ضروري عندما أدخل في الحوار، فأنا لا أدخل إلا ومعي أدواتي، لا يكفي أن أقول: قالت الصحيفة الفلانية، أو سمعت فلاناً يقول.

    ولهذا أكثر أخطائنا تكون من مقالات سمعناها من غير أن نتبين صحتها.

    وأحياناً قد تكون المقولات صحيحة، لكن مراد صاحبها مختلف، أو أنها نقلت إلينا جزئية، أو نقلت مبتورة.

    مهمٌ جداً أن نسلك المسالك العلمية في طرح الحوارات، فإذا كانت دعوى، فلا بد من أدلة، وإذا كانت نقلاً، فلا بد من التثبت في الصحة، والله عز وجل قد قال للمخالفين: هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111] في أكثر من آية، فقال: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93] وقال: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي [الأنبياء:24].

    وقد يكون استيعاب أصول الحوار يحتاج إلى وقت وأنا سوف أذكر أصلين على سبيل العجل؛ لأن استيعابها قد يحتاج إلى وقفات دقيقة، أو علمية بحتة، لكن أشير إليهما على كل حال.



    أعلى الصفحة



    السلامة من التناقض



    الأصل الثاني: سلامة كلام المناظر ودليله من التناقض، فالمتناقض ساقطٌ بداهةً. بمعنى أنت إذا تكلمت، يجب أن تحرص أن يكون كلامك صحيحاً غير متناقض.

    فمثلاً حينما قالت الأقوام المكذبون لرسلهم: سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ.

    وفرعون وصف موسى بأنه ساحرٌ أو مجنون، وكذلك أيضاً قوم محمد صلى الله عليه وسلم الكفار قالوا له: ساحر أو مجنون، فهذا وصف متناقض غير مقبول، لماذا؟

    لأن السحر والجنون لا يجتمعان، لا يمكن أن يكون الشخص ساحراً ومجنوناً، غالباً السحر يحتاج إلى ذكاء وفهم، لكن الجنون خلل عقل، فكيف تصف هذا بأنه ساحر، أو مجنون، إذاً قضية متناقضة حقيقة، فلما لم يكن عندهم حجة، أتوا بأي أوصاف، وكذلك أيضاً حينما قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم فيما أتى به القرآن: إنه سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، والسحر لا يكون مستمراً، قال تعالى عنهم: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر:2] فهو تناقض، فالسحر لا يكون مستمراً، والمستمر لا يكون سحراً.



    أعلى الصفحة



    ألا يكون الدليل هو عين الدعوى



    الأصل الثالث: ألا يكون الدليل هو عين الدعوى، وهذه قضية منطقية أصولية قد لا نقف عندها كثيراً، بمعنى أنك إذا طرحت شيئاً، أو تريد أن تأتي بشيء، فلا تأت بعين الدعوى تجعلها دليلاً؛ لأن بعض الناس أحياناً قد يكون عنده من البهرج، وعنده من قوة العبارة يريد كما يقولون: يلفك، فيأتي بعين الدعوى مغلفة، بينما هو الحق أن يأتي بدليل، لا أن يأتي بالدعوى ويجعلها دليلاً؛ لأن هذا غير مقبول.



    أعلى الصفحة



    الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مسلمة



    الأصل الرابع: (وهذا مهم جداً، وسوف نقف عنده بعض الوقفة) الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مسلمة، أي: حينما يتحاور المتحاوران، فلا بد أن يكون هناك مسلمات فهي لا تدخل في النقاش، أو تكون هناك أمور غير مسلمة فلا يجوز أن تدخل في المسلمات، فإذا كنت مثلاً تتحاور مع نصراني، النصراني لا يسلم بالقرآن، ولا يسلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلا تجعل القرآن من المسلمات في الحوار معه، وإذا كنت تتحاور مع مسلم في قضايا شرعية، أو قضايا أثيرت، فلا يمكن أن تكون المسلمات محل نقاش، لماذا؟

    لأننا إذا دخلنا إلى المسلمات، خرجنا إلى شيء آخر، وسوف يتشعب النقاش.

    مثلاً: في الإسلام مسلمات، منها ربوبية الله سبحانه وتعالى، واستحقاقه للعبادة سبحانه وتعالى، وكماله في أسمائه وصفاته، وتنزيهه سبحانه وتعالى عما لا يليق به، وكذلك ما يتعلق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بالقرآن.

    وكذلك قضية الحجاب، حجاب المرأة المسلمة فهو مسلم، ولا يجوز أن يكون محل خلاف، وتعدد الزوجات ليس فيه خلاف، والربا ليس فيه خلاف.

    الحجاب قضية مسلمة، لأن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دلت على الحجاب، وهناك قضايا داخل الحجاب قد تكون محل خلاف، ويمكن أن تكون محل حوار، مثل كشف الوجه، لا شك أن العلماء مختلفون فيها، وإن كنا نرى وجوب تغطية الوجه، لكن هذه القضية مما تقبل الحوار، لكن أصل الحجاب لا يقبل الحوار.

    وكثير من الصحافات العربية وبعض الناس الذين هم قليلو الدين، وبعض التوجهات التي قد تكون علمانية تطرح قضية الحجاب وكأنها قضية مختلف فيها.

    وقضية الحجاب محسومة في الإسلام، وليست محل نظر، ولا يجوز أن تكون محل نظر بين المسلمين، أما حينما نناقش نصرانياً، أو وثنياً، فيمكن أن نناقشه؛ لأنه غير مسلم بها، لكن بين المسلمين الحجاب مسلَّم به.

    وكذلك تعدد الزوجات، فهي قضية مسلم بها، ليست محل نقاش البتة؛ لأن كتاب الله عز وجل حسمها: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3] على معنى أن مشروعية التعدد ليست محل جدال، ولهذا من الخطأ مناقشتها، وأنا أعتبره خطأً لعدم الفهم، لا أتهم من يفعلونه اتهاماً سيئاً، إنما أظنه جهلاً، يأتي الإنسان يطرح في الجريدة أو في الصحيفة أو في التلفزيون أو في وسيلة إعلام، ويقول: ما رأيك في تعدد الزوجات؟ فهذا لا يجوز، وليس محل حوار أبداً البتة؛ لأن التحدث فيه محسوم.

    قد نتحاور في مسألة ما هي وسائل العدل بين الزوجات؟ أما هل التعدد جائز أو غير جائز، فلا يجوز أن يكون محل نقاش.

    الحكم بما أنزل الله لا نحاور فيه هل التشريع الإسلامي صالح للتطبيق أو غير صالح؟ أو الحدود هل هي صالحة للتطبيق في زماننا أو غير صالحة؟ فهذا ليس محل نقاش، ولا يجوز البتة أبداً، بل يكفر الذي يقول ذلك، لكننا نحسن الظن ببعض قليلي العلم الديني حينما يطرحون هذه القضايا، لأنه مجرد سبق صحفي أو منشور صحفي يريد أن يثير ويروج للصحيفة التي يعمل فيها؛ لأن هذه مسلمات.

    مقصودي: أن هناك مسلمات قد تكون عقلية، وهناك مسلمات دينية، فالمسلمات الدينية تكون بين أصحاب الدين، والمسلمات العقلية أيضاً مسلمة بين الناس كلهم؛ مثلاً: حسن الصدق، وكون الصدق حسناً، هذا مسلَّم، لا يوجد أحد يقول: إن الصدق سيئ، وكون الكذب قبيحاً، وشكر المحسن أيضاً؛ فهذه مسلمات ليست محل جدل، وكذلك معاقبة المسيء أيضاً، فهي ليست محل جدل، فهذه من المسلمات المتفق عليها، فمقصودي: أن من أصول الحوار أن تنطلق من مسلمات ثابتة، فلا تجعل المسلمات محل نقاش إلا إذا كانت عندك غير مسلَّمة.



    أعلى الصفحة



    التجرد وقصد الحق والبعد عن التعصب



    الأصل الخامس: التجرد وقصد الحق والبعد عن التعصب، وهذا الأصل له جانبان: جانب: كونه أصلاً، وجانب كونه خلقاً من أخلاقيات الحوار، فهو باعتبار أصل من الأصول، وباعتبار آخر هو جانب من جوانب أخلاقيات الحوار، فكونه أصلاً يعني: أنه يجب، لماذا قلنا: أخلاقي؟

    لأنه قلبي، والشيء القلبي غالباً يرجع إلى وازع الضمير كما يقال، لكنه أصل بمعنى أنه لا يمكن إذا كنت جاداً وصادقاً في أن تصل إلى الحق، لا يمكن إلا أن تطبق هذا الأصل، وهو التجرد وقصد الحق والبعد عن التعصب والالتزام بآداب الحوار، وإذا لم تكن مستقراً، وجاداً وصادقاً، فإنه لا يمكن أبداً أن تصل، وأكثر ما يفشل الحوارات هذا حتى المفاوضات على مستوى الدول، فإن لم يكن هناك صدق وجدية؛ فلا يصلون، ولهذا تطول وتطول إلى ما لا نهاية؛ لأن هناك أهدافاً غير منظورة، ولعل كل طرف يعرف ما عند الآخر.

    ولهذا يقول الغزالي أبو حامد : التعاون على طلب الحق من الدين، ولكن له شروط وعلامات، منها: أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد معاونه، ويرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهره له.

    ولهذا يقول الشافعي رحمه الله: ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق، أو يسدد، أو يعان، وتكون عليه رعاية الله وحفظه، وما ناظرني أحد فباليت أظهرت الحجة على لساني أو لسانه.

    والمقصود هو: أن يكون الحوار بريئاً من التعصب خالصاً لطلب الحق خالياً من العنف والانفعال، بعيداً عن المشاحنات الأنانية والمغالطات البيانية مما يفسد القلوب ويهيج النفوس.



    أعلى الصفحة



    أهلية المحاور



    الأصل السادس: أهلية المحاور، وهذه قضية مهمة جداً؛ بمعنى أن يكون المحاور مؤهلاً، لا جاهلاً ولا غير متخصص، كما أنك ينبغي أن تكون مستعداً. ومع الأسف، فإن ما يحصل في بعض الحوارات أن يكون المناظر عن الجانب الإسلامي غير مؤهل، وقد يكون مستشرقاً كافراً أو مسلماً غير مؤهل، فلا بد في الأصول أن تأتي بإنسان مؤهل.

    ولقد ندمت وأسفت أني لم أحضر الندوة التي أقيمت من جملة النشاط الثقافي، وكنت عليها حريصاً، لكن بلغني أنه وقعت أشياء جميلة جداً وحوارات، وبخاصة طروحات من بعض الذين نحبهم كانت على مستوى يثلج الصدر.

    فالمهم فعلاً أهلية المحاور، فمن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من هو على الباطل، ومع الأسف، أحياناً في الغرب يقيمون ندوات، ويأتون بمستشرقين يدافعون عنا، ويخرجون بنتائج وتوصيات ومقررات، فمن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل، ومن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يعرف الحق، ومن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يجيد الدفاع، قد يكون هو على حق وعلى معرفة به؛ لكن لا يجيد الدفاع عنه، ومن الخطأ كذلك أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يدرك مسالك الباطل، وليس كل واحدٍ مؤهلاً للدخول في حوار صحي يجني ثماراً يانعةً ونتائج طيبة، حتى آتي إلى الأخلاقيات.



    أعلى الصفحة



    قطعية النتائج ونسبيتها



    الأصل السابع: قطعية النتائج ونسبيتها، وهذه قضية دقيقة ومهمة، وخاصةً فيما ذكرنا قبل قليل من أنه قد يكون مقصودك من الحوار ليس الوصول في الوقت الحاضر، إنما تذكر أشياء تمهيدية، فمن المهم جداً، حتى من ناحية نفسية ليصل الحوار إلى مبتغاه ألا يكون هناك تشنج؛ وغالباً الذي يفشل هو المتشنج، وغالباً الذي يفشل هو الذي يرفع صوته، وغالباً الذي يفشل هو الذين ينفعل، بقدر ما تكون مستمسكاً بهدوئك مهما سمعت يكون نجاحك، ولهذا أحياناً قد تسمع أشياء عجيبة، وأشياء تكاد تكون أوضح من الشمس في خطئها، ومع هذا عليك أن تكون هادئاً جداً، لكن ليس هذا هو المقصود، المقصود أن توطن نفسك، أنك قد تكون أنت المخطئ، بمعنى أنك على حق تحتمل الخطأ، وغيرك يحتمل الصواب.

    ولهذا نقول: من المهم في هذا إدراك أن الرأي الفكري نسبي الدلالة على الصواب أو الخطأ، والذي لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام، بمعنى حينما يأتي محاورك بأشياء ويطرح طروحات، فلا تتشنج؛ فربما تكون أنت المخطئ، وهذه قضية مهمة، بل أحياناً روح التسليم تجعل صاحبك يسلم أيضاً، أما التشنج فيفشل الحوار، فإذا اعتقدت أنك قد تخطئ، وأنك غير معصوم، وأن ما أتى به صاحبك من وثائق ينبغي أن تسلم، وأن تكون عندك -كما يقال- روح رياضية في هذا الموضوع.

    فإن الذين لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغونه عن ربهم سبحانه وتعالى، وما عدا ذلك، فيندرج تحت المقولة المشهورة: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب.

    وبناءً عليه، فليس من شرط الحوار الناجح أن ينتهي إلى قول واحد، فإن تحقق هذا واتفق المتحاوران على رأي واحد، فنعم ذلك ونعم المقصود، وهو منتهى الغاية، وإذا لم يكن، فالحوار ناجحٌ إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كل من منهجيهما، يسوغ لكل واحد منهما التمسك به.

    طبعاً ليس الكلام في القضايا الدينية، ولنفترض أننا نتناقش في منهج تربوي، نتناقش في صلاحية هذا الكتاب من عدمه، فلا نريد في نهاية حوارنا أن نقول: أنت التزم به في كذا، وأنا ألتزم به في كذا، وانتهت القضية، أحياناً فعلاً قد لا تحسم القضية، وينبغي أن تعرف ذلك أن القضية قد لا تحسم في بعض الأحيان.

    فيكون الحوار ناجحاً إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كل من منهجيهما، ويسوغ لكل واحد منها التمسك به ما دام في دائرة الخلاف السائغ، وما تقدم من حديث عن غايات الحوار يزيد هذا الأصل إيضاحاً كما أسلفت

    ولهذا ابن قدامة رحمه الله يقول: وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في المسائل الاجتهادية، ولا يكلفه أن يوافقه فهمه.

    ولكن الحوار يكون فاشلاً إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة وتدابر ومكايدة وتجهيل وتخطية.



    أعلى الصفحة



    الرضا والقبول بالنتائج



    الأصل الثامن والأخير في الأصول: الرضا والقبول بالنتائج، ومع الأسف أنه فيما قرأتم وقرأنا وما يطرح في كثير من وسائل الإعلام لا نكاد نرى أحداً سلم للآخر، أو رضي بالنتائج أبداً، ولا شك أن هذا يدل على سوء في التربية في هذا الباب، وكان ينبغي أن نوطن أنفسنا أن نقبل الحق من أي إنسان جاء، وأقبل لنفسي أني قد أكون على خطأ، لكننا مع الأسف نتكلم من ناحية نظرية، أما في الواقع فإلى الآن لم نصل إلى مرحلة أن نربي أنفسنا وأولادنا وأجيالنا على أن تتقبل بالتسليم بالخطأ، مع الأسف أننا لم نصل إلى هذا.

    فإذاً من الأصول الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاوران، والالتزام الجاد بها وما يترتب عليها، وإذا لم يتحقق هذا الأصل، كانت المناظرة ضرباً من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء.

    ولهذا يقول ابن عقيل : وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة، فإنه أنبل لقدره، وأعون على إدراك الحق، وسلوك سبيل الصدق، و الشافعي رضي الله عنه وأرضاه يقول: ما ناظرت أحداً فقبل مني حجة إلا عظم في عيني، ولا ردها إلا سقط من عيني.

    هذه إشارات إلى أصول الحوار، طبعاً قد تجدون في بعض المراجع أصولاً غير ما ذكرت لكم، لكن يدخل بعضها في بعض غالباً، وبعضها قد يحتاج إلى مزيد من البسط، وبعضها مضغوط في بعض، فهذا إيجاز لأصول الحوار.



    أعلى الصفحة


    أخلاقيات الحوار وآدابه




    نأتي إلى أخلاقيات الحوار وآدابه:



    التزام القول الحسن وتجنب منهج التحدي والإفحام



    من أخلاقيات الحوار: التزام القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام: أي: حاول وأنت تتحدث أن تختار ألفاظك، وألا تدخل مدخل المفحم، كمن يريد أن يحشر خصمه في زاوية؛ لأن هذا غالباً لا يؤدي إلى حل، إنما يؤدي إلى تشنج وتنتهي القضية، لكن كما قلنا: تحاول أن يقول: نعم، نعم، نعم، فذلك خيرٌ من أن تحشره وتريد أن تظهر عليه، تأكد يا أخي وإن لم تتحدث، أن الحضور يعرفون، الحضور تفهم، وإن لم يقولوا شيئاً، فلابد من التزام القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام، فمن المهم باسم المتحاورين التزام الحسنى في القول، والله عز وجل يقول: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53] وقال: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] فهذا هو الأصل، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة:83] ويلحق بهذا الأصل -كما قلت- تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث، وتعمد إيقاع الخصم في الإحراج، ولو كانت الحجة بينة والدليل دامغاً، فإن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف -وهذه قاعدة مهمة فالزموها- كسب القلوب مقدم على كسب المواقف مهما كان، لأنك إذا كسبت الموقف وخسرت الناس، فماذا فعلت؟

    أنت مقصودك أن تكسب الناس، فقد تكسب الموقف، لكنك لا تكسب الناس، وإذا كسبت الناس، كسبت الموقف، أما إذا كسبت الموقف وخسرت الناس، فقد ذهب كل عملك هباءً، وبخاصة إذا كنت من الناس الذين يدعون إلى الله، وتريد الحق فعلاً، إذا كنت تريد الحق وبسط الحق، فاكسب الناس، ولا تكسب المواقف، فكسب القلوب مقدم على كسب المواقف، وقد تفحم الخصم، لكنك لا تقنعه، وقد تسكته، لكنك لا تكسب تسليمه وإذعانه، وأسلوب التحدي يمنع التسليم، ولو وجدت القناعة العقلية، وهذه طبيعة البشر، ولهذا الأنبياء أتوا بالحجج، ومع هذا فالطغاة رفضوا الإيمان لا لعدم قناعتهم ولكن لاستكبارهم، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14] فليس الذي يمنع خصمك أنك لست على الحق، ينبغي أن تعرف هذا، ومادمت واثقاً من نفسك، فتأكد أن الذي يمنعه ليس أنك على الحق، إنما هو شيء في نفسه، في داخله، فما دام أنه شيء داخلي، وأنك لست مسئولاً، فلماذا التشنج؟ ولماذا الإفحام والإقحام؟

    فإذا كنت اتبعت الأصول السابقة من العلم، وأصول العلم، وإقامة الحجة، وإثبات صحة الخبر إلى آخر ما سبق، فالقضية منتهية، فهذا الذي نقول، وإنك لتعلم أن إغلاظ القول ورفع الصوت وانتفاخ الأوداج لا يولد إلا غيظاً وحقداً وحنقاً.

    ومن أجل هذا، فليحرص المحاور ألا يرفع صوته أكثر من الحاجة، فهذا رعونة، وإيذاء للنفس وللغير، ورفع الصوت لا يقوي حجة، ولا يجلب دليلاً، ولا يقيم برهاناً، بل إن الصوت العالي لم يعل في الغالب إلا لضعف حجته وقلة بضاعته، فيستر عورته بالصراخ، ويواري ضعفه بالعويل، وهدوء الصوت عنوان العقل والاتزان والفكر المنظم والنقد الموضوعي والثقة الواثقة.

    على أن الإنسان قد يحتاج إلى رفع الصوت قليلاً في بعض الأحيان، أو يغير الإنسان نبرات صوته إذا كانت الصيغة استفهامية، أو تقريرية، أو إنكارية، أو تعجبية، هذه أشياء معروفة في أصول الحوار، لكنها لا تعني السفه على صاحبك، أو أنك تريد أن تسكته برفع صوتك، لكن إذا كان المقصود تغيير لهجة الصوت، لأن المقام يستدعي أن يكون الأسلوب إنكارياً، أو تعجبياً أو استفهامياً أو تقريريا،ً أو غير ذلك من أساليب البلاغة مما يدفع الملل والسآمة، فمعلوم أنه مطلوب.

    على أن هناك أحياناً بعض الحالات التي يسمح فيها ويسوغ فيها اللجوء إلى الإفحام، وإسكات الطرف الآخر، لكن هذا ليس الأصل، هذا قد يحتاج إليه، لكنه خلاف الأصل، فإذا استطال مثلاً صاحبك وتجاوز الحد وطغى وظلم وكذب، وأتى بأشياء مكشوفة، وعادى الحق وكابره مكابرةً بينة، فلمثل هذا جاءت الآية الكريمة: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46] فحينئذٍ قد تتجاوز الحسنى، لأن الناس تحب أن ترى الحق عالياً، وتحب أن ترى الباطل مقموعاً، وقال سبحانه وتعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148] ففي حالة الظلم والبغي والتجاوز قد يسمح بالهجوم الحاد المركز على الخصم وإحراجه وتسفيه رأيه؛ لأنه يمثل باطلاً، وحسنٌ أن يرى الناس الباطل مهزوماً مدحوراً.

    وهناك كلمة لطيفة جميلة على الهامش، وهي أنه لا ينبغي للإنسان أن يستعمل الضمير (أنا) في الحديث، ذكر ذلك كثير من المتأدبين، وقال: لا ينبغي للإنسان أن يقول أنا ونحن إذا استطاع، إنما يستعمل ضمير الغيبة، فهو أحسن، فلا يقول: في رأيي، أو في درسنا، أو في تجربتنا، أو في رأينا، أو على حسب علمنا، يحسن أن يقول: يبدو للدارس، تدل التجارب، الذي يبدو للباحث، ونحو ذلك، فهي ألطف؛ حتى لا يحس السامع بأن ثمة أسلوب تعالٍ على المتحدثين، أو بين المتحاورين.

    أخيراً من غاية الأدب واللباقة وإدارة الحوار ألا يفترض في صاحبه الذكاء المفرط، فيكلمه بعبارات مختزلة، ولا يفترض فيه الغباء المفرط، فيأتي بأشياء من المسلمات بحيث يمل منها المتحاوران، أو يمل السامعون، والناس في ذلك درجات في عقولهم وفهمهم.



    أعلى الصفحة



    الالتزام بوقت محدد



    القضية الثانية في آداب وأخلاقيات الحوار: الالتزام بوقت محدد في الكلام، وهذه أيضاً مهمة وجميلة، ومع الأسف أنه لا يكاد يُلتزم بها، وبخاصة في الندوات، إذا أقمنا ندوات، فلا يكاد أحد يلتزم، فإذا أتى الإنسان بأوراقه أوجب على نفسه أن يقرأها كلها، كان ينبغي قبل الدخول أن يكون المتحاورون والمنتدون ومدير الندوة متفقين على أن يأتي الواحد بكلمات تغطي الجزء، لكن مع الأسف إذا كانت شهوة الكلام هي المطلوبة، فهذا مشكلة، ومع الأسف ما تعودنا على ذلك عملياً؛ رئيس الندوة يقول: يا إخواني بقيت دقيقتان، ومع هذا لا أحد يستجيب، وإن كان رئيس الندوة أحياناً يستخدم سلطته، ويوقف الكلام، لكن لا ينبغي هذا، فهو يؤثر على مجريات الأمور والهدوء والانسجام الموجود في القاعة وينبغي أن نكون جادين في الالتزام بالوقت في الكلام، فينبغي أن يستقر في ذهن المحاضر ألا يستأثر بالكلام، ويستطيل في الحديث ويسترسل بما يخرج به عن حدود اللباقة والأدب والذوق الرفيع.

    فـابن عقيل الحنبلي يقول في كتابه فن الجدل : وليتناوبا الكلام مناوبةً لا مناهبةً؛ بحيث ينصت المعترض للمستدل حتى يفرغ من تقريره للدليل، ثم المستدل للمعترض حتى يقرر اعتراضه، ولا يقطع أحدٌ منهما على الآخر كلامه، وإن فهما مقصوده من بعضه.

    حتى إن فهمت فاسكت حتى ينتهي، لا تقل له: كفى فقد فهمت، ولهذا قال ابن عقيل : وبعض الناس يفعل هذا - أي: يقاطع- تنبيهاً للحاضرين على فطنته وذكائه، وليس في ذلك فضيلة إذ المعاني بعضها مرتبطٌ ببعض، وبعضها دليل على بعض، وليس ذلك علم غيب، أو زجراً صادقاً، أو استخراج ضمير حتى يفتخر به، وبخاصة إذا افترضنا أن المتحاورين على مستوى من العلم، ومستوى من العقل، ومستوى من الفهم.

    وغالباً المستمعون كذلك على مستوى من الفهم، فليس ذكاءً أنك تفهم من منتصف الطريق، فإذا فهمت فاسكت.

    قال ابن عقيل : ومن المفيد أن نعلم أن أغلب أسباب الإطالة في الكلام ومقاطعة حديث الرجال يرجع إلى ما يلي:

    أولاً: إعجاب المرء بنفسه.

    ثانياً: حب الشهرة والثناء.

    ثالثاً: ظن المتحدث أن ما يأتي به جديدٌ على الناس، وهذه مشكلة فلا ينبغي أن تفترض أن الناس كلهم جهال.

    رابعاً: قلة المبالاة بالناس في علمهم ووقتهم وظرفهم، لو كنت تحترم الناس ما حاولت أن تستطيل في شيء ليس لك فيه حق.

    قال: والذي يبدو أن واحداً من هذه الأسباب إذا استقرت في نفوس السامعين كافٍ في صرفهم وصدهم ومللهم واستثقالهم لمحدثيهم.

    وأرجو ألا أكون منهم!



    أعلى الصفحة



    حسن الاستماع والإنصات



    الثالث من الآداب: حسن الاستماع، وأدب الإنصات، وتجنب المقاطعة، وهذه قضية مكملة لما سبق، ينبغي للمتحاور -الطرف الثاني أو كل واحد بالنسبة لصاحبه- ينبغي له أن يحسن الاستماع وأدب الإنصات وأدب المقاطعة، وهذا والله نحتاجه كثيراً في مدارسنا، وبخاصة بين الأستاذ وتلميذه، يعني: لو أن أساتذتنا اجتهدوا في أن يعلموا تلاميذهم أدب الحديث بمعنى أن يكونوا هم القدوة، فالمشكلة أن الأستاذ يريد الكلام، وهو الذي يُسمع فقط، لا يكاد يحسن أن يعطي طالبه فرصة الحوار، ولو فرصة الحديث، فهذا نوع من التعالي مع الأسف، ويجب أن نكون صادقين في نقد أنفسنا، وبخاصة في مثل هذه المدرسة الثانوية -كما قلنا-: الثانوية طلابها في مستوى المراهقة، والمراهق -كما يقول علماء النفس- يريد أن يثبت ذاته، وينبغي أن يعطيه المدرس فرصة في أن يثبت ذاته بحيث يتحدث ويتكلم ويعطيه فرصة، ولا يستهزئ به، ولا يجعل زملاءه يسخرون منه، فحسن الاستماع وأدب الإنصات وتجنب المقاطعة من أخلاقيات الحوار.

    فكما قلنا في آداب الحوار: الالتزام بوقتٍ محددٍ، وتجنب الإطالة، كذلك نطلب حسن الاستماع، واللباقة في الإصغاء، وعدم قطع حديث المحاور، وإن من الخطأ -وهذه قضية يا إخواني مهمة جداً- أن تحصر همك في التفكير فيما ستقوله، وألا تلقي بالاً لمحدثك ومحاورك، وهذا كثير؛ زميلك يتحدث وأنت مشغول بالرد، لا يا أخي اسمع ما يقول، يمكن أن يقول حقاً، هذه قضايا دقيقة، وهي ترجع إلى الضمير يا إخواني، إن أغلب أخلاقيات الحوار ضميرية؛ أنت بنفسك أبصر، ليست أشياء تقاس بالترمومتر، لو كانت تقاس، لم تكن هناك مشكلة، بل كلنا سنكون منضبطين، فحينما يتحدث صاحبك، ينبغي أن تكون مستمعاً جيداً، لا أن تكون مشتغلاً بالرد، ومن الخطأ أن تشغل همك في التفكير فيما ستقوله، وألا تلقي بالاً لمحدثك ومحاورك، وقد قال الحسن بن علي رضي الله عنهما لابنه رضي الله عنهم أجمعين: [[ يا بني إذا جالست العلماء، فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ولا تقطع على أحدٍ حديثاً، وإن طال حتى يمسك ]] ويقول ابن المقفع : تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ومن حسن الاستماع إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه، وقلة التلفت إلى الجوار، والإقبال بالوجه، والنظر إلى المتكلم، والوعي بما يقول.

    إذاً: لا بد في الحوار الجيد من سماع جيد، والحوار بلا حسن استماع -كما تقول العامة- حوار طرشان -جمع أطرش- فكل من طرفيه منعزلٌ عن الآخر، فالسماع الجيد يتيح القاعدة الأساسية لالتقاء الآراء وتحديد نقاط الخلاف وأسبابه.

    حسن الاستماع يقود إلى فتح القلوب واحترام الرجال وراحة النفوس، تسلم فيه الأعصاب من التوتر والتشنج، كما يُشْعِر بجدية المحاور وتقدير المخالف وأهمية الحوار، ومن ثم يتوجه الجميع إلى تحصيل الفائدة والوصول إلى نتيجة.



    أعلى الصفحة



    تقدير الخصم واحترامه



    الرابع من الآداب والأخلاقيات: تقدير الخصم واحترامه، وهذه مهمة جداً أن تقدره، وقد نكون أشرنا إليه في بعض الطروحات التي تطرح في وسائل الإعلام في الردود، لا يكاد يكون فيها تقدير إلا في الحلقة الأولى، أو الثانية بعد ثلاث أو أربع حلقات تجد الدنيا انفتحت على التجريح الشخصي وإلى الكلام في الشهادات، وإلى الكلام في السيرة الذاتية، وإلى الكلام في تاريخه العلمي أين ذهب؟ وأين أتى؟

    ما كان ينبغي هذا أبداً، والتقدير أيضاً قلبي، وبقدر ما تكون صادقاً في التقدير يظهر هذا على سلوكك وأسلوبك وكلامك وحديثك وكتابك، فينبغي في مجلس الحوار التأكيد على الاحترام المتبادل من الأطراف، وإعطاء كل ذي حق حقه، والاعتراف بمنزلته ومقامه، فيخاطب بالعبارات اللائقة وبالألقاب المستحقة والأساليب المهذبة، فتبادل الاحترام يقود إلى قبول الحق، والبعد عن الهوى، والانتصار للنفس.

    أما انتقاص الرجال، وتجهيلها، فأمر معيبٌ محرمٌ، وما قيل من ضرورة التقدير والاحترام لا ينافي النصح وتصحيح الأخطاء بأساليبه الرفيعة، وطرقه الوقورة، فالتقدير والاحترام غير الرخيص، والنفاق المرذول، والمدح الكاذب، والإطراء على الباطل، وهذا يقودنا إلى قضية أخرى تنبع من التقدير، وهي أنك تتوجه بالحوار إلى القضية المطروحة، ويصرف الفكر إلى المسألة المبحوثة ليتم تناولها بالبحث والتحليل والإثبات والنقد بعيداً عن صاحبها أو قائلها، كل ذلك حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية، طابعها الطعن والتجريح والعدول عن مناقشة القضايا والأفكار إلى مناقشة التصرفات والأشخاص والشهادات والمؤهلات والسيرة الذاتية.



    أعلى الصفحة



    حصر المناظرات في مكان محدود



    ومن الآداب: حصر المناظرات في مكان محدود، هذه قضية دقيقة، وأظن أن أكثر من نبه إليها علماؤنا المتقدمون، وهي قضية دقيقة، وأظنها تحتاج إلى نظرة، وقد تكون مستغربة، وهي حصر المناظرات في مكان محدود، ما معنى ذلك؟

    أهل العلم يقولون: إن المحاورات والجدل ينبغي أن يكون في خلوات محدودة الحضور، قالوا: وذلك أجمع للفكر والفهم، وأقرب لصفاء الذهن، وأسلم لحسن القصد، وإن في حضور الجمع الغفير ما يحرك دواعي الرياء والحرص على الغلبة بالحق والباطل، مع الأسف في الوقت الحاضر الآن أصبحت محاورات تلفزيونية خاصة في الخارج بين رؤساء الأحزاب، وبين المرشحين للانتخابات، غالباً هذه المحاورات لا تؤدي إلى حق، إنما استعراض عضلات، وتقديم طروحات كاذبة، وكما يقال: كل واحد يطرح مشروعه الانتخابي، وكل مشروع كذاب، لماذا؟

    لأنهم أمام الجمهور، ويريدون مجرد المفاخرة، والرياء والأطروحات الكاذبة، ولو انفردوا بأنفسهم وصدقوا، لكانت مصلحة الوطن أجدى وأولى وأوصل للحق؛ لكن القضية من أجل الفوز في الانتخابات واستمالة الجمهور، وهم كذابون، ولهذا أكثر الطروحات الانتخابية كاذبة وأفاكة، ولا يصلون إلى شيء، بل حتى على مستوى الانتخابات الأمريكية وغيرها يطرحون أشياء، وتجد الرئيس حينما يذكر، يشتغل في قضايا السياسة الخارجية، ويذهب عن كثير من القضايا التي وضعها في سياسات اقتصادية، أو سياسات اجتماعية، أو أشياء غيرها، لأن القضية جماهيرية، ولا يكادون يلتزمون بأدبيات الحوار؛ لأنه لا يريد أن ينهزم أمام الجمهور، أو أمام جمهوره الذين يرغبون ترشيحه، ولهذا يذكر أهل العلم عن المحاورات أنها ينبغي أن تكون في خلوات، واستدل أهل العلم بآية لطيفة من كتاب الله عز وجل، وهي قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سبأ:46] فالله عز وجل أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لقومه: ما جئت به، فكروا به منفردين؛ لأنكم إذا فكرتم متداخلين، كل واحد يتعصب، ولهذا في قصة طويلة حقيقة ذكرها المؤرخون أن أبا سفيان بن حرب ، و أبا جهل بن هشام ، و الأخنس كانوا يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد منفرد، فإذا خرجوا تقابلوا في الطريق، ثم تعاهدوا على عدم السماع، فكان كل واحد منهم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن معجباً به، لكن إذا اجتمعوا كل واحد كذب على الآخر، حتى قال بعضهم: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود، لكن في النهاية قال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياءً أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياءً ما عرفت معناها، قال الأخنس : وأنا، إلى أن قال: خرج الأخنس من عندي حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟

    فقال أبو جهل : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاشينا على الركب -أي: تساوينا- وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه وحي من السماء، فمتى ندرك هذا؟ ما معنا إلا أن نكذب فقط، والله لا نؤمن به، ولا نصدقه، قال: فقام من عنده الأخنس وتركه.

    فلذلك قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى [سبأ:46] فالإنسان إذا انفرد يكون أقرب إلى قبول الحق، أما أمام الناس، فذلك يؤدي كثيراً إلى حجب الحق والوصول إلى الحقيقة.



    أعلى الصفحة



    من آداب المحاورات الإخلاص



    الأدب الأخير وهو المهم، وهو الأول والأخير: الإخلاص.

    هذه الخصلة من الأدب متممة لما ذكر، من أصل التجرد الذي قلناه قبل قليل في طلب الحق إلى آخره، ومن أجلى المظاهر في ذلك أن يدافع المحاور عن نفسه حب الظهور، والتميز على الأقران، وإظهار البراعة وعمق الثقافة والتعالي عن النظراء والأنداد.

    إن قصد انتزاع الإعجاب والثناء واستجلاب المديح مفسد للأمر صارف عن الغاية، وسوف يكون فحص النفس ناجحاً ودقيقاً لو أن المحاور توجه إلى نفسه بهذه الأسئلة، هذا من الأسئلة التي يوجهها الإنسان إلى نفسه، ليختبر إخلاصه، هل ثمة مصلحة ظاهرةٌ ترجى من هذا النقاش وهذه المشاركة؟

    هل يقصد تحقيق الشهرة أو إشباع الشهوة في الحديث؟

    هل يتوخى أن يتمخض هذا الحوار عن نزاع وفتنة وفتح أبواب من هذه الأبواب التي من حقها أن تسد؟

    من التحسس الدقيق ومن تصادق النفس أن يحذر بعض التلبيسات النفسية والشيطانية، فقد تتوهم بعض النفوس أنها تقصد إحقاق الحق، وواقع دخيلتها أنها تقف مواقف انتصار ذات هوى، ويدخل في باب الإخلاص والتجرد توطين النفس على الرضا والارتياح من ظهور الحق كما سبق.

    كل المبادئ السابقة الذي يبلورها واقعاً ملموساً ومجسداً هو أن يكون لدى الإنسان الإخلاص الصادق لله عز وجل: بأن يقصد إعلاء الحق والدين، ونفع الناس، وأن يقصد ظهور الحق، ولو على غير يديه، وعلى لسان غيره.

    ومما يعينك على الإخلاص أن تعلم أن الآراء والأفكار ومسالك الحق ليست ملكاً لواحدٍ، أو طائفة، والصواب ليس حكراً على واحدٍ بعينه، فَهَمُّ المخلص ومهمته أن ينتشر الحق في كل مكان، ومن أي مكان، ومن أي وعاء، وعلى أي وسيلة.

    وإن من الخطأ -وافهموا هذه يا إخواني- إن من الخطأ البين في هذا الباب أن تظن أن الحق لا يغار عليه إلا أنت، ولا يحبه إلا أنت، ولا يدافع عنه إلا أنت، وليس له مخلص إلا أنت، ولا يتبناه إلا أنت، ولا تحرسه إلا أنت، فإن من الجميل وغاية النبل والصدق إحسان الظن بالناس.

    ومن الصدق مع النفس وقوة الإرادة أن توقف الحوار إذا وجدت نفسك قد تغير مسارها، ودخلت في مسالك اللجج والخصام ومدخولات النوايا، وأكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.



    أعلى الصفحة


    الأسئلة







    ماذا يفعل من له أب يتبنى الأفكار العلمانية؟



    السؤال: فضيلة الشيخ: بماذا توجهون شاباً ملتزماً قد ابتلي بأبٍ تقلب في التبني الجزئي والتأثر بعدة اتجاهات واعتقادات كان أولها الشيوعية، ثم الاشتراكية، ثم القومية، وكان ناصرياً، وفي نهاية المطاف بعثياً، هذا بالإضافة إلى انغماسه في النظر الحرام، وسب المسلمين أعني العلماء والدعاة، والجماعات الإسلامية في كل مكان، واتهام نياتهم، والفرح بذبحهم من قبل العلمانيين، ورفض قتل -أحد الناس ذكر اسمه- وهو صاحب لجج وقوة لسان، وهو ممن ينهى بناته عن الالتزام بالدين، وعن المحافظة على الحجاب، وكثيراً ما يقع له مع ابنه نقاش، فيتطور إلى إنكار الأحكام الشرعية، وتأويل النصوص، ثم الطعن في الصحابة، ثم إنكار السنة وثبوتها، ويحصل أن ينطق أحياناً بالكفر الصريح مثل: إنكار ثبوت السنة، فهل أولى لابنه الصبر عليه مع النصح والدعوة، أم يجب عليه رفع أمره للمحكمة الشرعية، وذلك لأنه على هذا المنهج منذ أربعين عاماً؟

    الجواب: عليه أن يناصح وأن يستمر معه الحوار، وأن يستمر في الاجتهاد في الدعاء له، ولا شك أن هذا كلام خطير، نسأل الله السلامة، ونسأل الله له الهداية حقيقة، وعليك أن تستمر في مناصحته والجدال معه ما دام أن هناك فرصة للحوار، ونحو ذلك، فأنا أرى أن يستمر معه الحوار؛ لأن القضية -هي كما تعلم- مهمة الدعاة وهي ميراث النبوة، والنبي صلى الله عليه وسلم مهمته البلاغ، وكلف بالبلاغ عليه الصلاة والسلام: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272] فيجتهد، ولا ييئس أبداً، ولهذا إبراهيم عليه السلام دعا لأبيه، في الحياة وبعد الممات، في الحياة، قال: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً [مريم:47] وكان يدعوه كثيراً، وفي منهج إبراهيم ما يرشد السائل، فهو كان رقيقاً، وقال له: يا أبت، ويا أبت، ويا أبت بمنتهى الرقة: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ [مريم:43-45] إلى آخره، ثم قال: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً [مريم:47] فالاجتهاد في الدعاء له، لعل الله سبحانه وتعالى أن يختم له بخير، هذا هو الذي أراه.



    أعلى الصفحة



    كيفية محاورة كبار السن



    السؤال: فضيلة الشيخ: ما الطريقة المثلى عند محاورة كبار السن، وبخاصةٍ حين يحاجك أحدٌ بقوله: ولو؟

    الجواب: كلمة (لو) هي (لا) معقوفة، نحن كنا نحرص ألا تدعه يقول: لا. لكن أتى بها معقوفة، فلا شك أن المحاورة لا تنتهي، لكن على الإنسان أن يتخير الأجواء؛ لأن كثرة النقاش والجدال مملة، وإذا كان الإنسان كلما جلس أثار نقاشاً، فلا شك أن هذا يجعل الأمر مملولاً، بل يجعل الإنسان مكروهاً، إنما الحوارات تتخير أوقاتها وظروفها ومناسباتها، حتى لا تخرج عن حدود الأدب وحدود المبتغى من قصد الحق والتقريب إليه -كما قلنا- الحوار ليس بالضرورة أن يكون في جلسة واحدة تستكمل فيها القضايا، فربما كان بعضها ممهدات، وبعضها تكون موضحات، وبضعها قد تكون أموراً تقبل النظر والخلاف حيث يكون الأمر فيها سهلاً وواسعاً، وليست كل مسألة لا بد أن نصل فيها إلى رأي موحد؛ كما قال الأخ ناصر : إنه لا بد أن نصل إلى رأي موحد وحاسم، فهذا في بعضها، وبعضها يقبل التنوع واختلاف وجهات النظر.



    أعلى الصفحة



    واجبنا تجاه من ينادي باستخراج البطاقة الشخصية للمرأة



    السؤال: فضيلة الشيخ: ظهرت في الفترة الماضية في بعض الصحف المحلية -وبالتحديد في جريدة الجزيرة - ظهرت دعوات مشبوهة تدعو إلى استخراج بطاقة شخصية للمرأة السعودية، وبصفتكم أحد أعضاء مجلس الشورى، وكذلك أحد العلماء الأفاضل، ما هو موقفكم في ذلك، والله يرعاكم؟

    الجواب: إن هذه القضية فيما يبدو لي تحتاج إلى نظر وقد تعرض على هيئة كبار العلماء، أيضاً القضية يحسم فيها من هذا الباب، حيث أن فيها رأياً، لأن الصورة بذاتها-كما تعلمون- في مجالات أذن فيها، كما في الجواز وفي غيره، والقضية ليست كبيرة من حيث ما يتوصل إليه، لكن يبدو لي أن خروجها من جهة علمية معتمدة لها صفة الرسمية والشرعية هو أولى في قطع النزاع؛ لأنها هي التي تنظر المصلحة والمصالح، أما أن تخاض على مثل ما ذكر الأخ، وتصل إلى حالٍ فيه نوع من التشنج بين الأطراف، ونوع من التدخلات في النيات وفي المقاصد من جميع الأطراف، وكان ينبغي في هذه الأمور- لأنها قضية فعلاً تحتمل النظر، وتحتمل الطرح من حيث المفاسد الشرعية والمصالح الشرعية- أن تنظر فيها جهات شرعية، وتقرر ما تراه في هذا.



    أعلى الصفحة



    الحوار في الثوابت الشرعية



    السؤال: إذا بادرني شخصٌ ما في الحديث والحوار في قضيةٍ مسلمٍ بها، بم أرد عليه وأجاوبه في مثل هذه الأمور؟

    الجواب: حينما نقول مسلمة، نعني أنها مسلمة بين المتحاورين، وقد مثلت بالحجاب، لأنه إذا كان مسلماً، فلن ينازع، ولا يجوز له أن ينازع، ولا يجوز أن يكون الحجاب محل نزاع إلا إذا كان غير مسلم، فذلك شيء آخر، فتحتاج عندها أن تخرج من هذه القضية إلى أن تثبت له أن الإسلام حق، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وهذه قضية خطيرة، أما إذا سلم بأن الإسلام حق، وأن القرآن حق، فعندها تكون القضية ليست محل جدل إلا في الأشياء الفرعية -كما قلنا لكم- فبعض القضايا في تفريعاتها قد تكون صورة من صور الربا محل نزاع، هل هي ربا أو لا؟ هذا شيء آخر، ومثل كشف الوجه، فلا شك أن ذلك محل خلاف، فهذه تقبل النقاش، وتقبل الطرح.



    أعلى الصفحة



    الحوار مع أهل البدع



    السؤال: ذكر عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة أنهم إذا تناقشوا مع أهل البدع كانوا يردون عليهم بشدة وعبارات قوية، فما رأيك في ذلك من حيث كون الحوار يتطلب الانفعال؟ كذلك ذكر عن بعض الأئمة أنهم يرفضون الحوار مع بعض أهل البدع، بل يأمرون بعدم الرد عليهم مطلقاً.

    الجواب: هذا يختلف، ذكرنا أنه في بعض الأحيان قد تحتاج إلى نوع من الشدة، إذا كان عند المحاور عناد، لكن هذه استثنائية، فما نقل عنهم هو من هذا الباب، وكذلك أيضاً عندما ينقل عدم الحوار، لأن ذلك قد يكون فيه إظهار البدعة، ولهذا الإمام أحمد يقول: لا نرد عليهم، لأن في الرد إظهاراً، وإذا كان كذلك، فلا نقبل حوارات في أشياء والناس عنها في غفلة، فإن ذلك يؤدي إلى البلبلة، إنما نحاور في الأشياء التي يفيد فيها الحوار، هذا الذي يحمل عليه ما نقل عن السلف رحمهم الله، وقد نقل عنهم أنهم ناقشوا وجادلوا وألفوا في الردود كما تعلم، وفي بعض الأحيان سكتوا، فيحمل ما روي عنهم على هذا كما هو واضح.



    أعلى الصفحة



    الجدل المذموم



    السؤال: ذكر طوائف من السلف ذم نوعٍ من الجدل والكلام، أرجو من فضيلتكم بيان هذا النوع، وهل من هذا الجدل الخوض في بعض القضايا الأدبية مما لا ثمرة له عقلية، أو شرعية، أو عملية؟

    الجواب: لا، الجدل الذي ذموه الجدل المنطقي الذي لا يؤدي إلى الحق، وإنما ينتج عنه بلبلة، وسفسطة، فإن نصوص الكتاب واضحة في الحوار الذي يقصد به الوصول إلى الحق، والمنطق نفسه تكلموا في حله أو حرمته، أما ذات النقاش والحوار، فهذا ليس محل خلاف.

    الحوار إذا كان بين متخصصين، مثل: متحاورين يتحاورون في قضية جغرافية فليس هناك إشكال، أو بين متخصصين في اللغة العربية يتحاورون في اللغة العربية، لا يهمنا، فكل حوار في تخصصاتهم فيه فائدة، لكن لن تكون ثمرته كثمرة قضية الحلال أو الحرام، أو قضية للناس كلهم فيها تأثيم، وفيها وزر، فإذا كانت قضايا فكرية تتعلق بتخصصاتهم، فمن المعلوم أنه لا حجر فيها، إنما لا ينبغي أن تطرح على الناس بحيث تؤدي إلى بلبلة، أو تؤدي إلى الدخول في قضايا تمس معتقدات الناس.

    من النكت التي تقال: أن شيخاً كان يدرس النحو في المسجد، طبعاً يسأل بعض الطلاب، فقال لبعض الطلاب: أعرب، فأعرب، فكانت الجملة فيها الباء حرف الجر، فقال: مثلاً بمحمدٍ، الباء حرف جر، فالذي بجانبه سمع، فذهب إلى عمه فقال: إن الشيخ يقول: إن البحر انفجر، فأحياناً تطرح أشياء للعامة لا تفهمها، فينبغي أن تحدد أطر الحوار وحدود الندوات وغير ذلك.



    أعلى الصفحة





    رد مع اقتباس  

  10. #30 رد: أكبر مكتبة تضم خطب الجمعة لكبار أئمة الحرم المكي والنبوي 
    ضي الأمل غير متواجد حالياً T৵હ.¸ اللهم إغفر لها وتغمدها برحمتك "¸.હ৵
    المشاركات
    16,625
    محاضرة 30

    الزموا سفينة النجاة بن حميد

    الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العلامة الفارقة لهذه الأمة وعنوان خيريتها، وهو وظيفة الدولة المسلمة، كما أن أول المسئولين عنه هم علماء الأمة الذين ينبغي أن يكونوا هم المُثُل العليا للخير والاستقامة، وعليهم أن يتحلوا بالصبر ويتحملوا الأذى في سبيل الله حتى تقوم هذه الفريضة، ومما ينبغي تنبيه الأمة إليه أن دعوى الحرية الشخصية دعوى عريضة يتوصل بها المجرمون إلى المعاصي والسيئات، ويسقطون بها المسئولية الجماعية؛ وبذلك يجردون الأمة من أقوى أسلحتها ومن عنوان خيريتها، وتزداد المنكرات وتنتشر، وينتفش الباطل، ويتلاشى الحق، ويحيق بالناس أمر الله.

    فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر




    الحمد لله المتفرد بالملكوت والقدرة، المتعالي في سلطانه ومجده، لا يقدر أحد من خلقه قَدْرَه، أحمده سبحانه وأشكره، كم أسبغ من نعمة! وكم أقال من عثرة!

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تنفع قائلها يوم الحسرة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، الفوز والعز لمن أطاعه، والذلة والصغار لمن عصاه وخالف أمره، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، استجابوا لربهم، وأطاعوا نبيهم في المنشط والمكره، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ، فاتقوا الله ربكم وأنيبوا إليه، واستغفروه من جميع الذنوب وتوبوا إليه، تحببوا إليه بطاعته والثناء عليه، سبحانه! ملأت عظمته قلوب أوليائه، وتعلقت بمحبته أفئدة أصفيائه، مَن توكل عليه كفاه، ومَن سأله أفاض عليه من عطاياه.

    أيها المسلمون: الإنسان مدني بطبعه، لا تستقيم حياة البشر، ولا يهنأ عيشهم إلا مع بني جنسهم، قد جعل الله بعضَهم لبعض سُخرياً، لا يستقل أحدٌ بحاجته دون الآخر.

    ومن مظاهر المدنية الإنسانية وخصائص الطبيعة البشرية: المناصحات والمشاورات، والإرشادات والتوجيهات، والأوامر والنواهي، فهذه كلها من لوازم الوجود البشري والحياة المدنية.

    فالبشر لا بد لهم من أمر ونهي، ودعوة وإرشاد، ومناصحة وتوجيه، فمَن لم يأمر بالخير والحق أو يُؤمر به أَمَر بالشر والباطل وانجرَّ إليه، ولو أراد الإنسان ألا يأمر ولا ينهى؛ لا بخير ولا بشر، ما أمكنه ذلك؛ لأن هذا من مقتضيات الفطرة الإنسانية ومتطلبات الحياة الاجتماعية.

    ونفوس البشر كلها: إما لوَّامة، وإما مطمئنة، وإما أمارة بالسوء.

    وجميع هذه النفوس إن لم تُشغل بالحق والخير شُغلت بالسوء والباطل، ومن لم يزحف بمبادئه زُحِف عليه، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة:251].



    جماع دين الإسلام في الأمر والنهي



    وأمة الإسلام هي الأمة الجامعة لأصول الديانات بدينها، والوارثة لجميع الكتب بكتابها، والمهيمنة على جميع الشرائع بشريعتها، والخاتمة للرسالات برسالتها.

    وجماع دين الإسلام أمر ونهي؛ فالأمر الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي جاء به هو النهي عن المنكر.

    وجميع الولايات والمسئوليات في الإسلام إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمجتمع المسلم يعرف المعروف ويقره ويرضاه، ويحبه ويلتزمه ويأمر به، وينكر المنكر ويأباه، ويجتنبه وينهى عنه.



    أعلى الصفحة



    علاقة خيرية الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر



    إخوة الإسلام: ومن أجل هذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العلامة الفارقة لهذه الأمة، وتاج عزها، وعنوان خيريتها، يقول الله عزَّ وجلَّ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].

    فهو ثمرة الرسالة وخلافة النبوة وأثر الدعوة، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157].

    الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول الإسلام، وركن من أركان الملة، وأساس من أسس الشريعة، ومظهر من مظاهر حضارة أهل القرآن، به قِوام الأمر ومِلاكه، لا يرتفع منار الشريعة بدونه، ولا اعتصام بحبل الله إلا على هداه، هو الجهاد الدائم والفريضة المحكمة، وهو الباب الحافظ للشريعة بإذن الله من هجوم البدع، وتراهات الانحراف، ورياح الفسوق، وتيارات المعاصي، به بإذن الله حماية العقيدة، وصيانة الفضيلة، وحراسة الحرمات.

    الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صورة من صور التكافل والتضامن وتحقيق الموالاة بين أهل الإيمان، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة:71].

    من أخص خصائص أهل الإيمان الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم: أنهم آمرون بالمعروف، ناهون عن المنكر، حافظون لحدود الله.

    الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب من أعظم أسباب النصر والتمكين، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:40-41].



    أعلى الصفحة



    الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثره على البيئة الإسلامية



    هذه الشعيرة ضمانة للبيئة الإسلامية من التلوث الفكري والانحلال الأخلاقي، فإذا كانت الأمم تهتم بصحة البيئة وسلامة الأبدان ونظافة المطاعم والمشارب ونقاء الماء والهواء، فإن صفاء الفكر واستقامة الخلق أكبر وأعظم، والتلوث فيهما أشد وأنكى، وأي باب أوسع في هذا التلوث من نشر اللوثات الفكرية التي تشكك في الدين، وتهز الثوابت، وتفسد الأخلاق، وتنشر الرذيلة، في كتاب، أو قصة، أو قصيدة، أو رواية، أو مسلسل، أو شريط، أو مجلة، أو صحيفة؟!



    أعلى الصفحة


    من يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر




    أيها الإخوة في الله: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة الدولة الإسلامية بأجهزتها وولاياتها ودواوينها ووزاراتها، وهو وظيفة الدعاة والموجهين والمربين وأجهزة الإعلام والتعليم، كل حسب قدرته وحسب صلاحيته، {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان } وفي رواية: {وليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان }.



    دور أهل العلم في القيام بهذه الفريضة



    ويأتي أهل العلم والصلاح في مقدمة المسئولين عن هذا الركن العظيم، اقرءوا إن شئتم: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63].

    يقول ابن جرير رحمه الله: ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية، ولا أخوف عليهم منها.



    أعلى الصفحة



    أهمية وجود القدوة الصالحة لإصلاح المجتمع



    أيها المسلمون: وعلى الرغم من وضوح ما تقدم، فإن كل مجتمع مهما بلغ من الفضل والاستقامة لا بد له من طائفة تتمثل فيها المُـثُل العليا، تـحفظ للمجتمع وجوده الـمعنوي المتمثل في صلاح عقيدته وحسن أخلاقه وأدب تعامله، على حد قول الله عزَّ وجلَّ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].

    إنهم طائفة تمثل الخيرية في المجتمع، وتحافظ عليها وتحميها.

    إن في أرواحها من التوهج، وفي نفوسها من الحيوية ما يجعل هم مجتمعها هو همها الأكبر، فيسعد بها المجتمع، إذ تحفظ عليه توازنه واستقامته، وعناصر استمراره وبقائه.

    إنهم فئة من المجتمع مسموعة الصوت، واضحة التأثير، تملأ الفراغ، وتملك من التأثير ما يجعل جادة الحق واضحة، وطريق الصواب بارزة، ومسالك الخير بينة، فتستمر سُنَّة المدافعة بين الحق والباطل.

    إنهم أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ [هود:116] مشاعل وسرج يصلحون ما أفسد الناس، بدين الله قائمون، وعلى الحق حراس، يدعون من ضل إلى الهدى، ويبصرون من العمى، ويصبرون على الأذى، همهم -أثابهم الله وأعظم أجورهم- إقامة دين الله، وإعلاء كلمته، وإعزاز أوليائه.

    إنهم صمام الأمان بإذن الله، وسبب نجاة الأمة من الهلاك.



    أعلى الصفحة



    ضرورة تحلي الدعاة إلى الله بالصبر



    عباد الله: وإن من المعلوم البين أن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكليف ليس بالهين، ووظيفة ليست باليسيرة، فهو يصطدم بشهوات الناس ورغباتهم، ويقطع بعض أهوائهم وملاذهم، ويكبت غرور بعض المتكبرين، ويحد من تسلط بعض المتسلطين، ففي الناس الجبار الغاشم، وفيهم الظالم المتجاوز، والمنحرف الذي يكره الاستقامة، وفيهم أشباه البهائم عبيد الشهوات، بل فيهم من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف.

    ومن ثم تأتي هذه الفئة الطيبة المباركة -وكل من يقوم بمثل ما تقوم به- فتقوم بمحاربة الانحراف والمدافعة من أجل فُشُوِّ المعروف، فتتلقى الأذى والعنت والتطاول والاتهامات؛ لأنها تسير في مضادة أهل الشهوات والأهواء الذين لا يهتمون إلا بإشباع رغباتهم، ولا يتجاوز ضررهم مواقع أقدامهم.

    إن هذه الطائفة تلقى ما تلقى لأنها تسير في ركاب الأنبياء وفي دروب المرسلين، تقوِّم المعوج، وتنصر المظلوم، وتحارب الأهواء، وكتاب الله قرن محاربة هذه الفئة بالكفر بآيات الله وبتكذيب المرسلين، يقول الله عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21].

    ومن أجل هذا فقد جعل هؤلاء الأخيار من الصبر حصناً حصيناً، ومن الاحتمال والتحمل خلاً أميناً، يوطنون أنفسهم على تجرع كئوس المرارة، وتجنب خلائق المداهنات، وتحمل أذى الخلق في جنب الله، معتمدين على مولاهم، لا يحزنون على من خذلهم، ولا يأسفون على من قلاهم، قد قطعوا أطماعهم من الخلق، ووثقوا بكفالة الإله الحق، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].

    يتحرون الإخلاص والبعد عن الهوى أو قصد التشكي أو الانتصار للنفس، في نزاهة نفسية وصفاء قلبي، بعيداً عن الضغائن والأحقاد، بأسلوب الأدب والمحبة والشفقة، يخاطبون العقل، والغيرة الدينية، والحمية، والشهامة، متسلحين بسلاح العلم، والحكمة، والعدل، والإنصاف، والرفق، والحلم، والصبر، يعلمون أن للنفوس إقبالاً وإدباراً، فيتعاهدونها حين إقبالها وانبساطها بالكلمات الطيبات، والمُهاداة والملاطفات، حتى تصل إلى القلوب بإذن الله، متمثلين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم } .



    أعلى الصفحة


    الفهم الخاطئ لمفهوم الحرية وآثار ذلك




    أيها الإخوة المسلمون: هؤلاء هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وهذا هو دورهم وفضلهم، وذلك هو مسلكهم وسبيلهم.

    غير أن من أعظم مآسي هذا العصر ومن طَوامِّه: هذا الغلو المقيت والمبالغة الخاطئة في مفهوم الحرية الشخصية والخصوصية الفردية في مقابل حق الجماعة ودور المجتمع؛ فباسم الحرية الشخصية وباسم خصوصية الأفراد هَشُّوا للمنكرات وارتضوها، وتشربوها وارتضعوها، وعشقوها وغرقوا فيها، ارتضوا الكفر والإلحاد، وعاشوا في الفسوق والضلال، وحاربوا الفضيلة، ونشروا الرذيلة، كل ذلك باسم الحرية الفردية والحقوق الشخصية؛ حرية في العري والعهر والزنا واللواط، وحرية في الكفر والإلحاد والردة، حتى جعلوا ذلك في مناهج الدراسة وبرامج السياحة ووسائل الترفيه، وكانت النتيجة التي انتهت إليها غالبيتهم -ولا زالوا فيها ينحدرون- أن تفككت المجتمعات على نحو مخيف، وذابت الأسر بشكل مروِّع، وذهب رونق الحياة ونضارتها، وسوف يعصف ذلك بكل الجهود الكبيرة التي تُبنى بها الحضارات، ويقوم عليها بناء الأمم.

    ومع الأسف فإن الغلو في هذه النظرة الفردية انتقل إلى كثير من أبناء المسلمين، فترى هذا المبتلى لا يقبل النصيحة، ولا يحب الناصحين، بحجة أن هذا تدخل في الخصوصيات، يحاجون على الحرية الشخصية، بل إنه ليزعم -وهو مخذول- أن هذا تحجر وانغلاق ورجعية وتزمت، ويعلم الله والمؤمنون أن الإسلام قد قام على خلاف ذلك، فلقد وازن بين حق الفرد وحق الجماعة، والمسئولية -والله- مشتركة {فكلكم راعٍِ، وكلكم مسئول عن رعيته } A=6001305>>وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71].



    مثال يوضح المسئولية الجماعية على الأمة



    يجسد ذلك ويوضحه هذا المثال العظيم الدقيق الذي ضربه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: {مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وبعضهم في أعلاها، فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا بهم، فأخذ أحدهم فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه، فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من ماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه وأنجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم } أخرجه البخاري في صحيحه .



    أعلى الصفحة



    من آثار سوء فهم الحرية



    أيها الإخوة في الله: ويوم يزيف الناس هذا الحق ويدرسونه بالباطل بدعوى التقدم والحرية والخصوصية يكونون بذلك قد جردوا هذه الأمة من أقوى أسلحة دعوتها ودعامتها وتضامنها وضمانة الخيرية فيها، وأبعدوها عن أقوى خصوصية بقائها واستمرارها، وبتركه وإهماله تسقط الأمة من ميزان التقييم والتفضيل حتى تصير إلى حضيض الانهيار الاجتماعي، مستوجبة اللعن والطرد كما لُعن الذين من قبلها، لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة:78] * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79].

    وبعد أيها الإخوة المسلمون: فبإقامة هذه الشعيرة يقوم الدين وتُحفظ الملة، وتعز الأمة، وتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، وبذلك تستقيم الموازين، وتتضح المفاهيم، فيتبين للناس المنكر من المعروف، والحق من الباطل، والمشروع من الممنوع، والمباح من المحرم.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:116-117].

    نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم.

    وأقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



    أعلى الصفحة


    آثار ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر




    الحمد لله، أحكم الأشياء وأبدعها صنعاً؛ له الملك كله، وبيده التدبير كله، إعطاءً ومنعاً، وخفضاً ورفعاً؛ أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، ما أرسل رياحاً، وما أزجى سحاباً، وما أنبت زرعاً.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قدر الأقدار ضراً ونفعاً؛ وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، فكان رحمة للعالمين، وهدى للبشرية جمعاء؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، استجابوا وانقادوا فكانوا أسمع وأوعى؛ والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    أيها المسلمون: إن ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمة وانحساره أمر خطير ونذر شر مستطير.

    بضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تزداد المنكرات وتقوى، وتنتشر في الناس وتطغى، وحال الناس لا يقف عند حد، فإما أن يهيمن الخير والمعروف، ويرتدع المنكر ويستتر، وإما أن ينتفش الباطل ويستعلي المنكر.

    والمجتمع الصالح هو الذي يسوده البر، ويكون فيه أهل الاستقامة والصلاح ظاهرين، والبلاء كل البلاء أن يعلن أصحاب المنكرات منكراتهم، ويتظاهر أهل الشر بشرهم. والأمة التي تظهر فيها المنكرات وتفشو وتُعلن تتعرض لهزات عظيمة لا يعلم مداها إلا الله، والمعصية إذا خفيت لا تضر إلا صاحبها، أما إذا أُعلن بها فإنها تضر العامة، وكل الأمة معافى إلا المجاهرين، ولقد سألت أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: { يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم، إذا كثر الخبث } فإذا تهاون الناس مع أهل المعاصي والمنكرات الفكرية والأخلاقية، وفشا أمرها، فلا يزال الخبث ينتشر وتألفه النفوس، وتتربى عليه الأجيال، وحينئذ يحيق بالقوم أمر الله، صالحهم وطالحهم.

    فإذا ما غلت الأسعار، فإنها لا تقتصر على الفاسقين، وإذا ما اضطرب الأمن فإنه لا يخص الطالحين، وإذا استباح العدو الحِمَى فإنه لا يستثني أحداً.

    وإذا ما استمر أصحاب الأهواء والشهوات في غيهم، فعلى المجتمع أن يتحمل المسئولية تجاه حاضره ومستقبله ودنياه وآخرته، {لتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراًَ، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم }.

    وفي الحديث الآخر: {ما من رجل يقوم في قوم، يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيِّروا عليه فلا يغيِّروا إلا أصابهم الله بعذاب قبل أن يموتوا }.

    ويقول ابن العربي : والسكوت عن المنكر تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات وركوب الذل من الظَّلَمَة على الخلق.

    أيُّ خير يرتجى مِمَّن يرى مَحارم الله تنتهك، وحدوده تضيَّع، وهو بارد القلب، أخرس اللسان؟! وهل الـخوف والْهَلكة إلا من مثل هذا؟! ونعوذ بالله من موت القلوب، والقلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره لدين الله أكمل وأتم.

    قيل لـابن مسعود رضي الله عنه: [[مَن ميت الأحياء؟ قال: الذي لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً ]].


    هيئة الحسبة في بلاد الحرمين




    أيها الإخوة في الله: ومن أراد نجاة نفسه وفوزها وسعادتها في الدنيا والآخرة، فليلزم سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    وإن مَن تأمل في عالم اليوم وقلب نظره في أرجاء العالم الإسلامي، أدرك ما عليه هذه البلاد المباركة، بلاد الحرمين الشريفين، التي جعلت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جهة مسئولة وجهازاً خاصاً وهيئة تتولى القيام به وترعاه وتباشره وفق أنظمة شرعية على نهج الكتاب والسنة، مع مراعاةٍ لمتغيرات العصر ومتطلبات الأحوال والناس، وهذا من توفيق الله وفضله لهذه البلاد وأهلها وقادتها، بل هو من أخص خصائصها في رفعها لواء الحكم بما أنزل الله، كتاباً وسنة ودستوراً ومنهج حياة، ورعايتها للحرمين الشريفين مأوى أفئدة المسلمين، وهي كلمة حق تقال وأعمال تُذكر وتُشكر مع ما يُرجى ويؤمَّل من مزيد الدعم والتأييد، فالتيارات كثيرة والمتغيرات متسارعة، والمغرضون كثير، والمتربصون أكثر، ورافعو ألوية الفساد لا يألون جهداً في غرق السفينة، وسنن الله لا تحابي أحداً، فـإِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وليس لفرد ولا لمجتمعٍ حصانة ذاتية، ومن يضمن السلامة حين يتعرض لتيارات الفتن وموجات التحلل عياذاً بالله واعتصاماًً به؟!

    فنسأل الله العلي القدير أن يسبغ على هذه البلاد نعمة الأمن والأمان، وأن يحفظ عليها رخاءها، وأن يثبتها على دينه، وأن يزيدها استقامة على شرعه.

    كما نسأله سبحانه أن يعم بالخير والتوفيق والصلاح جميع بلاد المسلمين، إنه خير مسئول وأكرم مأمول.

    ألا فاتقوا الله رحمكم الله، ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز من قائل عليماً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

    اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين.

    وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر ، و عمر ، و عثمان ، و علي ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين.

    اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.

    اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق والتأييد والتسديد إمامنا وولي أمرنا.

    اللهم أعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم على الحق يا رب العالمين.

    اللهم وفق ولاة أمور المسلمين بالعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.

    اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.

    اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.

    اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.

    اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.

    اللهم إنا نستغفرك، إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.

    اللهم إنا نستغفرك، إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.

    اللهم واجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك، وبلاغاً إلى حين.

    اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنعنا بذنوبنا فضلك، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنعنا بذنوبنا فضلك، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنعنا بذنوبنا فضلك.

    اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك، وإعزاز دينك.

    اللهم انصرهم في فلسطين ، و كشمير ، وفي الشيشان ، وفي كل مكان يا رب العالمين.

    اللهم وانصر إخواننا في الشيشان ، اللهم وانصر إخواننا في الشيشان .

    اللهم سدد سهامهم وآراءهم.

    اللهم كن لهم ولا تكن عليهم.

    اللهم إنهم ضعاف فاحملهم، وعراة فاكسُهم، وجياع فأطعمهم.

    اللهم واجعل الدائرة على أعدائهم، وأنزل عليهم بأسك ورجزك إله الحق.

    اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، واجعلهم غنيمة للمسلمين، وعبرة للمعتبرين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

    رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

    عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.

    فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.





    رد مع اقتباس  

صفحة 3 من 4 الأولىالأولى 1234 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. كيكة على شكل الحرم المكي الشريف
    بواسطة ملكة الأماكن في المنتدى قسم الحلويات والمشروبات والايس كريم
    مشاركات: 18
    آخر مشاركة: 02-Feb-2012, 09:53 PM
  2. مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 30-Sep-2009, 06:28 AM
  3. صور للحرم المكي و الحرم النبوي قديما.
    بواسطة D.O.D.I في المنتدى صور اسلامية
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 02-Sep-2008, 03:13 AM
  4. ™« مصحف الحرم المكى من صلاة التراويح لعام 1426هـ لأئمة الحرم الاربعة »™
    بواسطة هووواوووي في المنتدى تحميل و استماع اناشيد و صوتيات الاسلامية
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 14-Dec-2007, 04:45 AM
  5. سر؟برودة بلاط الحرم المكي
    بواسطة سعوديه وافتخر في المنتدى المنتدى العام
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 28-Aug-2006, 05:20 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

عرض سحابة الكلمة الدلالية

المفضلات
المفضلات
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •