واقع اللغة العربية في وسائل الإعلام
مأزق اللغة العربية أوضح ما يكون في وسائل الإعلام، بحُسبان أنها تمثل الواجهة التي تعكس مختلف التفاعلات الثقافية والقيمية في أي مجتمع. ولأنها كذلك، فإنها تؤدي أخطر الأدوار في الارتقاء باللغة العربية أو الحط من شأنها. ذلك أن التأثير الهائل الذي أخذت تلك الوسائل تمارسه في حياة الناس أصبح يضعها في مقدمة العوامل المؤسِّسة والمشكلة للإدراك العام. ذلك حاصل في كل دول العالم الآن، ولا نستثني من ذلك بلادنا العربية والإسلامية ذلك أنني أزعم أن ما يحدث للغة العربية هو أكثر من الإساءة. وقد كتبت ذات مرة مقالة نبهت فيها إلى أن لغتنا الفصحى تهان يوميا في مختلف وسائل الإعلام العربي، على نحو لا يكاد يتصوره أي إنسان سوي ينتمي إلى هذه الأمة.
ومن مفارقات زماننا، أن اللغة العربية كانت تعامل باحترام كبير حين كانت الأمية سائدة في مجتمعاتنا، حيث شملت ما متوسطه %80 من السكان، وحين كانت أوضاعنا الثقافية ووسائل الطباعة والنشر والاتصال أكثر تواضعاً بكثير مما هي عليه الآن. ولكن حين تراجعت نسبة الأمية، وعمت المدارس والجامعات، وتقدمت وسائل الطباعة والنشر، لقيت اللغة العربية ذلك المصير البائس الذي صرنا بصدده.
نعم ارتفعت في مصر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أصوات دعت إلى الكتابة بالعامية، وإلى كتابة العربية بالأحرف اللاتينية على غرار ما جرى في تركيا، ولكن تلك الأصوات فضلاً عن أنها كانت استثنائية ونشازاً وقتذاك، فإن أصحابها كانوا أيضاً من المتهمين في انتمائهم الأصيل للأمة. فقد كان صاحب استخدام العامية في الكتابة بديلاً عن الفصحى هو مهندس إنجليزي عاش في مصر اسمه ويلكوكس (ترجم الإنجيل إلى العامية المصرية ومات عام1932م). أما الذين أيدوا فكرة الكتابة بالأحرف اللاتينية، فقد كانوا نفرا من المبهورين بالغرب، وكان من أشهرهم عبد العزيز باشا فهمي.
أمثال هذه الدعوات ووجهت بصد قوي من المجتمع، وماتت في مهدها. وكانت الحملة المضادة التي قام بها المجتمع في مقاومته لتلك الدعوات، تعبيرا عن الغيرة على الفصحى والاحترام والإكبار اللذين حظيت بهما آنذاك.
وليس خافيا على أحد الجهود التي بذلتها الدول الاستعمارية لمحاربة الحرف العربي وليِّ ألسنة الجماهير في بلادنا، كما أنه غني عن البيان أن تلك الجهود كلها فشلت، وظلت أمتنا تدافع عن الحرف العربي الذي عد آنذاك رمزا للهوية وراية للانتماء.
ومن مفارقات الأقدار وسخرياتها أن اللغة العربية ظلت صامدة طوال عهود الاحتلال، ولكنها هزمت بعدما رحل الاستعمار، وارتفعت نسبة المتعلمين، وضوعفت معدلات المدارس والجامعات.
الملاحظ في هذا الصدد أن خصوم اللغة العربية في السابق كانوا من المتغربين والمعادين للانتماء العربي والإسلامي، لكن حدود حركة هؤلاء لم تتجاوز المبادرات الشخصية، التي ظلت محدودة التأثير. إلا أن الأمر اختلف الآن تماما من زاويتين. الأولى، أن إهانة اللغة العربية والحط من شأنها أصبح سلوكا عاما في المجتمع، لم يعد مقصورا على فئة دون أخرى، كما أنه غدا عند البعض من آيات الحداثة. الثانية، أن العدوان على اللغة وابتذالها أصبحا ظاهرة عامة في وسائل الإعلام، بتأثيرها الهائل على عوائد الناس وسلوكياتهم.
محنة اللغة العربية في وسائل الإعلام لها ثلاثة مظاهر، هي :
1. شيوع الأخطاء النحوية في العربية الفصحى المستخدمة، والتي هي ركيكة في الأساس.
2 . شيوع الكتابة بالعامية في المقالات والإعلانات، وفي تقديم البرامج التلفزيونية والإذاعية.
3. كثرة استخدام المفردات الأعجمية في ثنايا الخطاب الموجه إلى الملتقى العربي، وفي بعض الأحيان تنشرالصحف العربية إعلانات كاملة باللغات الأجنبية، بل إن هناك مجلات عربية وبرامج إذاعية وتليفزيونية تحمل أسماء وعناوين أعجمية، مكتوبة بالأحرف العربية.
في صحيفة (الأهرام) القاهرية - التي هي من أهم وأقدم الصحف العربية - ثمة إعلان ينشر كل يوم جمعة بعرض ثمانية أعمدة يقول : إن ما كانش عندك أولاد - اكفل طفل يتيم في بيتك - وتحت هذا العنوان الحديث النبوي الذي يحث على كفالة الأيتام. وفي الإعلان خليط من عامية الخطاب وركاكة الفصحى والخطأ النحوي. وذلك ليس استثناء، ولكنه تجسيد للغة كاملة أصبحت تهيمن على المواد التحريرية والإعلانية في الصحف، ناهيك عن تلك التي تستخدم في التليفزيون والإذاعة.
في الصحيفة العريقة أيضا ظهر ذات يوم إعلان على صفحة كاملة لأحد المصارف تقول كلماته ما يلي : كل اللي حوِّشناه حطيناه في الشقة، حنجيب العفش ازاي؟ (أي كل الذي اذخرناه وضعناه في السكن، فكيف سنحصل على الأثاث إذن؟) والإجابة عن السؤال في ركن جانبي، تهدئ من قلق السائل قائلة إن البنك حاضر للإقراض وحل الإشكال.
ربما عنَّ للمعلنين أن الكتابة بالعامية تسهل التوصيل إلى المتلقي، ولذلك فإنهم لا يبالون بالفصحى ولا بالنحو، يشجعهم على ذلك لا ريب أن الصحف لم تعد تكترث باللغة التي يظهر بها الإعلان، لأن كل اهتمامها منصب على مدخوله وحصيلته! لكن مايستلفت النظر في هذا الصدد أن بعض الكتاب أصبحوا يطعِّمون كتاباتهم بعبارات عامية، وهناك آخرون يتزايد عددهم، ينشرون نصوصا كاملة بالعامية.
في أحد ملاحق جريدة (الأنباء) الكويتية وجدت عدة مقالات مكتوبة بالعامية، هذه مقتطفات منها.
تحت عنوان (أقوال مأثورة)، كانت المقولة الأولى كما يلي . كل ريّال كاشخ تلقى مرته غاسله شراعه، لكنه يبى يبين للناس شكثر هو سنع، وشكثر مهتمه فيه وتسوي له كل اللي يبيه.
وفي مقالة عن أشهر عبارات الحب والغزل في التاريخ كما تخيلها أحد الكتاب وردت العبارات التالية، التي يفترض أنها من رجل محب إلى فتاة وقع في غرامها.
ساوصف فيج شخللي منج، طيبه قلبج وضحكه سنج، ونبره صوتج، ولوية حنجج جنج حصان قاعد يتعلج! شهالزين وشهالدلال، الشعر جنه نفيش، والقذله جنها شعر بناتإلخ.
في مقالة تالية تحدث أحد الكتاب عن قصة ذهابه إلى السينما مع عائلته، فاستهل مقالته بالفقرة التالية : كنا ملتمين نطالع أحد الأفلام الأجنبية، أنا وبناتي، وبصراحة مُحلو الواحد يشوف له فيلم وعنده بنت صغيرة مثل بنتي، كل ثلاثين ثانية تسأل . ليش سوَّى هذا جذيه؟ وليش هذي سوّت جذاك؟ هالأسئلة تخلي الواحد يشوف الفيلم أقساط مثل اللي كل ما سألتني بنتي أرد عليها ما اقول لج انتي درسوج انقليزي من أول ابتدائي، والحين انتي بتروحين ثالثه، والمفروض تركزين على الفيلم وتسمعين الحجي وتفهمين. طبعا كلامي ما عجب بنتي النزقه، وبرطمت، وبعدين بجت وبجها غريب عجيب، تقول كميرسير ثلاجه يون.
ليست بلاد المغرب بأفضل كثيرا من بلاد المشرق، فالبلاء عم الجميع، وقد أزعم أن التحديات في المغرب أقوى بكثير منها في المشرق، سواء لأسباب ثقافية تاريخية، بعضها يتعلق بخصوصية الاستعمار الفرنسي المتمثلة في تركيزه على الإلحاق الثقافي، أو لأسباب تتعلق بالقرب الجغرافي النسبي من أوروبا الذي جعل التغريب أشد وطأة، وربما أيضاً لأسباب تتعلق بالتركيبة السكانية وحرص بعض العناصر ذات المصلحة على تقليص دوراللغة العربية، في إثارة نعرات داخلية تفرق الأمة وتزعزع وجدنها وكيانها الثقافي.
غير أني قبل أن أذهب إلى أبعد في تحرير الظاهرة وتقصي أسبابها، أود أن أوضح موقفا أرجو الاتفاق عليه فيما يخص التعامل مع اللهجات المحلية واللغات الأجنبية. وذلك أنني أرى أن وحدة اللغة من عناصر وحدة الوطن من ناحية، ووحدة الأمة من ناحية ثانية. ومع انحيازي الذي لا أخفيه للفصحى، إلا أنني لست ضد العامية بإطلاق، وبداهة فإنني لست ضد تعلم الأجنبية والتمكن منها. لكني أقول بوضوح إن احترامنا للعامية بوصفها لغة التعامل اليومي في أقطارنا، واحترامنا لتعدد اللهجات واختلافها في العالم العربي، لا ينبغي أن يكون على حساب وحدة اللغة في الدولة أو على حساب الفصحى بأي حال. وكنت أتصور أن يتطور خطابنا بحيث نقرب العامية إلى الفصحى، ولكن الذي حدث هو العكس للأسف الشديد، فقد زحفت العامية على خطابنا على نحو أدى إلى تراجع مستمر للفصحى. ولا أريد أن أقول كلاما نكرره كثيرا حول أهمية التمكن من اللغات الأجنبية، ليس فقط لضرورة التفاعل مع الثقافات الأخرى، ولكن أيضاً لأن هناك لغات تتقدمها الإنجليزية، أصبحت سبيلا وحيدا للتواصل في ظل ثورة الاتصال الراهنة. لكني ألح على أن التمكن من اللغات الأجنبية يصبح قضية ثقافية وحضارية إذا سبق التمكن من اللغة العربية، بل يصبح مقدمة للانتحار الثقافي إذا جاز التعبير.
ومن المؤسف أن عالمنا العربي يركض على نحو مفجع صوب تعلم اللغات الأجنبية، بينما تتسارع بذات القدر معدلات هجرته للغة العربية. وذلك أوضح ما يكون في مدارس تعليم اللغات التي اكتسحت حقلنا التعليمي، وفي جامعاتنا التي افتتحت كليات العلوم الإنسانية فيها أقساما تدرس باللغات الأجنبية أصبحت هي الأرفع مكانا والأكثر استقطابا وجذبا للطلاب، وذلك وجه آخر للكارثة الثقافية أشير إليه إجمالا وبسرعة، لأن التفصيل فيه يخرج على نطاق موضوع الورقة.
نحن نظلم الإعلام ونتجنى على الحقيقة إذا ركزنا على تراجع اللغة العربية الفصحى في نطاقه وحده. وقد أشرت في الأسطر الأولى لهذه الورقة إلى أن الإعلام هو المرآة العاكسة لمختلف تفاعلات المجتمع وتحولاته، أعني أنه يبرز الظاهرة ولا ينشئها. ذلك أن تراجع الفصحى ليس مقصورا على الإعلام وحده، ولكنه يمثل ظاهرة عامة في المجتمع، فالعامية أصبحت تستخدم في السياسة والفن وواجهات المحلات، وفي مختلف نواحي الحياة. وإذا كانت بعض المجلات العربية تحمل أسماء أجنبية مثل (فلاش) و(ستار لايت جايد)، وإذا كانت بعض برامج التلفزيون تمضي على ذات الطريق فنسمع عن برنامج باسم (زوم) وآخر عنوانه (فلاش شو) وثالث بعنوان (ويك إند)إلخ، فذلك حاصل أيضا في المجالات الأخرى كافة. وفي واجهات المحلات التجارية وأسماء المقاهي وأسماء الأفلام والمسرحيات، وغير ذلك من أنشطة الثقافة والسياسة والاقتصاد.
إزاء ذلك، فإنه يغدو مهما للغاية أن نبحث عن إجابة للسؤال . لماذا حدث ذلك الانهيار في استعمال اللغة العربية الفصحى؟
في رأي عالم اللغويات تشارلز كيفر (أن موت اللغة يتحقق عندما يهتم المرء بأن يتحدث بلغة أخرى يجد أنها أكثر فائدة له اقتصاديا وفكريا، وهو ما يدفعه أيضاً لأن يحرص على أن يصبح إنساناً آخر، وأن يجد فرصة عيش أفضل، ومن هنا يكون من العبث الدفاع عن لغة وعن وضع إثني سوف يتحولان بمضي الوقت إلى (فولكلور) قديم الطراز).
لا أريد أن أذهب بعيداً في التشاؤم، فنحن نتحدث هنا عن هزيمة الفصحى وإضعافها، لا عن احتمالات موتها، إلا إذا قصدنا موتا مجازياً على ألسنة الناس، يعزل الفصحى عن الواقع المعاش، ويحولها إلى لغة لبعض الفقهاء وأهل الاختصاص، على غرار اللغة اللاتينية التي لم تعد تتداول إلا في الكنائس وفي أوساط نفر من الباحثين. ذلك أن وجود القرآن وثباته ضامنان لاستمرار اللغة، التي سيظل المسلمون -حيثما وجدوا -يؤدون بها صلواتهم إلى يوم الدين، ولذلك فإذا كان هناك من يتحدث عن انقراض بعض اللغات واللهجات من اللغات السائدة اليوم (عددها 6700 لغة حسب إحصاء منظمة اليونسكو)، فالقدر المتيقن أن العربية الفصحى ليست من بين ما هو مرشح للانقراض في الحاضر أو المستقبل.
فيما يخص السؤال لماذا.؟ فإن الفكرة الأساسية التي تحدث عنها تشارلز كيفر مقبولة بصورة جزئية، لكن الأمر أكثر تركيبا، كما أنه يحتاج إلى بعض التفصيل في هذا الصدد، فإنني ألفت النظر إلى مجموعة من الأسباب هي :
* تجتاح العالم العربي حالة من الهزيمة النفسية، استصحبت حطّا من شأن الذات وانبهارا بالعالم الغربي بكل ما فيه، من اللغة إلى نمط الحياة والسلوك. وهو ما سرب لدى الناس في بلادنا وهما مفاده أننا لكي نتقدم فسبيلنا إلى ذلك أن نتخلى عما عندنا ونلتحق بالآخرين، الأمر الذي يرتب تلقائيا إقبالا على "الانخلاع" من مقومات الخصوصية والانتماء، إذ إن الهزيمة حاصلة في المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية، لكن أخطر ما أسفر عنه ذلك الوضع هو تلك الهزيمة النفسية، التي أصابت الذات وضربت في الصميم جذور الانتماء.
ولأن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب، كما ذكر ابن خلدون، فإن أمورا كثيرة تغيرت أو انقلبت في حياة العرب والمسلمين من جراء ذلك الوضع، وكانت لغتهم من بين ما لحقه التغيير والانقلاب.
قرأت حديثا لمعلمة لبنانية حول تجربتها مع اللغة قالت فيه : " إن اللغة العربية في المجتمع اللبناني باتت كالتهمة. وفي الأحاديث العامة فإنك إذا لم تكن تجيد اللغتين الفرنسية والإنجليزية، أو إحداهما على الأقل، فأنت تعد إنساناً غير عصري De Mode. وبسبب من ذلك فإن المعلمة لكي تساير التيار ولا تبدو غريبة أو شاذَّة، فإنها لجأت إلى تطعيم كلامها وردودها على الآخرين بكلمات فرنسية، حتى تجنب نفسها الحرج، وتقف على قدم المساواة مع الآخرين في (التقدم) " (الحياة اللندنية 18/10/2002).
هذا الذي لجأت إليه المعلمة اللبنانية حاصل في أغلب -إن لم يكن كل- أقطار العالم العربي، حيث أصبح استخدام المفردات والمصطلحات الإنجليزية أو الفرنسية من علامات التقدم ودلائل الرقي.
* في الوقت ذاته فثمة واقع عربي يعد التردي من أبرز سماته. ومن مظاهره انهيار النظام العربي، وغياب المشروع أو الحلم المشترك، وتراجع الحس والانتماء القوميين، وهو ما أدى إلى تكريس القطرية وتنامي المشاعر الإقليمية والعصبيات الجهوية، ثم أسفر في نهاية المطاف عن تراجع فكرة الأمة في الإدراك العام. بل إننا قرأنا كتابات لنفر من المثقفين شككت في مبدأ وجود الأمة العربية، ناهيك عن الإسلامية، وعدَّتها شيئا تخيله نفر من الحالمين وراحوا يبشرون بها بين الناس.
وأرجو ألا أكون مفرطا في التشاؤم إذا قلت إن الانتماء العربي في هذه الأيام لم يعد مصدراً للاعتزاز بين أعداد غير قليلة من المثقفين. وحين يحدث ذلك -وأرجو أن أكون مخطئا في التقدير- فلا غرابة في أن تتقطع وشائج الانتماء واحدة تلو الأخرى، وأن تنهزم الفصحى، وتزدهر العامية.
وإذا ما صح ذلك، فهو يعني أننا في حقيقة الأمر بصدد أزمة أمة لا أزمة لغة، أعني أن الأحوال المتردية تفرز أصداء في مناح عدة، وما نحن بصدده هو بعض تلك الأصداء. وقد كان ابن حزم حصيفا وبليغا حين ذكر في كتابه (الأحكام)، أن اللغة يسقط أكثرها بسقوط همّة أهلها. وهو ما أراه منطبقاً بدقة على واقعنا العربي الراهن. ذلك أنك لا تستطيع أن تتصور - مثلا- اعتزازا باللغة القومية في أزمنة تراجع الحس القومي، ويتعذر أن تجد تمسكا باللغة العربية في وقت يظن فيه أن المستقبل للمتمكن من اللغة الإنجليزية، أو الفرنسية. (للعلم في أثناء تشكيل إحدى الوزارات العربية نشرت الصحف في القطر المعني بيانا بالمواصفات التي توخاها رئيس الوزراء الجديد في اختياره لأعضاء حكومته، وكان من بينها ضرورة إجادة اللغة الإنجليزية).
* وإذا اهتز البنيان العربي على ذلك النحو، فقد كان من اليسير على رياح التغريب أن تخترقه وتعصف به حتى تهدده من الأساس. وقد هبت تلك الرياح من جهتين . جهة شرائح النخبة التي تعلقت أبصارها بالغرب وانسحقت أمام كل شيء فيه، حتى عدَّته نموذجا وحيدا -وأحيانا حتميا- للتقدم. ومن ثم، فإنها باتت على مسافة بعيدة من بعض مقومات الانتماء لهذه الأمة، وفي المقدمة منها العروبة والإسلام. أما الجهة الثانية، فقد تمثلت في قنوات البث الفضائي، التي تكفلت ثورة الاتصال بحمل رسالتها إلى الجهات الأربع في الكرة الأرضية. ولأسباب مفهومة فقد كانت رسالة البث الأوروبي والأمريكي هي الأقوى تأثيراً ومن ثم الأقدر على الإسهام في إعادة تشكيل الإدراك العام في أقطار العالم الثالث بوجه أخص، ونحن جزء منها بطبيعة الحال، إذ حين تكون واجهات محلاتنا باللغة الإنجليزية، ومناهج مدارسنا الخاصة، حتى في مرحلة الحضانة، تركز على الإنجليزية، وحين يكون التواصل عبر الإنترنت بالإنجليزية، وأهم وأنجح الأفلام والبرامج التليفزيونية بالإنجليزية، فكيف نتوقع أن تقوم للعربية قيامة في مجتمعاتنا؟!.
* أزعم أيضا أن انتشار قنوات البث الفضائي العربي كان له دوره أيضاً في الترويج للعامية في كل قطر، ذلك أن مقدمي البرامج كثيرا ما يعمدون إلى استخدام المفردات العامية، سواء من قبيل التبسط ورفع الكلفة، أو مظنة التظرف والنفاد إلى عقول وقلوب المستمعين، أو بسبب قلة البضاعة في اللغة العربية. والمشاهد لتلك القنوات يستطيع أن يلمس في مقدميها أن قلة قليلة فقط هي المتمكنة من العربية، بينما الأغلبية تخاطب المشاهدين إما بعربية مكسرة، وإما بالعامية الدارجة.
يقتضي الإنصاف أن نشير إلى أن المسألة تتجاوز مقدمي البرامج التلفزيونية، برغم أن الأضواء مسلطة عليهم بقدر أكبر، لأن قلة البضاعة في اللغة العربية سمة عامة في مجمل المشتغلين بالإعلام، وأكاد أقول إنهم قلة أيضا بين عموم المثقفين العرب. ولأنني أحد الذين تتاح لهم فرصة حضور الندوات والمؤتمرات في مختلف العواصم العربية. فبوسعي أن أقول إن ثمة تراجعاً محزنا في إحاطة الشريحة الأوسع من المثقفين باللغة العربية. وفي إحدى الندوات استمعت إلى رئيس تحرير إحدى المجلات الشهرية العربية، الذي ألقى كلمة عددت له فيها 24 خطأ لغويا. وكان إلى جواري أحد المسؤولين عن مؤسسة سلطان العويس بدولة الإمارات العربية، التي تخصص جوائز سنوية للمبدعين العرب، فقلت له مازحا إن صاحبنا هذا يستحق جائزة العويس في الأمية العربية بحسبان أنه (أبدع) في إهانته للفصحى!
*لدي شكوك قوية في أن أزمة الديمقراطية في عالمنا العربي لها دور في تدهور أوضاعنا الثقافية، بما في ذلك هزيمة الفصحى وعلو شأن العامية في عموم مجتمعاتنا، وفي وسائل الإعلام بوجه أخص. لقد تمثلت تلك الأزمة في إحكام الرقابة على العقل العام، وفي تغييب فرصة مشاركة الشعوب في تقرير مصائرها، واتساع الفجوة بين السلطة والمجتمع، الأمر الذي أفقد السلطة القدرة على التعبير عن ضمير المجتمع وأشواقه. وتجلى ذلك التغييب في احتكار السلطة لصالح فئات معينة -أسر أو شرائح أو طوائف- وأيضاً في تكرار حالات تولي العسكر للسلطة. وفي حالة العسكر فإننا لاحظنا أمرين . الأول، أنهم- أغلبيتهم الساحقة على الأقل-كانوا من متوسطي الثقافة العامة بطبيعة تكوينهم وتبنوا بصفة دائمة خطابا عاميا، رددته مختلف أبواق السياسة والإعلام. أما الأمر الثاني، فإنهم تخيروا بطانات من بين ما عرفوا بأهل الثقة، الذين كان الولاء السياسي هو العنصر الأساسي في اختيارهم، وهو ما أدى إلى تراجع الكفاءة السياسية والقيمة الثقافية. ولأن الإعلام كان السلاح الثاني الأهم-بعد الجيش وأجهزة الأمن-الذي استخدم في تمكين هؤلاء الحكام، فإنهم نصَّبوا على رأسه نفرا من أتباعهم، الذين كانوا بدورهم من أهل الثقة، وبعضهم كانوا من العسكر. وكانت نتيجة ذلك أن تدهور مستوى الأداء الثقافي لتلك الأجهزة، الأمر الذي ترتبت عليه كوارث ثقافية كثيرة، كانت هزيمة الفصحى إحداها.
لقد عشنا زمانا كانت فيه القمم الثقافية وقيادات أجهزة الإعلام من انتخاب المجتمع، لكن الصورة تغيرت جذريا في العقود الأربعة الأخيرة، حيث أصبحت تلك القيادات من انتخاب السلطة واختيارها، وهو ما حرصت عليه الأنظمة الاستبدادية كافة، التي أدركت مدى القوة التي أصبح الإعلام بها في العالم المعاصر. ومن ثم حولت منابر الإعلام من مراكز للتنوير والتعبير عن ضمير الأمة، إلى أبواق للدعاية وتسويغ ممارسات السلطة وتجميلها.
وكان ذلك سببا كافيا لتدهور أوضاعها، سواء على صعيد المضمون أو على صعيد الشكل.
إننا بصدد معركة حقيقية، تبدو في ظاهرها دفاعا عن اللغة العربية، ولكنها في عمقها وجوهرها دفاع عن الهوية والانتماء، ودفاع عن الوجود العربي ذاته، في مواجهة رياح التغريب والاندثار. وتظل نخب المثقفين العرب هم الطليعة في هذه المعركة، وهم الكتيبة التي تقف في الصفوف الأولى مدافعة عن هوية الأمة ولغتها.
ولا نستطيع في هذا المقام إلا أن نعبر عن الحزن والأسف لأن منظمات عربية عدة مثل مؤتمر وزراء الإعلام العرب، واتحاد الصحفيين، تقف متفرجة على ذلك المشهد الذي تصرع فيه اللغة العربية في وسائل إعلامنا كل يوم. ولا يستطيع المرء أن يكتم أسفا أخر حين يجد خطابنا الإعلامي يتحوط إلى أبعد مدى في التعامل مع الزعامات والقيادات السياسية، بينما يستبيح عرض اللغة العربية بجرأة تدعو إلى الدهشة.
وبرغم أنها أزمة أمة في الأساس، فإننا لا نستطيع أن ننتظر حتى تصلح أحوال الأمة، لكي يستقيم حال اللغة العربية في وسائل إعلامنا، وإنما لا يزال بأيدينا الكثير الذي يمكن أن نفعله دفاعا عن الفصحى؛ إذ ما أسهل أن تعالج الأخطاء النحوية في المواد الإعلامية التي تنشر أو تبث، و ما أسهل أن تتخذ الصحف موقفا حازما من نشر الإعلانات بالعامية أو بالمفردات الأعجمية، إذ برغم أن المعلن في موقف قوي لأنه هو الذي يدفع، فإن موقف وسائل الإعلام ليس ضعيفا تماما، لأنها المنابر التي يطل من خلالها المعلن على القارئ أو المستهلك. ومن ثم فإذا كانت لديه أوراق ضغط على الصحف مثلا، فإن هذه الأخيرة لديها أوراق ضغط أخرى مقابلة تستطيع أن تحافظ بها على ما يفترض أنه ثوابت ومصالح عليا للمجتمع. في الوقت ذاته فإن تمسك وسائل الإعلام باحترام الفصحى، وإلزامها العاملين فيها بأن يكون استخدامهم للعامية على سبيل الاستثناء وفي حالة الضرورة القصوى، مثل هذا الإجراء يظل في حدود الاستطاعة إذا توافرت الإرادة لذلك.
إن وسائل الإعلام أمامها طريقان: أن تنساق وراء التيار الزاحف والضاغط، أو أن تمسك بموقع الريادة والتوجيه، وتحاول أن تقود المجتمع نحو الأرشد والأفضل. وعند الشرفاء المخلصين للوطن ولرسالة مهنتهم فإن الاختيار ليس صعبا، ولا بديل عن النهوض بدور الريادة والتوجيه والتنوير، برغم أنه يمثل سباحة ضد التيار في الظروف الراهنة.
وليس من شك في أن هذا الجهد الإعلامي يمكن أن يحقق هدفه على نحو أفضل، وفي وقت أقصر، لو توافر ظرفان : الأول إرادة سياسية تدرك أهمية اللغة العربية، وتعلن انحيازها لها فيما تمارسه من أفعال وما تتبناه من خطاب. نعم إن ثمة دولا دافعت عن لغاتها بما أصدرته من قوانين، كما حدث في فرنسا مثلا، وهذه خطوة مهمة لا ريب، يكملها أن تبادر سلطة الإدارة باحترام اللغة الوطنية وإظهار التمسك بها. أعني أن تقدم النموذج الذي يحتذيه الناس ومن ثم يربى عليه المجتمع. أما حين يخطب رئيس دولة عربية باللغة الأجنبية، فإن تصرفا من ذلك القبيل يهدم كل جهد آخر يبذل أو دعوات تطلق للدفاع عن الفصحى في المجتمع.
الظرف الثاني المهم يتمثل في تنشيط جهود مجامع اللغة العربية لكي تضع بين أيدي المعنيين البدائل العربية للمصطلحات الأعجمية التي تشيع بينهم، لأنه ما لم يتوافر البديل فإن استخدام اللغات الأخرى يصبح خيارا وحيدا، الأمر الذي يفتح ثغرة في دعوات الالتزام بالفصحى قد يتعذر احتواء تداعياتها.
إنني لا أجد ما أختم به هذه الورقة أفضل من ذلك النص الذي وضعه الأستاذ الأول لفن الكتابة العربية (عبد الحميد الكاتب) الذي ألف قبل ثلاثة عشر قرنا "الرسالة إلى الكتاب" قال فيها :
حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفقكم وأرشدكم، فإن الله عز وجل جعل الناس - بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين وبعد الملوك المكرمين-أصنافا، وإن كانوا في الحقيقة سواء. فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات، أهل الأدب والمروءة والعلم والرواية. فليس أحد أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة، وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيها الكتاب. فتنافسوا معشر الكتاب في صنوف الآداب، وتفقهوا في الدين. وابدءوا بعلم كتاب الله عز وجل، ثم بالعربية فإنها ثقاف ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار، واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم، وأحاديثها وسيرها، فإن ذلك معين لكم على ما تصبو إليه هممكم، وتحابوا في الله عز وجل في صناعتكم، وتواصوا عليها بالذي هو أليق بأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم. إلخ.
ترى ماذا يقول عبد الحميد الكاتب لو قدر له أن يعيش زماننا ويطالع صحفنا؟!
,hru hggym hguvfdm td ,shzg hgYughl