سمعت سلاف ندى تردد أكثر من مرة كلمات عن الحب مثل: "الحب نبوءة تتحقق مع كل نبض قلب حقيقي"
" الحب وتر الشباب الذي يعزفون عليه المستحيل"
" مَنْ يعتقد أنه لا يحب، فليخرج مساء ليلة مقمرة و سيدله البدر الجميل إلى خفايا روحه العامرة بالعشق"
" مَن يعتقد أن شبابه يمر دون معزوفته الخاصة، فليجرب الانتظار ولو للحظة وبيده وردة، ثم يقدمها لأول أنثى يصادفها ويبتعد بهدوء، وسيكتشف أنه أكثر من شاب مميز وله روحه الخاصة والجذابة، وقادر على فعل شيء جميل"
أُعجبت بما تردده ، وآخر جملة قالتها ليلة أمس هي: " الحب هو عش الفتيان الدافئ "
توقعت خلال أيام أن تبادر سوزان، أو حتى ندى لتعرفاها بإبراهيم، أو وائل لم تفعلا وإن ظهرت لدى سلاف مثل هذه الرغبة، لكنها تركتها وراء ظهرها لوقت آخر
تحدثت سوزان بحماس عن إبراهيم، ووسامته الرائعة وذكائه المتميز، ونقلت إليها بعض أفكاره، وآخر ، ماقاله لها:
" فلنستمع إلى الآخرين قد يكون لديهم ما نبحث عنه، أو ما نفتقده"
" أصغر قيمة في معيار الحب القبلة، وأعظم قيمة فيه هي الكلمة التي تجعل القلب كالمطر والروح قوته التي لا تنضب"
" مادام تراب الأرض البني يولد الأخضر، فالقلوب أيضاً خضراء والحب أخضر وأبدي "
تفاعلت سلاف خلال أيام مع صديقتيها وجدت نفسها معنية بهما أو كأنهنَّ واحدة في ثلاثة وبقي الحب سؤالها الذي راح يدغدغ أعماقهما قالت : هما عاشقتان من الطراز الأول. أما أنا، فمن دون هوية محددة أشبعت بحكايتين عن الحب : حكاية سوزان، و قصة ندى من جهة، وحكاية جدتي الفاشلة من جهة أخرى
وبعد حوار ذاتي متكسر والاستماع إلى صوتها الباطني ، وجدت أنها رهينة ماضي جدتها وتاريخ ضيعتها ثم شعرت بتسلل عشق خفي إلى أعماقها دون قدرتها على إدارته فاكتفت بمراقبته عن بعد.
حدثتها سوزان عن التوازن الذي عاد إلى أسرتها كنتيجة لتناسي أمها موضوع تطهير الوالد من آثامه بقيت بين الاثنتين حدود لجبهة باردة مشروطة ودون مراقبين من أمم المشاعر اعتبرتها سوزان حالة من اللاستقرار بينهما
قررت سلاف حضور محاضرة للدكتور إبراهيم وسألت إحدى الزميلات عن برنامجه، وبعد حين اعتبرت ذلك خيانة كبيرة ولا يحق التعرف إليه، أو إلى وائل دون دعوة صريحة منهما
أهملت الأمر على إيقاع ذكريات الضيعة واستعادت ذكريات طفولتها حاولت ترتيب ذلك على وريقات خاصة كتبت عشر صفحاتبدأت بعلاقتها مع والديها وأخوتها، ثم أهالي الضيعة ورفاقها في المدرسة استوقفتها هذه الذكريات الدافئة، فكتبت:
<< أتذكر أنني أحببت البرية وأماكن رعي الأبقار كثيراً، عرفت سفوح الجبال وجروفها المتكسرة كالقصب على شكل انحدارات حادة توحي بزلازل عبرت من هنا في زمن غابر الربيع ينهض يقف على ساقيه ، ويقدم لي الزهور ، مع بدايته تكثر الحشائش ، وتصبح الأبقار أهدأ ولا أنظر إليها وهي جائعة، أو ضعيفة كما هو الحال عند نهاية الصيف، فلا يمكنني تحمل ضعفها أتذكر من أسماء الأبقار( شرابة) وهي بقرة طويلة مرتفعة، عيناها قائمتان وحولهما خطوط بنية، لونها قرميدي محروق، عنيفة وتنطح لمجرد هبة ريح تلامسها مثل كتيبة جيش أمريكي ، الأخرى ( حمورة) أسماها والدي بذلك الاسم لوجود جزر حمراء بين لونها الداكن، وكانت مسكينة وتفهم أشياء وإشارات كثيرة تعلمتها منا واسم ثالثة( عدالة )، لونها ترابي مائل للسمرة ، قليلة الارتفاع عن الأرض، ، ضرعها كبير ، كثيرة الحليب، عندما باعها والدي بكيت وبكيت حتى أعطاني الشاري خمس ليرات، فرفضت ذهبت البقرة وبقيت ذكراها أكل عجلها نبات (الرزين) وهو نبات سام، فمات وأحدث كارثة في البيت بكت أمي على خسارته أحببت ركوب الجحش رماني مرة وأصبت برضوض تصبح الوديان ككتاب تلميذ كله حكايات جميلة يحبها ولا يشبع من تكرارها والصخور المبللة بالمياه تبدو كألواح مرايا واسعة تعكس نور الشمس تارة كخيوط من فضة وتارة أخرى كخيوط من حرير ، وتبقى كذلك حتى منتصف شهر أيار أما الصباح، فلا يعني لنا الحيوية وأصوات العصافير وبداية العمل فحسب، بل هو امتداد لحكايات السمر وحنين خفي لنكون أبطالا حقيقيين نترجم ما سمعناه إلى عمل فروسي، والمساء يفضح الأكف التي لم تفلح في بلوغ مآربها كل شيء يتوهج : فانوس الكاز القديم الذي يتفرج على سخانة الكهرباء بجانبه نقيفة الأولاد وبندقية الصيد بابور مهمل بجانب فرن الغاز خرق الخيش وأكياس النايلون شياه ودواجن ونوافير معقود المشمش والمعلبات ومقالي العوازي مريول المدرسة وقمصان البالة المخصصة للعمل في البستان شحاطات الغوما ، وكندرات آخر طراز ، أواني النحاس والفخار ، المنخل والميزر والجرن والمدق ملاعق الخشب >>
تحفزت ، وشعرت بإمكانية كتابة مجلد ضخم عن أسماء العوائل والأشجار والنباتات والطيور والأحداث والممرات الجبلية التي تحفظها عن ظهر قلب نقذ قلبها من صور التناقض التي أخذتها إليها وبعد حين ، أطلقت طلقة طائشة على تسرعها ، وقالت :" إنه الريف القرية الجامعة للزمن بكل نوباته " ملت لعبة الذاكرة ، أو التسلية معها بعد وقوفها أمام عالم متباين متسارع يندفع ومعه هجير الزمن المتسكع بالقرب من عجلات التحضر رمت حماسها جانبا لتقف عند حكاية قروية حكاية شاب متميز من ضيعتها عشق فتاة من قرية مجاورة، ثم تزوجها وبعد زواجه بسنة واحدة أصيب بشلل نصفي أنجبت له حبيبته طفلاً آمن بالله وبهذا الطفل خرجت زوجته للعمل في الأرض لتأمين حاجات الأسرة الصغيرة بعد ثلاث سنوات تحسن الشاب وراح يساعد زوجته، وعندما حاول بعض الأهالي الإحسان إليه رفض رفضاً قاطعاً لكنه قبل معاونتهم له في الأرض أنجب أولاداً وكوّن أسرة وأثناء عمله في المزارع راح يغني ويغني قبل ذلك لم يغنِ أبداً أعجب الفلاحون بغنائه وأصبح فنانهم الشعبي أثناء المواسم والمناسبات كسب حب الناس ، وقلده الشباب
واجهت مساءً وهي في طريقها إلى الدكان حواراً حاداً بين زميلتين لها حول الأستاذ رضوان وقفت معهما لبعض الوقت وسألتاها عن رأيها به ارتبكت احمرَّ وجهها ، اجترعت السؤال الزعاف ، ومضت تحت تأثير حرج مباغت ، فقالت إحداهما:
- حتى أنت يا سلاف أربككِ الأستاذ رضوان؟
سمعت مثل هذا الكلام من قبل، وحاولت تجنبه بهدوء، مع تأكدها أن رضوان هو مثار إعجاب الطالبات والطلاب، وضبطها لمنسوب الغيرة إلى أدنى مستوى