ابتسم ، وقال في تمهل :
- إنك تنظرين إليّ، ثم كيف أساعدك؟
- لا أعرف لكنك ذكي ولديك ما تقوله لي.
- استطعت مساعدة نفسي وأهلي ولا أزال أكافح، وأبذل جهوداً مضاعفة، ولو لم يقف والدك أمام كفاحي، خاصة في بداياتي لكنت نجحت أكثر وبتعب وجهد أقل، وربما أمثاله يمنعون ويكبحون تطور كثير من الشباب ويدمرون حياتهم.
بهذا القول زاد الأمر تعقيداً وحملني أعباء أكثر إذن ، جيل يدمر بسبب أبي وأمثاله؟ تساءلت
ودون جواب شرح لي العلاقة المترابطة بين الفساد والخراب الأخلاقي الشامل، ثم الكارثة الناجمة عن محاولة أؤلئك إخضاعنا وجعلنا نفكر كما يريدون وسلبنا حتى حرية التفكير على أساس أنهم عباقرة وأذكياء وخبراتهم كبيرة، بمعنى يراد لنا ما يريدون وعلينا إتباع تلك الإرادة،أي الاستحواذ علينا، فتلك هي كارثة الكوارث وهنا أشار لماذا لا توجد تنمية وتجدد وتطور لماذا تحولنا إلى عبيد لهم جردونا من أسلحة النقد والرؤيا أغرقونا في الفقر ، فتمكنوا من ضبط المجتمع بعد أن جردوه من قواه وذلك انتصار لهم
كان كلامه ضبابي وغير مفهوم تماما ، أجرى مقاربات عديدة ، ومثّل لي بعض الأمور بشرح بسيط ، كنت كتلميذة أتعلم منه
بدأت أرى وأتلمس كل ما قاله في شوارع دمشق أغنياء من ضباط وأولاد مسؤولين كبروا بسرعة وبأيدهم الثروة والسلطة ينخرون المجتمع دون رحمة تذكرت اتصالات والدي الهاتفية علاقاته زملاءه الضباط ، وزوراه من المجتمع المخملي،أحاديثهم وعلاقاتهم وخصوماتهم ، صفقاتهم حللت ماضيه راقبت سلوكي وتصرفاتي سلوك أخوتي أحسست بالجريمة التي نقوم بها في كل يوم يمر رقّ قلبي على الأطفال الذين يبيعون العلكة وعلب السجائر ويمسحون زجاج السيارات في الشوارع رافقت أحدهم إلى بيته ، كان يسكن في مساكن برزة أسرته مكونة من ستة أطفال ، والده مشلول ، أصيب في حرب الـ73 ، ابنه الكبير سافر إلى بيروت للعمل وزوجته مريضة بالسكري اشتكى لي وحملني سلاما إلى والدي ، وقال إنه لا يعرفه سألته، إنْ كان عاتبا على الضباط أجاب بصمت وأشار إلى كرسيه المتحرك وقال بأن هذا الكرسي هو كل ما قدمته له الدولة عاودت زيارة ذلك البطل الذي واجه سرية للصهاينة بآخر ما لديه من قذائف في الجولان المحتل ونجا بأعجوبة
تذكرت أن والدي نجا من معركة ما بنجاحه في الفرار وتفاخر بذلك تحدث عن الجنود الذين ماتوا كأنه يتحدث عن دجاج نفق
قارنت بروح ناقدة بين هذا المناضل ، وبين أبي الذي يتمتع بالجاه والمال وبين حال ذلك الجندي حكيت لأمي ، وذهبت معها لزيارته أقامت معهم علاقة صداقة وتبنت تعليم ذلك الطفل على نفقتها الخاصة اعتبرت ذلك واجبا
ما فعلته أمي كان بسبب إبراهيم الذي باركت له نجاحه في إنقاذ طفل برئ من الضياع
سألته عن رأيه حول المبادرة الخيرة ، وعن سبب عدم خروج الفقراء للمطالبة بحقوقهم أجاب بوضوح:
- قد يكون لديَّ جزء من الجواب، والبقية تعرفينها بنفسك، وأجاب عن الجزء الذي أشار إليه، وقال : لأنهم استطاعوا تطوير شيء واحد فقط وضحّوا كثيراً من أجله ، وسيضحون من أجله بالغالي والنفيس ألا وهو فن الإسكات، لقد أحسنوا جيدا تطوير أدوات القمع والإرهاب بشكل رائع وأنفقوا وينفقون من أجل ذلك أموالا طائلة هم عباقرة في ذلك ، ونافسوا أكبر الدول المتقدمة ونجحوا في ترسيخ التخلف والقمع عشرات السجون تنتظر من يطالب بحقه وآلاف وسائل الترهيب قابعة خلف بوابة كل مواطن هذا ما بنته الدولة التوليتارية
سألت سلاف:
- تتتتتتتووووو لييي؟
-التسمية غير مهمة
- أريد أن أعرف
- تعرفين في حينه
ثم تابعت :
- فهمت عليه، طبعا بعد شرح ، وأخذ ورد تكلم قليلاً عن دمشق وبغداد والقاهرة عن المدن الجريحة وعبر عن رغبته بزيارة إنطاكية والقدس ودعته على أمل اللقاء جئت إلى البيت وكانت أمي بانتظاري على أحر من الجمر تناولنا الطعام سوية وبشهية حدثتها عن إبراهيم وحدثتني عما يجول في رأسها:
- اسمعي يا بنتي ما يجري في بيتنا ليس أزمة أو مصيبة لا سمح الله لا لا أبداً، ولا حتى محاكمة ولا توجيه عقوبة أو استنكار، أو إدانة وإنما مصالحة مصالحة بين أفراد الأسرة ومحاولة جدية لجعل والدك أكثر طهارة ونبلاً، وليعود إلينا كما كنا نتصور قبل اعترافاته: الرجل العطوف والعفيف والسوي والأمين ونريد منه العمل معنا لتحقيق ما كنا نؤمن به سوية، وبالتالي عودة السعادة إلى الدار التي قد يهدمها أرى يا بنتي أن اعترافاته هي نصف الطريق إلى تحقيق الهدف لقد تجرأ واعترف، وسيتجرأ ويتوب لقد تحمل تهمنا ولا نريد منه أكثر من ذلك ولا حتى الضغط عليه أو إشعاره أنه في مأزق أو مكتب تحر وإنما بين أولاده وزوجته الذين يحبونه ويريدون له كل الخير
اقتنعت بأفكار والدتي، ووجدتها متقدمة على أفكاري وحسب رأيي النتيجة هي الأهم
أمضى الوالد سهرة ذلك اليوم خارجاً تابعنا حياتنا الروتينية وعلى مدى أربعة أيام تعاملت الوالدة معه بلطف زائد ، أما أنا فرحت أقبل يديه كلما عاد من العمل ارتاح لتصرفنا ولاهتمامنا به بعدها شعرت والدتي بإمكانية التحدث إليه حول التوبة استمر نقاشنا وتكثف حول ردود فعله، خاصة وأنه ضابط كبير لم يعتد على الاستجواب أو التنازل أمام أحد، ثم شعوره المطلق والمزروع في خلجات روحه أنه الأقوى والمطاع وهكذا بدأت أمي معه الكلام : " نحن بخير ولسنا بحاجة للمزيد، كل شيء متوفّر عندنا، بدل المزرعة مزارع، وبدل الشقة شقق، و زرنا نصف الدنيا ، فماذا نريد أكثر من ذلك ؟ " واعترفت أمامه أنها كانت غافلة عن تصرفاته الخاطئة والغنى الفاحش غير المبرر، ومصادر الثروة اللامحدودة لا قيمة لها في النهاية رجته أن يتوقف عن السرقة، وألا يحضر شيئاً من الفرقة العسكرية فوعدنا أن يتوقف واعتبرنا ذلك انتصاراً وحسب قناعتنا سيترتب عليه تغيير سلوكه، وإلغاء شبكة المتعاونين معه من جنود وتجار وضباط