علمني وإخوتي السنة التالية، وأطلع أخي الكبير عصام أثناء التدريس والرحلات التي قاما بها في أوقات الراحة على تفاصيل حياته المثيرة وتعاملت معها كشيء يدعو للتسلية حاول إخباري بعض الأشياء عن مواجع أسرته ، استهرت بما قاله ، و لم أهتم لذلك أبداً كفتاة صغيرة لها همومها وأحلامها الخاصة التي تتلخص في الذهاب إلى ملاعب الأطفال والحدائق ومزارع الوالد وتمضية الوقت مع اللهو وشراء الملابس والهدايا ، وما شابه ذلك ردد أخي أمامي حكاية إبراهيم التي تشبه حكاية خيالية، حكاية عن إنسان قديم ، موغل في عالم غريب مجهول من عصر آخر غير عصري تلخصت حكاية الشاب بانطلاقة طموحة شاب شاطر ترك المدرسة ودخل السلك العسكري لمساعدة أسرته المنكوبة، فوالده مشلول وأمه مصابة بفشل كلوي، وهكذا وجد نفسه معيلاً للأسرة كونه أكبر أخوته وهم أربعة ترك ضيعته وجاء حافياً إلى حماه من مسافة خمسة عشر كيلومتراً، قدم طلبا للتطوع في الجيش،التحق بعدها في الكلية الفنية الجوية بحلب هنا تابع دراسته ونجح في الثانوية ، ثم دخل الجامعة، وبعدها مباشرة اختاره والدي ليكون سائقه الخاصبعد اطلاعه على ثقافته وإعجابه بها طلب منه تدريسنا كان يعمل ليل نهار لتأمين حاجات أسرته فجأة اختفى عن الأنظار، طالبنا الوالد به، فقال إنَّه انتقل إلى وحدة عسكرية أخرى، وهكذا طويت صفحة الأستاذ إبراهيم، العسكري المثقف سارت حياتي بشكل طبيعي ونسيت الأستاذ إبراهيم وغيره من المدرسين الذين أحضرهم والدي من وحدته العسكرية لتعليمنا إلى حين دخولي كلية طب الأسنان في جامعة دمشق، عشت طالبة مدللة، لديّ سائق يخدمني ويؤمن طلباتي أحببت اختصاصي وأقمت علاقات مع طالبات مميزات كبنات وزراء وضباط كبار وحتى أساتذة في الكلية تقربوا والتمسوا المساعدة كنقل أخوة لهم من وحدة عسكرية إلى وحدة أخرى وتأمين وظائف وتخليص من العقوبات العسكرية والمدنية لقد تميزت في دراستي وعلاقاتي ، وكنت لا أحس بالأرض التي أمشي عليها وتملكني إحساس بأنني ابنة يحرسني الله ، ويهتم بي القدر، وكل من يحيط بي هم أدنى مني ، وبلغ بي الدلع حدا لايمكن وصفه استمر ذلك حتى الفصل الثاني من السنة الثالثة عندما قرأت إعلاناً في لوحة الإعلانات عند باب الجامعة الرئيسي في نفق الآداب المعروف عند بداية أوتستراد المزة من جهة ساحة الأمويين وجاء في الإعلان دعوة عامة لحضور مناقشة رسالة الدكتوراه لإبراهيم نصار على مدرج كلية الآداب بعنوان" الريف في الرواية العربية " قادني الاسم إلى سائق والدي ، أي ذلك الأستاذ الذي درَّسني يوماً ما والذي يحمل الاسم نفسه، وبدافع الفضول أولا ، ثم بدافع تمضية الوقت ، ومتابعة كيفية الدفاع عن شهادة الدكتوراة ، حضرت دون تخطيط إلى القاعة القريبة من كليتي
اتخذت مكاناً وسطاً بين الحضور، أطلَّ إبراهيم نصار بشموخه المعهود وناقش الرسالة بامتياز بهتُ وأنا أتابع كل حركة يقوم به ، داهمني شعور غريب ومختلف له طعم طفولتي عندما كان يدرسني ، شعورلم أحس به من قبل ، بصراحة حاولت في البداية التركيز على لباسه ، أتذكر أنه كان عاديا، لكن مع الشرح والتعليق والكلام البلاغي بدأ أسلوبه الرصين يأخذني إليه ، لم تهمني معاني الكلمات بمقدار الموقف نفسه الذي جعلني أرتعد وأتساءل وأنظر إليه نظرات وكأنها لا تخرج مني ، تملكني شعور أنيس ولطيف صفق له الحضور بعد إعلان النتيجة أفقتُ من تأثير الموقف عليّ وكأنني عائدة من رحلة في الماضي الذي استيقظ دفعة واحدة ، وصفقت له بحماس مع المصفقين قدم دفاعه بطريقة تليق بمثله من الأذكياء ، فاجأني بطلته المهيبة ، وكلامه المثير وجدت نفسي أقفز للأسفل، ثم أصافحه وأهنئه، صافحني كبقية المهنئين، انتظرت قليلاً وخاطبته بثقة ووضوح:
- أتذكرني يا دكتور أنا سوزان سوزان الهاشم، ابنة سيادة اللواء أتذكرني؟!