- وماذا قالت أيضا؟
ابتسمت وقالت جملة اعتراضية :
- قصدك ماذا أقول أنا ؟
- لا لا . ماذا قالت هي
فهمت الأم مغزى إصرار ابنتها وتابعت :
- أذكر ما شرحته لي طويلاً حول كيفية صنع النبيذ من العنب حفظت ذلك عن ظهر قلب وعندما تأكدت أنني حفظته، قالت: لم أقصد تعليمك كيفية صناعة النبيذ ولا كيفية شربه وإنما أردت القول إننا قادرون على صناعته ونستطيع شربه، لكننا لا نفعل ذلك لأنه يغضب الله وضار بالصحة وليس المهم أن تحرم الخمر وتكسر جراره، بل المهم أن توفره وتصمد أمام وفرته وألا تتصرف بسوء وهكذا تعلمنا أشياء كثيرة كانت أشبه بالمناعة كما يسميها أخوك يومها أثارت انتباهي ، وقالت : " نحن من ضيعة تنتمي في آن معاً للبحر والجبل وللسهل والأفق " فسألتها وكيف نحن ننتمي للأفق ؟
أجابت: انظري إلى تلك الضيعة المنخفضة، فنظرتُ، ثم قالت: تصوري أنك هناك، فتصورت، عندئذٍ قالت: نحن بالنسبة إليهم في الأفق، وهم بالنسبة إلينا في السهل، وهكذا
شرحت لها كيف كبرت وكبرت معها أردافها التي حملت الحطب من مسافات بعيدة ، وكيف مشت حافية حتى أصبحت قدماها أقسى من جلد الغنم المجفف ، وكيف حفرت وزرعت وخلفت وربت
تفتقت جروح الماضي ، وأجازت الشفاه الكشف عن مستور بغية تصويب أمر قد نضج افترضت الأم افتراضا لم يكن في محله تماما ، وأفصحت لابنتها عن تجارب سابقة مرت بها كانت روح سلاف هائمة أمام هذا المشهد المتموج لعالم من الأتقياء ينتهي عند شفتي أمها تهيأت لها تلك الأيام كحكماء يدرسون أمها الحكمة ، ويجعلون من جسدها طاقة وعاصمة للمحاولة الأقرب للمغامرة ومن روحها قوة وتماسك
بان ماهر من خلف ظل عميق لجدار من الطوب ، اقترب منهما وهو ينهب الممر الضيق ، ورأسه يلولح فوق جذعه ، وقدماه تعصر همة وكأنه على موعد مع سحابة ، على بعد خطوات ، ومن وراء غبش العيون ، ردد وكأنه يكلم نفسه :
- لا يزال جدي غاضباً ويرفض التفاهم معنا إنه على حق والله على حق
اقترب من الأم أكثر نظر في وجهها التي عملت فيه الحيرة طبقة خام لتأويلات جريحة ، وقال:
- أعرف أنك تحلمين
لم تنبس ببنت شفة وهي تحدج في وجه ابنتها كملخومة لا تعرف كيف تفك عقدة هذا اليوم مع ولديها وبعد إلحاح وثرثرة منه ، اضطرت لمعارضته ، وقالت :
- الله يرضى عليك تعال واجلس مكاني، ثم فكر أرجوك لا تحلم، فقط فكر
نهضت وذهبت إلى البيت تاركة الأخوين معاً ظل ماهر واقفا حدق بعيداً في الوديان المتعرجة كخيط لانهائي تطيره الرياح كسّر هذا المنظر برفة جفن ، ثم قال:
- يا لطيف تلطف
خرج الخوف من عيني سلاف كعتمة ، ادلهم الجو من حولها، وبعد برهة من زمن واقف على ركبتيه ، وكلام متطاير لجمل غير مسموعة من أخيها ، طلبت منه التركيز أكثر بعد أن طيبت خاطره ، جعلته يركز :
- جدي على حق وكل ما قاله الأهالي صحيح ، وهي فرصة للتعلمأنا وأنتِ يا أختي الغالية نعلم جيداً استحالة الحياة دون حب، وقانون الضيعة القائم على استحالة الزواج دون حب صريح وواضح ونبيل ، هو قانون مقدس، فأي شاب وصبية عليهما المرور بتجربة عذرية عاطفية أمام الجميع قبيل الزواج وأن تستمر هذه التجربة على الأقل سنة، وهي مرحلة اختبار، و فترة زمنية ضرورية كي يختبرا حبهما بشكل جيد وحسب قواعد صارمة: يخرجان معاً، يعملان معاً، يتزينان لبعضهما البعض وبعد تلك الفترة، إما يستمران أو يتوقفان عندئذ يبحث كل واحد عن حب آخر بهدوء ورضاهذه هي ضيعتنا،ولا يمكننا رفض ما هو جميل وما تفعله جدتك الآن هو محاولة لنسف هذا المبدأ السامي ولو التزم جدي بهذا القانون لما وصل إلى ما وصل إليه الآن نعم ، للحياة ذاكرة خالدة، تؤجل العقاب ولا تنساه
- إذن مشكلته قديمة ؟!
- بالتأكيد القصة ليست وليدة اللحظة
استفزت سلاف أكثر ، وسألت أسئلة كثيرة عن ماضي جدها ، وعن الحب وقامته وشكله وعن أشياء أخرى استطردت قائلة:
- للتو سألت أمي عن بعض الأسرار، فأجابتني أن للطبيعة دوراً في بناء قالبنا الاجتماعي وحتى المعاشي ، وشرحت لي بعض حكايات الناس القديمة التي بدت لي طرية كخبز التنور ومنقوع البرغل ، والآن تقريباً فهمت أهمية الحب، ومن بعده تأتي البقية، فكل شيء بعد الحب رخيص، فهمت أننا لا نحتاج إلى مهر أو مفروشات وذهب وفساتين وهدايا وأعراس، فبسلتي تين وعنب تزوج أبو مشهور، وتزوجت مريم بسلة بندورة وكان مهر سميرة خروفا وأعجبني قول لأمّي طالما رددته كثيراً: " إذا كنت غير قادر على فعل شيء، فلا تخفاعشق وتهون الأمور"
اعتذر ماهر ومضى دون أن يكون له هدفٌ واضح كما قالت خطواته الرخوة بقيت سلاف وحيدة وحائرة أمام سيل من الأسئلة فجرها حدث واحد حدث مسّ جديّها ، مسّ حبها لهما حدثٌ شلّ حركة البيت ومنعها من السفر وأصبح حكاية الضيعة، كأنه حرب أهلية مستترة لزمن طائفي منكوب بخثرات التستر الآبقة
وجدت نفسها على حافة حفرة من الشكوك ، وكأنها سادرة في غياب ، لاتصدر عنها نأمة أو حتى زفرة ، وعلى غير هدى استلت من حيزها باتجاه الحوش الخرب ، تئن تحت وطأة قلة الحيلة نظرت إلى ظلها المستلقي على ظهره ، أشعلت فيه شمعة الهروب إلى زاوية البيت الترابي القديم القريب من الزريبة ، حيث أعشاش الحمام العديدة وبقايا قش وروائح مقرفة كانت على موعد مع عاصفة من النوع التي أثارها الوقت ، وجعلها تفرد لها كل طاقتها للنجاة من تيارها بعد أخذ ورد كاد يستهلك عزيمتها، اتخذت قرارا بأن تفهم وتبحث أكثر حول علاقة جدها بجدتها ، اتخذت هذا القرار تحت تأثير دوافع عدة ، وفي أغلبها اندرج تحت عاملي الفضول والنجاة بنفسها من الأسئلة حول قضية تخص أسرتها التي لم تجتمع يوما إلا على الابتسام ولم تفترق إلا على الأمنيات في العودة للقاء تقاوت على هزالها ، وأسرّت لنفسها بعض الملاحظات الهامشية
حضرت عمتها ، التي دخلت بيت الجدة وظلت غائبة فيه لفترة طويلة ، خرجت وهي تولول دخلت إلى غرفة الجد ، أطالت الجلوس هدستْ سلاف بأمرها وغرابة تصرفاتها دخلت غرفة الضيوف المجاورة لغرفة الجد ، وجلست على الحصير، ترخي بكامل جسمها على مسند مستطيل الشكل ملقي تحت النافذة تنتظر خروجها من هذه الخلوة طرحت ألف سؤال أغلبها كان عبثيا لم يتجاسر أحد من الأسرة على الاقتراب من الغرفة أو حتى قرع الباب الذي أخذ العمة وراءه بتهيب ملحوظ على وجوه أفراد العائلة خاصة الأب الذي أبدى ارتياحا كبيرا لحضورها اندهشت سلاف لقوة شخصيتها المهيبة ، واحترام الجميع لها
خرجت لتأخذ كأس ماء ، لمحت سلاف ، قبلّتها ودخلت إلى الغرفة ثانية
استغربت ابنة الأخ تصرفها هذا ، وتساءلت لماذا خصتها من بين الجميع بالسلام الحار
دار في خلد سلاف طقم كامل من البيانات حول الأسرة: العمة القوية كبقرة حلوب كما صفها الجد مازحا ذات مرة ، والأب الأشبه بكبش يهرب من المناطحة فورا ، والأم الحمل الوديع ، وماهر ثعلب ذكي لكنه لا يحب أكل اللحم ، وجدة (…) تركت فراغا ، وهمست : " تغيرت مواصفاتها " والجد كجمل الصحراء وعم كنسر يصنع كراسي قش اعتزازه بصناعتها في غير محله وخال مصاب برخاوة في الظهر ونكبة عدم الإنجاب
جمعت هذه المعلومات وقررت أن تتحدى ماهر في عقر فلسفته عن معنى هذه التشبيهات كما قررت أن تطال كعب أفكاره حول الخلاف والأمن ، بعد أن رنت في أذنيها عشرات المرات - القرية الآمنة- انتابتها رعشة من وحي الأمان الممتع الذي اقتادها إلى لوحة القرية الهادئة الوديعة المسالمة والمتحابة تذكرت إعجاب ندى بقريتها، وبدأت تتلذذ باكتشاف لم تكن تلحظه في السابق حول مناقب الضيعة : << لقد أمضت ندى هنا يومين فقط وأصيبت بدهشة لا تزال تحملها في أحشائها، وتذكرها أمام زميلاتها كأنها شاهدت أجمل مكان في العالم لا أفهم بالضبط سر هذا التوازن في كل شيء، أهي الطبيعة،أم كما قالت إحدى المسنات،القرى كشجر البرتقال لا تنمو إلا في التربة المناسبة لها >>
توقفت عن استرسالها لصالح اللعب بضفائرها التي فرضت عليه تسلية ما نزلت الضيعة عن رأس شجرة صنوبر تطل من شق الباب نصف الموارب ، تنقلت كدرغلة بين الأغصان المجاورة امتزجت الصورة بواقع رمّلته الحيرة
زحفت على كوعيها و ركبتيها باتجاه الباب ، فتحته على مصراعيه، لترى بوضوح مشهد البيوت المتناثرة ، وضعت بين الفراغات الأمكنة التي تشب كنار جائعة للحطب ، بدت لها حارة جفلت من هذه المشاحنة المعتدلة للحظات مع وحدتها التي ولجت أفقها الداخلي سكبت عليها نظرات تشوبها تساؤلات مباشرة وبعد عزاء للوقت الذي مضى ، امتدت أمامها لوحات لقرى تئن تحت أظافرها ولصبية يقتلعون أضراس الزمن بلهو قاصر كان الجميع يتحركون جيئة وذهابا وكأنها غير موجودة مرت أمامها ملامح تشبه الشيفرات البسيطة للوقت ، تذكرت ما أحصاه ماهر ذات مرة عن الضيعة بفخر قائلا : " تصوري أن عدد المتعلمين في قرية لا يتجاوز عدد سكانها الألفي نسمة تصل إلى 85%"
تراءى لها رسمه على ورقة كرتون علقها لفترة طويلة فوق سريره ورقة ملونة تشبه الخارطة للقرية ، بيّن المركز وتحيط به مجموعة من الحواري الصغيرة منتشرة فوق التلال ضمن دائرة قطرها ثلاثة آلاف مترٍ، ووضع نقاط علام على الجمعية التعاونية الفلاحية ، والبلدية، والوحدة الزراعية الإرشادية، والمستوصف ، ومركزي توزيع الغاز، والمقسم، و خطوط تمديدات مجارير صحية و مياه ، والطرق المسفلتة التي تربطها بصافيتا وطرطوس وحتى طرابلس، إضافة إلى الثانوية، وفريق كرة قدم عدد أسماء ثمانية أطباء، وثلاثة صيادلة، وطبيبي أسنان، وثلاثة وعشرين مهندساً، وخمسة عشر شاعراً وشاعرة ومطرباً شعبياً، وعازفي عود ورق معروفين على مستوى المحافظة
شعرت أنها أمام عزف متناغم مع أعماقها : " إنها قرية مكتفية ذاتيا بكل شيء ، ومتآخية ، وهذا بفضل سر لا بد وأن تتطلع عليه " ، دفنت نظراتها وراء هم جديٍّ ، تحسست رائحة الأرض، ونبل الفلاحين، وكرمهم، وتذكرت ذلك الضيف الذي جاءهم يوماً وقدموا له مائدة كبيرة من منتجات البيت دون أن يشتروا أي شيء، فهنأ الضيف والدها معبراً عن إعجابه الشديد بنشاطه، وتراءت لها بشكل عفوي صورة ذلك الشحاذ الذي تفاجأ بتأمين حاجته من أول أربعة بيوت، ملأوا له كيسه وطلبوا منه ألا يعود ثانية، ففعل
وقفت شفا روحها على حافة الارتباك ، روحها التي تجري كساقية مكونة من ضفة واحدة في جسدها الذي يسويه الجريان وفق مشيئة كأن الحدث يعجنها للتو من آهة المختبر الآني ليومياتها اتسقت معها عنوة واصطفت الذكريات الجميلة في طابور يمتد إلى ما بعد برج صافيتا والذي يبعد من هنا حوالي أحد عشر كيلومتراً أو مسافة نظرة واحدة ، نظرة مهيبة، نظرة ابتاعتها من الزمن ولا تبدلها بكنز ثمين من كنوز الجان تمنت ألا تتحرك من مكانها حتى تشبع خلاياها وروحها من الاستفزاز الطارئ كانت لا تزال مطرقة تتأمل أشياء غير حاضرة في ذهنها كما يجب ، أشياء تحاول أن تعمر منها أجوبة وبيوتا تسكن فيها روحها استغرب ماهر جلوسها بالقرب من درفة الباب المفتوحة على مصراعها ، وسألها عن السبب ، فأجابت فوراً :" لا أعرف وأنت من قال ، ليس لكل سؤال جواب ، وعندما نملك الأجوبة الكاملة لن تكون هناك حياة مسلية "