الملاحظات
صفحة 3 من 8 الأولىالأولى 12345 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 30 من 74

الموضوع: @ حــــب أخـضــر @ ===> الرواية التي أطربت مسامع القلوب <===

  1. #21  
    المشاركات
    206
    - يا بنت جارتي هكذا تجذرت عاداتنا و أصبحت مثل (الشروش ) في التراب، إذا استطعنا دفع البلاء قبل حدوثه، لازم نفعل وإذا وقع وكنا قادرين على دفعه ولم نفعل، فذلك خيانة، والتسامح ليس هدفاً بحد ذاته وإنما يجب منع أسباب حدوث المشكلة ، والحب الذي ترعرعنا عليه ورضعناهعلمنا ألا نخطئ، وبالتالي ألا نتسامح أو ألا نصل إلى المشاكل التي تستحق أن نتسامح من أجلها

    أضافت الأم التي بدت كمحامية جادة ، وكأنها لا تني إثارة الموضوع أكثر من اللازم :

    - نعم يا بنتي هذه هي ضيعتنا وما قالته أم عمار يلخص أمورا كثيرة نعدّ التسامح جزءاً من الخطيئة أو المشكلة ، لأننا أوصلنا أنفسنا إليه هذا ا قاله الشيخ ، " أيوه هادي هي القصة بطولها وعرضها ليش نوصل أنفسنا للمشكلة اللي لازم نبوس الأيدي والأرجل لنتسامح من أجلها بعدين ؟! "

    - أيضاً هذه قسوة

    قالتها سلاف بتهكم ، فاستطردت الجارة وكأنها مرتهنة لما ستقوله :

    - لقد حاولت فرض منطقها علينا ، وكل ما فعلناه أننا تجنبناها، وأعدّ ذلك أعلى درجات التسامح.

    - ألهذا الحد هي شريرة؟!

    سألت سلاف بشيء من العتب، وأجابتها الوالدة بوضوح:

    نحن لا نتهم أحداً ونعتقد أن الشر والمشاكل صناعة آدمية يمكن تجنبهما وليس له علاقة بالخير لا لا الخير (شي مغاير شي تاني)

    اغتنمت الجارة لحظة هدوء فرضت نفسها عليهن ومضت باتجاه بيتها بعد ثلاث خطوات التفت إلى سلاف ، وقالت :

    - كل الأهالي يقولون إنك ذكية وتلتقطينها على الطاير أنت أفضل بنات ضيعتنا

    - بس ، أين هذا الشيء اللازم ألقطه على الطاير ؟

    أشارت إلى أمها كي تجيبها ، ومضت دون كلام

    ضمت الأم ابنتها تهيبتا الدخول إلى البيت المشحون بغضب الرجال جلست الوالدة على حجر أسود مرتفع قليلاً عن الأرض أعد للجلوس ، وأسندت ظهرها إلى جذع شجرة سنديان تحمل عريشةً ناضجة كامرأة أنجبت جيلا كاملا ، ومن هنا فتح العالم أمامها فسحة تمتد إلى اللانهاية دون أن يعترضه أيٌّ من اللوحات الجبلية المتلاحقة، والتي تلتحم معه في صورة ملحمية حيث يبدو الأفق المرتفع راكعاً كناسك عند أقدام التلال والفضاء مرتسم على الشفاه المستيقظة بين انحناءات الوديان المتتالية والمثيرة لشهوة الناظر ألقت الوالدة نظرها إلى برج صافيتا الواقف كشاهد على عبور سحابات سوداء من فوق رأسه ، سلمته توترها دعته للمجيء بقامته إلى الضيعة التي حرسها بهيبته منذ مئات السنين.

    سألت سلاف:

    - ألهذا الحد بعيد برج صافيتا؟

    - إنه كالحاجب فوق عيني

    - أعرف أنك تجلسين هنا فقط عندما تفكرين بعمق وتحلمين

    - بصراحة ، كلما جلست هنا ونظرت إلى الشرق أشعر بالرهبة وبأن العالم بألف خير ، لذا من حسن حظنا أننا إلى الشرق من المتوسط والبرج إلى شرقنا، ومن بعد الشرق شمس، ومن بعد الشمس أحلامنا

    - سمعتكِ تقولين مثل هذا الكلام لوالدي وأعجبت به، وترددين أجمل منه في موسم الحصاد و موسم قطاف الزيتون، لكن ما المبرر لتردديه أمامي الآن؟

    - ربما لأننا في موسم إزاحة وجع الرأس، ثم لا أريد أن تُسرق منا هذه المسافة القريبة من السماء.

    - أنت خائفة؟

    - لا أعرف.

    - أؤمن أنك تعرفين كل شيء حتى بعض ألغاز السماء الخفية. - أعرف ما يعرفه الأهالي فقط.

    - لم أسمع من قبل بتدخل جدتي ضد حب جميل ومديحة الرائع وحبهما حكاية يتمثلها كل الشباب، فهو أكثر من مثالي

    - نعم حبهما رائع مثل طير عاشق ومعشوق ، ولا يمكن أن يكون غير ذلك، لدينا نواميس نمت وترعرعت نقدسها ونحبها مثل حبنا للماء والسماء والخضرة ولأنها رائعة وتخدمنا وتحافظ على عفويتنا، نحرسها بحدقات عيوننا، نواميس لا نعرف من سطّرها، وإنما أصبحت جزءاً منا ، كطعامنا وشرابنا وصباحاتنا الحلوة هي مغروسة فينا كحبنا لله لا نسمح المساس بها، وأهمها لا زواج دون حب، والحب هو مقدمة ونتيجة وطريقة حياة

    توقفت عن الكلام الذي حولها إلى حكواتي مشحون بالرغبة لقص حكايات من صميم الحياة حتى ولو لم يجد لمن يقص له إلا نفسه نكشت الابنة هذا الصمت المتوفز على سرج اللسان، وطلبت من أمها أن تحدثها أطرقت إلى الأرض قليلا ثم رفعت رأسها، عطست بحدة ، حركت أرنبة أنفها بطرف سبابتها ، وتابعت :

    - مرات أشوف نفسي مثل واحدة جدبة ، لكن قناعتني مع الأيام أصبحت أقوى والولد ( ابن ليلتو بيعرف كيلتو ) والكل يعرف الحق وليس القاضي فقط خذي مثلا قضية الطلاق محسومة ، ولم تحدث يوما في ضيعتنا ، وكمان المشاكل الزوجية غير موجودة ، ونظام تحديد النسل مطبق بدقة، ولا يوجد تعدد للزوجات ولا تناحر عائلي، أوأي تناقض بين ذكر وأنثى فالمرأة تعمل في الحقل، نفهم من ذلك أنها عاملة ، تحب زوجها وأولادها يعني هي فاضلة، وزيادة على ذلك هي أم لم تحدث خيانة يوماً لا في النظر ولا في القلب ولا في السلوك، ومن يتصرف أي تصرف خارج هذا الإطار تفضحه كفاه وعيناه وقلبه، ثم يُلفظ خارج الضيعة

    همهمت ثم تحمست أكثر للكلام ، وهي تراقب عيني سلاف اللتين تلتهمان كل حركة من شفتيها ، وكل كلمة تقولها كحكمة تخصها وتكشف لها عن أسرار تعتبرها بأمس الحاجة إليها تابعت بنبرة حادة :

    - قد لا تكونين لاحظتِ ذلك، لكن من واجبي الإشارة لك أن ضيعتنا خالية من القضاة والمحامين ولا يذهب إلى المحاكم أيٌّ من أهلها، تعرفين أن طلبتها في كل الفروع، لكن لم يفكر أحد بدخول قسم الحقوق لاعتقادنا أنه لا يوجد مشاكل أبداً هذه هي فطرتنا وأعتقد أن محكمة صافيتا هي أقل المحاكم انشغالاً في العالم

    - ما هي مشكلة جميل ومديحة ، وما علاقة جدتي بهما ؟ سألت سلاف بهدوء

    - يا بنتي، إنَّنا نرفض التلاعب بالمشاعر ونعتبر ذلك من الكبائر لكن جدتك تجاوزت هذا الأمر ، وافترت كذبة غير صحيحة ضد الشابين المقبلين على الزواج جميل ومديحة، وقالت، ثم أقسمت أن جميلاً يحب فتاة أخرى واضطرهما ذلك الانتظار ثلاث سنوات تماماً حتى أثبت جميل لمديحه صدق مشاعره، والمدة هذه هي عقوبة لكل من نشك في صدق حبه فعلاً عوقب وانتظر وأثبت لنا جميعاً ما أردناه، وتحملت جدتك وزر تأخير الشابين عن الزواج

    - إذن هي السبب؟

    - نعم، وكادت تتدخل في علاقة أخرى بين شابين، لم تنجح لدينا قانون حب فطري متماسك وقوي ونؤمن به لا زواج دون حب والمساس به هو المساس بكرامتنا

    تغيّر مزاج سلاف ، وكأنها أمام مشهد مصلوب على جذع شجرة العرعار الكابية بأغاصانها الخضيلة التي جزأت فسحة الفضاء المحيط بها إلى جزر متناثرة ، ثم نطقت بعد أن رطبت حلقومها بلعاب :

    - كنت أحس بإحساس ما غريب يدلني إلى ما يشبه نموذج قانون الحب لم أعرفه بالضبط، لكنني علمت أن الضيعة بألف خير ، واكتفيت عند هذا الحد ، ولم أتعرض لمشاكل كي أفتش عن أسبابها

    مسحت الأم بكامل ساعدها طرف وجهها المبلول بعرق وتعب شقيين وتركته يروق قليلا ، ثم تابعت وهي تنظر إلى شجرة الزنزلخت العارية :

    - يا روح أمك ، فطرتنا لا تزال بدائية كما يردد ماهر باستمرار، لم تُمس قالت لي ذات يوم (ختيارة): علمنا البحر ألا نسبح إذا كنا لا نستطيع، والجبل علمنا الرسوخ على المبدأ، والسعادة ليست بلوغ القمة وإنما الطريق الوعرة التي نعبرها إليها، ومن السهل تعلمنا أن نزرع على قدر الأرض، نشبه الطبيعة وهذه قوة، كررت تلك السيدة التي توفيت وأنا صغيرة أمامي بعض الحكايات وعندما كبرت فهمت أنها قصدت ما قالت وأرادت تعليمي وبعفوية ما كانت تريد نقله من ماضيها إلى حاضرنا، وها أنت تستلهمين تلك الوقائع بفطرتك





    رد مع اقتباس  

  2. #22  
    المشاركات
    206
    - وماذا قالت أيضا؟

    ابتسمت وقالت جملة اعتراضية :

    - قصدك ماذا أقول أنا ؟

    - لا لا . ماذا قالت هي

    فهمت الأم مغزى إصرار ابنتها وتابعت :

    - أذكر ما شرحته لي طويلاً حول كيفية صنع النبيذ من العنب حفظت ذلك عن ظهر قلب وعندما تأكدت أنني حفظته، قالت: لم أقصد تعليمك كيفية صناعة النبيذ ولا كيفية شربه وإنما أردت القول إننا قادرون على صناعته ونستطيع شربه، لكننا لا نفعل ذلك لأنه يغضب الله وضار بالصحة وليس المهم أن تحرم الخمر وتكسر جراره، بل المهم أن توفره وتصمد أمام وفرته وألا تتصرف بسوء وهكذا تعلمنا أشياء كثيرة كانت أشبه بالمناعة كما يسميها أخوك يومها أثارت انتباهي ، وقالت : " نحن من ضيعة تنتمي في آن معاً للبحر والجبل وللسهل والأفق " فسألتها وكيف نحن ننتمي للأفق ؟

    أجابت: انظري إلى تلك الضيعة المنخفضة، فنظرتُ، ثم قالت: تصوري أنك هناك، فتصورت، عندئذٍ قالت: نحن بالنسبة إليهم في الأفق، وهم بالنسبة إلينا في السهل، وهكذا

    شرحت لها كيف كبرت وكبرت معها أردافها التي حملت الحطب من مسافات بعيدة ، وكيف مشت حافية حتى أصبحت قدماها أقسى من جلد الغنم المجفف ، وكيف حفرت وزرعت وخلفت وربت

    تفتقت جروح الماضي ، وأجازت الشفاه الكشف عن مستور بغية تصويب أمر قد نضج افترضت الأم افتراضا لم يكن في محله تماما ، وأفصحت لابنتها عن تجارب سابقة مرت بها كانت روح سلاف هائمة أمام هذا المشهد المتموج لعالم من الأتقياء ينتهي عند شفتي أمها تهيأت لها تلك الأيام كحكماء يدرسون أمها الحكمة ، ويجعلون من جسدها طاقة وعاصمة للمحاولة الأقرب للمغامرة ومن روحها قوة وتماسك

    بان ماهر من خلف ظل عميق لجدار من الطوب ، اقترب منهما وهو ينهب الممر الضيق ، ورأسه يلولح فوق جذعه ، وقدماه تعصر همة وكأنه على موعد مع سحابة ، على بعد خطوات ، ومن وراء غبش العيون ، ردد وكأنه يكلم نفسه :

    - لا يزال جدي غاضباً ويرفض التفاهم معنا إنه على حق والله على حق

    اقترب من الأم أكثر نظر في وجهها التي عملت فيه الحيرة طبقة خام لتأويلات جريحة ، وقال:

    - أعرف أنك تحلمين

    لم تنبس ببنت شفة وهي تحدج في وجه ابنتها كملخومة لا تعرف كيف تفك عقدة هذا اليوم مع ولديها وبعد إلحاح وثرثرة منه ، اضطرت لمعارضته ، وقالت :

    - الله يرضى عليك تعال واجلس مكاني، ثم فكر أرجوك لا تحلم، فقط فكر

    نهضت وذهبت إلى البيت تاركة الأخوين معاً ظل ماهر واقفا حدق بعيداً في الوديان المتعرجة كخيط لانهائي تطيره الرياح كسّر هذا المنظر برفة جفن ، ثم قال:

    - يا لطيف تلطف

    خرج الخوف من عيني سلاف كعتمة ، ادلهم الجو من حولها، وبعد برهة من زمن واقف على ركبتيه ، وكلام متطاير لجمل غير مسموعة من أخيها ، طلبت منه التركيز أكثر بعد أن طيبت خاطره ، جعلته يركز :

    - جدي على حق وكل ما قاله الأهالي صحيح ، وهي فرصة للتعلمأنا وأنتِ يا أختي الغالية نعلم جيداً استحالة الحياة دون حب، وقانون الضيعة القائم على استحالة الزواج دون حب صريح وواضح ونبيل ، هو قانون مقدس، فأي شاب وصبية عليهما المرور بتجربة عذرية عاطفية أمام الجميع قبيل الزواج وأن تستمر هذه التجربة على الأقل سنة، وهي مرحلة اختبار، و فترة زمنية ضرورية كي يختبرا حبهما بشكل جيد وحسب قواعد صارمة: يخرجان معاً، يعملان معاً، يتزينان لبعضهما البعض وبعد تلك الفترة، إما يستمران أو يتوقفان عندئذ يبحث كل واحد عن حب آخر بهدوء ورضاهذه هي ضيعتنا،ولا يمكننا رفض ما هو جميل وما تفعله جدتك الآن هو محاولة لنسف هذا المبدأ السامي ولو التزم جدي بهذا القانون لما وصل إلى ما وصل إليه الآن نعم ، للحياة ذاكرة خالدة، تؤجل العقاب ولا تنساه

    - إذن مشكلته قديمة ؟!

    - بالتأكيد القصة ليست وليدة اللحظة

    استفزت سلاف أكثر ، وسألت أسئلة كثيرة عن ماضي جدها ، وعن الحب وقامته وشكله وعن أشياء أخرى استطردت قائلة:

    - للتو سألت أمي عن بعض الأسرار، فأجابتني أن للطبيعة دوراً في بناء قالبنا الاجتماعي وحتى المعاشي ، وشرحت لي بعض حكايات الناس القديمة التي بدت لي طرية كخبز التنور ومنقوع البرغل ، والآن تقريباً فهمت أهمية الحب، ومن بعده تأتي البقية، فكل شيء بعد الحب رخيص، فهمت أننا لا نحتاج إلى مهر أو مفروشات وذهب وفساتين وهدايا وأعراس، فبسلتي تين وعنب تزوج أبو مشهور، وتزوجت مريم بسلة بندورة وكان مهر سميرة خروفا وأعجبني قول لأمّي طالما رددته كثيراً: " إذا كنت غير قادر على فعل شيء، فلا تخفاعشق وتهون الأمور"

    اعتذر ماهر ومضى دون أن يكون له هدفٌ واضح كما قالت خطواته الرخوة بقيت سلاف وحيدة وحائرة أمام سيل من الأسئلة فجرها حدث واحد حدث مسّ جديّها ، مسّ حبها لهما حدثٌ شلّ حركة البيت ومنعها من السفر وأصبح حكاية الضيعة، كأنه حرب أهلية مستترة لزمن طائفي منكوب بخثرات التستر الآبقة

    وجدت نفسها على حافة حفرة من الشكوك ، وكأنها سادرة في غياب ، لاتصدر عنها نأمة أو حتى زفرة ، وعلى غير هدى استلت من حيزها باتجاه الحوش الخرب ، تئن تحت وطأة قلة الحيلة نظرت إلى ظلها المستلقي على ظهره ، أشعلت فيه شمعة الهروب إلى زاوية البيت الترابي القديم القريب من الزريبة ، حيث أعشاش الحمام العديدة وبقايا قش وروائح مقرفة كانت على موعد مع عاصفة من النوع التي أثارها الوقت ، وجعلها تفرد لها كل طاقتها للنجاة من تيارها بعد أخذ ورد كاد يستهلك عزيمتها، اتخذت قرارا بأن تفهم وتبحث أكثر حول علاقة جدها بجدتها ، اتخذت هذا القرار تحت تأثير دوافع عدة ، وفي أغلبها اندرج تحت عاملي الفضول والنجاة بنفسها من الأسئلة حول قضية تخص أسرتها التي لم تجتمع يوما إلا على الابتسام ولم تفترق إلا على الأمنيات في العودة للقاء تقاوت على هزالها ، وأسرّت لنفسها بعض الملاحظات الهامشية

    حضرت عمتها ، التي دخلت بيت الجدة وظلت غائبة فيه لفترة طويلة ، خرجت وهي تولول دخلت إلى غرفة الجد ، أطالت الجلوس هدستْ سلاف بأمرها وغرابة تصرفاتها دخلت غرفة الضيوف المجاورة لغرفة الجد ، وجلست على الحصير، ترخي بكامل جسمها على مسند مستطيل الشكل ملقي تحت النافذة تنتظر خروجها من هذه الخلوة طرحت ألف سؤال أغلبها كان عبثيا لم يتجاسر أحد من الأسرة على الاقتراب من الغرفة أو حتى قرع الباب الذي أخذ العمة وراءه بتهيب ملحوظ على وجوه أفراد العائلة خاصة الأب الذي أبدى ارتياحا كبيرا لحضورها اندهشت سلاف لقوة شخصيتها المهيبة ، واحترام الجميع لها

    خرجت لتأخذ كأس ماء ، لمحت سلاف ، قبلّتها ودخلت إلى الغرفة ثانية

    استغربت ابنة الأخ تصرفها هذا ، وتساءلت لماذا خصتها من بين الجميع بالسلام الحار

    دار في خلد سلاف طقم كامل من البيانات حول الأسرة: العمة القوية كبقرة حلوب كما صفها الجد مازحا ذات مرة ، والأب الأشبه بكبش يهرب من المناطحة فورا ، والأم الحمل الوديع ، وماهر ثعلب ذكي لكنه لا يحب أكل اللحم ، وجدة (…) تركت فراغا ، وهمست : " تغيرت مواصفاتها " والجد كجمل الصحراء وعم كنسر يصنع كراسي قش اعتزازه بصناعتها في غير محله وخال مصاب برخاوة في الظهر ونكبة عدم الإنجاب

    جمعت هذه المعلومات وقررت أن تتحدى ماهر في عقر فلسفته عن معنى هذه التشبيهات كما قررت أن تطال كعب أفكاره حول الخلاف والأمن ، بعد أن رنت في أذنيها عشرات المرات - القرية الآمنة- انتابتها رعشة من وحي الأمان الممتع الذي اقتادها إلى لوحة القرية الهادئة الوديعة المسالمة والمتحابة تذكرت إعجاب ندى بقريتها، وبدأت تتلذذ باكتشاف لم تكن تلحظه في السابق حول مناقب الضيعة : << لقد أمضت ندى هنا يومين فقط وأصيبت بدهشة لا تزال تحملها في أحشائها، وتذكرها أمام زميلاتها كأنها شاهدت أجمل مكان في العالم لا أفهم بالضبط سر هذا التوازن في كل شيء، أهي الطبيعة،أم كما قالت إحدى المسنات،القرى كشجر البرتقال لا تنمو إلا في التربة المناسبة لها >>

    توقفت عن استرسالها لصالح اللعب بضفائرها التي فرضت عليه تسلية ما نزلت الضيعة عن رأس شجرة صنوبر تطل من شق الباب نصف الموارب ، تنقلت كدرغلة بين الأغصان المجاورة امتزجت الصورة بواقع رمّلته الحيرة

    زحفت على كوعيها و ركبتيها باتجاه الباب ، فتحته على مصراعيه، لترى بوضوح مشهد البيوت المتناثرة ، وضعت بين الفراغات الأمكنة التي تشب كنار جائعة للحطب ، بدت لها حارة جفلت من هذه المشاحنة المعتدلة للحظات مع وحدتها التي ولجت أفقها الداخلي سكبت عليها نظرات تشوبها تساؤلات مباشرة وبعد عزاء للوقت الذي مضى ، امتدت أمامها لوحات لقرى تئن تحت أظافرها ولصبية يقتلعون أضراس الزمن بلهو قاصر كان الجميع يتحركون جيئة وذهابا وكأنها غير موجودة مرت أمامها ملامح تشبه الشيفرات البسيطة للوقت ، تذكرت ما أحصاه ماهر ذات مرة عن الضيعة بفخر قائلا : " تصوري أن عدد المتعلمين في قرية لا يتجاوز عدد سكانها الألفي نسمة تصل إلى 85%"

    تراءى لها رسمه على ورقة كرتون علقها لفترة طويلة فوق سريره ورقة ملونة تشبه الخارطة للقرية ، بيّن المركز وتحيط به مجموعة من الحواري الصغيرة منتشرة فوق التلال ضمن دائرة قطرها ثلاثة آلاف مترٍ، ووضع نقاط علام على الجمعية التعاونية الفلاحية ، والبلدية، والوحدة الزراعية الإرشادية، والمستوصف ، ومركزي توزيع الغاز، والمقسم، و خطوط تمديدات مجارير صحية و مياه ، والطرق المسفلتة التي تربطها بصافيتا وطرطوس وحتى طرابلس، إضافة إلى الثانوية، وفريق كرة قدم عدد أسماء ثمانية أطباء، وثلاثة صيادلة، وطبيبي أسنان، وثلاثة وعشرين مهندساً، وخمسة عشر شاعراً وشاعرة ومطرباً شعبياً، وعازفي عود ورق معروفين على مستوى المحافظة

    شعرت أنها أمام عزف متناغم مع أعماقها : " إنها قرية مكتفية ذاتيا بكل شيء ، ومتآخية ، وهذا بفضل سر لا بد وأن تتطلع عليه " ، دفنت نظراتها وراء هم جديٍّ ، تحسست رائحة الأرض، ونبل الفلاحين، وكرمهم، وتذكرت ذلك الضيف الذي جاءهم يوماً وقدموا له مائدة كبيرة من منتجات البيت دون أن يشتروا أي شيء، فهنأ الضيف والدها معبراً عن إعجابه الشديد بنشاطه، وتراءت لها بشكل عفوي صورة ذلك الشحاذ الذي تفاجأ بتأمين حاجته من أول أربعة بيوت، ملأوا له كيسه وطلبوا منه ألا يعود ثانية، ففعل

    وقفت شفا روحها على حافة الارتباك ، روحها التي تجري كساقية مكونة من ضفة واحدة في جسدها الذي يسويه الجريان وفق مشيئة كأن الحدث يعجنها للتو من آهة المختبر الآني ليومياتها اتسقت معها عنوة واصطفت الذكريات الجميلة في طابور يمتد إلى ما بعد برج صافيتا والذي يبعد من هنا حوالي أحد عشر كيلومتراً أو مسافة نظرة واحدة ، نظرة مهيبة، نظرة ابتاعتها من الزمن ولا تبدلها بكنز ثمين من كنوز الجان تمنت ألا تتحرك من مكانها حتى تشبع خلاياها وروحها من الاستفزاز الطارئ كانت لا تزال مطرقة تتأمل أشياء غير حاضرة في ذهنها كما يجب ، أشياء تحاول أن تعمر منها أجوبة وبيوتا تسكن فيها روحها استغرب ماهر جلوسها بالقرب من درفة الباب المفتوحة على مصراعها ، وسألها عن السبب ، فأجابت فوراً :" لا أعرف وأنت من قال ، ليس لكل سؤال جواب ، وعندما نملك الأجوبة الكاملة لن تكون هناك حياة مسلية "





    رد مع اقتباس  

  3. #23  
    المشاركات
    206
    بقي على وجومه ، واضطر تحت طلب أخته الملح للكلام ، و بادرته سائلة:

    - هل هي راضية؟

    - ليتني لم أذهب إليها دمها شاي ، وهي لا تزال تردد كلاماً فضائحياً تهدد وتتوعد وتشتم ، وقالت بحقي كلاماً لا يحتمل

    صحيح أنا ولد طائش وبياع كلام ولا أفقه شيئا في هذه الدنيا؟

    - هذا ما قالته عنك؟.

    - بل أكثر.

    - قالت أمي إنها تريد تصدير خبثها إلينا

    أطرق وكأن عينيه تبصر أمرا خفيا ، اقتربت منه سلاف ، وهزته من غرته دعاها مداعبا لشرب الزوفا ، استجابت لطلبه، مسكها من معصمها ومضيا إلى المطبخ تمنت عليه أن يحكي لها آخر قصص عشاق القرية، فتجاهل الطلب ، ثم طلبت أن ينشد لها آخر ما كتب، لاحظت استياءه، فتركته مبتلعة أخر كأس لترددها اليتيم، ومظهرة بعض الغنج وعدته بالعودة إليه مالت إلى طرف أمها المنشغلة بترتيب أفكارها لاحظت عليها القلق سحبتها إلى تحت شجرة الجوز ، وبدل أن تكلمها عن الجدة ، رجتها مازحة أن تحكي لها قصة عشقها مع والدها أبعدتها الأم عنها مع ابتسامة خرجت من كامل وجهها ، بل رأتها سلاف وكأنها تخرج من كامل جسمها وكي تتخلص الأم من هذا الموقف عملت على إبعاد الابنة عنها وفق مبدئها الفطري " إذا أردت أن تلهي طفلك عنك اشغله " فطلبت منها الاهتمام بتصفية اللبن وتحضير اللبنة وسكب العيران على القمح والحمص المسلوق تابعت ما طلبته الوالدة بحذر، وكلها رغبة في طرح بعض الأسئلة على الوالد المستاء جداً وضعت اللبن في كيس يمرر الماء وعلقته على غصن شجرة الجوز الشامخة أمام فسحة الدار بانتظار أن ينشف والحصول على مقطوف اللبن وبدل الاقتراب من الوالد جاءت وهمست في أذن الوالدة:

    - ما العمل التالي يا أمي؟

    - لا يسأل مثل هذا السؤال في ضيعتنا.

    - لكن الأمر يخص جدي وجدتي.

    - هما مَنْ يقرران العمل التالي.

    - يجب أن نساعدهما.

    - قلت لك هما سيتصرفان ، وعلينا احترام مواقفهما.

    - حتى ولو كانت على خطأ؟

    - قلت لك لا توجد خطيئة أبداً الخطيئة مثل هذه الزبالة المرمية عند حافة البيت لا قيمة لها، أو مثل كومة تبن بللها المطر لاتشتهيها - أجلّّك – حتى الحمير رغم ذلك نعمل طويلا لإقناع أنفسنا والآخرين أننا مغلوبون ونستحق الشفقة، بينما في الحقيقة تقطع الخطيئة عنق ذاتها، و تعرينا في لحظة نكون بأمس الحاجة إلى الاقتراب من (جواتنا )، بس نحن بألف خير (لأنو بلشنا نعرف كيف بتبيض الدجاجة كما قالت الجدة )

    قاطعتها سلاف بدهشة :

    - طلاب الجامعة لا يعرفون كيف تبيض الدجاجة .

    - وهذا هو الصحيح ، ما لازم نعرف كل شي

    - ما فهمت عليك أي شيء

    - ممكن تشوفيني معقدة شوية، لكنني أراقب سلوك حيواناتنا المربوطة في الزريبة التي أدخلها يوميا عشرات المرات ، أشعر أنها مثل المدرسة، والمساكين نحن البشر لا تلك الدواب ، والآن أستطيع التمييز بين جسدين : جسد الحيوان و جسد الإنسان، وأعتز بأنني قادرة على التميز بين رغبات الاثنين وهذا صعب جدا للناس ( التانيين)، وإذا بقينا نعادي الطبيعة، فستنتصر الدواب في النهاية لأننا وضعنا أنفسنا في معركة تحد، بس تافهة

    كررت سلاف سؤالا في الصميم حول ما يجري ، وأضافت بعد ممانعة صارمة من أمها :

    - لا أفهم عليك كثيراً

    - ممكن أكون ( خوته ) بسبب الحادثة اللي تجنن راح تعرفي عنها كل شيء

    ثرثرة خافتة تأتي من جهة بيت الجدة ، وبعض الأصوات الهائجة تزاحم السكون من جهة البيت مرّ فلاح يغذُّ الأرض كبغل شموس نحو البوابة الرئيسية للحوش القديم

    حدجته الأم بعينين كلبيتين وحاولت أن تسرَّ لابنتها كلاما ما ، وجدت نفسها في ورطة كونها غير مستعدة بالفعل ، وغير قادرة على قول كل شيء ، رددت في نفسها " سيأتي الوقت ، وأقول لها كل شيء دفعة واحدة ، قررت أن أفعل مع ماهر الشيء نفسه ولم أقدر بس طلع شاطر وتعلم ، والآن يعلمني"

    في هذه الأثناء كانت تتعامل سلاف مع شرودها كحالة طارئة ، وتعالج صمت الأم بنظرات لائبة

    شعرت الأم بأهمية أسئلة ابنتها ، واستدركت أنها تطرح أفكارا ناضجة ، وأول ما تهيأ لها الابنة الكبيرة التي حان مصاحبتها ، وتصدت لمهمة واجبة عليها ، مهمة أن تنقلب على نفسها وتلعب دور ( الختيارة ) أسأها هذا التصور والتأخير عن واجبها تجاه الابنة المربكة

    نظرت إليها بإمعان مفرط، وقالت في نفسها :" والله كبرت يا شقية "

    لكزتها الابنة من ردفها ، وقالت : " هه هه وين صرنا ؟! لانزال على الأرض "

    انتفضت الأم ، وأجابت :

    - كفى مثل هذه الأسئلة .

    - وهل لدي غيرك أسأله؟

    جاء الرد حادا ومباشرا ، خاب ظن الأم بنفسها أكثر ، وهمست " فتقت الحادثة جروحا في غير أوانها "

    انتبهت سلاف إلى ارتباك أمها المتزايد ، فاستغربت ، وأرادت أن تتركها لوحدها طلبت منها الأم أن تقترب منها، ففعلت طوقت رقبتها بكامل ذراعها ، ثم تنهدت ، وقالت جملة لا علاقة لها بالموقف ، جملة هروب من طرح جملة أخرى ، أوقفتها سلاف عند كلام قطعته من ذيله :

    - لأنه لا يوجد في ضيعتنا أغنياء، لهذا السبب راح تبقى حتى آخر قرية على هذه الأرض فيها خير

    - ما علاقة الأغنياء بقريتنا ؟ قولي ما تشائين، لكنني لا أحتمل عذاب جديّ لازم نتدخل ، و

    هزت الأم كتفها ، وتابعت :

    - أنت حرة و عقلك أكبر من عمرك ، ويمكنك التدخل وحل هذه المشكلة أو غيرها ، ويمكن لأي شخص التدخل، عرف الأهالي بالأمر، بس لم يتدخل أحد، اسألي نفسك هذا السؤال؟

    - راح أسألك أنت

    - لأنهم لا يريدون الإساءة لقرار الضمير، واعرفي إذا تدخلت فهذا يعني أنك تجاوزت قوانين الضيعة ستمر المشكلة وتنتهي لوحدها وكل ما يتدخل به البني آدم ينزعه

    - هذا تطرف

    - هذا حق لا يوجد خلاف في تاريخ ضيعتنا إلا وحل من قبل صاحبه بالتحديد هكذا نحاصر مشاكلنا ونتركها تورط صاحبها حتى يجد مخرجاً لنفسه تترك لكل واحد فرصة أن يتعلم، وإذا فشل، فوقتها يخترع لذاته الحل الخاص به، والفشل في النهاية شكل من أشكال الصح والمحاولات هي مقبرة التواكل

    - هذه أقوال ماهر ؟

    - ماهر خرج من هنا ( أشارت إلى جبينها ) وليس من مكان ثان وبما أن المشاكل تُحل، وهي أصلاً قليلة جداً، فأعتبر ذلك عدالة.

    - قلتُ ، إنك تعرفين كل شيء

    - عن الضيعة أعرف كل شيء، لقد علمتني جدتي وأمي وكتب الله والدين التي تلاها جدي أمام حلقات الناس وأنا منهم أشياء هامة، لكنني لا أعرف شيئاً عما يدور خارج حدودها

    اعتبرت سلاف ذلك دعابة من والدتها التي تركتها ومضت صوب المطبخ كي تشغل نفسها بشيء مؤنس اقتربت الأم من حوض الغسيل ، أحدثت ضجيجا هرب إلى سفح هدوء رمقته سلاف بدقة ، وتمنت أن يسري مفعوله كأن الأم تبيتُ رغبة ما تحفزت الابنة النشيطة و فكرت مدعية اكتشافها سبب هذا الشطط في مثل هذا الوقت من النهار الذي اعتادت شرب المتة مع والدها سُمِحَ لها بكسر القاعدة إلى حد ما، تذكرت سلاف حادثة رفض الوالد شرب المتة عند جاره << وعندما سأله : ليش ؟ فأجاب :شرب المتة " بديمتا" أم بغير ديمتا نهو أطيب؟ فقال الجار : بديمتا، بس شو هي ديمتا ؟ فرد: ديمتا هي مرتي وصارت مثلا في الضيعة>> كانت على وشك أن تطلب منها الجلوس إلى مائدة الوالد

    سرى التردد في عزيمتها وهي تنظر إلى وجه ماهر المربّد وهو يتبادل الكلام مع الوالد العصامي بدا عليهما بعض التشنج صعدت سلاف إلى السطح المظلل بعريش يغطي كامل مساحته والمؤلف من خمس غرف بحثت عن شيء قديم تلقي عليه نظرة استحسان أو استجواب، فلم تجد: " يا إلهي كل شيء هنا يتجدد يومياً، والذي أراه في الصباح يكون قد أخذ شكلاً آخر عند المساءحتى شكل الخلاف العائلي غريب من نوعه "

    وبعد توحد دام ربع ساعة تقريباً تفقدتها والدتها، صعدت إلى السطح لتجدها في المكان المفضل لها هنا طلبت سلاف منها السماح لها بالجلوس على كرسي قش عتيق كي تتمكن من وضع رأسها على كتفها، استجابت الأم، والتي شعرت بحاجتها إلى قليل من الاسترخاء، فأصبح وجه سلاف الحضن الدافئ لأمها استمر هذا الوضع لدقائق تملكت الأم عادتها التأملية حلقت مع أفكارها كإنسانة عالمة ببواطن الأشياء المحيطة بها بعد حين تنهدت، وقالت استجابة لسؤال ابنتها عما تفكر به :

    - يجب ألا ندع القسوة تمس حياتنا ، بني آدم مرات يعقد الأمور، (بس أنا شايفة كل شي هين) و ما لازم نقف مع الحب أو ضده، ضد الشر أو معه قال أخوك ماهر " كل شيء إجباري مع هذا أو ذاك يؤدي إلى نتائج عكسية " يا ضنا أمك، الحب ينمو تلقائياً مثله مثل ورد الجوري، لا تصدقي أنه نحن اللي زرعنا الورد أو غيره، ونحن ربينا البقر وعلمناه كيف يعيش كل (هالأشيا) كانت موجودة في البرية قبلنا، وكانت أحلى، ليس نحن اللي خليناها حلوه، نحن خليناها أبشع، أروع ما في هذه الدنيا البرية، وإذا ما رجعنا ( إلها) اليوم قبل بكرا راح نضيع حتى البقرات اللي يطعمونا حليبا و كمان الشر ليس قدرا ، وأكثر الأحيان يقتل ذاته "





    رد مع اقتباس  

  4. #24  
    المشاركات
    206
    وقفت الأم ، مططت جسدها ، لوته يمنة ويسرة طقطقت مفاصله كأنها تتخلص من تعب طلبت منها سلاف بإلحاح أن تكمل الحديث ، تنهدت ، وقالت :

    - إيييه يا بنية ، الحديث ما يخلص مادام فيه حياة على وجه الأرض ، صدقيني ما في خلاف صار في يوم من الأيام، وحتى حرب سفر برلك نفسها أو هزيمة حزيران أو اجتياح إسرائيل للبنان أو غيرها إلا بسبب رغبة الواحد بأن يأخذ كل شيء لنفسه ، على مبدأ " اللهم أسألك نفسي " والباقون كخ نكرة لاشيء ، ويحدث هذا الأمر بس يصبح الواحد قادرا على أخذ ما يريد هذا ما يحدث لجدتك الآن تريد الحاكورة لنفسها ، وجدك عجوز وحسبت أنه ضعيف فضربته ، وهيك صار مع هتلر ضد جيرانه ، المبدأ واحد

    أشارت بإصبعها إلى صدغها عدة مرات ، وقالت : " أفكاري هذه من جدي ، كان عارف أشياء كثيرة ، دائما فيه ناس أذكياء لكن ما في أحد يسمعهم وبصراحة هذا تقصير منهم ، اللي عنده شيء لا زم يقوله "

    أحست سلاف أنها طفلة يمرجحها متن هذه الأفكار من صدغيها

    أنهت الأم حديثا عن القتال الذي نشب في حي الحمرات في طرطوس العام الماضي ، وانتهى بقتل رجل لأب وثلاثة من أولاده الذين اعتدوا على الرجل الضعيف ، فقتلهم و قتل نفسه " لازم نترك العقل يرى وليس العيون " وبعدها سردت قصة قصيرة عن لعبة القط والكلب ، وطلبت منها أن تراقب كلبهم والقطة عندما يلعبان ، واعتبرت ذلك مفرحا للقلب وشبهت لعبهما كالصراع الذي يدور في الخفاء ، لا نراه لكنه ينتهي وسألت :

    - هل تعرفين لماذا ينتهي ؟

    - لا لا ! لا أعرف

    - قال جدي ، الأشرار يتصارعون والأخيار يتفاهمون ، والخيّر ليس بوسعه ضرب أحد أبدا خذي مثلا بسيطا : انتهت قصة غرام شفيق وسلمى بسلام ، كان ذلك انتصاراً للحب، لأن كلا منهما أقام علاقة مع حبيب آخر قصة لم تنته بزوال أي منهما ولا بصراع أو خلاف كلاهما تزوج ويعيش حياة هانئة لازم نتوقف عن التصفيق للفائز الذي دحر عدوه ، أو قتل عدوه صار من الواضح أن لا أحد يقتل أحداً إلا ويدمر نفسه ولو بعد حين هذه خلاصة لحياتنا قد لا تقتنعين، بس ستأتي التجربة وتعلمك ما أعلمه أرى الكراهية تدخل إلينا من بعض الشقوق الصغيرة، وتموت لأننا لا نكترث بها تصوري لو تدخل الناس للضغط على مرام كي تقبل الزواج بفادي لكان ذلك مأساة حقيقية، فبعد استشهاد حبيبها مروان أثناء الاجتياح الصهيوني لبيروت أقسمت ألا تتزوج، وهي الآن سعيدة في حياتها حتى أنت ، لم نتدخل في اختيارك الفرع الذي تحبين تأملي هذا الغصن اليابس بانتباه، بعد حين سيسقط تلقائيا، وإذا حاولت إسقاطه بالقوة فقد أكسر غصنا أخضر لاتزال الدالية بحاجة له

    هزت سلاف رأسها وكأنها غير معنية بما قالته أمها، ثم سألت بسذاجة مبطنة برغبتها في معرفة أشياء أكثر عمقا :

    - وماذا عن جدتي وعمتي و؟

    هزّت كتفها نافية أية معرفة بما يدور تحت << أشارت بإصبعها إلى البيت >> ، ثم تركتها ونزلت عن السطح تاركة الابنة لأنياب الحيرة

    تذكرت سلاف جدها من أمها الذي كان يدلعها باسم الهرة البيضاء تهيأ لها بقنبازه الأبيض ، وجاكته السوداء من بالة أنطاكية ، وعكازه المكور من رأسه بكرة ودبابيس نحاسية وقف أمامها كصقر جاء من قبة الأرض البعيدة راقبت كل تفاصيل جسده : ذقنه غير الحليقة ، شاربه الأشعث ، عينيه الثاقبتين ، والحكمة التي تطير من وجهه كعصافير مدربة على الطيران تهيبت الموقف ، اختفى الجد دون أن تنتهي من اللحاق بسفينة جسده الطافحة ببريق وإشعاع كاد يغمي عليها

    رنت في داخلها مرة بعد مرة :" الهرة البيضاء . الهرة البيضاء "

    اندفعت وراء هذه الصيحات التي ارتطمت بهيبة الجد ، وبمروج الماضي استندت على زند المفاجأة المبهرة ، استرجعت تاريخها، ولأول مرة في حياتها لتجد أنها فتاة من مواليد 1982 تنتمي إلى أسرة فلاحية بسيطة، أنهت دراستها الثانوية في مدرسة الضيعة، كانت شاهدة على تجدد الفصول ، وشاهدة على مرور هذه السنين من حياتها بسرعة دون أن تعيرها أي اهتمام جدي ، باركتها نساء القرية وقلن عنها " إنها فتاة سيكون لها مستقبل مشرف " اجتهدت في البيت وفي الدراسة ، وكانت أمها تناديها " عيني اليسرى " أي العين القريبة من القلب كما فهمت فيما بعد دخلت الجامعة بناء على حلم فجره رضوان، احتفظت بحكاية البعث لوحدها ، طلبها ابن خالتها للزواج ، فرفضت وأيدتها أسرتها تحفظ عن ظهر قلب تخوم الأراضي، وأسماء الحواري والناس والأشجار. حاولت ربط بعض الأسماء مع بعضها البعض كأسماء الأراضي : (أرض المراح، والجورة، والفتيح، و البويدر، العيدم )، وأسماء العصافير والأزهار أدركت أنها أمام تباين للتخوم ولملكيات الناس، لكن كل واحد يحترم ملكية الآخر بفطرية لا مثيل لها واستغرب بأن هذه الأسماء غالية على الفلاحين كأسماء أبنائهم ردد صوتها الباطني :

    " الضيعة كلها لي، أينما كنت، فالناس أهلي وأرواحهم كروحي إن احتجت شيئاً أعطوني إياه ، وإن قالوا لي صباح الخير قالوها من الأعماق إنها ضيعة آمنة هي لي للجميع وحتى للضيوف وللبعيدين عنها تبا للمشاكل الرخيصة التي حدثت هذا اليوم "

    حضر ماهر واتخذ الزاوية المحببة له مكاناً للاسترخاء، وأومأ لأخته قائلا :

    - تعالي تعالي يا سلاف، فهنا أستطيع رؤية العالم من (جواه) وكما قلت لك، فالدالية هي السماء، والبقية هي النجوم تتفتح الأضواء على مساحة التلال كورد الجوري إنه الليل الآتي ، وما عليك إلا مد كفك لقطف الأحلام

    كان يشير بكلتا يديه إلى السماء كمدرس يشرح قصيدة غامضة، أحست أنه يهرب من مأزق إلى خيال لعله ينجو من صداع ليلي كابس تعرفه كنبضها ويجعلها تتفاعل معه كصديقة حنونة لما يتمتع به من حب، وتحسده أحيانا لاندفاعه المثمر باتجاه المجتمع والعمل على خدمته من خلال وظيفته في مؤسسة البريد ، وتحترم فيه حبه للمطالعة وتقرأ له بعض ما يسطر من جمل مأثورة وتجارب كتابية في كراس خاص به تستمتع بالجلوس معه ، و تحسه كعجوز يحمل كثيرا من الخبرات عندما يتحدث تستمتع كثيرا بمكتبته المميزة وبقراءة بعض كتبها خطت نحوه بتاثقل ، وهي تردد:

    - إنها لحظات صعبة ومثيرة ولا أعتقد أنك ستكتب الشعر من مكانك هذا

    - صحيح ، إن هذه الإطلالة تمنحني الانسجام، لكن جئت لألعب الدور المقلوب،أي جئت لأجعل من الفوضى إشكالية وأتركها لها علَّها تحقق انسجامها من دوني أو تبقى هكذا عشوائية كأفكاري.

    - أنت أقوى من ذلك.

    - لقد دربت نفسي على الجلوس في زوايا عديدة وأفهم دور هذا البيت في جعل محيطنا كسلة صغيرة فيها ما يشتهيه الأولاد، أنظر إلى الجنوب، فتظهر كتلة ضبابية كمنظر أسطوري رائع لجبال لبنان، وإلى الشرق غابات صنوبر تحتضن نهراً، وبعدها برج صافيتا، وإلى الشمال قرى تستريح فوق قمم الجبال كأنها أنجزت للتو مهمة التسلق، ومن الغرب يطل المتوسط كشاب يتمهل الخطى إلينا تصوري أن أنتمي إلى كل هذا منذ ميلادي ويحتفلون بي كل صباح هذه هي الأعجوبة التي وشمت ضيعتنا وجعلتنا نتشابه لدرجة الاختلاف هناك تدخل من السماء لصالحها، عند ولادة هذه الضيعة كان الإله في لحظة تفرغ تام وبيده ريشة من نوع آخر وقتئذ توسل إليه هذا المكان ، فأهداه أجمل القرى ، وتتباهى بأن هذه الرقعة تعود ملكيتها الروحية إليها والأهم الإحساس المتولد فينا جميعا أن محاولتنا امتلاك الأرض هو نفي للذات وجعل الأرض أقوى في الاستحواذ على ما تنتج الأشياء كل الأشياء لا تُمتلك وإنما تستملك إلى حين والجمال الذي نحن عليه ليس للتملك وإنما للمتعة اليومية وثمنه أغنية جميلة أو عبارة من فم عجوز





    رد مع اقتباس  

  5. #25  
    المشاركات
    206
    - ماذا عن جدي؟!

    - بصراحة ليس لدي تفسير، فأنا مذهول ومتردد نعرف جيداً أن الضيعة نقية من أي زواج محكوم بالمصالح، أو الضغط، أو الإكراه، ثم تأتي جدتي العجوز البالغة من العمر تسعة وستين عاماً وتفجر أزمة خطيرة تطلقها من أعماقها وشهواتها باتجاهنا، أيعقل أنها تريد امتلاك البستان؟ فهو قيمة تافهة تجاه تاريخها وسمعتها هي مفسدة و

    - لن تفسدنا فالحب الحقيقي والبسيط دائماً يفوز.

    - هذه هي قوانيننا لكن أخشى من العدوى.

    صمتت سلاف لبعض الوقت، وقالت رغم حراجة الموقف :

    - أنا لست خائفة من العدوى ، وإنما خائفة على جدي أن يخرج نفسه من الحياة، أو على الأغلب أن يكون قد اعتبر نفسه في عداد الأموات

    تجنب ماهر التعليق المباشر ، ووأحس أن حلقه جاف وبحاجة إلى تبلله بالمتة، ودون أن يطلب منها نزلت وأعدّتها

    جلست مقابله يحركان المصاصات ويفتعلان فرقعات متعمدة تعبيراً عن ضجر ما وعندما أشار لها إلى أنَّ غابة الصنوبر المجاورة تشبه عيون صبية خضراء أُهملتعلقت باستنكار:

    - ليس الوقت للغزل

    - اسمعي لدي فكرة تشغلني منذ فترة، ولم تنضج بعد، لكن لا بأس أن أقولها في مثل هذه الظرف، قد تكون مفيدة أو تفسر ما نحن عليه

    - ما هي؟ ما جديدك؟

    - نحن نؤمن أن ضيعتنا من أجمل القرى.

    - نحن نعتبرها جميلة كبقية القرى.

    - أنت على حق لكن قرية كمجد لون لا يعتبرها أهلها كذلك ويشعرون بالتفوق خاصة بجمال ضيعتهم شعورهم بذلك دفع مثلاً أهالي قريتنا للاهتمام بها أكثر لدرجة أنها تفوقت على مجدلون، الأهالي هناك يقدسون كل شئ لدرجة التعصب والفوقية، الجمال دون شك صفة رائعة، لكن تقديسه، ثم استغلاله كصفة للتفوق علينا، جعلنا نغار منهم غيرة أشبه بالحسد، ثم تقدمنا عليهمفي واقع الأمر لدينا جمالنا الرائع الذي نقدسه أيضاً، لكن تفوقنا جعلنا في موقع التميز ومنحنا خصوصية في غاية الخطورة دون أن نعي، أو نخطط لذلك، وأخشى السقوط في المحظور هم بدؤوا بعد ذلك بالتقوقع على أنفسهم الذي أساء كثيرا إليهم، نحن لم نصل إلى ذلك الحد بعد لكن العزلة التي فرضوها على ضيعتهم قد تصيب ضيعتنا بالعدوى وإن كان الجمال لا يحتمل الحصار، لكن الناس يحتملون ، وبطبعهم ميالون لمحاصرة أي شيء حتى المستحيل ذاته فأهم ما نتميز به هو قدرتنا على التدمير أحيانا وهم يبنون يدمرونالانطواء أو عزل أشياء هي بمثابة ملك للجميع يمثل خطراً عليها، أسمي ذلك عنصريةأو تعصباً، و الذي يعني منع الآخر بلوغ ما هو حق للجميع و الاستمتاع به، و ربما نحن على هذه الطريق الخطيرة نسير باتجاه هاوية

    - لماذا تعرّف العنصرية الآن؟

    - ألا ترين معي أن مجدلون أفرزت خصوصية ما كجمال طبيعتها وتقدمها العلمي وتفوقها الواضح علينا سبقتنا بالفعل ، ثم تقوقعت ويصيبها الآن تقهقر ما هذا ما أفكر به جدياً: التقهقر ما سر الانحسار، وما الذي يتقهقر بالضبط؟ إن تصرف جدتي في مثل هذا الوقت لنذير شؤم لنا جميعاً

    - ما أعرفه أننا بخير أما عن جدتي، فكما فهمت ستعاقب

    - لا يمنع أن نحدق حولنا، خاصة بعد حادثة جدي فالحادثة مدعاة للقلق عندما لا تترك الأشياء الرائعة الإقامة بيننا يجب أن نخاف على مستقبلنا، ويجب أن نفكر بما يدور حولنا و بعمق

    - أهذا آخر ما طالعته؟ أرجو ألا تخوفني أكثر يكفي ما يجري لنا الآن

    - بصراحة هذا ما أحسه، وأخشى كثيراً مما يحدث ، وأن تكون الأمور أخطر مما نتصور قال أستاذي فاضل " لابد من تغير نظرتنا للعالم ، وكان يقصد أن كل شيء يتداخل مع بعضه البعض بطريقة مغايرة "

    شعرت باندفاعه نحوها كمحاولة جادة ومتجددة كي يوقظ النسيان في ذاكرتها ويعيدها إلى مختبره النظري حول المدى المطلق للأخلاق وإمكانية تسجيد ذلك فيها من خلال حادثة البعث التي اعتقد أنها قد نستها

    أطلقت الوالدة صيحة بصوت أخن من الأسفل داعية سلاف للنزول، فنزلت وطلبت منها الذهاب إلى العين وإحضار مياه للشرب، انطلقت مباشرة ومعها الجرة باتجاه وادي العين التي تبعد حوالي واحد كيلومتراً، وصلتها ملأت جرتها وعادت وجدت طريق العودة أصعب لتفاعل ذاكرتها مع الطفولة التي أمضتها هنا مع الأهل ، ومع تلك الأيام التي كانت تسوق الدواب وترعاها بين السفوح والجروف فمن بين أدغال السنديان والشيح والزعرور البري تهيأت لها حفلة عرس الجان طالما حدثتها الوالدة عنهم أيام الشتاء الباردة ، صورتهم لها كمخلوقات رائعة الجمال، الجان في الليل يحتفلون بالناس ويحرسون العين وطريق الوادي لهم طقوسهم الجميلة، وكل من يريد الاستماع إليهم ما عليه إلا الذهاب للوادي و الاختفاء في دغل كبير، ثم ينتظر قدومهم إليه تخيلت سلاف مشهداً لعرس ملك الجن ، وعندما سألت نفسها بتروٍ:

    - هل رأيتهم، أو استمعت إليهم، أم خيل لي؟

    وضعت الجرة جانباً ونظرت إلى الوادي والأدغال اللامتناهية مسحت نسمة باردة شكوكها قالت بشيء من العتب:

    - بعد كل هذه الصداقة والألفة تحاول إخافتي أيها الوادي العتيد سأبقى على الألفة التي عهدتك عليها وأعلم أن الجن أصدقاؤنا.

    وصلت البيت سكبت الماء لأمها ، وانشغلت بأمور كانت سطحية واعتبرت أفكارها مثل تقلبات الطقس في شهر شباط رغم مرور الوقت بقيت منشغلة بحركات أفراد العائلة التي رصدتها كرادار بفضول مبرر اختصرت سهرتها بأسئلة بسيطة وهي تتقلب بجسدها الطري في سرير نومها

    " هل أعرف حقاً تاريخ ضيعتنا؟ أو هل هناك من يعرفه جيداً، وحتى تاريخ العائلة لا يزال غامضاً ؟ أتذكَّر أن أمي أنجبت طفلاً مشوهاً ومات، يومها قالت: ذلك قدره واقتنعت، ثم جاء مَنْ قال لي إنَّ الحياة تنقي شوائبها لقد حلت عمتي في البيت كلغز لم أعرف عنها شيئاً من سيخبرني بأمرها ؟!

    يجب أن استكشف الغموض المحيط بالعائلة، والتي لا تزال والدتي تحتفظ ببعض الأسرار الخاصة بها ثم ما هو تاريخ الضيعة؟ أهو وجه أمي فقط، أم ظل الدالية وحشرية البحر القريب ؟"

    لاحت أمامها تراتيل مقدسة لخطوات الزمن ، وضعت لنفسها واجباً واجب الاستكشاف أبعد عنها ذلك قلق الأسئلة ونقلها إلى حالة أكثر رواقاً وتلقفها النوم كدرة

    نهضت صباحاً حملت حقيبتها ودعت أسرتها بلغة العيون فقط ، وانطلقت إلى اللاذقية تاركة وراءها شحنة من المشاعر في صدور الأهل وفي روح الضيعة التي تُقحم في أفكار مثل فكرة ماهر حول تبجيل، أو تقديس أي شيء كان، والعمة - اللغز ، والحدث – القنبلة الموقوتة يمسك صمام أمانها الجميع

    عند المفرق الأخير للضيعة، همست في أذنها : لا تقلقي، فأنا بخير، ولا يمكن الاستحواذ على كل شيء ، خاصة الجمال، فمساحته بالطول والعرض بحجم هذا الكون ، وأنت بالنسبة لي كل الجمال كل الكون

    تلفتت يميناً ويساراً، ثم إلى الوراء، فبدت لها القرية كطفل يلوح لها بيده ابتعدت ومعها آخر نظرة ، نظرة فيها وجع من طعم السكر والنكتة والمروءة نظرة مصلوبة على حافة الوداع بانتظار أن تبتعد لتكون أقرب إلى إلهامها أكثر من أي وقت مضى





    رد مع اقتباس  

  6. #26  
    المشاركات
    206
    حب أخضر _ 3




    حملهتا سيارة عبر طريق تم شقه حديثا بين الوديان التي كانت تحتفي بوحدتها مع الحياة البرية لزمن طويل، غزتها آلات البشر وأصابت بكارتها بأخماج بربرية كان رجع صدى متواتر لصوت السيارة يتردد في جنبات واد عميق مغلف بطيات سفوح جبال وظلال وخضرة متماسكة كفستان عروس تتربع على كرسي الفرح ، بدت لها فتحة الوادي كعدسة منظار يكشف لها السماء بزرقتها الوردية تهيبت المناظر الخلابة التي يتوسطها جرح لمسيل ماء جارٍ وحوله أهداب نباتات كثيفة، ممرات على جسد الجبال صبغتها حوافر الدواب والحمير بلون التراب وسط خضرة ناصعة ممارق طينية ساكتة ، وأشجار تنطق ، عصافير تزقو ، ونباتات تقطر عطرا بريا تحتاج إلى سنة من الجهد على الأقل كي تعد أصنافها أو تلقي على كل واحد منها مجرد نظرة واحدة وكأنها في متحف يضم بين جنباته لوحات لعدد لا نهائي من الفنانين الخارقين أحست بتملك روحها للروائح النفاذة والغموض العبقري الذي شيّع رتابة اللحظة المارقة وجعلها واحدة من متفرجات تنسى لها الشغب مع أحاسيسها الغضة كطمي طري

    خرجت بها السيارة التي أثقلها صعود طلعة كضلع قائم تكسر ظهر الماكينة من الوادي إلى قمة هادئة ، بقي كل شيء وراءها تحت جناحي غيمة تحوط قمة جبل مقابلة ، وبان قدامها بشساعته كأنه طير إسطوري يحلق فوق امتداد البحر الذي يبعد عن نظرها مسافة لمحة واحدة صافحته وانحنت أمامه ناطقة بلغة الجمع والتعظيم ، وبلغت رغبتها حد الانصياع التام لما تراه كلاهما شكّل عمقا للعالم الآني الأشبه بعجين يختمر كانت السفن راسية بالقرب من جزيرة أرواد ، وكأنها تخترع ضوضاء للرحيل إلى عتبات عالم مجهول ظلت أمسيتها ليلة البارحة تدير هذا الاسترسال المشرف ومعها نكهة القرية الممزوجة بطعم الزعتر البري

    تابعت السيارة شق عباب ألفتها ، وابنة الجامعة تفك عن عنق نظراتها ولمسها حبل حكاية تركتها في الضيعة مع حامض الكلام وأوكسيد التجربة انتقل إليها طريق مهذبة تحيطها من الجانبين بيارات البرتقال والحمضيات والامتدادات الملونة للسرو والكينا والزيتون كلها تشير بوضوح إلى زمن لايمر زمن يستكشفها الآن

    تسارع مرور بيوت قديمة وحديثة ، مزارع وفسحات بكر ، مارة وعربات وحمير وكلاب شاردة وطيور توقعت أن يقول لها ماهر عن هذا المشهد << مزيج رهيب لحياة الريف والمدينة ستالايتات هواتف سيارات حديثة حمير مدجنة وفق علوم بيطرية متطورة ، ولبعضها شناشل وزينة وخرز ملونة مداجن بيوت بلاستكية محمية فلاح يرتدي ربطة عنق امرأة بين أصابعها سيجارة عسكري يحمل حقيبة طفل يركب بغلا وآخر دراجة >> نزلت عند رأس الطريق مرورا برقبته الضيقة التي قادتها إلى وسط الزحام في كراج طرطوس ركبت سيارة أخرى ، وتحركت باتجاه اللاذقية حازت البحر ثم اختفى وراء أسوار القصب وأشجار السرو الكثيفة التي تحمي بيارات البرتقال من حمى ريح الشتاء القاسية

    أفسحت سهول بانياس المخنوقة من قبل الجبال عن صفحة خضراء شديدة التلون والتباين انعكست دفئا على روحها البالغة من العمر سفر سنوات ضوئية والتي تحتضنها مرايا الحياة وتنتظرها عروض لمتفرجين يقفون على شباك تذاكر ويطلبون من قلبها أن يقطع لهم البطاقة في المقعد الأمامي يتزاحمون ويمدون أبصارهم طالبين البطاقة الأغلى لحضور الفرجة على أنفسهم من خلال فتاة يقدمها لهم الحدث ، فتاة غير مدربة على التهريج ولا قول الكلام الحسن فتاة سيفضحها نسيانها بأنها تحمل رسالة من ملوك التراب الذين لم يسمع عنهم أحد ولتقرأ عليهم من وسط الحلبة المتحركة برقية مستعجلة عما يعده سلاطين الريف لغزو القلوب الكافرة به القلوب التي حركتها رياح ليست من هذا البحر المجاور ، ولم تتطهر بزيزفون وسرو وشيح الوديان المجاورة رسالة غير مكتوبة بالحبر ولا بالماء ، ولا تجيد قرأتها رسالة يقرأها الجميع بحواسهم

    كان (الباص) يحمل نفسه والركاب ويدوس السائق على دواسة المازوت دون أن ينسى البصبصة من خلال مرآته على بنات الجامعة المكومات في مقاعدهم كقلائد البصل كانت سلاف متمسكة بداخلها وكأنه الحقيبة التي تودع فيه مونة للمحرومين في العالم كله وهدايا لانتظار محموم أقبلت بكل ما لديها من بساطة لدفع نفسها نحو مشاجرة بين عوالمها لتكون ساحة صغيرة لأطفال يلعبون أطفال يدفعون بعضهم البعض نحو لهو برئ ينتهي بوقوع أكبرهم يتفرقون وكل واحد يكيل التهمة للآخر ويكون واحد منهم قد كبر وخطط لما حدث ضاعت براءة اللعبة لأن صغيرا قد كبر صغيرا قد فعل ذلك عن قصد ، ووقف أمام سلاف وقال لها ببراءة :" خالتو سلاف مو أنا اللي دفشته "

    أبعدته من كتفه :" يا شقي ، أنا مثلك صغيرة أنا مش خالتو، ولا قاضية تفصل بين الأطفال "

    تربصت بها الجملة زحفت الشقاوة بعيدا عنها وراحت تنظر إلى نفسها بعيون عجوز تشبه جدتها ، وبحواس التأمل المصلوب ، والمدقوق بمسامير من أطرافه إلى لوحة إبصارها الهجين برؤيا آدمية ( ليش قلت له " ولا قاضية تفصل بين الأولاد" لم أعد طفلة هو على حق )

    تراءت لها عكاكيز وألعاب وملاعب وطلبة وجارة تعارك بعيون الهموم التي اختزنتها في جوار بطينات دماغها في دنيا الذاكرة التي تجمع المعلومات ، والتقدم في العمر، والهجوم على مواقع الغنج المدفون في مقبرة محاطة بآخر كلمات الأب ودلاله، وهواجس المستقبل والناس الذين تعبر بجانبهم على اعتبار أنهم مجرد ظل كل هذا ويزيد توضع في خزانها دون أن تنتبه لأمرها ولتقول لها في لحظة محاكمة أو عبور بجانب نفسها كضيفة على هلوساتها وجديتها ، كأنها تنظر إلى روحها وتلطّش أنوثة ناضجة مادام لم يلطشها أحد من الشباب أو الأفكار المتوفزة :" هه أنسيت أنك كبرت ؟ "

    لم تنقذها هزة كتفها اليتيمة ولا رفرفة جفونها وهي تقلب سفح جبل تجثم عليه قلعة المرقب وقمم أخرى تطل عليه فلل فاخرة عرفت من أحد ركاب رحلاتها المكوكية أن ملكيتها تعود لضباط كبار في الجيش قلّبت صورا متناقضة حول علاقتها الجوهرية بالحياة، لملمت أحاسيسها هذه وسلمتها لأول موجة مسافرةأما البحر الذي خنق اليابسة واستباح ترابها منحنياً عند قدمي جبل، فلم تشبهه بأي حال من الأحوال بضيعتها الواقعة ضمن أفق مفتوح عَبَر (الباص) المسرع كدودة هاربة والذي يحمل طلاباً وبعض الجنود أماكن أفهمتها أنها مستقرة هنا منذ الأزل لتعلقها بالجبال كجروفها الغنية بالحياة البرية

    قبيل إطلالة اللاذقية بقليل تذكرت رضوان حشرته في زاوية من همها فاسحة المجال لجديّها ولتاريخ العائلة

    وصلت السكن تماماً بعد ساعة ونصف من رحلتها وضعت حقيبتها في الغرفة وخرجت مباشرة لحضور المحاضرات حسب البرنامج التقت مع ندى مساءً تناولتا عشاءً من طعام الضيعة جاءت سوزان وسلمت عليها تناولن بعض الحلويات والفطائر الطرية

    استوضحت ندى بجرأة حول سبب شحوبها وسألتها عن ارتباكها، قابلت سلاف ذلك بابتسامة، وحدثتها عن وادي العين المسكون بقبيلة جن وبأنهم حراس الوادي، و عن المقبرة الصغيرة التي تعود إلى أكثر من ألف سنة

    استهجنت ندى الكلام عن الجن والمقابر كونها لأول مرة تثيره بطريقة استفزازية، سألتها مازحة:

    - ما اسم قبيلة الجن؟

    - كاسم نبع الماء : قبيلة الحور.

    - وهل قابلتِ أحداً؟

    - كانوا يقيمون عرساً.

    - والله أنا لا أؤمن بالجن ولا بحكايات المقابر اسمحي لي من فضلك أن أختلف معك وأريد النوم دون كوابيس.

    ضحكت سلاف وقالت:

    - إذن هذه نقطة ضعف كلما أردت (تطفيشك) سأدفعك إلى قبيلة جن ضيعتنا ، وصدقيني لو كانت الحياة للبشر وحدهم لكانت مملة فلنحسن اختراع الأشياء التي تماثلنا، على الأقل من أجل تسليتنا

    استحال على سلاف التخلص مما حدث خلال الأيام الثلاثة التالية ولاحظت ندى انشغالها وشرودها المتزايد الذي لا يخلو من عصبية ، وتوفز ، وكلمات نزقة أحيانا ، وكذلك تغيّر مزاجها دون أن تتمكن معرفة ما يشوبها من قلق وتردد ، تارة تبدو مرحة كهرة تلاعب حشرة مستلمة لمخالبها ، وتارة أخرى تنزوي إلى حد الانكماش والتحجر ربطت ذلك بحكاية الأستاذ رضوان ، اعتبرتها قضية غير هينة ، ولن ترتاح الطالبة القلقة على مستقبلها الغرامي قبل حل هذه المسألة سلبا أو إيجابا

    بدأت ندى تتصرف وتعيش على إيقاع صديقتها ، تفرح فتفرح مثلها ، تتوتر فتوتر أكثر منها





    رد مع اقتباس  

  7. #27  
    المشاركات
    206
    وكي تغير نغمات اللهجة المرتبكة والروتين الحذر في الحديث والدراسة طلبت منها الخروج إلى سوق المدينة رفضت سلاف بنبرة حادة ، تأسفت ندى وتراجعت عن الدعوة قائلة:

    - " بس تريدين أي شيء اطلبيه مني فورا ودون تردد ،و أنا جاهزة للتنفيذ ، راح غنجك قدر ما بدك "

    شكرتها سلاف ووافقتها على الاقتراح مباشرة وطلبت منها أن تذهب معها إلى السوق ، فوافقت ندى ، وتفهمت تغير مزاجها خرجتا كان المشوار غير لطيف ، واستشفت ندى من سلوكها أن أمرا خطيرا يدور في خلدها ، وأنها بصدد اتخاذ قرار ما بشأن رضوان اعتبرت الأمر خطوة بالاتجاه الصحيح ، وعليها الصبر قليلا ريثما تصل إلى قرار ، ومن بعده ستصبح أحسن وستعود الألفة إلى مجاريها المعتادة

    ازداد تفكير سلاف بحادثة الجدين ، ولاحقتها تفاصيل الحادثة كتوتر ينهش سكينة الروح دون أن تبرر سبب اضطرابها الأساسي ، لكن ألغاز وأفكار الجدة والأم والعمة وماهر ظلت تلاحقها أخذتهم من أيديهم إليها إلى مشاويرها وجعلتهم ينامون معها في السرير نفسه ويتناولون معها الطعام ، وأخذتهم إلى مدرجات الكلية لدرجة أنها صرخت في وجه أحدهم وطلبت منه التأدب أثناء المحاضرة دون أن تخجل أو تحسب أي حساب لنظرات زملائها الذين رمقوها بنظرات الاستغراب ومع كل ذلك ظلت تتصرف ببراءة وغير معنية بما يدور حولها من انتقادات عبرت عنها عيون الزملاء باستهجان وبحملقة فضولية

    القضية الوحيدة التي تعاملت معها بجدية هي الضيعة ، وفكرت بتجلٍ كيف جعلتها القرية تنسى اللاذقية ورضوان ولو لحين ، بينما أقحمتها المدينة المحشوة في بطن دنياها كبقايا في طيف أفكارها وتساؤلاتها حول القرية

    لوحت للمدينة برأس سبابتها وقالت في مواجهة باردة:" لا لا لن أنسى الماضي لن أحرقه أو أتمرد عليه لأنه : أنا أسرتي اللقمة التي لم يهضمها عقلي صحيح ما قاله ماهر عنك فأنت تهوين الانقلابات السريعة ، لذا تموتين عند أول صدمة في قلوب الفقراء من أمثالي ، وأنا أحب أن أعيش، ولا أسكن في أي مكان كمجرد ضيفة "

    دخلت عليها ندى وهي تكلم نفسها ، فهمست " الله يخزي الشيطان البنت جنت كش برا وبعيد "

    مسها تحدٍ وليس جن كما ظنت ندى قدمت لها ما تحمله من بسكويت محشو بالشكولا تناولته ووضعته جانبا تشبثت بحكاية مسقط الرأس كبؤبؤ عينيها وقفت على الشرفة وحيدة بينما انهمكت ندى بتحضير واجباتها

    نظرت نحو الأسفل وهدوست حول العزيمة وفكرة القطيع والعالم السفلي كررت النظر لتتأكد مما قاله ماهر رأت طالبات يعبرنّ وطلابا ينتظرون وآخر يحمل باقة ورد قالت بجدية : " أنا فوق فوق في الطابق الثالث وأؤلئك تحت لا فرق كبير بين العالم السفلي والعالم العلوي سوى أنهم يمشون على الأرض ، وأنا أحدق إليهم بحسرة "

    زررت قميصها من عند قبته ، وأعادت يدها بكسل إلى خدها الدافيء ، رانت الهدوء المبجل ، وقالت :" يمكن يكون قصده هم أحرار يمشون على الأرض بينما أنا حبيسة هذا المكان الضيق أستخدم فقط حواسي كالنظر للأسفل مثلا عند أول لقاء لي به سيكون هذا رأس الأسئلة "

    طلبت من ندى أن تأتي وتشاطرها النظر للأسفل ، ففعلت ونظرت ولم تصل إلى استنتاج سوى أنها ضحكت ، ثم عقبت قائلة :" بإمكانك النزول إلى هناك وتنظري لفوق كي تفهمي الفرق "

    كانت على وشك النزول لتتأكد من نظرية ماهر أوقفتها ندى ، وطلبت منها أن تدرس وضعت كتبها ودفاترها على الطاولة تهيأت للدراسة كتبت بعض التمارين نظرت إلى صديقتها ، ولديها شعور غريب يختنق في داخلها يدعوها للكسل :" يعيش الطلبة ما بين الفحصين حياة مرح، ويكدون أثناء الفحص " فأجابت ندى :" لم يكن هذا هو رأيك في الفصل الأول "

    وكان جواب سلاف مباشرة :" لقد تغيرت تأثرت بك "

    وضعت ندى القلم جانبا ، وأزاحت دفترها ، وقالت بفم فاغر :

    - يا عزيزتي لم أتغير ، أعتمد على تنظيم الوقت ، وهذا أمر مهم في الدراسة

    - وأنا مثلك

    - أنت لست مثل أحد ولازم تدرسي أكثر

    - لا أحب النصيحة

    - ولا أنا لكن أنت أكثر من أختي عجبك الأمر أم لا ؟ سأبقى قريبة منك

    - بصراحة أنا أمزح

    - أنت لا تمزحين ، لكن وضعك لم يتغير منذ لقائك بالأستاذ رضوان ، ولازم تنهي هذه القصة

    هيّجت سلاف الموقف على نحو انفعالي ، واعتبرت حكاية رضوان عابرة، وكل همها الدراسة

    شعرت بأنها تكذب على نفسها وقصتها ليست واحدة ولن تهرب من همين ، بل من ثلاثة أو أربعة عددتها على أصابعها ابتداء من البنصر فالخنصر والسبابة ثم الوسطى على التوالي وبالترتيب : << رضوان الجدة الدراسة وضعفي عليّ أن أحل هذه المشاكل الأربعة وعلى أي حال أنا لست واضحة مع ندى >> استعرت نار التحدي شعرت باحتراق داخلي يكويها وهي تعدد مشاكلها مرة بعد مرة كادت تصل إلى الرقم خمسة ارتعشت رعشة حيوانية ، تلوت حول هيكلها العظمي ، وطفح منها شحوب عدواني ، ثم طلبت فجأة الماء من ندى أسرعت وأحضرت لها كأساً ارتمت على السرير تتنفس بتواتر غير منتظم علا وجهها شحوب برتقالي يابس ، تفصّد جبينها بعرق مبعثر ، تخشبت يداها مع إزرقاق ترابي في أصابعها العشرين مسحت ندى وجهها بالماء مددت جسمها المتكلس على طوله أجرت بعفوية وعنف تدليكا لصدرها ، وأطرافها، فكت أزرار قبة قميصها ، ورفعت ساقيها إلى أعلى من سوية رأسها كررت رش الماء على وجهها ، ثم مسحت شفتيها الجافتين كقشر البصل مرات ومرات، وعندما فتحت عيناها ، تركتها ، وأسرعت لمناداة سوزان التي حضرت بسرعة وطلبت منها الاستعداد لنقلها إلى أقرب طبيب تحفزت سلاف التي تئن من شدة وقع أفكار مكتومة في داخلها ، غالبت جسدها الناحل والمترع بالآهات الخفية وجعلته عبدا لقوتها بعد غيبوبة سطحية ، رامشت زميلتيها من وراء عتمة ، كادت تصرخ صرخة كاسحة وتدفع بهمومهاالأربعة خارجا وتدفنها بالقرب من الفراغ المحيط بها دفعة واحدة كمن يطرد جراثيم ، تمتمت كلمات غير واضحة ، هذا كل ما قويت عليه ، شربت جرعة ماء ، بللت سقف حلقها، وبتلويحة من طرف يدها ، فهمتا بأنها ترغب بالبقاء في سريرها ، وأشارت إلى ندى بأن تغطيها بلحاف ، ففعلت ومن فورها غطت في نوم عميق فتحت ندى النافذة قليلا وفتحت الباب لتمرر هواء نقياً

    تهامست مع سوزان ، وكلما أرادت أن تحكي لها قصتها مع الأستاذ رضوان ترجع حماسها إلى مربط القلب ، وتمضغ الكلمات بحرقة وتذيبها تحت لسانها شعرت سوزان بأنها تخفي عنها سراً استبقت هذه الحشرية جانبا وراحتا تنظران إلى الصديقة المتعبة بعين واحدة يعتريهما صمت لامع يشي بخفايا على وشك أن تثور





    رد مع اقتباس  

  8. #28  
    المشاركات
    206
    في اليوم التالي ، وبعد عودتها من الكلية ، اصطنعت مرحا معلبا بتقوى كافر أمام ندى ، ودون إي جهد لاحظت ذلك ، وصارحتها فأجابت سلاف : " الأمر ليس بيدي لا أسيطر على نفسي "

    كلمتها عن الطبيب و العلاج ، وعن الراحة النفسية ، ونصحتها أكثر من عشرين نصيحة وفي النهاية قالت سلاف وكأنها غير موجودة :

    - كنت أعتقد أنني ذكية وقوية أتشاطر على نفسي وهذا من حقي ، لكن هناك مشاكل تقوى وتتمرد على الإنسان وتحط من عزيمته أنا في لحظة ضعف وليس لدي أي مخرج سوى

    قاطعتها ندى على الفور ، وقالت من وراء تقطيبة لاتخلو من قلق باد عليها :

    - هل تنتظرين حلا من السماء ، أو من سحرة ؟!

    - لا أنتظر أي حل . فأنا أتعذب أحس بوجع وبس

    - مستعدة لمشاركتك عذابك مستعدة لأكون مريضة بدلا عنك

    شعرتا بتعب مشترك ، وبأنهما أقل منه قدرة على المواجهة خيم السكون كتقي من حولهما للحظات ركزت سلاف جملة عند رأس لسانها ، وأخيرا تبخرت في فراغ القلق المضني فرددت كلمات لا علاقة لها بالموقف ، ثم شكرت ندى على صدق مشاعرها ، واعترفت لها بفضائلها، وأكدت أن وجودها إلى جانبها خفف عنها العذاب ، واعتبرتها جزء من أملها وحياتها

    وفي سياق الحديث سألتها عن رأيها حول اللصوص ، و كيفية عقاب المسيئين للناس استغرب ندى السؤال، أحست أن فيه شيئا من التحري البوليسي ، وغير بريء ، لكنها استعجلت الجواب ، وأجابت :

    - طبعا طبعا ! العقاب

    - وإذا لم يوجد من يعاقبه ؟

    - لكل مذنب عقاب

    - أسألك عن أمر إجرائي من يعاقب المذنب ؟

    - القاضي الشرطة

    - هل تصدقين ذلك ؟

    - بعيدا عن الفلسفة أصدق ذلك ، لكن فلسفة كليتنا لا تعترف بالعقاب لأنه الشرطي مجرد أن يرتدي بدلته هو متهم، وكذلك القاضي ، وكل من يدعي الحفاظ على العدالة هو ضدها ، ووجود مثل هؤلاء كارثة بشرية

    انتظرت سلاف تعليقا مغايرا من صديقتها ، وشعرت أنها تشرح لها كلاما بغية التسلية ، لذا وجدت نفسها مضطرة للتعبير عما تريد إيصاله بلهجة حادة :

    - العقوبة لا تعيد الدم الذي سأل من العروق إليها ، ولا تعيد الكرامة هي انتقام ، كما قال ماهر

    وبعد لحظات تابعت بحماس :" قال أخي ماهر ، المشكلة الكبرى التي نعاني منها ، هي أنه يتم أخذ ما ليس لك ، والمشكلة الأكبر أن تحافظ على ما أخذته بطريقة غير شرعية ، والطامة الكبرى ، أن تجعل ممن جردته هذا الحق عدوك وليس له حق في الوجود "

    ابتسمت ندى ، وعلقت باختصار شديد :

    - ماهر على حق كلنا على حق ثم عن أي دم تتكلمين؟!

    - عن دمي

    - ربما عن دم من لون آخر من لون الكرامة ، أوالقلق، أوالخوف

    - هل حكيت لماهر قصتك مع الأستاذ رضوان ؟

    - لالا ! وأنت الوحيدة في العالم التي تعرفها

    شعرت ندى بمسؤولية كبيرة تجاه هذا الاعتراف واستسلمت لشرود تقي

    خرجت سلاف إلى الشرفة حاملة على أرداف روحها كومة هَمٍ تتقاطع مع رغبتها بفعل شيء يخصها ارتطم قلبها مع أفكار عارية وصريحة ، أفكار تنبض بذبذبات لا تعرف الهدوء وقفت على ساقي الفكرة ، لم تنظر إلى الأسفل للتأكد أن عالم القطيع مختلف كما ردد ماهر ذات مرة ، بل نظرت إلى قارة داخلها الواسعة القارة الممتدة من قطب الفكر إلى قطب الغائط، وإلى خط الاستواء المرسوم بدقات قلبها بدت قارتها ضبابية موحشة ، وتفسد أخلاقها بفعل عواصف لا تستشعر تقنيتها البدائية مصادرها و فيها مشاغبون يحملون الماضي كسلاح أشبه بألعاب نارية معتبرين الأحلام أهدافا سهلة << نعم هذه مشكلتي مع نفسي أنا ضعيفة ولم أقو على تصنيف أهدافي مثلا لماذا يأخذ رضوان حقا من حقوقي ، شيئا ربيته شبر بفتر كما رباني أبي ؟ أرضعته من ثدي تأملاتي وسهري الطويل حتى كبر تملكته بمشروعية ، والآن ليس لي أيوه أين حلمي ( ضربت يدا بيد ) أيوه مات ، لازم أدفنه وأنا مبسوطة ، أم لازم أقيم له جنازة تليق به ؟ من سيعاقب رضوان ؟ من سيعاقب جدتي من سيعاقبني لأنني ضعيفة ، ولأنني انهزمت ولم أستعد للحفاظ على حقوقي بالتأكيد لدى ماهر رأي آخر لكنه لا يهمني لأنه يورطني أكثر بعد كل أطروحة فلسفية أو نتائج تجربة من تجاربه الوخيمة >>

    زاغت عيناها ، وطارت من شفتيها همهمات قبل أن تحط بجد أمام بيانات اللحظة التي اقتربت من رؤيتها بمنظارها الخاص بقيت أمام عتبة تحليل راكعة ومتوسلة بأن يسمح لها اختبار نفسها وكل ما فهمته من ورطتها بأنها لم تكبر بعد للاطلاع على مسائل معقدة مرّ أمامها كل شيء كلمح البصر بالكاد تحسست ذلك الوميض البعيد عَبرَ كشعاع برق خاطف كنيزك أضاء الزاوية المظلمة التي تتمنى رؤيتها واختفى تاركا وراءه رغبة على نعش الأمنية رغبة تحاول التمسك بها ولو بواسطة رأس أفعى جاءتها ندى لتجدها تبكي تعوذت من الشيطان ، وقالت معاتبة:

    - انقلبت عليك الدنيا 180 درجة انقلاب ناجح كما تؤكد دموعك لا يجوز أن تفعلي بروحك هيك صحيح أن الأستاذ رضوان يستاهل ، لكن ليس إلى هذا الحد

    فأجابت ساخرة :

    - رضوان آخر همي

    - لن أصدقك

    - أنت حرة

    خففت ندى عنها وكلّمتها ساخرة عن فكرة العالم السفلي والقطيع الذي قرأت عنه مقالا في جريدة محلية لعلها تهدأ وشرحت لها المقارنة التي أعجبتها ، وكيف أسهب الكاتب في توضيحها كأنه حكواتي ليلة شتاء طويلة ، وقارن بين الإنسان وبين العوالم : عالم علوي حيث تستوي السماء ، ويقابلها فكر وعقل الإنسان ، وعالم وسطي لرياح وأصوات وأمواج وفراغ ومسارات لأشياء لا نراها يقابلها صدر الإنسان وبطنه ، بينما العالم السفلي للأرض التي يوازيها مخارج الغائط والبول

    رمقتها سلاف بخبث ، وتساءلت :

    - هل هذا ما قصده أخي ماهر ؟

    - لا أعرف قصده ، ولا قصد الكاتب ، لكن المقالة أمتعتني دون أي سؤال حولها

    - هل هناك مصالحة بين فوق وتحت ؟

    - ما قصدك من هذا السؤال الغريب ؟

    - لا أعرف أحاول أن أبرر للصوص أفعالهم

    - مرة تذكرين الدم ، وأخرى اللصوص هل قتلت أحدا ، أو سرقت شيئا؟

    أُعجبت سلاف بالسؤال ، وأجابت :

    - هذا احتمال وارد

    - أنت لا تقدرين على قص ظفرك الميت

    - دربوني

    - مَنْ ؟

    - لا أعرف

    - لكنني أعرف وسأخبرك شيئاً

    - ما هو؟

    قصت لها بداية علاقتها بوائل ، وشرحت لها بعض المعاناة والمشاورات مع عاطفتها وعقلها وأحلامها التي استهلكت كثيرا من تفكيرها قبل أن تقرر الاقتران به

    قاطعتها سلاف بجرأة :

    - فهمت قصدك ، لكنني مختلفة عنك

    - لا يمنعك ذلك الاستفادة مني

    - تظنين ؟

    وضع هذا السؤال حدا لجهد ندى المتواضع في فهم صديقتها وانتهى بها الحوار إلى طاولتها حيث الكتب تنتظرها

    وهمست : " كنت سأحكي لها كيف لعب أحدب نوتردام دور المناضل لإنقاذ الأنثى من العذاب ودور جان فالجان في توريط المدينة بهمه، وكانت ستجيب ، لماذا تحتاج الأنثى لمن يخلصها ؟ تفكيرها غريب ومقلوب إذا بقيت على هذه الحالة سأذهب بنفسي وأخبر الأستاذ رضوان عن وضعها . لا بد وأنه سيتصرف ستعتبر ذلك هزيمة ، ولتكن هزيمة هزيمة يتبعها خلاص

    ومن وجهة نظرها أو وجهة نظر ماهر المعكوسة ، الهزيمة هي النهاية وإذا ذهبت إلى الهزيمة بنفسك فهي نصر ، لأنها خيارك "

    عبثت وهي تسلسل هذه الأفكار وكأنها تكتب قصة لكاتب فاشل لا يعرف كيف ينهيها أو يبرهن على فسيفساء بنائه القصصي دون أن يخرب الفكرة

    ابتسمت ، وقالت : " لقد أصبحت مثلها مريضة مثلها أهلوس كطائشة "

    خرجت سلاف إلى باحة الوحدة السكنية التقطت تفاصيل دقيقة لحركات الطلاب والأزهار والنوافذ التي تنظر إليها بعيون وقحة خانها نظرها بالتحديق إلى نافذة غرفتها ، أناخ الفراغ عليها بعضا من كتلته اعتمرت نفسا لاهيا وهي تحدق فكل اتجاه ، طالت كرة عينها نافذتها ، كانت ندى واقفة لوحت لها بيدها ، ودعتها للنزول فأسرعت إليها

    كبحتها تصوراتها الضالة حول ضعفها من الاسترخاء المحتاجة له ، ودفعتها إلى حد الشغب ، عندما وصلت ندى كان جسمها يقف على ساقيها الخشبيتين ، وأفكارها كعصا تجلد بها متظاهرين يدعونها للالتحاق بالتمرد ضد العزلة

    أحضرت ندى كيس موالح جلستا على مقعد خشبي وراحتا تفصص البزر كعصفورتين أنعشت ندى الموقف بالكلام عن الريف ، وصلها رذاذ الحديث كزهرة في طور التفتح شمت عطر الراحة ولكمت عن قصد هواجس طارئة غير التي تطاردها مع كل جملة تقولها تحس بها كمطر نثيث عذب أجهدت ندى نفسها وهي تحلل مظهر صديقتها إلى عناصره الأولية ، راغبة في بلوغ أقصى ما يمكن أعماق الصديقة التي تكتوي وتتلوع سراً يمكن قراءته على صفحة الوجه ، تمكنت كما قال لها إحساسها ، و بعد جهد من احتواء مزاج سلاف العكر بقصص عن مغامرات بنات قريتها ، وحكت بتروٍ قصة عن فتاة من قريتهم ، بُعثت إلى بولونيا لدراسة الطب تزوجت من بولوني ، وأقامت هناك وأصبحت مديرة مشفى كبير ، فتاة ناجحة وموفقة ، واستقبلت عددا من مرضى القرية ، وعالجتهم على نفقتها

    ارتاحت سلاف لهذه الحكاية ، ودون أن تعي هدف ندى من السرد المشوق ، طلبت منها أن تقص لها حكاية أخرى تذكرت ندى قصة قرأتها في مجلة ودون تردد زادت عليها أبطالا وهميين وطالت عليها القصة حتى تعبت تقدم ملل من سلاف ، وأخذها من يدها لتعتذر من ندى ، وتطلب منها الصعود إلى الغرفة تركت ندى وراءها كيس البزر ، المقعد المطلي بأصباغ همهما ، وأثار تعب ، وحازتها عابرة البقعة الصغيرة من الخضرة عبر ممر ضيق ، انتهى بهما إلى الباب الرئيسي





    رد مع اقتباس  

  9. #29  
    المشاركات
    206
    ليومين متتالين اهتمت سوزان بسلاف ، وقرأت بين السطور أن هذه الزميلة تعاني من أزمة ، أسمتها " ميول نحو الوحدة المزمنة " قارنت مشكلتها مع مشاكل البنات في مثل هذا العمر والتحول من المراهقة إلى النضج ، قرأتها بطريقة بسيطة واستنتجت أن وطيس وحدتها وميولها نحو العزلة ، وعدم كلامها المبالغ به ستطفئه الأيام وسيلتهمه الزمن وفتوتها " هي مرحلة ليست بالهينة " قالت هذه الجملة لندى ، وأضافت إليها كلاما آخر حول إمكانية الاستفادة من تجربتهما ، والوقوف إلى جانبها في هذه المحنة الموسمية كانت نار الوقت بالنسبة لسلاف تشلح عن جسمها الفتي حطب وتعلقه على علاقة الموت وترقص أمامه كغجرية تبعث الحيرة في كابوس العجز وتعمل على رمي العد والأعداد بالتناوب وحجرها في مخدع عزلتها << واحد اثنان ثلاثة أربعة أربعة وربع أربعة وثلث >> ، وكانت تعد بالتوازي : << رضوان الجدة الدراسة ضعفي خوفي على مستقبلي خوفي من الفشـ>> عندما دخلت ندى سألتها مباشرة:

    - ماذا تعدين ؟

    أخفت أصابعها تحت بلوزتها متوارية خلف صمتها

    كررت ندى السؤال ، وأخيرا أجابت ندى ببرودة:

    - لا شيء لا شيء

    جهزت ندى شوربة الكشك مع البصل المفروم والتي تعرف حب سلاف لها ، وقدمتها مع فتات الخبز القاسي أكلت ثلاث ملاعق فقط وتركت الملعقة في الصحن أخذت كتبها وتظاهرت بالدراسة رمقتها ندى وهمست :" هي متعبة ، ولن تركز كثيراهي تهلوس بأمور غريبة ليتني أعرفها ! حتى في منامها أصبحت تتكلم كلاما غريبا"

    جمعت ندى الصحون ونظفت الطاولة ثم جلست تذاكر جاءت سوزان وهمست في أذنها حول أمر ما ثم طلبت منها الاستعداد لزيارة الشاطئ الأزرق بصوت عال كي تستفز سلاف وتدفعها للتفكير بأمور أخرى غير التي هي فيها والمجيء معهما ثم خرجت أغلقت سلاف كتابها وأدرجته على الرف بين الكتب أخرجت وريقات قديمة من جارور الطاولة ولوحت بها أمام ندى ، ودون أن تسألها عنها بدأت تسرد تارة تقرأ ، وتارة أخرى تتكلم من وحي شرودها حكت قصة طويلة ، مشتتة ، غير مترابطة عن فتاة يتيمة حلمت بأن تكون أميرة ، فاقت من حلمها مصدقة هذا الحلم ، وراحت تخطط لتنفيذه استخدمت الإغراء وقواها الجنسية لجمع الرجال حولها وشيئا فشيئا أصبح لديها خمارة ، ومن مال الخمارة أصبح لديها بيتا للدعارة ، ومن هذا البيت انطلقت لتبني إمارتها ، وأصبح اسمها أميرة ، لكن أميرة للعهر ، استقطبت عددا كبيرا من الرجال والنساء يؤدون لها الطاعة ليل نهار وأخيرا وجدوها مقتولة بالسم استغربت ندى اختيارها لهذه القصة ضحكت ساخرة فسألتها سلاف:

    - ألم تعجبك ؟

    - وهل أعجبتك أنت ؟

    - لا ، بالطبع لا

    - حكاية مقززة

    - آآآآه فعلا مثيرة للقرف

    مزقت الأوراق ورمتها في سلة المهملات واعترفت بسوء فهمها عندما قرأتها للمرة الأولى ارتاحت ندى لتصرفها المتوقع وضحكتا ضحكة مشتركة حول مصير هذه الأميرة التي قتلت بالسم ، وقتلتها سلاف مرة أخرى ودفنتها بالاشمئزاز في مقبرة العار

    ظلت ندى عند حد تخمينها بأن صديقتها ستتجاوز محنتها ، وارتاحت لتصرفها وبدا من الهين لها تسليم أمرها للأمل ولحب صديقتها لها التي تنتظر تحسن حالتها وعودتها إلى حظيرة الجد والمتابعة والمرح الطفولي قلَّتْ مراقبتها لها وانتظرت يوم الأربعاء لترى كيف ستتصرف في المحاضرة التالية بعد المقاطعة المحكمة لمحاضرات الأستاذ رضوان السابقة ، بل ومقاطعتها لمحاضرات يوم الأربعاء برمتها

    وصلت سلاف إلى مرحلة بدأت تتساوى عندها الأمور كجندي في معممة المعركة ليس أمامه سوى المواجهة وإطلاق آخر ما في جعبته من زخيرة

    ظهيرة يوم الأربعاء وصلت ندى إلى الغرفة قبل صديقتها وجدت على الطاولة ورقة بيضاء مرسوم عليها أرنب بالحبر الأسود مقطوع الرأس ، ودمه الحبري الأسود مبعثر كأن جريمة متعمدة حدثت له مزقت الورقة ورمتها غاضبة ارتجفت وهي تفسر هذه الرسالة الشيطانية تصببت خوفا ، واقتطعت منها لحظات الانتظار حيرة وأودعتها في رسم القلق من الآتي

    حضرت سلاف وهي تلوح بحقيبتها انبجست يداها لهوا أحمر وأشار كتاب اللغة الإنكليزية الذي سقط من الحقيبة على الأرض إلى احتفالية ما شالته ندى بسرعة ، وناولته لصديقتها بانتظار أن تكلمها

    كانت لعبة شد حبل الكلام بينهما حاداً يصل السؤال إلى شفتي ندى وترجعه ، ثم تترك لأسنانها قطع رأسه وعلى طعم موته تقسم ألا تسألها وندى التي راحت تفتعل تمثيلية رموزها فاضحة حول تجاوزها لهذا اليوم دعتها ندى لشرب المتة قبلت الدعوة دون تناول الطعام وكان قبولا استفزازياً انتهى بسؤال ندى :

    - بصراحة لا أستطيع بلع قطرة ماء واحدة قبل أن أعرف

    - ماذا ؟!

    - هل حضرت المحاضرة ؟ محاضرة الأستاذ رضوان

    - طبعا حضرتها

    شعرت ندى وكأن كتلة نار انطفأت في ضميرها المعذب ثم سألت :

    - بماذا شعرتِ نحوه؟

    - لا شيء لا شيء سوى أنه مدرس محترم.

    - لا أصدق فعيناك تقولان كلاماً آخر.

    - تقول عيناي كلاماً كثيراً.

    - ماذا عن رضوان؟

    - كان حلماً واندثر.

    - لا تموت الأحلام بسرعة.

    - جربت أن أقتله، فنجحت.

    - أنت مجرمة.

    - إذا تخلصت مِمَنْ يعذبني، فتلك جريمة ؟

    - ربما أكثر لأن ما تحاولين التخلص منه هو الحب

    - الأفضل أن نستمع إلى نجاة الصغيرة

    قامت وكبست زر آلة التسجيل ، فكان شريط عبد الحليم تركته يشاركهما الجلسة بإهمال

    - أعرف أنك متعبة.

    - لا أعتقد ذلك

    وضع هذا الجواب حداً لحشرية ندى ولمدة أسبوع كامل أجبرت نفسها على تركها وشأنها واعتبرت أن ذهابها للمحاضرة هو بداية لعقد صلح ستتوطد بنوده وتلتزم بها مع مرور الوقت

    حاولت ممازحتها ، تظاهرت بالاستجابة المبطنة بروح سلبية ، وتفرغت ندى أكثر لدروسها وللمضي وقتا أطول مع سوزان

    ردت عليها وهي تمازحها بنزق ، هوّنت ندى الأمور ، قالت: " ستالينيه " انتفضت في وجهها صارخة :" أرجوك لا تدخلي في شأني "

    لاحظت أن بريق وجهها ظلله الشحوب، وأحاطت هالة كالشحار محيط عينيها ، ولا تنطق وجنتاها بأي تعابير هيام كخرساء تائهة

    ردت ندى بقسوة :" أنت من يتدخل في حياتي حزنك لا يفارقني و "

    ارتمت سلاف على السرير فاقدة تماسكها كرغام مبعثر تركتها ندى وخرجت باكية إلى سوزان التي استقبلتها باهتمام وحيرة ، ألحت عليها بأسئلة حول مشاكلها تظاهرت ندى بتماسك غير حقيقي ، وبعد أن مسحت دموعها ، ظلت كاتمة على روحها ، ولم تنطق بكلمة واحدة جرتها سوزان من وجعها الغامض والعميق إلى شاطئ البحر الذي تعرف تأثيره على مزاجها بعد مشوار قصير اقتربتا من الصخرة تفاجأتا بجلوس سلاف وحيدة على حافتها ورأسها بين يديها ابتعدتا عن المكان دون أن تراهما وهنا انفجرت ندى شاكية :

    << - يا عزيزتي إنها في ورطة ولديها مشاكل لقد انزوت في جلدها أحسست بذلك منذ فترة، وكأنها تطلب مني مساعدتها، لقد باحت لي ببعض الأسرار، وأصبحت على يقين أكثر بضرورة التدخل لمساعدتها وإن كان لا يحق لي المساس بخصوصيتها، لكنها أكثر من أخت ، ويؤلمني ما يؤلمها





    رد مع اقتباس  

  10. #30  
    المشاركات
    206
    - ماذا عنك أنت ، لماذا تبكين ؟

    - أبكي من أجلها

    - ما بها ، ماذا يؤلمها؟ سألت سوزان بإلحاح.

    - ولأنك صديقتي يجب إخبارك>>

    وهكذا حكت لها حكايتها مع المدرس رضوان من الألف إلى الياء، وعبرت عن الحالة التي لحقت بها، والوضع البائس الذي تمر به أبدت سوزان دهشتها للحكاية الطويلة التي مرت بها سلاف وإعجابها بشخصيتها ، وفكرتا معاً بمساعدتها، وأضافت: " لا بد من الوقوف إلى جانب طالبة سنة أولى، وهي مرحلة في غاية الأهمية والخطورة

    وافقتها ندى الرأي، و شدت على يدها و شجعتها أن تقف إلى جانبها في هذه المحنة وأكدت أن اثنتين أفضل من واحدة في المواجهة





    رد مع اقتباس  

صفحة 3 من 8 الأولىالأولى 12345 ... الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. الفتاة التي ماتت عارية أمام الماسنجرالرجاء عدم دخول القلوب الضعيفة
    بواسطة مِـفآهيم آلخجـلْ في المنتدى صور × صور و خلفيات مصوره
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 16-Feb-2009, 11:15 AM
  2. الرواية
    بواسطة لون مجهول في المنتدى خواطر - نثر - عذب الكلام
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 22-Aug-2007, 02:47 PM
  3. الغفلة التي تقتل القلوب
    بواسطة هووواوووي في المنتدى رياض المؤمنين
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 09-Apr-2007, 10:52 PM
  4. ][®][^][®][حــــب أبــدويــة ][®][^][®][
    بواسطة الـفـارس الـمـلـثـم في المنتدى محبرة شاعر - شعر - قصائد - POEMS
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 15-Oct-2006, 04:13 AM
  5. حصريا:الرواية الاخيرة التي كتبها صدام حسين
    بواسطة قلم رصاص في المنتدى روايات - قصص - حكايات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 06-May-2006, 03:40 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

عرض سحابة الكلمة الدلالية

المفضلات
المفضلات
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •