قصص وحكايات ومشاهد نطت فجأة لتقف أمامي كثعابين تريد لدغي بدأت تتهيأ لي ملامح أؤلئك الجنود وهم يتعذبون وكيف كنا نتعامل معهم كحيوانات، وهذا ما كان يقوله لنا الوالد << أنتم معززون مكرمون ، وانسوا تعب هؤلاء العساكر، فهم خدم عندكم، وإذا خالفكم أحدهم، فسأقطع رأسه>> ، أيقظ فيّ ما عجزت عن فهمه طيلة حياتي، أحسست بالكم الهائل من الظلم الذي مارسناه على الناس الأبرياء، وتملكني شعور بالتفاهة والاحتقار لذاتي، بكيت أمامه، فقال :
- لا تبكِ، لا ذنب لك بما يجري
- لكنني مشاركة له بما يفعل.
- هو يستغل منصبه، بينما أنت تتصرفين ببراءة ، ودون قصد
لو كان عندي سجن لسجنت الناس، لأنني مثله لم أحس بهم، لهذا السبب أرثي نفسي، ليس لدي القدرة على ملامسة مشاعرهم، قبلت أن يدمر والدي أحاسيسي، وأكون تجربتي الخاصة ، لذا أنا مذنبة وأيضا لم أنج من قسوته لأنه جعلني على شاكلته
- انسِ الأمر لقد سامحتكم
- حتى ولو سامحتنا، يجب أن نحاسب أنفسنا
ازددت بكاء وارتباكاً، لاحظ اضطرابي المتزايد ألح علي بشرب عصير فواكه كان قد أحضره، فرفضت وسألته:
- أنسيت والدي فعلاً؟
- نعم ولو لم أرك لنسيته إلى الأبد.
- ألا تكرهه؟
- أبداً كل شيء أصبح من الماضي ولا يتسع قلبي للأحقاد.
- أهذه مجاملة أم؟
- أقول الحقيقة كاملة، وأحياناً أرى في تجربتي مع والدك منفعة لي لقد حرضني على العمل وإثبات وجودي وضعني على المحك وخرجت أقوى بصراحة بعض الأشخاص الأقل ثقة بأنفسهم لم يتلمسوا طريقهم إلى الحياة، ضيعهم والدك، وبعضهم دمرت حياتهم ومات البعض فقد لاحقهم حتى بعد خروجهم من وحدته، كان كالشبح يطارد خصومه ويهددهم باستمرار، ويطلب منهم أن يلزموا الصمت، أو يتحملوا أوخم العواقب لن أتكلم عن مساوئه أكثر، لكن يحق لي القول إني نجحت و حققت حلمي بفعل الكفاح الذي اخترته طريقاً لحياتي وها أنا بألف خير، وهناك أناس لا يزالون يتعذبون في سجن والدك، أو ممن يطاردهم هم يشغلونني، وأتمنى أن أوفق، وأصل إليهم، وأساعدهم على التخلص مما هم فيه، نحاول جميعا تناسي مشكلتنا، ولو لم ننس لأدخلنا البلد في حرب ضدهم وقمنا بتصفيتهم، نحن بشر لدينا من الصبر الكثير، ولولا ذلك لكنا في حالة من العنف المضاد وأخشى أن نتعرض لمثل ذلك في المستقبل القريب ، لقد جعلت مؤسسة الجيش نفسها طائفة متعصبة ضد المجتمع ، نعم طائفة سلفية ضد التطور نعم نحن على شفا حفرة من الهجوم ضد أؤلئك أنا ضد ذلك لأن الزمن كفيل بترميم الإساءات وهناك طرق أخرى للخلاص أومن بها ، ولن يبقى الجيش إلى الأبد أداة تخريب تمنيت أن يكون مؤسسة محترفة تدير شؤون الأمن وحسب ، لكن للأسف هو السلطة بكل عيوبها ومساوئها
- كان من المفروض أن تكونوا أفضل وأكثر شجاعة، وتصفوا أمثال أبي.
تفاجأ بالجواب ، وقال:
- أعوذ بالله ، نقتل ؟
- ولمَ لا؟
- هم سيعاقبون أنفسهم،لا يمكن أن نعالج الخطأ بخطأ أكبر منه.
ابتعدت عن هذا الحوار الذي بدا لي آنذاك عقيما
ارتبكت، وطفح الحديث بفقاعات من لون الدم تشنجت سلاف، وقالت في نفسها :" ياه ، كم هي مشكلتي صغيرة تجاه مشكلة الدكتور إبراهيم ! "
توقفت سوزان قليلاً عند وصف إبراهيم الشاب الوسيم، الرصين، الوديع، المميز الذي أحضر لها روايات مثيرة وعلمها أن هناك مجتمعا آخر يفرض حضوره وبقوة
استرقت سلاف بعض الأفكار وراحت تقلبها في فرن تجارب تمر بها ، وبدا لها الموقف حتى الآن مشوشا انتابتها رغبة أكبر لمعرفة الدكتور إبراهيم نصار، و تمنت لقاءه دون تحديد هدف واضح لذلك أيضاً تفاعلت مع ابتسامة سوزان التي قالت:
- يا عزيزتي أحياناً تصادف الإنسان أحداث يعتقد أنها لا تعنيه لكنه يجد نفسه قريباً منها مثلا أنا عادة كنت أحتقر الحمالين في الكراجات والأماكن العامة، ولا أهتم لحمّال يحمل ثقلاً كبيراً، أو لطفل يبيع علب السجائر على مفارق الطرق، واعتبرت ذلك شأن أؤلئك الناس لكن عندما دفعتُ بقوة نحو أحاسيسي بدا العالم من حولي أكثر وضوحا فأصبحت ألتفت يميناً ويساراً وأتحسس الوجوه وأقرأ فيها أشياء هامة قد لا أكون قادرة على تغيير شيء فيها، لكنها قادرة على تغيير أشياء فيّ وهذا ما جربته فعلا فيما بعد.