أرادت سلاف التوقف عند هذا الكلام طويلاً محاولة استبعاد القصص الأخرى، لكنها بقيت على مسافة واحدة من المشكلة ككل، وجعلتها حكاية الحب تفور كواحة وسط أرض جدباء وتثور كمظلومة ضد الظلم ، بينما راحت سوزان تناجيها عن الروح المطمئنة والأمان والسلام البشري، وطاقة الحب الهائلة والقادرة على جعلها ترى الأشياء في جوهرها وقيمتها الحقيقية
مضت عدة أيام أخرى بين الشرفة والبحر وقاعة المحاضرات، بقيت سلاف على حالها: الهدف أولاً وتسخير كل الطاقات من أجله. أما الروح وأشغالها، فقضية تركتها للروح فقط أضافت إلى هذه الهمسات قولا آخر : نيالها، تفهم بالعشق جيداً
شعرت بيقظة روحية لم تجد لها تفسيراً، و جعلتها تتوسع في الانتماء إلى الحواري المجاورة للمدينة الجامعية ، ثم إلى مسافة أبعد حملت خيالها شحنات إضافية عن واقع بدأ يمشي أمامها، تتحكم به بالرمونت كانترول تضغط على أزرار مختلفة ، ومع كل ضغطة زر تظهر ملامح جديدة كانت قريبة منها ولم ترها أحيانا يتعطل جهازها فتصاب بكآبة تستمر حتى تنام وتترك للنوم وحده حرية شطب أطراف القلق وزوائده من حياتها استيقظت لتجد سوزان بالقرب منها جالسة وهي تنظر إليها أمسكتها من يدها لفترة دون كلام أبهرها وجودها وقبل أن تنطق بكلمة ، قالت سوزان :
- هه أنا هنا
وضعت سلاف يدها على فمها ، واستطردت :
- أنت هنا لتكملي حكايتك
- لالا!
- نعم نعم !
أجابت سلاف بإصرار واستجابة لرغبتها وافقت سوزان ظلتا مجاورتين للصمت بعض الوقت جهزت سلاف إبريق بابونج مع الزوفا جلستا على الشرفة استمعتا معا إلى هدير قادم من بعيد تكلمت سلاف من وحي اللحظة :
- أي مكان أجيئه وأجد فيه ما ينتظرني، فهو لي، والذي ينتظرني قد يكون إنساناً، أو عصفوراً، أو حمامة، أو وردة، أو جرة ماء، أو أفقاً يخبئ لي فتاة مثلك
سألتها سوزان:
- أتقصدين اللاذقية؟
- لي فيها ندى ، أنت، الشرفة، الجامعة ، البحر ، التجربة ، الأسرار
- والدراسة؟
- هي العمود الفقري في حياتي.
تفهمت سوزان وجهة نظرها حول فكرة الأسرار التي يجب أن تدفن في مهب الاعتراف تموت تبتلعها ساحرة المهم ألا تبقى اعتصرها وجع وأصيبت باحتقان داخلي عرفت جيدا أن سببه الهموم التي تلاحقها والمصابة بآفة المستحيل الذي لا يسمح بعلاجها كنزوة زهرة صبار تنتظر ذبولها مشاكل أربع تجتمع في زاوية واحدة من عقلها ووقت فراغها ، ووراء جدار شفاف من حكاية سوزان الطاغية التي تفعل فعل الانقلابيين الشجعان في لحظات حاسمة من الركود تطل عليها كلما هدأ لها بال فتسرع إليها لحل معضلة عبر إخماد نار البحث عن الخلاص الخلاص الذي تنتظره على إيقاع الحكاية المتصاعد لزميلتها صاحبة التجربة الأقدم والأقوى والأفصح شعرت بتنامي إحساس عائلي بينهما ، اعترفت بذلك وبعد وقفة كانت كاستراحة لقول أمور جانبية لكنها هامة استمرت سوزان بالكلام من حيث توقفت وفي كل مرة تطلب منها سلاف إشعال الدفء في كلماتها المتاخمة للربيع، فتابعت :
- أمضيت أياماً جميلة مع أمي، وكأنني في حفلات سهر غجرية، أختلس النظر إليها من وراء خيامهم كأنني في حلم أتمسك به وأجعله عاصمة لأيامي اتصلت مع إبراهيم إلى اللاذقية عدة مرات حدثته عن غجرية عاشقة ذهب حبيبها لإحضار المهر لها، فسأل:
- وما مهرها؟
- جرة ماء من البحر بشرط أن يجلبها ماشياً على الأقدام.
- إنه مهر رخيص والمسافة بين دمشق والبحر قصيرة أو لا توجد مسافة.
- ماذا تقول؟
- العشاق يلغون المسافات.
- أنت على حق.
قلتها له وأقفلت السماعة ليأتي نسيم أرق من الهمس، ويبشرني:
- مهرك المخفف صدف البحر والحكمة لا تغالي، فأنت فاتنة ومفتونة ولا تخدعي نفسك، فأنت عاشقة ومعشوقة ولا تشكي بقلبك وإن شئت، فاسألي روحك ولديها الجواب