الملاحظات
صفحة 7 من 8 الأولىالأولى ... 5678 الأخيرةالأخيرة
النتائج 61 إلى 70 من 74

الموضوع: @ حــــب أخـضــر @ ===> الرواية التي أطربت مسامع القلوب <===

  1. #61  
    المشاركات
    206
    في البيت نظرت أمي في وجهي وقرأت ملامحي اعترفت لها بأنني ودعته فابتسمت وقالت:

    - أرى في وجهك أكثر من ذلك !

    خرجت وكأنها اكتشفت قارة بكر في ملامحي، وفهمت تماماً أنها تقول لعيني المشعتين: " أنت عاشقة"

    سألت نفسي السؤال ذاته: هل أنا فعلاً عاشقة؟ طبعاً لم أهتد إلى جواب راجعت تواريخ لقاءاتنا لحظة بلحظة، وفتشت فيها عن كلمات للغزل أو الحب، أو عن الذكر والأنثى والمواعيد الغرامية، عن فتاة تأخرت عن الموعد فعاتبها حبيبها، عن ثواني الانتظار عن العطر الذي أضعه ويفرح قلبه ، عن تسريحة شعري عن الأصبغة ، والمناكير وأدوات التجميل والموضة بدا قاموسي أشبه بالفارغ أيضاً لا أستطيع القول إن لقاءاتنا كانت جافة وفي حقيقتها كلّها عشق أحسست أننا على مسافة واحدة من قضايا الحياة من قضيتي كابنة مميزة يجتاحها التحدي كأنني سليلة لضابط فعلا، سليلة تحدٍ بدأ يفعل بي فعله رجعت إلى ما قاله لي عن الأحلام والوله والفكر والرجولة والبناء دغدغتني كلمات قالها عن الأنثى، لم يوجهها إليَّ، لكنها بقيت في أعماقي كنفحات نبوية، أصرت سلاف على معرفتها، فقالت : ردد أقوالا كثيرة ، أذكر منها الآن " يعلمني الحب كيف أبحث حتى النهاية عن ذاتي في اللانهاية التي هي أنا "

    " تلك القمم الثلجية تجعلني دافئا وترفع حرارتي إلى أقصى حد لأنني أحلم بالأبيض"

    " عندما لا تحس بطعم الشيء اتركه وارحل ولا تنظر كثيرا للوراء"

    " لا تضم الأنثى إلى حزب الرغبة، لا تكن مجنونا وتافها وتفعل ذلك ، بل ضم الأنثى إلى مؤتمرات السمو والصدق ، عندئذ ستجعل منك عضوا في مملكة الإخصاب "

    قال أشياء أخرى، أشياء واقعية ، حدثني عن فتاة في قريته ماتت لأن حبيبها مات ، وأخرى سافرت وراء حبيبها العسكري إلى درعا، سافرت إليه سرا التقته ، وعادت إلى الضيعة دون الاهتمام لأقوال الناس لكن أكثر الأشياء التي أيقظتني وأطلقتني مع نبضي المتسارع هي قبولي فكرة التضحية والتسامح و قبول الفقر كحالة قابلة للتجاوز وليست عاراً ، وبأن الفقراء ليسوا حيوانات، كما كان يردد والدي أصبحت بالنسبة لي حالة شديدة الحساسيةأقنعني إبراهيم أن الفقر ليس عيباً وإنما العيب في ألا نتخلص منه، ويمكن للفقراء تحويل حالتهم إلى طاقة دافعة بهم إلى الأمام، وهم الأكثرية في أي مجتمع هم القطيع الذي يتمتع بأشياء لايمكن لأي طبقة اجتماعية أخرى أن تتكبر عليها لهذه الطبقة نظام ناظم ومميز جعلني ألغي فكرة العطف عليهم إلى الإحساس بهم واحترامهم رمم ما كان خربا في داخلي ، تعب كثيرا حتى تمكن من جعلي أنظر بطريقة صحيحة إلى الأرض وووجوه الناس كان يزيل الخراب الذي لحق بي وبعد كل محاولة لترميمي كنت أقترب منه أكثر

    - هذا كل شيء عن اللقاء الأخير؟!

    فهمت سوزان السؤال كالتالي:

    - هل هذا هو كل الحب في اللقاء الأخير؟

    وأجابتها بناء على هذا الفهم:

    - سبق وقلت لك، عندما يتفق اثنان على رفض الكراهية إذن هما متفقان على الحب وإذا كانا متفقين على رفض الظلم، فإذن هما على سطر واحد من العدالة لقد استحوذ عليَّ وأصبحت أحلم به بعدما غادر دمشقأيقظ فيَّ أشياء أكثر من رائعةأحسست بها بقوة ومن الصعب التعبير عنها والسؤال: هل تحبني؟ هو أبغض الأسئلة لعاشقين حقيقيين فالعشاق لا يسألون مثل هذا السؤال، وإنما يحسونه، يستمتعون به، يأخذهم الحب إلى الذروة، إلى قمة النشوة، إلى اللارجعة في التفاني والعطاء والإخلاص وعندما يصل العاشق إلى هذا المستوى من التناغم الهرموني مع روحه لا يهتم بالأسئلة أو الأجوبة لأنه يكون في خضمها كمن يسأل: أهذا هو البحر؟ بينما هو في أعماقه، ثم ليس من المهم أن تعرف رأي الطرف الآخر الذي أوصلك إلى الذروة فمن دونه لا يمكنك الوصول بما أنك وصلت به ومعه انتشِ واجعل روحك تؤمن أنه ينتشي مثلك تماماً





    رد مع اقتباس  

  2. #62  
    المشاركات
    206
    أرادت سلاف التوقف عند هذا الكلام طويلاً محاولة استبعاد القصص الأخرى، لكنها بقيت على مسافة واحدة من المشكلة ككل، وجعلتها حكاية الحب تفور كواحة وسط أرض جدباء وتثور كمظلومة ضد الظلم ، بينما راحت سوزان تناجيها عن الروح المطمئنة والأمان والسلام البشري، وطاقة الحب الهائلة والقادرة على جعلها ترى الأشياء في جوهرها وقيمتها الحقيقية

    مضت عدة أيام أخرى بين الشرفة والبحر وقاعة المحاضرات، بقيت سلاف على حالها: الهدف أولاً وتسخير كل الطاقات من أجله. أما الروح وأشغالها، فقضية تركتها للروح فقط أضافت إلى هذه الهمسات قولا آخر : نيالها، تفهم بالعشق جيداً

    شعرت بيقظة روحية لم تجد لها تفسيراً، و جعلتها تتوسع في الانتماء إلى الحواري المجاورة للمدينة الجامعية ، ثم إلى مسافة أبعد حملت خيالها شحنات إضافية عن واقع بدأ يمشي أمامها، تتحكم به بالرمونت كانترول تضغط على أزرار مختلفة ، ومع كل ضغطة زر تظهر ملامح جديدة كانت قريبة منها ولم ترها أحيانا يتعطل جهازها فتصاب بكآبة تستمر حتى تنام وتترك للنوم وحده حرية شطب أطراف القلق وزوائده من حياتها استيقظت لتجد سوزان بالقرب منها جالسة وهي تنظر إليها أمسكتها من يدها لفترة دون كلام أبهرها وجودها وقبل أن تنطق بكلمة ، قالت سوزان :

    - هه أنا هنا

    وضعت سلاف يدها على فمها ، واستطردت :

    - أنت هنا لتكملي حكايتك

    - لالا!

    - نعم نعم !

    أجابت سلاف بإصرار واستجابة لرغبتها وافقت سوزان ظلتا مجاورتين للصمت بعض الوقت جهزت سلاف إبريق بابونج مع الزوفا جلستا على الشرفة استمعتا معا إلى هدير قادم من بعيد تكلمت سلاف من وحي اللحظة :

    - أي مكان أجيئه وأجد فيه ما ينتظرني، فهو لي، والذي ينتظرني قد يكون إنساناً، أو عصفوراً، أو حمامة، أو وردة، أو جرة ماء، أو أفقاً يخبئ لي فتاة مثلك

    سألتها سوزان:

    - أتقصدين اللاذقية؟

    - لي فيها ندى ، أنت، الشرفة، الجامعة ، البحر ، التجربة ، الأسرار

    - والدراسة؟

    - هي العمود الفقري في حياتي.

    تفهمت سوزان وجهة نظرها حول فكرة الأسرار التي يجب أن تدفن في مهب الاعتراف تموت تبتلعها ساحرة المهم ألا تبقى اعتصرها وجع وأصيبت باحتقان داخلي عرفت جيدا أن سببه الهموم التي تلاحقها والمصابة بآفة المستحيل الذي لا يسمح بعلاجها كنزوة زهرة صبار تنتظر ذبولها مشاكل أربع تجتمع في زاوية واحدة من عقلها ووقت فراغها ، ووراء جدار شفاف من حكاية سوزان الطاغية التي تفعل فعل الانقلابيين الشجعان في لحظات حاسمة من الركود تطل عليها كلما هدأ لها بال فتسرع إليها لحل معضلة عبر إخماد نار البحث عن الخلاص الخلاص الذي تنتظره على إيقاع الحكاية المتصاعد لزميلتها صاحبة التجربة الأقدم والأقوى والأفصح شعرت بتنامي إحساس عائلي بينهما ، اعترفت بذلك وبعد وقفة كانت كاستراحة لقول أمور جانبية لكنها هامة استمرت سوزان بالكلام من حيث توقفت وفي كل مرة تطلب منها سلاف إشعال الدفء في كلماتها المتاخمة للربيع، فتابعت :

    - أمضيت أياماً جميلة مع أمي، وكأنني في حفلات سهر غجرية، أختلس النظر إليها من وراء خيامهم كأنني في حلم أتمسك به وأجعله عاصمة لأيامي اتصلت مع إبراهيم إلى اللاذقية عدة مرات حدثته عن غجرية عاشقة ذهب حبيبها لإحضار المهر لها، فسأل:

    - وما مهرها؟

    - جرة ماء من البحر بشرط أن يجلبها ماشياً على الأقدام.

    - إنه مهر رخيص والمسافة بين دمشق والبحر قصيرة أو لا توجد مسافة.

    - ماذا تقول؟

    - العشاق يلغون المسافات.

    - أنت على حق.

    قلتها له وأقفلت السماعة ليأتي نسيم أرق من الهمس، ويبشرني:

    - مهرك المخفف صدف البحر والحكمة لا تغالي، فأنت فاتنة ومفتونة ولا تخدعي نفسك، فأنت عاشقة ومعشوقة ولا تشكي بقلبك وإن شئت، فاسألي روحك ولديها الجواب





    رد مع اقتباس  

  3. #63  
    المشاركات
    206
    أجبت النسيم: " ولِمَ أسأل ؟ فليس للنسيم ما يخفيه كي أسترق الكلام، أو ألف وأدور وأردد وأقول يا مَنْ على خدي أقمت وفي صدري استوطنت جئتني عن طيب خاطر وأوصلتني بالحب الهادر والموسم الماطر "

    انتابني شعور أنني عطر وحب وزهر وأدركت أن العشق هكذا يتفتح دون مواعيد أو خطط مسبقة ودون مقدمات، أو نهايات أفرحتني الخبرية وآمنت أنها تنتشر في كل أصقاع كياني ، ويصلي من أجل حبي كل العشاق

    دخلت والدتي ومعها فنجانا قهوة، رأتني على هذه الحالة من الغبطة التي تنساب منها نشوة واضحة تركتني وخرجت، لاحظت أنها ابتسمت وهي ابتسامة دفعتها ثمناً للحظات حلوة تعيشها ابنتها تركت جدائلي بين أصابعي وأنا أحلق في فضاء مختلف وأتصرف كأنثى اقتصرت على جاذبيتها للمشاعر الدافئة أحسست أنني أزرار ورد تتفتح تمسكت بما أنا عليه ورجوت الله والمحبين أن تبقى براعمي إلى الأبد تتفتح كالحلم الجميل الحلم القريب الذي أركض وراءه ويهرب مني على مسافة إصبع مسافة الأمل وهكذا أركض وأنا واقفة

    أمضيت شهرين دون التدخل بشؤون والدي وأعيش مع جامعتي وأمي كصديقتين حميمتين كما تعطيني الجامعة العلوم والمعرفة تعطيني أمي الأخبار السعيدة بعد شهرين ونصف، وعلى التوالي تزف لي الأخبار ونشيّد الأعياد طُلب مني السفر إلى قبرص في رحلة سياحية رفضت بإصرار وقلت في نفسي كجندية في مخيم فلسطيني ، من الأفضل أن يستفيد يتيم أو ابن شهيد من نفقات الرحلة تغيرت وأصبحت هائمة على روحي لا يعنيني في هذه الحياة أكثر من أحاسيسي قرأت روايات وكتبا عن الفضيلة والحب استمعت بأوقاتي

    جاء وقت و أزاح والدي المفرزة عن الباب و سلم سياراته، وأصبح يقود سيارته الوحيدة بنفسه، توقف عن إحضار الأطعمة إلى المنزل وصرفت أمي الجنود الخدم من البيت وأصبحنا نتسوق باعتزاز ورحت أستخدم السرفيس في تنقلاتي ، وأمشي في الطرق العامة وأتجول في الحواري والأزقة ذات مرة جئت إلى الحارة التي سكن فيها الدكتور كي أشم رائحته على الحيطان أتلمس حضوره كأنه لم يغب أستشعر طيفه الوهاج تأملت الزقاق الضيق ، وارتسمت أمامي خطواته صورته وضعت قدمي في منتصف الزقاق ، وقلت " هنا كان يضع قدميه ، ومن هنا كان يمر " تصرفت كمجنونة وعاقلة وشقية وعبقرية شممت رائحة أزقة حارته كعطر توغل في حاسة وعي الباطن ، وأنا راجعة نطحت عمود كهرباء فجّ طرف جبهتي ، نزفت ووضع بائع دكان قريب عصابة على الجرح ونسيت الأمر لكنه لم ينسني وترك ندبة ، أسميتها ندبة الحب ها هي ( أشارت إليها برأس سبابتها ) ليلتها حلمت حلما طويلا حلما من نوع لا يزول حتى بعد المنام حكيته لنفسي مرات ومرات ، وقادرة على استعادته متى شئت لم تكن تلك رياح العشق العابرة ، وإنما نبع دائم للحب يستوطن كياني

    مساء ذهبت إلى قمة قاسيون ونظرت إلى دمشق التي تكومت عند هيامي كقصيدة لنزار قباني قصيدة مفعمة بالصدق تفتحت براعم ورد وضوء نظرت إليها وقلت :" كيف احتملت وجود عاشقين كل ذلك الزمن دون الاعتراف بصوت عالٍ " عاتبتها طويلا وعندما رجعت إليها كانت دافئة كحضن أمي كحضن نظراته وعرفتها بكلمة واحدة " عاصمة التسامح "

    أصبحت أقوى وأشجع ما أقوله لزملائي يتقبلونه برحابة أدعوهم للمقهى ، وللمقصف الجامعي وللمشاوير في أحياء دمشق القديمة كأن كل شيء ولد من جديد أتكلم عن دمشق التاريخ وحاضرة الحب والعشاق ، دمشق المولودة من رحم السماء ونجمتها على الأرض

    أجبت عن أسئلة زملائي بوضوح عندما سألوني عن سيارتي ، وعن سبب تغيري ، فقلت:

    - السيارة لكم ، للناس وليست لي ، طلبت من والدي تسليمها للوحدة، ففعل الآن سيارتي هي قدماي

    ردَّ أحدهم متهكماً:

    - الضباط لا يسلمون سياراتهم أبداً إنما تسحب منهم لأسباب مختلفة.

    تجنبت الدخول في جدل جانبي معهم وشعروا بتواضعي واقترابي منهم ، نزلت روحي وكياني من أعماقه إلى الأرصفة والدكانين والكولبات ، ووجوه باعة العربات الجوالة ، وباعة العلكة وبطاريات وكساتك ساعات اليد وأوراق اليانصيب ، وبسطات الكتب بجانب الجامعة ذلك العالم الذي كان غائبا عني وكل أؤلئك الذين لم أكن أراهم من قبل

    تحسنت دراستي أكثر فأكثر تحولت إلى طالبة جامعية حقيقية طالبة تتعاشر مع الكتب والدفاتر والناس انغمست في كل ما يقع عليه بصري كأنني جزء منه





    رد مع اقتباس  

  4. #64  
    المشاركات
    206
    وأصبحت أمي كملاك تصلي ، وتهتم بنا وبالضيوف ، غيرت من سلوكها اعترفت بسعادتها الغامرة لأنها فازت على خطيئة أبي اندفعت نحوه بكل مالديها من إيمان وعاطفة تضاعفت سعادتي لأنني أشترك مع أسرة متميزة ومع شخص لم يقدم لي، أو أقدم له أي اعتراف بالحب وأشترك معه في مفاهيم عن الجمال والنجاح وكان ذلك كافياً ليهزني، دوخت أحاسيسي، غطستُ فيها حتى القاع حاولت استكشاف الممنوع والمسموح وطلّت عليّ شرفة الحب من بعيد ودعتني لأكون لا أسيرة رجولته ووسامته فحسب بل أسيرة آرائه وانتقلت من مرحلة الإحساس بالدفء إلى صبية حارة حارة كقنديل يتوهج عذوبة وتألق ، نضارة وحلاوة ، صحو وبقاء راح الحب يجرب ذاته فيَّ ، تفتح في أعماقي زهراً إنسانياً فجرني كشعاع ضوء قادم من نجم بعيد في لحظة من الكبرياء سألت: أحبه أم لا أحبه يحبني أم لا يحبني؟ كررت السؤال بعدد أزهار الأرض وعدد أنفاسي ، وكدت أشك، قررت الذهاب إليه، فرفض وعندما رفض كدت أجن ليفاجئني جوابه:

    - يا عزيزتي! أنا قادم إليك

    كان يوم جمعة مآذن دمشق قد أرسلت رسالتها الأرضية إلى السماء والمدينة في خشوعها استقبلته في محطة الركاب أطلَّ كشهاب وبقي مزروعاً في الفضاء الممتد بين عيني وآخر نقطة في الأفق : ابتسامة عاجية، شعر خرّوبي ، قامة طويلة، وجه متناسق، منكبان بطول ذراعي

    التقينا على رصيف الكراج، وبقينا على الرصيف الحر لدمشق الرصيف الشهي واللذيذ رصيف يتوسع تحت خطواتنا ويمتد كأنه بساط ريح نتمشى من حيّ إلى حيّ : باب توما، القصاع ، باب شرقي، الحميدية، ساحة المرجة، الصالحية، شارع الحمرا ، حديقة تشرين

    وقت نجيء إليه و لايروح عنا ، أمكنة دون أسماء ، تحايل على المشاعر كي لا تتفجر أكثر من المسموح به ، سوالف وأماني حدثتنا دمشق عن نفسها رافقتنا خطوة خطوة كانت تتنقل أمامنا كحمامة رشيقة ، وديعة ، تبيعنا دلالها مقابل كلمة حلوة يقولها لي ، ومقابل اعتراف أقوله له جلسنا على المقاعد العتيقة وعلى العشب الأخضر في الحدائق واستمتعنا بكل ما هو واقف من أخشابها ورائحة ترابها وأسوارها وذاكرتها وبردى ومخلفات الباعة والناس والتسالي حدثته عن الكلية والكلابات والتوربين وشقاوة الطلاب والتسوس والقلع واللثة والأملغم والكمبوزيت والتقويم ، وحدثني عن التدريس ومقام الأستاذ والحلم وسؤال الطالب وجواب المدرس الذي يحسب نفسه طالباً وإلى الأبد مشينا ومشينا وبعد كل حديث يأتي آخر بنكهة المدينة وبطعم الريق الحلو وخطواتنا تتمهّل النهار الذي افترش لنا يوماً للذاكرة الخالدة صعب عليَّ التمييز في حضن من أنا حضن الحلم، أم الرجل، أم الضوء؟

    تعففت عن السؤال المباشر الذي قد يكون قاسياً في حديقة تشرين صمتنا وتكلمتْ ذكرتنا بالأمس القريب بلقاء كان من المفروض أن يكون عابراً

    قلت بوضوح :

    - لا داعي لملفات من الذاكرة

    - ولا داعي للانحناء أمام الكسل.

    أصبحت أفهم إيماءاته وصمته وحتى حركة شفتيه قبل أن تنطق كدت أدخل في عينيه العسليتين وأنصب فيهما خيمة وأسكن فيهما إلى الأبد استبعدت الفكرة وقلت: الاستقرار في القلب أجمل فالعيون تنام أما القلوب، فلا تشتهي النوم خاصة العاشقة منها حدثته عن بطلة رواية غادة السمان زين وعلاقتها بدمشق استمع إليّ حتى النهاية وقال " دمشق كلها فسيفساء " توقعت أنه يوجه لي هذا التبجيل كلما نظر إلى وردة حسبت أنه ينظر إليّ ، وكلما قال كلمة جميلة ، امتلكتها أقفز أمامه كهرة أعبر عن شكري لله وعندما يسألني لماذا أصمت فيضحك ويضحك فأصمت

    قال عن دمشق " ولدت من بردى ، وابتاعها التاريخ لرجل الأعمال الغني أبدا - قاسيون " وعن اللاذقية بأنها ولدت من بطن سمكة جميلة وسلمتها للبر باسم البحر وهي لا تزال تكبر وترتدي ثوب موجة خرجت انفصلت عن الماء وتتنفس من رئتي زمانه تكلم عن أهله، وقال : << إنهم فقراء وأصبحوا أغنياء بي على الأقل من الناحية المعنوية إنني حديثهم وفرحهم والبنك المحلي الذي يدعمهم فإنهم كمثل أهالي الريف السوري، الذين لا يفكرون كثيراً بالمال، بل بالعفة والعفة هي ثروتهم، لقد سمع هذا الكلام من ريفي " لن نكون أغنياء يوماً لأننا لا نريد الموت، ولا تجتمع العفة والفلوس في قرية واحدة، نحن نتسابق في امتلاك ناصية التميز المحلي والاستمرار لا الفناء" >>

    سألت سلاف بحماس:

    - كأنه يتحدث عن ضيعتنا؟

    - أنا أجهل الريف ويقولون إنه أنقى من المدينة.

    - لكن الفقر مشكلة.

    - هذا إذا قبلنا بالفقر.

    - آه العفة العفة إنها سر القرى.

    - أعرف أنك تقدسين الضيعة ألم تعجبك قصة ميلاد اللاذقية؟

    قال شيخ عن ضيعتنا :

    - إنها ولدت من النبع الواقع غرب الضيعة المياه هي التي أنجبت القرى والبحر هو الذي أنجب المدن، ولأن الصحراء فاقدة للمياه أنجبت فقط الخيام المتنقلة.





    رد مع اقتباس  

  5. #65  
    المشاركات
    206
    اتفقتا حول الجمال الساحر لهذا الكون بكل أبعاده، سألت سلاف وكلها رغبة في معرفة المزيد :

    - وماذا بعد حديقة تشرين؟

    - نعم نعم، ماذا بعد الحديقة غرَّبت الشمس وأحسسنا بخذلان ما تناولنا طعاماً بسيطاً وأطلقت دمشق شموسها الأرضية، مررنا بجانب كليتي وكليته على استراد المزة استمتعنا بظلالها بعدها حملنا سرفيس إلى كراج الانطلاق همس في أذني وداعاً ما غير مقصود تذكرت أنه عائد إلى اللاذقية وفكرت ماذا أهديه، أو ماذا سيهديني لم يحمل لي وردا، ولم أحمل له بطاقة ذكرى همست : " لا هكذا يلتقي العشاق" خفت ارتعبت حتى اللحظة لا يدي بيده ولا كتفي يلمس كتفه صَمَتَ وكأنه يتكلم نظرت في النافذة المتمردة على الوقت وهي تهشم خطواتنا أو اللحظات الأخيرة من بقايا يومنا كطاحونة قلت إنها تكذب، فقلبه هو وردتي وقلبي هو وردته لقد أثبتنا لدمشق أن ما بيننا أكثر من مشترك نظرت في عينيه وجدت فيهما طائراً أسطوريا يحمل الخلود والمسرة

    وقفت أمامهما كالفارسة المنتصرة جالت فكرة كبيرة في خاطري فكرة بمقدار الحب وكدت أنطقها كنا واقفين أمام باب الباص خارت قوتي اشتعلت في صميمي لوعة ، اقترفت ذنب النظر إلى قامته ، أعارني التفاتة مكسورة الجناحين ، أنجزت مهمة تماسكي خسارة وخاسرة الوقت الذي سيأتي ثوان ويرحل، وعليه أن يقولها أن يسمعني إياها، ياله من عنيد هل يستكثر علي كلمة: أحبك؟ مهما كانت الأنثى قوية وعاشقة وعنيدة، فهي بحاجة إلى شفتين تنطق كلمة اعتراف : أحبك.

    قبل صعوده جسده المغناطيسي جذبني إليه ، كدت أقع على صدره ، تجاسرت وأنا أقترب من جواه ، وهمست كلمات ليس لها معنى محدد لم يسمعني فجأة لمس إبهامي لمسة طارئة، ثم أمسك سبابتي وضغط عليهما بقوة دون أن ينظر في وجهي وخطف مني أفكاري أخذني إلى داخله ، ثم قفز إلى باص ( الهوب هوب ) لوحت له بيدي اليسرى اليد التي ضغط عليها كأنه قال لي كل ما أردت سماعه لوح لي بيده من وراء نظرات تغمرها القداسة ، مضى وأمضيت ليلة كاملة أتحسسه بدت كل الأشياء المحيطة بي عالية الحساسية ألبستها مشاعري ونقلت بعض أزرار الورد التي لم تتفتح بعد إليها استقبلتني أعراس الفجر كطيف مضت ليلة من الليالي العارمة الفرح في حياتي جاء اليوم التالي اتصل بي وبادر قائلاً:

    - أنت مليون وردة وأغنية وتنهيدة .

    - أريد أكثر.

    - وأوراق رسائل يخط عليها العاشق جام حبه.

    - أريد أكثر.

    - وبذور القمح وبصل النرجس، وزهر الجوري

    - لماذا؟

    - لأنك لأنك

    - لأنني من نسل حواء.

    - لا لا لأنني أحبكِ.

    أقفل الهاتف وجعلني أبدأ من جديد أوصلني إلى ذروة الفرح اعترف بذنبه ذنب الحب ، ضمير الروح الذي ليس له محلُّ من الإعراب سوى سريان نار في الشرايين ، جعلني سعيدة اعترف بخطيئة الحب وسرق جمودي ، وخفقان قلبي الروتيني، ولوني الشاحب ، وشكوكي لص من طراز العشاق الذين يسرقون وجعا ويعطون فرحا ، يسرقون حبة تراب ويضعون مكانها ماسة وفي الوقت نفسه اعترف والدي بذنبه ذنب السرقة استحلت شرنقة جائعة للتحول ، جعلني سعيدة ومذنبة، وفي كلتا الحالتين تحررت من الحياة المستباحة للانتظارللألغاز المخيفة للعار الذي ينتظر خلف الباب ويفاجئنا بكارثة تفهمت معنى القلق ، وأن الحياة العادية دون حب تشبه دمامل الأضراس والقيح الذي نكره التعامل معه كأطباء أسنان شعرت باكتمال حلقة النجاح : دراسة ، حب ، وأب تائب يا له من عرس!

    تشاطرت أمام والدتي المطمئنة والتي راحت تعد العدة لجعل والدي يقدم بعض أملاكه كإعلان حسن سلوك ونية طاهرةهي وأنا مؤمنتان بسهولة مهمتنا أما دلعي أو ما قصدته من الغنج، فهو محاولة إخفاء تفاصيل عشقي عن أمي.

    ردت على محاولتي هذه بجواب صريح وواضح:





    رد مع اقتباس  

  6. #66  
    المشاركات
    206
    - أنت عاشقة حتى النخاع ومبروك لك عشقك.

    شدّت على يدي شجعتني، وقالت:

    " القلب لا ينبض بالحب إلا في الوقت المناسب، ولا يوجد حب حقيقي دون ظروف حقيقية قد لا نعرف كل الحقيقة بشأن علاقة الرجال بالنساء ، لكن نعرف معنى الحب، وكيف يمكن أن نعيشه ونضحي من أجله"

    قمت لاحقاً بزيارته إلى اللاذقية أيضاً كان يوم جمعة وصلت باكراً جعل المدينة تتكلم أنطق حجارتها وترابها وكل شيء تمنى لو رفع لي راية بيضاء مكتوب عليها ما أريد أن أراه وأستمتع به ، وأن يحقق لي كل ما أتمناه دفعة واحدة يوم مجنون في حياتي لم أفكر مطلقاً إلا بما نحن عليه من سعادة غامرة أراد أخذي لزيارة صديق نحات مشهور ومشاهدة معرضه، فرفضت بقوة وقلت له:

    - لا أريد لشخص آخر أن يشاركنا هذا اللقاء ، أو يبعدني عنك ولو للحظة حتى ولو كانت منحوتاته أجمل ما في الكون

    اقتنع بالجواب وآمنت بأن الصفاء الرائع قد هيأته السماء لنا ولا أبادله بكنوز الأرض كلها

    استقبلني البحر كابنة مدللة همس في أذني كلاما ساحرا غامضا حكاية طويلة وألغازا ركع قلبي له راضيا

    أخذني إلى مطعم للأسماك عاندته ، وقلت :" كما أكلنا في دمشق الفلافل لن آكل هنا غيرها "

    بدا اليوم كصفحة خالدة في حياتي طفلة بريئة وحقيقية طفلة تعي ما تفعل غردنا كعصفورين هو على قمة شجرة ، وأنا على قمة مقابلة اختصرنا النهار لنكون لحظة واحدة من لحظاته التي تبقى تنتظر إلى الأبد لقاء مثل هذا اللقاء

    مع الغروب عدت إلى دمشق دون أن يسمعني كلمة غزل واحدة ودعني ضغط على إبهامي الأيسر وضغطت على إبهامه الأيسر كان ذلك كافياً لجعل العالم بأسره يتركز عند رأسي إبهامينا يسري في روحي ، توقف الكلام وبلغت الأحاسيس ذروتها وأنا في طريق العودة رافقتني نشوة أشبه بالخدر الناعم ، وأصبحت الطريق البعيدة كرفة هدب اختصرتها حركة لا إرادية مني ، وحكاية الانتظار قصة في غاية الإثارة لم أكن وحيدة، رافقني لحظة بلحظة سمعته يهمس لي كلاما وكأنه أراد قوله لي ، أو قولته إياه ، لا أدري ربما قلته أنا له، أو قاله لـ : << كيفما ابتعدت، فأنا بالقرب منك أيتها الملاك التقيتك دون أجنحة ودون ميعاد حيث تكونين يكون قلبي يا حلوتي كل ما يشبهك أشبه بجدلي مع هذه الحياة، فالسحر المصاغ من روحك الطاهرة علمني كيف أسمو وأنتظر وأعلو حتى أبلغ الحب وأنضج كغيمة أصيبت بشهوة الهطول فوق البراري العطشى… >>

    وسط هذا الزحام من الصور المتلاحقة وصلت إلى قفلة كادت تخرجها عن مسارها وتصطدم بحواجز تنتهي بها في غرفة عناية مشددة للحزن

    وضعت سلاف منديلا من إشفاق على حديثها الذي تحول عكس المنتظر ، والمجلل بزفرات موحشة

    نأت بها عن هذه الانتحابات غير المتوقعة وانبرت تُسوي هذه الحالة المستجدة لصديقتها ومأخوذة من أعماقها إلى حال الصديقة التي بدأ يطفر وجهها بغشاوة ملعونة وبدأت تسيركلماتها على جرح الصور ونزيفها ، تماسكت وقالت برباطة جأش :

    - وصلت البيت لأجده باروداً وناراً، وعند أول خطوة ضربني والدي بقوة وأوقعني رعفت كثيرا ونزفت من كتفي وساقي كان دمي يسيل إلى جانب حبي لإبراهيم ، وأردد في نفسي : " الحب يستأهل مثل هذه الدماء " فعلا كنت سعيدة ولم يهمني أي شيء في الدنيا سوى مشاعري حزنت من أجل أبي تألمت عليه وكل ضربة ضربني إياها جعلتني أقوى لم أحس بشيء سوى أنه يضرب نفسه ينتقم من ذاته

    استوقفتها سلاف عند هذا الحد من التحول الدرامي غير المتوقع، وأمامها تلوح صورة البيت الذي تحطمه عوامل الزمن وتراكم النحس والرجس

    الجملة الوحيدة التي ظلت تلاحق سلاف طيلة ليل ونهار ( هل الحب قادر على حسم الخلاف ؟ )





    رد مع اقتباس  

  7. #67  
    المشاركات
    206
    عصرية اليوم التالي ، كانت سوزان مهيأة تماما لمتابعة الحديث الطالع من حياض تجربتها ، ومن دنان رغبتها وكأنها تسدعي نهاية كهنوتية للهطول من نسيج دعوات خالصة ، نهاية تشكلت من غيمة ضميرها ، وحان موسم هطولها فوق مرج فتاة أخرى فتاة تنتظر أن ترتوي بمطر من سماء صديقة تناظرها الهم والغم والتجربة

    تابعت بعد أن سردت الموقف المشحون في البيت الذي تلا ضربها

    وقفت أمي في وجهه ، وصرخت ناحبة :

    - أتضربها؟ أنا من أرسلهاهي صبية واعية ونحن مَنْ هذبناها وعلمناها إن كانت سيئة فنحن سيئون

    - لا أسمح لها بالخروج إلى مدينة أخرى.

    - لم تكن حضرتك هنا، منذ أربعة أيام وأنت في مشروع تدريبي كما قلت ومنقطع عن العالم لا نستطيع الاتصال بك ولم تتصل بنا والآن تقول العكس كنت في نزهة ما هذا التناقض؟

    - أنا حر حر حر.

    - ونحن أحرار.

    - والأسرة أخلاق الأسرة رب الأسرة؟

    - نحترم ونقدر كل ما ذكرت ثم المسيء مسيء سواء أكان في بيته، أو في الجامعة، أو أي مكان آخر من العالم ولا فرق أن تكون في اللاذقية أو دمشق حتى تخل بالآداب العامة أو بتربيتنا لها امنحها الثقة و أطلقها حيثما تشاء

    تركنا والدي وخرج فهمت أمي جيداً هي متأكدة مني وأنا متأكدة من نفسي وزيارتي لإبراهيم هي قمة العفة وعندما منحتني أمي ثقتها فلا يمكن أن أخون تلك الثقة

    مضت عدة أيام واعتبرت المشكلة عرضية اعتقدت أن والدي سيعتذر لي لكنه تجاهلني وتجاهلته لعدة أيام أخرى تدخلت والدتي وفهمت أنه غير معترض على زيارتي للاذقية، وإنما على إبراهيم الشخص القذر، الكذاب، الحرامي، الدنيء نعته بأسوأ الصفات وبطريقة مشينة وتلك الشتائم دفعت أمي للدفاع عنه :

    - اعتقدت أنك ستعلن اعتذارك منه وتتوب، فهو لا يستحق إلا كل خير، ومن الواضح أنه شريف ونبيل ومصدر اعتزازنا، وهذا أقل ما تفعله أمام شخص اعترفت بنفسك أنك آذيته وألحقت الضرر به.

    عندئذٍ جن جنونه وقال:

    - لواء لواء قائد فرقة عسكرية يعتذر من جندي ساقط ومنحط وأقل من خنزير

    - لكنه أستاذ جامعي حتى ولو كان جندياً، فما المانع أن تعتذر منه وتريح روحك من عبء أخطائه الإنسان يدفع مالاً وأحياناً يموت في سبيل تطهير روحه من آثامها وأنت لا تطهرها حتى بالكلمة لا أدري عن أي وطن تدافعون؟

    - لست بحاجة لمثاليتك أنا أعاني بما فيه الكفاية و أتعذب أتمزق ألا تحسين بي؟

    - أنا فخورة بك.

    - ستكونين فخورة بي إذا بعت أملاكي وقدمتها للفقراء؟

    - أملاكك ليست لك، فهي سرقة و

    - أنت مجنونة وسخيفة.

    - لا تخاطبني بهذه اللهجة.

    - إذا كنتِ تعتقدين أنني ألغيت المفرزة والخدم والسيارات بإرادتي تكونين مخطئة ما حدث هو قرار من وزارة الدفاع بسحب السيارات من الضباط وإلغاء المفارز الخدمية و الأمنية فأنا لن أتوب والدولة التي تريدين إعادة ما سرقته منها هي متورطة في جعلنا كفاراً ومذنبين أما التوبة، فأبعد عن روحي إلى السماء

    أغمي على الوالدة ونقلت إلى المشفى أقامت في العناية المشددة لحين تحسنها عشت مأساة حقيقية وكدت أصاب بمرض الفصام حتى أخي عصام الذي هو أكثر من أخ و صديق تعاون وتفهم ما تمر به الأسرةعاش فترة توتر شديدة، رغم تحضيره لمشروع التخرجأما أخي الثاني، فنجحنا بإبقائه بعيداً عن المشاكل بسبب ظروفه الدراسية الخاصة اتصلت مع إبراهيم حينما غادرت والدتي المشفى، لم أخبره معتبرة ذلك أمراً شخصياً لكنه أحس بتغيير في نبرة صوتي حافظت على توازني وضبطت كلامي، ودعته على أمل اللقاء تجنبت التحرش بوالدي لفترة طويلة أنهيت الامتحان بتفوق وجاءت عطلة الصيف ساء وضع والدتي ووجدت نفسها أمام سور منيع شديد التماسك لا يمكنها النفاذ من خلاله إلى والدي الذي بدت عليه علامات الاضطراب والقلق وحشر نفسه في عزلة قاسية





    رد مع اقتباس  

  8. #68  
    المشاركات
    206
    حاولنا التماسك تجاه ردات فعل الوالد الصبيانية يخرج للسهر ولا يعود إلا متأخراً وأحياناً يعود مخموراً يشتم ويتفوه بكلمات غريبة على مسامعنا راح يعذب أمي أكثر، ويتعذب وكأننا خسرنا كل شيء :العائلة والرتبة والمال والثروة الكبيرة أقنعت الماما بتركه وشأنه وهو يتحمل وحده ما اقترفت يداه من معاصٍ، ولأنها تحبه كثيراً وتجد قوة كافية لديها لتحريره، فأقسمت ألا تتوقف قلت لها: " فليكن الله بعونك "

    وأقسمتُ على البقاء إلى جانبها بعد فترة فاجأتني بقرار جريء تهدف إلى تخليصه من آثامه عن طريق تقديمه للقضاء وتخليصه من الأموال المسروقة بشرط ألا يوضع في السجن وصارحته أمي بذلك، فضربها ضرباً مبرحاً، كانت على وشك ترك البيت ، لكنه هو من غادر ، و اعتكف في وحدته العسكرية وأقام هناك باستمرار

    استشارت أمي قاضياً في المحكمة العسكرية وهو صديق للعائلة شرحت له هدفها، وإلى ما ترمي إليه بالتفصيل، فقال: " إن القضاء يتعامل بالأدلة والشهود والإثباتات والدخول إليه لا كالخروج منه خاصة وأن الوالد يتمتع بنفوذ هائل في البلد،لا يمكن تجاوز رتبته ولا في أي مؤسسة من مؤسسات الدولة " بمعنى أنه فوق القانون وستكون المحاولة مجرد ورطة فاشلة وفضيحة لا معنى لها هذا إذا لم تحبس هي بتهمة دعوى غير صحيحة أفهمنا جيداً احتكار السلطة للجيش فهمت أمي ما كنا نجهله وأن ما عشناه يوما من رخاء ووفرة هو نتيجة أكيدة لتجاوز القانون والقوة التي اكتسبها أبي من صفته كضابط القوة التي سلبها من الناس ، وجعل المجتمع عبدا له ، وأخذ حقوقهم بالكامل تحت مسميات مختلفة ، أخطرها قانون الطوارئ الذي وضع الشعب برمته في سجن كبير معتقل جماعي من الدرجة الحاقدة كان القاضي صريحا لدرجة أنه كشف لأمي كثيرا من الأسرار المذهلة عن حال القضاء والمؤسسة العسكرية التي تسيطر على كل شيء

    أصبنا بالرعب جراء مثل ذلك الحوارالبغيض معه ، وتصورنا الوضع الذي نحن عليه ، ومن بعده فهمنا لماذا يستسلم الناس البسطاء للظلم، ولماذا وصلوا إلى ذلك الحد من الاستسلام لقد بدأنا نشاركهم الشعور نفسه، وعرفنا معنى القوة الشريرة في كبح العدالة وقيم التسامح بدت لنا الحياة مستحيلة ، وعانت أمي من كآبة قاسية وقالت لي " حتى الكلام عن بيع بعض الممتلكات أصبح في مهب الريح "

    عاد بعد فترة إلى البيت كضيف ثقيل وبادرنا الكلام عن الأفكار القديمة الطائشة وبأن نكف عنها وإلى الأبد ، وأنه سيتحمل ذنوب المذنبين في الأرض إلى يوم الدين ،لا يهمه أن يتعذب الناس أو لا يتعذبون كل ما يهمه إشباع رغباته اللامحدودة سمعته وهو يردد:

    - أما بخصوص القزم إبراهيم، سأقتله وسأبعث مَنْ يخلصني منه لقد حدد نهايته بيده.

    صرخت أمي بوجهه:

    - تسرق وتكذب وتظلم، أما أن تقتل، فهذا مالا أسمح به أبداً اقتلني أولاً وبعدها اقتل. والله والله لا أثق بإنسان يمكن أن ينطق بكلمة قتل ولا حتى بدعوة أية دعوة فيها مجرد فكرة للقتل أيعقل أيها الضابط الكبير ما تقوله؟

    - سأقتله سأقتله

    - لن أسمح لك اقتلني أولا، ثم اذهب واقتله.

    أربكني كلامه وأحسست أنني أمام وحش كاسر لا إنسان وحش يريد قتل الحب الذي ترعرع في قلبي انتفضت أمي ، وقالت:

    - أنت لا تمارس الكراهية، فحسب بل تتجاوز الكبائر والفواحش أنت أستاذ كبير في مدرسة الحقد والفساد والجريمة

    واجه تلك التهم بشراسة أكبر تمترس وراء أفكاره، وحوّل البيت إلى جحيم إلى وكر للضباع المفترسة

    عبرت أمي صراحة عن الفاجعة التي لحقت بكرامتها وإيمانها، وقالت له:

    - أنا لا أملك أية ثروة ولا حتى ليرة واحدة من أموالك كل ما أردت أن أجنيه هو أولادي وحبي لك ولربي لا أكثر ولا أقل بقي لي أولادي وإيماني، وإذا شئت أن تطردني من هذا البيت، فأنا مستعدة لتركه والرحيل إلى بيت أهلي مع أولادي، أو لوحدي

    تأزم الأمر إلى حد الطلاق وعلمت أن الأزمة ستقتل أمي الحساسة والمتعلقة بنا أيما تعلّق فطلبت منها الصمود ومداراته إلى أقصى حد، وهو وحده يتحمل وزر أعماله. أما أن ندمر الأسرة، فذلك حرام اتصلت بإبراهيم وأخبرته. عندئذٍ قال:

    إذا كان لدى المرء هدف ما، فحسب تصوري هناك درجات لتحقيقه ، وهي:

    أ- التضحية بالروح.

    ب- التضحية بالمال.

    ج- التضحية بالصبر.

    د- التضحية بالإيمان والدعاء.

    ه- التضحية بالتعاون مع الآخرين كالمشورة والنصح وفي الشأن العام بالتظاهر.

    و- الإضراب.

    ز- بالكلمة.





    رد مع اقتباس  

  9. #69  
    المشاركات
    206
    فعليه البدء بالأقل تكلفة وخسائر،أي من البند الأخير وبالتدّرج حتى يصل الأول، والعكس هو خطأ فادح فماذا بعد الموت ؟ بالتأكيد الفشل الأشبه بالانتحار دون قضية أو هدف بيّن ناقشته حول الفكرة طويلاً ووصلنا إلى حد وسط عاندته ظاهرياً وقبلت فكرته ضمنياً وصلت إلى حد التطرف أصبحت أكثر شراسة ، انتابتني ردة فعل قاسية ، تمردت ، وكان لدي استعداد عفوي للمواجهة ، لدرجة طرد أبي من البيت لكن حكمته أقنعتني تماما ، " إذا كان لدى فئة ما مشكلة وبإمكانها الوصول إلى حل بالتظاهر أو الإضراب عن الطعام فلماذا تلجأ إلى العنف؟ " اعتبر ترك والدتي للبيت تطرفاً، وهكذا دخلت في حوار معها وفق أفكاره، وبفضله توصلنا إلى قبول فكرته والعزوف عن أفكار مثل ترك البيت، أو طلب الطلاق، أو ليذهب إلى الجحيم وأقنعتها أن البيت حتى ولو كان جحيماً، فهو لها ومن حقها وحق أولادها

    تقريباً شارف الصيف على الانتهاء ونحن بين أخذ وردٍ وصلنا مع أخوتي إلى قرار التمسك بالأسرة وبالوالدين.

    لعب عصام دوراً كبيراً في إعادة الألفة للعائلة، خاصة بعد تخرجه تشابهت وجهات نظرنا، وكي لا أبقى عقبة في التقارب بين الوالدين قررت الابتعاد عن المنزل الذي اعتبرني والدي السبب في خلق التناقضات والمشاكل فيه، واتهمني بجرثومة التفوئيد اللعينة وحمى أبو صفار، وهكذا تنحيت عن البيت ونقلت أوراقي من جامعة دمشق إلى جامعة تشرين بعد الاتفاق مع إبراهيم الذي أيد الفكرة أيما تأييد كان القرار صعباً جداً لكنه أنقذ البيت من دمار قادم وعند أول يوم دوام طلب يدي من أمي، ومن أخي عصام، فجاءا إلى اللاذقية وخطبني منهما، ثم سجلني في المحكمة، والآن أنا زوجته، لكن من دون دخلة

    علم والدي بالأمر وعلق قائلاً: << كان لي ابنة وماتت>>

    فهمت قصده توطدت علاقتي مع أسرتي أكثر أما إبراهيم الذي أصبح خطيبي ، فراح يعد العدة لحفلة الزواج ومتطلباتها، وهو الآن ينتظر الحصول على بيت من الجامعة، ثم نتزوج بعدها فوراً ويحتاج تقريبا إلى سنة تفوقت في الفصل الدراسي الأول، وها أنا الآن أسكن في المدينة الجامعية بانتظار تأمين الحد الأدنى من متطلبات الزواج، ويجمعنا الله والحب تحت سقف واحد

    نحن عاشقان رائعان، ورغم إنني حلاله، ونمضي يومياً معاً عدة ساعات، لم يلمس بعد أكثر من إبهامي الأيسر وأنا كذلك أؤمن به و أشعر أنه حياتي وروحي وقلبي وأملي أنا مرحة وسعيدة وأشعر بسعادة لا حدود لها وبغنى يتجاوز أية ثروة ، وأتمنى الخير للجميع فأنا لست ابنة ضابط كبير، وإنما ابنة حرامي رفض التحرر من حراميته، لكنني تحررت من أخطائه وذنوبه والتقيت بفارس الأحلام النبيل ومعه امتلكت قراري وحريتي ورضا أمي وابتعدت عن ملذات مسروقة ولعنات المستضعفين، لذا أنا مطمئنة وراضية ، وأقرب إلى أعماقي فالمواجهة مع والدي علمتني أن أكون أقوى وبإمكاننا أن نكون أقوى لا في وجه آبائنا، بل في وجه أخطائهم، وإذا رفضوا الاستجابة لبراءتنا وكذبوا، لا يمكن طاعتهم، ولا التعامل مع أخطائهم حتى ولو كانوا آباءنا، فالحقيقة أقدس من الأبوة

    توقفت ، وهي تنظر أمامها إلى كرات من كلمات طائرة ترسمها حركة جفنيها ، وأحاسيس دافئة وبعد تنهيدة مستهامة ، فيها بعض من وجع أعمى أضافت :

    - لا أعرف بالضبط لماذا حدثتك عن قصتي الشديدة الصدق والواقعية علماً أن قلائل يعرفونها، أو يعرفون أنني مخطوبة

    سألتها سلاف بإعجاب:

    - كيف تعلمت كل ذلك؟

    - لا أعرف المهم قناعتي بأنني على حق لقد بدأ الموقف صادقاً وحاسماً وواضحاً كنور الشمس ، كالحب ذاته ، مما دفعني للتعامل معه لاقتناعي بالحقيقة الآن أستنتج حكمة بسيطة من تجربتي:

    << الصحيح يولد الصحيح والخطيئة تولد الخطيئة، ومحاولة المزج بين الطرفين أو اللعب بالحقائق وجعلها متناقضة هو سبب لمآسٍ كثيرة على مستوى الأفراد أو الناس وهناك مَنْ قال : البساطة سر الجمال، وأنا أقول : مَنْ يريد أن يطمئن لحياته، فعليه أن يكون بسيطاً وواضحاً، ويكفيه لتحقيق ذلك بعض الشجاعة هناك أناس يضحون بأرواحهم من أجل هدف سام ، وأنا كل ما فعلته أنني ضحيت بالابتعاد عن البيت ، وهذا ليس بالكثير ، وغضب والد من ابنته ليست نهاية العالم >>





    رد مع اقتباس  

  10. #70  
    المشاركات
    206
    أثناء ذلك لم تكونا أمام طبق المتة، أو على شاطئ البحر، بل كانتا أمام الوحدة السكنية ابتسمت سوزان، بينما ذرفت سلاف دمعة حارة فشلت في إخفائها تابعت سوزان الابتسامة بهدوء متجاهلة دمعة صديقتها الوجدانية، واعتبرت دموعها إثارة لصمتها أو تحريكاً لوجدانها الذي يندمل من جبن حاد

    عادتا إلى غرفتهما دون وداع استرخت سلاف في سريرها انتابتها نشوة غامرة ، و قبيل النوم بقليل جاءت ملكة الجن الحسناء من وادي ضيعتها وكأنها همست في أذنها:

    - للحكاية بقية.

    - أخبريني عن النهاية.

    - لا توجد نهاية.

    - أبداً؟

    - لا تسأليني عن نفسك؟

    - كأنني أرى أطياف غدي.

    - ألست بحاجة لمساعدة؟

    - لن أحتاج.

    أسدلت الجنية الحسناء الطيبة جفني سلاف نامت بهدوء وكأنها دخلت إلى مدينة أحلام امتزج فيها حب الضيعة وأفقها مع واقع اللاذقية العليّ





    رد مع اقتباس  

صفحة 7 من 8 الأولىالأولى ... 5678 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. الفتاة التي ماتت عارية أمام الماسنجرالرجاء عدم دخول القلوب الضعيفة
    بواسطة مِـفآهيم آلخجـلْ في المنتدى صور × صور و خلفيات مصوره
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 16-Feb-2009, 11:15 AM
  2. الرواية
    بواسطة لون مجهول في المنتدى خواطر - نثر - عذب الكلام
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 22-Aug-2007, 02:47 PM
  3. الغفلة التي تقتل القلوب
    بواسطة هووواوووي في المنتدى رياض المؤمنين
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 09-Apr-2007, 10:52 PM
  4. ][®][^][®][حــــب أبــدويــة ][®][^][®][
    بواسطة الـفـارس الـمـلـثـم في المنتدى محبرة شاعر - شعر - قصائد - POEMS
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 15-Oct-2006, 04:13 AM
  5. حصريا:الرواية الاخيرة التي كتبها صدام حسين
    بواسطة قلم رصاص في المنتدى روايات - قصص - حكايات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 06-May-2006, 03:40 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

عرض سحابة الكلمة الدلالية

المفضلات
المفضلات
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •