الحلقةالثامنةعشر
أفقت من غفوتي القصيرة .
كنت أجلس على أريكة بمحاذاة الشاطئ ، تتدلى قدماي في مياه البحر و تعانقان أمواجه الراقصة .
الهواء كان منعشا جدا و البحر غاية في الجمال . منظر لم تره عيناي منذ سنين
إنها المرة الأولى منذ تسع سنين ، التي يبتهج فيها صدري و أنا بين أهلي و أحبابي .
أصوات مجموعة من الأطفال تغلغلت في أعماق أذني و أيقظتني من راحتي النادرة
ما إن فتحت عينيّ الناعستين حتى تلقتا منظرا جعلني أقف منتصبا فورا !
كانت رغد . صغيرتي الحبيبة . خطيبة أخي الوحيد . تجلس على الرمال المبللة تعبث بالماء . إلى جواري تماما !
نهضت و قد أصابني الروع !
و سرعان ما هبت هي الأخرى واقفة ، تنظر إلي .
وجّهتُ سهام بصري إلى البحر . ليبتلع أي شعور يفكر في الاستيقاظ في داخل قلبي . و خطوت مبتعدا عنها
استوقفتني ، فأخبرتها بأنني ماض للسباحة فقالت بسرعة :
" انتظر ! سأعود لأمي . "
لم أعرف ما إذا كانت تقصد مني مرافقتها أو مراقبتها تحديدا ، إلا أنها حين سارت مبتعدة بقينا أنا و سامر ـ و الذي خرج من الماء للتو و وقف إلى يساري لا يفصلني عنه غير شبرين ـ نراقبها و هي تبتعد .
و حين ظهر فتى في طريقها يريد أخذ كرة القدم التي تدحرجت منه نحوها ، اضطربت صغيرتي . و استدارت نحونا . و أقبلت مسرعة و أمسكت بذراعي اليمنى و اختبأت خلفها !
أنا طبعا وقفت كالجدار لا أحس بشيء مما حولي و لا أعرف ماذا يحدث و ماذا علي أن أفعل !
أردت أن أسحب ذراعي لكنها غرست أظافرها بي و آلمتني .
الفتى ذاك كان يحمل الكرة و ينظر بتعجب نحونا
و أمي و دانه أيضا تنظران بتعجب
أما النظرات التي لم أعرف ما طبيعتها هي نظرات أخي سامر .
" صغيرتي . صغيرتي . لا بأس عليك . اهدئي أرجوك "
رغد الآن تنظر إلى و قد اغرورقت عيناها بالدموع ، و قالت بانفعال و اضطراب :
" لماذا لم تأتِ معي ؟ لماذا تركتني وحدي ؟ هل تريد أن يؤذيني أحد بعد ؟ "
كلمتها هذه جعلت عضلاتي تنقبض جميعها فجأة ، و لا شعوريا مسكت أنا بيديها و شددت عليهما بقوة .
لحظة جحيم الذكرى . و أعيينا تحدق ببعضها البعض بحدة . من عيني يقدح الشرر الحارق . و من عينها تنسكب الدموع المجروحة . و في بؤبؤيها أرى عرضا للشريط المشؤوم اللعين . و صورة لعمّار يبتسم . و الحزام يتراقص .
" لكنت ُ قتلته "
نطقت بهذه الجملة لا إراديا و أنا أحدق بها في نظرات ملؤها الشر . و القهر .
لقد شعرت بأشياء تتمزق بداخلي . و أشياء تعتصر . و أشياء تتوجع و تصرخ .
كيف لي أن أتحمل موقفا كهذا
لو ظل سامر صامتا ، ربما بقيت شهورا واقفا عند نفس النقطة ، إلا أن صوته قطع الحبال المشدودة و أرخى العضلات المنقبضة
" رغد . "
أطلقنا نظراتنا المقيدة ببعضها البعض و سمحنا لها بالانتقال إلى عيني سامر .
لا يخفى عليكم الذهول و الحيرة و الدهشة التي كانت تغلف وجه سامر الواقف ينظر إلينا .
قال :
" رغد . عزيزتي . "
و لم ينطق بعدها بجملة واضحة تفسر التعبيرات الغامضة المرسومة على وجهه الحائر .
رغد الآن بدأت تمسح دموعها و قد هدأت نوعا ما .
الآن . تصل أمي و أختي . و تستدير رغد إليهما ، و تنطق بمرارة :
" قلت لك لا أستطيع . لا أريد المجيء . لا أستطيع . لا تتركوني وحدي "
و انخرطت في مزيد من البكاء المؤلم
أمي أحاطتها بذراعيها و أخذت تتمتم بكلمات لم استطع استيعابها من هول ما أنا فيه .
ثم رأيتهن هن الثلاث ، رغد و أمي و دانة ، يبتعدن عائدات من حيث أتين .
سامر ظل واقفا لثوان أخرى ، ثم هم باللحاق بهن . و حانت منه التفاتة إلي . فرآني و أنا أنهار على الرمال و أضغط بيدي على معدتي و أتأوه ألما .
لقد شعرت بأشياء تتمزق و تعصر في أحشائي . و دوار داهمني دون إنذار مسبق . و خور و وهن مفاجئ في بدني . فهويت أرضا .