رفع غير مبرر للأسعار والأمر يحتاج إلى تدخل
محمد بن عبد الله الشريف - كاتب في الشأن العام 21/08/1428هـ
من المزايا الاقتصادية التي انفردت بها المملكة على مدى العقود الماضية بُعدها عن مخاطر التضخم التي كانت تضرب اقتصادات الدول المجاورة، المتمثلة في ارتفاع تكلفة المعيشة نتيجة ارتفاع أسعار مكوناتها، وانخفاض القيمة الشرائية للعملة، ولم يكن هامش التضخم لدينا يزيد على 1 في المائة في المجمل، الأمر الذي لم يكن المواطن يشعر به، بيد أن هذه الميزة أخذت في التضاؤل بدءا من نهاية العام الميلادي الماضي، متزامنة مع التراجع الملحوظ لقيمة الدولار أمام اليورو بوجه خاص، وتأثير ذلك في بعض السلع المستوردة من منطقة اليورو! وتلك كانت البداية فقط ولو اقتصر الأمر عليها لبقي ضمن نطاق المعقول والسيطرة، وربما التحمل، إلى أن يغير الاقتصاد دورته، وتعود الغلبة للدولار على اليورو كما كان سابقا.
ولكن السمات الأخرى السلبية التي يتسم بها الوضع التجاري والاجتماعي لدينا من حيث أنماط الاستهلاك، والعادات الاجتماعية، وحب الاستغلال وانتهاز الفرص، والتحكم والاحتكار والغش وضعف الرقابة، كلها تضافرت لكي يكون التأثير الناتج عن ارتفاع قيمة العملة لبعض المستوردات مضاعفا، بحيث لم يقتصر الارتفاع على السلع المتأثرة بارتفاع عملة الاستيراد، بل شمل أصنافا ليس لها علاقة بذلك! ومنها ما هو منتج محليا بالكامل ولا يدخل في مكوناته أي مواد مستوردة، كمنتجات الألبان والبلاستيك، ومواد التنظيف! بل إن التلاعب تسلل إلى العبوات فجرى إنقاصها وإهمال ذكر العدد عليها إمعانا في تضليل المستهلك!
ومن العادات السيئة لدينا في حقل التجارة، أن الكل يريد أن يكسب ويستغل عندما يرى غيره يفعل ذلك، فعندما يرتفع سعر سلعة ما معروفة لأي سبب يقوم وكلاء ومنتجو سلع أخرى مشابهة برفع أسعارهم، حتى لو لم تطرأ زيادة على تكلفتها، وهذا مشاهد في كثير من المواد الغذائية!
ومن العادات السيئة أيضا، أن هامش الزيادة الذي يضاف إلى أسعار السلع نتيجة أي عامل، يكون أعلى من هامش الزيادة الفعلي ذاته، وهذا يفعله بعض التجار للتحوط أو للمحافظة على هوامش الربح، وكثيرا ما يجبرون الكسور عند التسعير لصالحهم، ونادرا ما تجد سلعة تسعر بكسور هلل بين الريال ونصف وربع ريال، والأمر الوحيد الذي يحرص عليه التجار هو تعمد استغلال العامل النفسي بالإيحاء بأن سعر السلعة يقل عن الريال أو العشرة ريالات بجعله (0.95 أو 9.95 ريال) مستغلين نقص الوعي ودرجة التعليم لدى شريحة كبيرة من المتسوقين، وهي عادة مأخوذة من الغرب، ولا تخلو من الغش والتضليل، ولا تتفق مع تعاليم الدين الإسلامي، وأتمنى لو قال العلماء رأيهم فيها!
أما العادة الأسوأ لدى تجارنا الأفاضل، فهي عدم نزول الأسعار حتى بعد زوال العامل المسبب لارتفاعها، فرغم أن سعر الريال بالنسبة لغيره من العملات ظل متأرجحا بين الصعود والهبوط في العقود الماضية، فلا نكاد نذكر أنه طرأ انخفاض على بعض السلع بعد ارتفاعها، ولا سيما المواد الغذائية المعروفة والمتداولة يوميا!
والمشاهد أن هناك افتعالا واستغلالا سيئا للأحداث والعوامل التي تطرأ بأكثر مما هي، بل إن هناك محاولات لإخفاء تأثير جهود الدولة لتحسين مستوى معيشة المواطن، والشواهد قائمة، فعندما زادت الدولة دخول موظفيها قبل فترة بنسبة 15 في المائة كانت الفرحة بذلك كبيرة، وكان المفترض أن يؤدي ذلك إلى التحسن بما لا يقل عن النسبة ذاتها في مستوى المعيشة، لكن الفرحة تلاشت الآن بفعل الزيادة المطردة في الأسعار، ولم يعد أحد يحس بتأثيرها!
وعندما أمر خادم الحرمين الشريفين في نهاية العام الماضي بخفض سعر وقود السيارات إلى 45 هللة للتر البنزين لكي يشمل ما نسبته 85 في المائة من السيارات، وبما يجعله الأرخص بين بلدان العالم، ظن الناس أن ذلك سينعكس إيجابا على تكاليف النقل ذات التأثير في مستوى المعيشة، ومنها سيارات النقل والأجرة التي تعتمد عليها شريحة كبيرة من السكان، بيد أن ذلك لم يكن له تأثير رغم أن نوعية سيارات الأجرة المستخدمة تعد الأرخص، ولا يستتبع استخدامها والترخيص لها أي نوع من الضرائب.
إنني ممن يدخل الأسواق ويشتري ويراقب، ويتعرف على مستوى الأسعار، ومن هذا المنطلق أقول إن هناك زيادات غير مبررة لمكونات معيشة المواطن، وهناك استغلال للأحداث والعوامل المؤثرة فيها بأكثر مما تستحق، وهناك استغلال سيئ للمناسبات، مثل شهر رمضان، وبداية العام الدراسي، وموسم الحج، تتمثل في زيادة مفتعلة لأسعار المواد التي يزيد الطلب عليها في هذه المناسبات، كما يتمثل في استغلال النمط الاستهلاكي للمواطن، وتعوده على أنواع من المواد دون غيرها، وذلك يرفع أسعار هذه المواد بين وقت وآخر، لمعرفة التجار مدى تعلقه بهذه المواد، وصعوبة التحول إلى البدائل الأخرى المتوافرة.
ووفقا للتقارير المنشورة بين ظهرانينا فإن نسبة التضخم خلال ما انصرم من العام الحالي تلامس الآن نسبة 4 في المائة، بعد أن كانت دون 1 في المائة، وليس مستبعدا أن تصل النسبة إلى الضعف قبل نهاية العام بخاصة، والأشهر المتبقية ستشهد زيادة في الاستهلاك لوقوع المواسم المذكورة آنفا خلالها، وإذا حدث ذلك، فإنه سيكون مؤشرا على خطورة الوضع، وتصاعد حدة التذمر والمعاناة لدى الطبقتين المتوسطة والفقيرة في المجتمع، وهو ما يستدعي تنبّه الدولة له، والعمل على دراسة أسبابه والحد منه، ويأتي في مقدمة ذلك أن تقوم الجهات الحكومية المسؤولة عن التموين والرقابة ومكافحة التلاعب واستغلال حاجة الناس، بدورها كما يجب، وذلك بتتبّع أسعار المواد الرئيسة بدءا من مصدرها إلى حين عرضها للبيع، للتعرف على عناصر التكلفة والهوامش المضافة للأسعار، والتأكد من عدم وجود استغلال وزيادات غير مبررة فيها، وإعلان ذلك للناس لامتصاص حالات التذمر والضيق، والشعور بغياب دور تلك الجهات، والرد على التظاهرة الإعلامية التي تمتلئ بها صفحات الصحف حول ظاهرة ارتفاع الأسعار، والتي لا يمكن أن تكون ناشئة من فراغ!
سوف يلاحظ القارئ أنني لم أتعرض إلى عناصر التكاليف الأخرى المرتفعة، التي طالت حياة المواطن، كتكاليف السكن تملكا واستئجارا، وأسعار المواد الكهربائية والأجهزة، وقصرت طرحي على المواد الغذائية لتأثيرها الشديد في حياة المواطن، ومشاعره وولائه لحاجته اليومية لها، ولأنه قد يستطيع الصبر عن أي شيء، إلا أن يصبر عن الغذاء.